كيف نوفق بين أحاديث إثبات العدوى ونفيها
قام فينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: لا يُعْدي شيءٌ شيئًا، لا يُعْدي شيءٌ شيئًا، لا يُعْدي شيءٌ شيئًا، فقام أعْرابيٌّ، فقال: يا رسولَ اللهِ، النُّقْبةُ مِن الجَرَبِ تكونُ بمِشفَرِ البَعيرِ أو بذَنَبِه في الإبلِ العَظيمةِ فتَجرَبُ كلُّها؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فما أجرَبَ الأوَّلَ؟ لا عَدْوى، ولا هامَةَ، ولا صَفَرَ، خَلَقَ اللهُ كلَّ نفْسٍ، فكَتَبَ حَياتَها، ومُصيباتِها، ورِزقَها هل هذا الحديث صحيح واذا كان صحيحا فهل هذا يعني عدم وجود العدوى؟
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فالحديث المذكور رواه أحمد والترمذي وإسناده صحيح، ووردت أحاديث أخرى بمعناه، مثل: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد"، رواه البخاري معلقًا، وفي الصحيحين "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة".
وهذه الأحاديث ونحوها لا تدل على سلب الأسباب ولا كون العدو من أسباب المرض، وإنما تنفي ما كان المشركون يثبتونه من سببية مستمرة، على طريقة واحدة لا يمكن إبطالها ولا صرفها عن محلها، ولا معارضتها بما هو أقوى منها،
وهذا باطل بلا شك؛ لأن إنما الله سبحانه هو مالك السبب وخالقه، ويقدر أن يسلبه سببيته إن شاء، ويبقيها عليه إن شاء، كما سلب النار قوة الإحراق عن الخليل.
هذا ما بينه المحررون من أهل العلم، كما في "معرفة السنن والآثار"(10/ 189 – 190) للإمام البيهقي حيث قال: "ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا عدوى" وإنما أراد به على الوجه الذي كانوا يعتقدون في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله عز وجل، وقد يجعل الله تعالى بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك به، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يورد ممرض على مصح"، وقال في الطاعون: "من سمع به في أرض فلا يقدمن عليه"، وغير ذلك مما في معناه، وذلك ذلك بتقدير الله عز وجل". اهـ.
والشريعة الإسلامية مبنية على سد الذريعة والأخذ بالتحفظ، والأخذ بأسباب السلامة والواقية من الأمراض، والابتعاد عن أصحاب الأمراض المعدية، خشية انتقاله إلى الأصحاء بواسطة الملامسة، أو المخالطة، أو الشم؛ فمخالطة المريض من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسببَاتها كغيرها من بقية الأسباب؛ ولذلك نهى رسول الله صاحب الإبل المراض أن يوردها على صاحب الإبل الصحاح، حتى لا تصاب بنفس المرض؛ ففي الصحيحين عن هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يوردن ممرض على مصح لئلا تنتقل العدوى"، فبين أن مخالطة المريض سبب إلى إعدائه.
وفي الصحيح عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم "إنا قد بايعناك فارجع"، هذا موافق للحديث الآخر في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "وفر من المجذوم كما تفر من الأسد". وهذان الحديثان ظاهرا الدلالة في البعد عن المصاب بالمرضى المعدي. وقال صلى الله عليه وسلم عن الطاعون: "وإذ سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه"؛ متفق عليه.
قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد"(4/ 134): "فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لكمال شفقته على الأمة، ونصحه لهم، نهاهم عن الأسباب التي تُعرضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم، ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء، وقد تكون الطبيعة سريعة الانفعال، قابلة للاكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه، فإنها نقالة، وقد يكون خوفها من ذلك ووهمها من أكبر أسباب إصابة تلك العلة لها، فإن الوهم فعال مستول على القوى والطبائع، وقد تصل رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه، وهذا معاين في بعض الأمراض، والرائحة أحد أسباب العدوى، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعداد البدن وقبوله لذلك الداء". اهـ.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن يمنع المريض من السكن بين قوم أصحاء، فقال في "مختصر الفتاوى المصرية" (ص: 435): "ومن كان مبتلى بأمراض معدية يجوز منعه من السكن بين الأصحاء، ولا يجاور الأصحاء". اهـ.
إذا تقرر هذا؛ ظهر أن نفي الشارع للعدوى ليس كما يظن البعض أنها بإطلاق، فالعدوى من أسباب التي خلقها الله كسبب لانتقال المرض، وإن شاء سبحانه عمل السبب وإن شاء سبحانه أبطل اثرها، ككل سبب، فالدواء سبب صحيح للشفاء وقد يعمل وقد لا يعمل، وهكذا،، والله أعلم.
- المصدر: