فَصْل: في الصفات الاختيارية
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: فَصْل: في الصفات الاختيارية
الإجابة: فَصْــل
في الصفات الاختيارية
وهي الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته؛ مثل كلامه، وسمعه، وبصره، وإرادته، ومحبته، ورضاه، ورحمته، وغضبه، وسخطه، ومثل خلقه، وإحسانه، وعدله، ومثل استوائه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز، والسنة.
فالجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، يقولون: لا يقوم بذاته شىء من هذه الصفات، ولا غيرها.
والكُلاَّبية ومن وافقهم من السالمية وغيرهم يقولون:[تقوم صفات بغير مشيئته وقدرته]، فأما ما يكون بمشيئته وقدرته، فلا يكون إلا مخلوقًا منفصلا عنه.
وأما السلف وأئمة السنة والحديث، فيقولون: إنه متصف بذلك، كما نطق به الكتاب والسنة، وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة أو أكثرهم، كما ذكرنا أقوالهم بألفاظها في غير هذا الموضع.
ومثل هذا: [الكلام]، فإن السلف وأئمة السنة والحديث يقولون: يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه ليس بمخلوق، بل كلامه صفة له قائمة بذاته.
وممن ذكر أن ذلك قول أئمة السنة، أبو عبد الله بن منده، وأبو عبد الله بن حامد، وأبو بكر عبد العزيز، وأبو إسماعيل الأنصاري وغيرهم.
وكذلك ذكر أبو عمر بن عبد البر نظير هذا في [الاستواء] وأئمة السنة كعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وعثمان بن سعيد الدارمي ومن لا يحصى من الأئمة، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني عن سعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل،وإسحاق بن إبراهيم، وسائر أهل السنة والحديث متفقون على أنه متكلم بمشيئته، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، وكيف شاء.
وقد سمى الله القرآن العزيز حديثًا فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23]، وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وقال: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} [الأنبياء:2]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما احتج به البخاري في صحيحه، وفي غير صحيحه، واحتج به غير البخاري، كنعيم بن حماد، وحماد بن زيد.
ومن المشهور عن السلف: أن القرآن العزيز كلام الله غير مخلوق؛ منه بدأ، وإليه يعود.
وأما الجهمية والمعتزلة، فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته، بل كلامه منفصل عنه مخلوق عنه والمعتزلة يطلقون القول بأنه يتكلم بمشيئته، ولكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلامًا منفصلا عنه.
والكُلاَّبية والسالمية يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل كلامه قائم بذاته، بدون قدرته، ومشيئته مثل حياته، وهم يقولون: الكلام صفة ذات، لا صفة فعل يتعلق بمشيئته وقدرته، وأولئك يقولون: هو صفة فعل، لكن الفعل عندهم هو المفعول المخلوق بمشيئته وقدرته.
وأما السلف وأئمة السنة، وكثير من أهل الكلام كالهشامية، والكَرَّامية وأصحاب أبي معاذ التُّومِنِيّ، وزُهَيْر اليامي، وطوائف غير هؤلاء يقولون: إنه صفة ذات، وفعل، هو يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا بذاته. وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم، فكل من وصف بالكلام كالملائكة والبشر، والجن، وغيرهم، فكلامهم لابد أن يقوم بأنفسهم، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم.
والكلام صفة كمال، لا صفة نقص، ومن تكلم بمشيئته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته، فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق؟!
ولكن الجهمية والمعتزلة بنوا على أصلهم: أن الرب لا يقوم به صفة؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التجسيم والتشبيه الممتنع؛ إذ الصفة عَرَض، والعرض لا يقوم إلا بجسم.
والكُلاَّبيّة يقولون: هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة، ولا تكون بمشيئته؛ فأما ما يكون بمشيئته فإنه حـادث، والرب تعـالى لا تقـوم بـه الحـوادث ويسمـون [الصفات الاختيارية] مسألة [حلول الحوادث] فإنه إذا كلم موسى بن عمران بمشيئته وقدرته، وناداه حين أتاه بقدرته ومشيئته، كان ذلك النداء والكلام حادثًا.
قالوا: فلو اتصف الرب به لقامت به الحوادث.
قالوا: ولو قامت به الحوادث لم يَخْلُ منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، قالوا: ولأن كونه قابلا لتلك الصفة إن كانت من لوازم ذاته، كان قابلا لها في الأزل، فيلزم جواز وجودها في الأزل، والحوادث لا تكون فى الأزل فإن ذلك يقتضى وجود حوادث لا أول لها، وذلك محال، لوجوه قد ذكرت في غير هذا الموضع.
قالوا: وبذلك استدللنا على حدوث الأجسام، وبه عرفنا حدوث العالم، وبذلك أثبتنا وجود الصانع، وصدق رسله، فلو قدحنا في تلك لزم القدح في أصول الإيمان والتوحيد.
وإن لم يكن من لوازم ذاته صار قابلاً لها بعد أن لم يكن قابلاً، فيكون قابلا لتلك الصفة، فيلزم التسلسل الممتنع. وقد بسطنا القول على عامة ما ذكروه في هذا الباب، وبينا فساده وتناقضه على وجه لا تبقى فيه شبهة لمن فهم هذا الباب.
وفضلاؤهم وهم المتأخرون؛ كالرازي، والآمدي، والطوسي، والحِلِّي وغيرهم معترفون بأنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ذلك، بل ذكر الرازي وأتباعه أن هذا القول يلزم جميع الطوائف، ونصره في آخر كتبه: كـ [المطالب العالية] وهو من أكبر كتبه الكلامية الذي سماه: [نهاية العقول في دراية الأصول] لما عرف فساد قول النفاة لم يعتمد على ذلك في [مسألة القرآن].
فإن عمدتهم في [مسألة القرآن] إذا قالوا: لم يتكلم بمشيئته وقدرته قالوا: لأن ذلك يستلزم حلول الحوادث، فلما عرف فساد هذا الأصل لم يعتمد على ذلك في [مسألة القرآن]، فإن عمدتهم عليه، بل استدل بإجماع مركب، وهو دليل ضعيف إلى الغاية، لأنه لم يكن عنده في نصر قول الكُلاَّبية غيره، وهذا مما يبين أنه وأمثاله تبين له فساد قول الكُلاَّبية.
وكذلك الآمدي ذكر في [أبكار الأفكار] ما يبطل قولهم، وذكر أنه لا جواب عنه، وقد كشفت هذه الأمور في مواضع، وهذا معروف عند عامة العلماء حتى الحِلِّي بن المطهر ذكر في كتبه أن القول بنفي[حلول الحوادث]لا دليل عليه، فالمنازع جاهل بالعقل والشرع.
وكذلك من قبل هؤلاء، كأبي المعالي وذويه، إنما عمدتهم أن الكَرَّامية قالوا ذلك وتناقضوا، فيبينون تناقض الكرامية، ويظنون أنهم إذا بينوا تناقض الكرامية وهم منازعوهم فقد فَلَجُوا [أي: ظفروا وفازوا. انظر: القاموس المحيط، مادة: فلج]، ولم يعلموا أن السلف وأئمة السنة والحديث بل من قبل الكرَّامية من الطوائف لم تكن تلتفت إلى الكرَّامية وأمثالهم، بل تكلموا بذلك قبل أن تخلق الكرَّامية، فإن ابن كَرَّام كان متأخرًا بعد أحمد بن حنبل، في زمن مسلم بن الحجاج، وطبقته وأئمة السنة والمتكلمون تكلموا بهذا قبل هؤلاء، وما زال السلف يقولون بموجب ذلك.
لكن لما ظهرت الجهمية النفاة، في أوائل المائة الثانية، بيّن علماء المسلمين ضلالهم وخطأهم، ثم ظهر رَعْنَة [أي: حماقة. انظر: القاموس، مادة: رعن] الجهمية في أوائل المائة الثالثة.
وامتحن [العلماء]:الإمام أحمد وغيره، فجردوا الرد على الجهمية وكشف ضلالهم حتى جرد الإمام أحمد الآيات التي من القرآن، تدل على بطلان قولهم، وهي كثيرة جدًا.
بل الآيات التي تدل على [الصفات الاختيارية] التي يسمونها [حلول الحوادث] كثيرة جدًا، وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ} [الأعراف: 11]، فهذا بين في أنه إنما أمر الملائكة بالسجود بعد خلق آدم، لم يأمرهم في الأزل، وكذلك قوله:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فإنما قال له: بعد أن خلقه من تراب، لا في الأزل.
وكذلك قوله في [قصة موسى]:{فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل:8]، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، فهذا بين في أنه إنما ناداه حين جاء لم يكن النداء في الأزل، كما يقوله الكُلاَّبية، يقولون: إن النداء قائم بذات الله في الأزل، وهو لازم لذاته لم يزل ولا يزال مناديًا له، لكنه لما أتى خلق فيه إدراكًا لما كان موجودًا في الأزل.
ثم من قال منهم: إن الكلام معنى واحد، منهم من قال: سمع ذلك المعنى بإذنه كما يقول الأشعري، و منهم من يقول: بل أفهم منه ما أفهم، كما يقوله: القاضي أبو بكر وغيره، فقيل لهم: عندكم هو معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد، فموسى فهم المعنى كله أو بعضه إن قلتم كله فقد عَلِم عِلْم الله كله، وإن قلتم بعضه فقد تبعض، وعندكم لا يتبعض.
ومن قال من أتباع الكُلاَّبية بأن النداء وغيره من الكلام القديم حروف، أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب، كما تقوله السالمية ومن وافقهم، يقولون: إنه يخلق له إدراكًا لتلك الحروف والأصوات؛ والقرآن والسنة، وكلام السلف قاطبة يقتضى أنه إنما ناداه وناجاه حين أتى،لم يكن النداء موجودًا قبل ذلك، فضلاً عن أن يكون قديمًا أزليًا.
وقال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأعراف: 22].
و هذا يدل على أنه لما أكلا منها نادهما، لم ينادهما قبل ذلك وقال تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]،{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62، 74]،فجعل النداء في يوم معين، وذلك اليوم حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو حينئذ يناديهم، لم يناديهم قبل ذلك.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1].
فبين أنه يحكم فيحلل ما يريد ويحرم ما يريد، ويأمر بما يريد، فجعل التحليل والتحريم والأمر والنهي متعلقًا بإرادته، وينهي بإرادته، ويحلل بإرادته، ويحرم بإرادته، والكُلاَّبية يقولون: ليس شيء من ذلك بإرادته، بل قديم لازم لذاته غير مراد له ولا مقدور.
والمعتزلة مع الجهمية يقولون: كل ذلك مخلوق منفصل عنه، ليس له كلام قائم به، لا بإرداته ولا بغير إرادته، ومثل هذا كثير في القرآن العزيز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد السادس (العقيدة)
في الصفات الاختيارية
وهي الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته؛ مثل كلامه، وسمعه، وبصره، وإرادته، ومحبته، ورضاه، ورحمته، وغضبه، وسخطه، ومثل خلقه، وإحسانه، وعدله، ومثل استوائه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز، والسنة.
فالجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، يقولون: لا يقوم بذاته شىء من هذه الصفات، ولا غيرها.
والكُلاَّبية ومن وافقهم من السالمية وغيرهم يقولون:[تقوم صفات بغير مشيئته وقدرته]، فأما ما يكون بمشيئته وقدرته، فلا يكون إلا مخلوقًا منفصلا عنه.
وأما السلف وأئمة السنة والحديث، فيقولون: إنه متصف بذلك، كما نطق به الكتاب والسنة، وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة أو أكثرهم، كما ذكرنا أقوالهم بألفاظها في غير هذا الموضع.
ومثل هذا: [الكلام]، فإن السلف وأئمة السنة والحديث يقولون: يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه ليس بمخلوق، بل كلامه صفة له قائمة بذاته.
وممن ذكر أن ذلك قول أئمة السنة، أبو عبد الله بن منده، وأبو عبد الله بن حامد، وأبو بكر عبد العزيز، وأبو إسماعيل الأنصاري وغيرهم.
وكذلك ذكر أبو عمر بن عبد البر نظير هذا في [الاستواء] وأئمة السنة كعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وعثمان بن سعيد الدارمي ومن لا يحصى من الأئمة، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني عن سعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل،وإسحاق بن إبراهيم، وسائر أهل السنة والحديث متفقون على أنه متكلم بمشيئته، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، وكيف شاء.
وقد سمى الله القرآن العزيز حديثًا فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23]، وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وقال: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} [الأنبياء:2]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما احتج به البخاري في صحيحه، وفي غير صحيحه، واحتج به غير البخاري، كنعيم بن حماد، وحماد بن زيد.
ومن المشهور عن السلف: أن القرآن العزيز كلام الله غير مخلوق؛ منه بدأ، وإليه يعود.
وأما الجهمية والمعتزلة، فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته، بل كلامه منفصل عنه مخلوق عنه والمعتزلة يطلقون القول بأنه يتكلم بمشيئته، ولكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلامًا منفصلا عنه.
والكُلاَّبية والسالمية يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل كلامه قائم بذاته، بدون قدرته، ومشيئته مثل حياته، وهم يقولون: الكلام صفة ذات، لا صفة فعل يتعلق بمشيئته وقدرته، وأولئك يقولون: هو صفة فعل، لكن الفعل عندهم هو المفعول المخلوق بمشيئته وقدرته.
وأما السلف وأئمة السنة، وكثير من أهل الكلام كالهشامية، والكَرَّامية وأصحاب أبي معاذ التُّومِنِيّ، وزُهَيْر اليامي، وطوائف غير هؤلاء يقولون: إنه صفة ذات، وفعل، هو يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا بذاته. وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم، فكل من وصف بالكلام كالملائكة والبشر، والجن، وغيرهم، فكلامهم لابد أن يقوم بأنفسهم، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم.
والكلام صفة كمال، لا صفة نقص، ومن تكلم بمشيئته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته، فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق؟!
ولكن الجهمية والمعتزلة بنوا على أصلهم: أن الرب لا يقوم به صفة؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التجسيم والتشبيه الممتنع؛ إذ الصفة عَرَض، والعرض لا يقوم إلا بجسم.
والكُلاَّبيّة يقولون: هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة، ولا تكون بمشيئته؛ فأما ما يكون بمشيئته فإنه حـادث، والرب تعـالى لا تقـوم بـه الحـوادث ويسمـون [الصفات الاختيارية] مسألة [حلول الحوادث] فإنه إذا كلم موسى بن عمران بمشيئته وقدرته، وناداه حين أتاه بقدرته ومشيئته، كان ذلك النداء والكلام حادثًا.
قالوا: فلو اتصف الرب به لقامت به الحوادث.
قالوا: ولو قامت به الحوادث لم يَخْلُ منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، قالوا: ولأن كونه قابلا لتلك الصفة إن كانت من لوازم ذاته، كان قابلا لها في الأزل، فيلزم جواز وجودها في الأزل، والحوادث لا تكون فى الأزل فإن ذلك يقتضى وجود حوادث لا أول لها، وذلك محال، لوجوه قد ذكرت في غير هذا الموضع.
قالوا: وبذلك استدللنا على حدوث الأجسام، وبه عرفنا حدوث العالم، وبذلك أثبتنا وجود الصانع، وصدق رسله، فلو قدحنا في تلك لزم القدح في أصول الإيمان والتوحيد.
وإن لم يكن من لوازم ذاته صار قابلاً لها بعد أن لم يكن قابلاً، فيكون قابلا لتلك الصفة، فيلزم التسلسل الممتنع. وقد بسطنا القول على عامة ما ذكروه في هذا الباب، وبينا فساده وتناقضه على وجه لا تبقى فيه شبهة لمن فهم هذا الباب.
وفضلاؤهم وهم المتأخرون؛ كالرازي، والآمدي، والطوسي، والحِلِّي وغيرهم معترفون بأنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ذلك، بل ذكر الرازي وأتباعه أن هذا القول يلزم جميع الطوائف، ونصره في آخر كتبه: كـ [المطالب العالية] وهو من أكبر كتبه الكلامية الذي سماه: [نهاية العقول في دراية الأصول] لما عرف فساد قول النفاة لم يعتمد على ذلك في [مسألة القرآن].
فإن عمدتهم في [مسألة القرآن] إذا قالوا: لم يتكلم بمشيئته وقدرته قالوا: لأن ذلك يستلزم حلول الحوادث، فلما عرف فساد هذا الأصل لم يعتمد على ذلك في [مسألة القرآن]، فإن عمدتهم عليه، بل استدل بإجماع مركب، وهو دليل ضعيف إلى الغاية، لأنه لم يكن عنده في نصر قول الكُلاَّبية غيره، وهذا مما يبين أنه وأمثاله تبين له فساد قول الكُلاَّبية.
وكذلك الآمدي ذكر في [أبكار الأفكار] ما يبطل قولهم، وذكر أنه لا جواب عنه، وقد كشفت هذه الأمور في مواضع، وهذا معروف عند عامة العلماء حتى الحِلِّي بن المطهر ذكر في كتبه أن القول بنفي[حلول الحوادث]لا دليل عليه، فالمنازع جاهل بالعقل والشرع.
وكذلك من قبل هؤلاء، كأبي المعالي وذويه، إنما عمدتهم أن الكَرَّامية قالوا ذلك وتناقضوا، فيبينون تناقض الكرامية، ويظنون أنهم إذا بينوا تناقض الكرامية وهم منازعوهم فقد فَلَجُوا [أي: ظفروا وفازوا. انظر: القاموس المحيط، مادة: فلج]، ولم يعلموا أن السلف وأئمة السنة والحديث بل من قبل الكرَّامية من الطوائف لم تكن تلتفت إلى الكرَّامية وأمثالهم، بل تكلموا بذلك قبل أن تخلق الكرَّامية، فإن ابن كَرَّام كان متأخرًا بعد أحمد بن حنبل، في زمن مسلم بن الحجاج، وطبقته وأئمة السنة والمتكلمون تكلموا بهذا قبل هؤلاء، وما زال السلف يقولون بموجب ذلك.
لكن لما ظهرت الجهمية النفاة، في أوائل المائة الثانية، بيّن علماء المسلمين ضلالهم وخطأهم، ثم ظهر رَعْنَة [أي: حماقة. انظر: القاموس، مادة: رعن] الجهمية في أوائل المائة الثالثة.
وامتحن [العلماء]:الإمام أحمد وغيره، فجردوا الرد على الجهمية وكشف ضلالهم حتى جرد الإمام أحمد الآيات التي من القرآن، تدل على بطلان قولهم، وهي كثيرة جدًا.
بل الآيات التي تدل على [الصفات الاختيارية] التي يسمونها [حلول الحوادث] كثيرة جدًا، وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ} [الأعراف: 11]، فهذا بين في أنه إنما أمر الملائكة بالسجود بعد خلق آدم، لم يأمرهم في الأزل، وكذلك قوله:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فإنما قال له: بعد أن خلقه من تراب، لا في الأزل.
وكذلك قوله في [قصة موسى]:{فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل:8]، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، فهذا بين في أنه إنما ناداه حين جاء لم يكن النداء في الأزل، كما يقوله الكُلاَّبية، يقولون: إن النداء قائم بذات الله في الأزل، وهو لازم لذاته لم يزل ولا يزال مناديًا له، لكنه لما أتى خلق فيه إدراكًا لما كان موجودًا في الأزل.
ثم من قال منهم: إن الكلام معنى واحد، منهم من قال: سمع ذلك المعنى بإذنه كما يقول الأشعري، و منهم من يقول: بل أفهم منه ما أفهم، كما يقوله: القاضي أبو بكر وغيره، فقيل لهم: عندكم هو معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد، فموسى فهم المعنى كله أو بعضه إن قلتم كله فقد عَلِم عِلْم الله كله، وإن قلتم بعضه فقد تبعض، وعندكم لا يتبعض.
ومن قال من أتباع الكُلاَّبية بأن النداء وغيره من الكلام القديم حروف، أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب، كما تقوله السالمية ومن وافقهم، يقولون: إنه يخلق له إدراكًا لتلك الحروف والأصوات؛ والقرآن والسنة، وكلام السلف قاطبة يقتضى أنه إنما ناداه وناجاه حين أتى،لم يكن النداء موجودًا قبل ذلك، فضلاً عن أن يكون قديمًا أزليًا.
وقال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأعراف: 22].
و هذا يدل على أنه لما أكلا منها نادهما، لم ينادهما قبل ذلك وقال تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]،{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62، 74]،فجعل النداء في يوم معين، وذلك اليوم حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو حينئذ يناديهم، لم يناديهم قبل ذلك.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1].
فبين أنه يحكم فيحلل ما يريد ويحرم ما يريد، ويأمر بما يريد، فجعل التحليل والتحريم والأمر والنهي متعلقًا بإرادته، وينهي بإرادته، ويحلل بإرادته، ويحرم بإرادته، والكُلاَّبية يقولون: ليس شيء من ذلك بإرادته، بل قديم لازم لذاته غير مراد له ولا مقدور.
والمعتزلة مع الجهمية يقولون: كل ذلك مخلوق منفصل عنه، ليس له كلام قائم به، لا بإرداته ولا بغير إرادته، ومثل هذا كثير في القرآن العزيز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد السادس (العقيدة)