تحرير المقال في قولهم: (دمتم بخير)
فقد تناول بعض الناس علماء (اللجنة الدائمة للإفتاء) وردوا فتاواهم عن حكم تذييل الخطابات والعرائض بكلمة (ودمتم)؟ حيث سئلت عن حكم تذيل المكاتبات بكلمة دمتم بخير، فأجابت: يكره ذلك؛ لأن الدوام لله سبحانه، والمخلوق لا يدوم".
وذكر المعترض، أن من معنى دمتم الاستمرار والبقاء وهو غير مرادف للخلود.
كما أني رأيت ردًا للفتوى في بعض المنتديات العلمية واللغوية.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:
فقبل بيان هذه المسألة العلمية يجب التنبيه على آفة من أقبح آفات العصر، وهي التطاول على أهل العلم، الأحياء منهم والأموات؛ فوجب الذب وبيانُ الصَّوَاب لكلِّ مَن رزقه الله فَهْمًا في الدين والدنيا، فحق العالم على من دونه ألا يغْلو فيه ولا يَجفو عنه، فلا يكون المقصود إسقاطهم، أو إسقاط الدعوة؛ كما يفعلُه المنحرفون من العَلْمانيين، وأصحاب الأغراض والأهواء، ومن ضلّ ضلالهم، مستغلين سقطات العلماء وأخطاءهم، أو زلاتِهم وهفواتِهم، ومن كان مسترشدًا، فليحافظ على التأدب معهم.
ومن البَدَهيَّات العقليَّة: أنَّ الرَّدَّ على المُخالف عمومًا وأهل العلم خاصة لا يكون إلا بعلْمٍ وعدْل، وليس بظُلْمٍ وجهل وجَوْر وسوء خلق.
مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس من شرط العالم ألا يخطئ، وأن الكمال العزيز، وأن كل واحد من أهل العلم بشر ينسى كما ينسى البشر، وقد يحفظ الدليل من الكتاب أو السنة، ولا يحضره ذكره فيفتي بخلافه، وقد يذكر الدليل من الآية والسنة ولكن يتأول فيهما تأويلاً من خصوص أو نسخ، إلى غير ذلك مما يعرفه العلماء، والكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أجمع أهل العلم على أنه يجب على كل عالم الحكم بما أداه إليه اجتهاده، والعمل بما هو الحق عنده في غالب ظنه، أصاب الحق أم أخطأه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» ؛ متفق عليه من حديث عمرو بن العاص.
قال أبو محمد بن حزم في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام"(3/ 29): "وكل متكلم في مسألة شرعية، ممن له أن يتكلم على الوجه الذي أمر به من الاستدلال الذي لا يشوبه تقليد ولا هوى= فهو حاكم في تلك المسألة؛ لأنه موجب فيها حكمًا، وكل موجب حكمًا فهو حاكم، وهو داخل في استجلاب الأمر بالحديث المذكور". اهـ.
وقد بين الإمام ابن القيم في "الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة" (2/ 519) أن: "وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه؛ لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قَصدُه طاعة الله ورسوله= لم يضر ذلك الاختلاف؛ فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحدًا والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة، لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافًا لا يضر". اهـ.
إذا علم هذا، فلنعد لتحرير تلك المسألة، فنقول: من المعلوم عند علماء البيان أنه يصعب حصر معاني اللغة في عدد معين؛ لأسباب كثيرة؛ منها: تجدد السياقات؛ فالكلمة يختلف معناها الدقيق من سياق لآخر.
ومنها التضمين؛ أن يُضمَّن معنى الكلمة معنى آخر - وهو باب واسع في اللغة – وكثير من آيات القرآن يلجأ المفسرون للتضمين لتفسيرها؛ مثل قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 28]، فقالوا: المعنى: يروى بها؛ لأن يشرب تتعدى بمن؛ أي: يشرب منها. وهلم جرًّا.
أما الفعل (دام) ومشتقَّاته، فلها معانٍ كثيرة حسب السياق الذي توضَع فيه؛ ففي "مختار الصحاح" (ص: 109): "(دَامَ) الشَّيْءُ سَكَنَ"، وهو المعنى المقصود في الفقه للماء الدائم؛ كما في الحديث: «نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ»؛ أي: الماء السَّاكِن.
وداوَمَ عَلَى الْأَمْرِ: واظَبَ عَلَيْهِ. ومنه يطلقون على العمل المستمر: الدوام؛ لما فيه من الاستمرار والمواظبة.
وقولهم: لا أجلس ما دمت قائمًا، أي: دوام قيامك، ومدة قيامه.
أما معنى دمت بخير، ففيها معنى الاستمرار؛ أي: بقيت بخير أو ظللت بخير أو استمررت بخير.
أما ربط الدوام بالتأبيد فهذا يستدعي سياقًا معينًا، أما الفعل نفسه فلا يحتمل ذلك المعنى.
وإقحام معنى التأبيد في المعاني قد استخدمه الزمخشري في "لن" بأنها للتأبيد لنُصرة مذهبه في الرؤية، في الآية: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] فذكر أن المعنى لن تراني أبدًا، وهو تحكُّم لا دليل عليه، وقد ردَّ عليه النحاة؛ فمثلاً لو قلتَ: لن أشرب. ليس معناه: لن أشرب أبدًا؛ فلا يصح لغة ولا عقلاً.
ومن ثم فلا ينبغي التحكم في معاني الكلمات وهي تتغير في السياقات المختلفة.
أيضًا: قولهم: أن الدوام لله عز وجل، لا يمنع من إطلاق الدوام على غيره سبحانه؛ لأن دوام الله ذاتي، بخلاف غيره من المخلوقات فهي مفتقرة في وجودها وبقائها ودوامها إلى الله وتقديره وخلقه، فدوام المخلوقات مثل: الجنة والنار هو من تقدير الله.
أيضًا: فإن دوام كل شيء بحبسه، فالدوام على طاعة الله هو المحافظة على شكر الله بالطاعة، قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، وقد فسرت: بالذين يحافظون على الصلوات الخمس، ولا يستمر ذلك إلى الأبد.
وفي الصحيحين أن مسروقًا سأل عائشة رضي الله عنها: أي العمل كان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: "الدائم"، وفيهما أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه»، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة ومشهورة.
جاء في "المحكم والمحيط الأعظم" (9/ 444): "والديمة: مطر يدوم مع سكون، وقيل: يدوم خمسة أو ستة، وقيل: يوما وليلة. والجمع ديم. غيرت الواو في الجمع لتغيرها في الواحد. وما زالت السماء دومًا، وديمًا ديمًا - الياء على المعاقبة -: أي دايمة المطر. وحكى بعضهم: دامت السماء تديم، ودومت، وديمت. وقال ابن جنى: هو من الواو؛ لاجتماع العرب طرا على الدوام. وهو أدوم من كذا...
وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها ذكرت عمل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ((كان عمله ديمة))، شبهته بالديمة من المطر في الدوام والاقتصاد، والمدام: المطر الدائم". ومثله في "تاج العروس" (32/ 180-191)
إذا تقرر هذا، فالقول بالكراهة فيه نظر كما قال العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد في "معجم المناهي اللفظية" (ص: 621) تعقيبًا على فتوى اللجنة الدائمة،، والله أعلم.