وقعت في شبهات الشيعة
قالَ عَلِيٌّ: "والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي: أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق." يستدل الشيعة بهذا الحديث خصوصًا في مسألة أن علي "لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق" لإثبات صحة حديث أن علي هو "قسيم النار والجنة" كما يستدلون بحديث عن أحمد بن حنبل يقولون أنه يصححه، فهل اعتقادنا كسنة بأن علي هو قسيم الجنة والنار لأن من أحبه كان في الجنة ومن أبغضه كان في النار؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:
فالذي يظهر من قول السائل (وقعت في وقعت في شبهات الشيعة) أنه يظن أن ذكر فضائل أمير المؤمنين عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه من التشيع، وهذا فهم خاطئ؛ لأن دواوين الإسلام من المسانيد والسنن والكتب المشهورة كصحيحي البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمسانيد طافحة بفضائل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ومناقبه الكثيرة المشهورة، ونكتفي بمثال واحد وهو ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لأعطينَّ الرايةَ غدا ًرجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)).
ولكن المحذور هو غلو الرافضة وزعمُهم أن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - إمامٌ معصومٌ، وأن من خالفه كفر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم – قد نص عليه، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص وكفروا بالإمام المعصوم، وبدلوا الدين وغيروا الشريعة وظلموا واعتدوا؟! كما أن غلوهم في حبه - رضي الله عنه - حمَلَهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله، إلى غير هذا مما هو معلوم.
أما الحديث المشار إليه فرواه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (3/ 415)، ثم روى بإسناده قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا شبابة، حدثنا ورقاء، أنه انطلق هو ومسعر إلى الأعمش يعاتبانه في حديثين بلغهما عنه، قول علي: "أنا قسيم النار"، وحديث آخر: فلان كذا وكذا على الصراط، قال: ما رويت هذا ولا قلت هذا قط، حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا محمد بن أبي سمينة، حدثنا عبد الله بن داود الخريبي قال: كنا عند الأعمش فجاءنا يوما وهو مغضب فقال: ألا تعجبون؟ موسى بن ظريف يحدث عن عباية عن علي: أنا قسيم النار، حدثنا محمد بن عيسى أبو إبراهيم الزهري، حدثنا محمد بن عمرو بن أبي صفوان الثقفي قال: سمعت العلاء بن المبارك يقول: سمعت أبا بكر بن عياش قال: قلت للأعمش: أنت حين تحدث عن موسى بن ظريف، عن عباية عن علي: أنا قسيم النار؟ قال: فقال: والله ما رويته إلا على جهة الاستهزاء، قال: قلت: حمله الناس عنك في الصحف وتزعم أنك رويته على جهة الاستهزاء!
حدثنا محمد بن إسماعيل قال: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، حدثنا محمد بن داود الحداني قال: سمعت عيسى بن يونس يقول: ما رأيت الأعمش خضع إلا مرة واحدة فإنه حدثنا بهذا الحديث: قال علي: أنا قسيم النار، فبلغ ذلك أهل السنة فجاءوا إليه فقالوا: أتحدث بأحاديث تقوي بها الروافض والزيدية والشيعة؟ فقال: سمعته فحدثت به، فقالوا: فكل شيء سمعته تحدث به؟ قال: فرأيته خضع ذلك اليوم.
حدثنا أحمد بن علي قال: حدثنا الجارود بن معاذ قال: سمعت أبا معاوية يقول: كان عباية بن ربعي يشرب الدن وحده حدثنا محمد بن موسى، حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة قال: سمعت محمد بن بشير العبدي، يذكر عن بسام الصيرفي قال: قلت لجعفر: إن ناسا يزعمون أن عليا قسيم النار، فقال: أنا أكفر بهذا". اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان"(3/ 247): "أورده العقيلي في الضعفاء وهو موضوع"، وكذلك الحافظ الذهبي، في "ميزان الاعتدال"(4/ 55)، وقال: "وفيه عباية بن ربعي وموسى بن طريف ذكر الحافظ أن كليهما من غلاة الشيعة".
وحكم عليه بالوضع أيضًا الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة"(10/ 597): قال: "حديث علي: "أنا قسيم النار يوم القيامة، أقول: خذي ذا، وذري ذا"،
أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (ص 406)، وابن عدي (383/ 2)، وابن عساكر (12/ 136/ 2)، من طريق الأعمش عن موسى بن طريف عن عباية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه به.
قلت: وهذا آفته موسى بن طريف، قال الذهبي: "كذبه أبو بكر بن عياش، وقال يحيى والدارقطني: ضعيف، وقال الجوزجاني: زائغ".
وقد ثبت عن الأعمش أنه أنكر هذا الحديث على ابن طريف؛ فروى العقيلي بإسناد صحيح عن عبد الله بن داود الخريبي قال: كنا عند الأعمش؛ فجاء يوماً وهو مغضب فقال: ألا تعجبون من موسى بن طريف يحدث عن عباية عن علي: أنا قسيم النار؟!
وعباية: هو ابن ربعي الأسدي؛ قال العقيلي في "الضعفاء" (ص 343): "روى عن موسى بن طريف، كلاهما غاليان". اهـ.
أما ما ورد عن الإمام أحمد بن حنبل فلا يفهم منه تصحيح الحديث وإنما فسره بما صح في فضل علي رضي الله عنه؛ كما في طبقات الحنابلة (1/ 320): " قال وسمعت مُحَمَّد بْن منصور يقول كنا عند أَحْمَد بْن حَنْبَل فقال: له رجل يا أبا عَبْد اللَّه ما تقول فِي هذا الحديث الذي يروي أن عليا قَالَ: "أنا قسيم النار"، فقال: وما تنكرون من ذا! أليس روينا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لعلي: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق"؟ قلنا بلى، قَالَ: فأين المؤمن قلنا فِي الجنة قَالَ: وأين المنافق قلنا فِي النار قَالَ: فعلي قسيم النار".
قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" (2/ 462): "وقد فسر هَذَا الحديث أَحْمَد بْن حنبل على تقدير الصحة فقال: لأنه لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق". اهـ.
ومما يؤكد هذا التفسير ما جاء في "تاريخ دمشق" لابن عساكر (42/ 301):
"... محمد بن منصور الطوسي قال سمعت أحمد بن حنبل وقد سأله رجل عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: علي قسيم النار، فقال هذا حديث مضطرب، طريقه عن الأعمش، ولكن الحديث الذي ليس عليه لبس قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق وقال الله عز وجل"، إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، فمن أبغض عليًا رضي الله عنه، فهو في الدرك الأسفل من النار". اهـ.
إذا تقرر هذا، فالحديث المشار إليه موضوع، ولكن معناه ثابت في الحديث الصحيح كما فسره إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، وليس في شيء من حجة للروافض الذين هم أعظم أصحاب الأهواء جهلًا وظلمًا؛ يعادون خيار أولياء الله - تعالى - من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان - رضى الله عنهم ورضوا عنه، والذين هم:
" من أضل الناس عن سواء السبيل؛ فإن الأدلة إما نقلية وإما عقلية، والقوم من أضل الناس في المنقول والمعقول، في المذاهب والتقرير، وهم من أشبه الناس بمن قال الله فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [سورة الملك 10]، والقوم من أكذب الناس في النقليات، ومن أجهل الناس في العقليات؛ يصدقون من المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار، أنه من الأباطيل، ويُكَذَّبون بالمعلوم من الاضطرار المتواتر أعظمَ تواتر في الأمة جيلًا بعد جيل، ولا يُميزون في نقلة العلم ورواة الأحاديث والأخبار بين المعروف بالكذب، أو الغلط، أو الجهل بما ينقل، وبين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم بالآثار "، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "منهاج السنة النبوية" (1/8-12).
هذا؛ والله أعلم.
- المصدر: