حكم تصديق ما ورد في التوراة والإنجيل إذا علمنا صحته

خالد عبد المنعم الرفاعي

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أقرأ كثيرًا في التوراة والإنجيل وتفاسيرها بحكم عملي، وتعترضني بعض المعلومات التي تتطابق مع روايات القرآن والعلم الحديث. السؤال: هل عندما حكم القرآن الكريم على التوراة والإنجيل بالتحريف، معنى ذلك أننا لا نصدق كلَّ ما جاء فيهما، وبالأحرى هل لو تطابقت بعض المعلومات مع العلم الحديث نصدق هذا أم أن الحكم بالتحريف يلزمنا بالتكذيب الكامل لكل ما ورد فيهما؟ وجزاكم الله خيرًا

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإن من الأمور اليقينية أنه ما من ملة ولا نحلة ولا طائفة إلا ومعها حق وباطل، والمؤمن يثبت الحق ويبطل الباطل، فكل من عدا المسلمين من أهل الكفر وكذلك أهل البدع كالرافضة وغيرهم، لا يكون ما عندهم حقاً محضاً موافقاً للشريعة الإسلامية، ولا باطلاً محضاً لا حق فيها، إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس، ولكن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل، إما مخطئاً، وإما متعمداً لكفر أو نفاق وإلحاد؛ وهذا ما يفسر وجود اتباع لهم، إما لظن مخطئ، أو لنوع من الهوى، أو لمجموعهما.

جاء في كتاب "درء تعارض العقل والنقل" (7/ 334) لشيخ الإسلام ابن تيمية:

"وأما الصابئة المشركون، الذين يعبدون الكواكب والأوثان، ونحوهم من الفلاسفة المشركين، فهؤلاء كفار كسائر المشركين، والفلسفة اليونانية - فلسفة المشائين - عامتها من هذه الفلسفة، فإن اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان، وفي مقالاتهم حق وباطل، كما في مقالات مشركي العرب والهند وغيرهم من أصناف المشركين". اهـ.

وقال أيضًا في كتاب "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/ 118-119):

"... وقد قال قبل هذا الكلام بذم دين النصارى الذي ابتدعوه وغيروا به دين المسيح، ولبسوا الحق الذي بعث به المسيح بالباطل الذي ابتدعوه، حتى صار دينهم مركبًا من حق وباطل، واختلط أحدهما بالآخر فلا يكاد يوجد معه من يعرف ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره، والمسيح قرر أكثر شرع التوراة وغير المعنى، وعامة النصارى لا يميزون ما قرره مما غيره فلا يعرف دين المسيح؛ قال - تعالى -: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79، 80]، فقد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر، فمن اتخذ من دونهم أربابًا كان أولى بالكفر، وقد ذكر أن النصارى اتخذوا من هو دونهم أربابًا بقوله - تعالى -: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة: 31]، ثم قال - تعالى -: في سورة آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 81]". اهـ.

وقال أيضًا في "منهاج السنة النبوية" (5/ 167): "أهل الكتاب معهم حق وباطل، ولهذا قال تعالى لهم: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]، وقال:          {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]، وقال عنهم: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } [النساء: 150]، وقال عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91]؛ وذلك لأنهم ابتدعوا بدعا خلطوها بما جاءت به الرسل، وفرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فصار في كل فريق منهم حق وباطل، وهم يكذبون بالحق الذي مع الفريق الآخر، ويصدقون بالباطل الذي معهم". اهـ.

إذا تقرر هذا؛ فما تجده في التوراة والإنجيل مما يوافق ما جاء في القرآن العظيم فهو من الحق الذي لم تلحقه يد التحريف والتبديل؛ وهذا من أقوال أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار"، ولكن هذه الإسرائيليات إنما تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد.

وقد نبه أهل العلم على أنها على ثلاثة أقسام:

أحدها ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.

والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.

والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ كما في الحديث الصحيح ((إذا حدثكم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم))؛ رواه أحمد وأبو داود، فإنه رخص في الحديث عنهم، ومع هذا نهى عن تصديقهم وتكذيبهم، فلو لم يكن في التحديث المطلق عنهم فائدة لما رخص فيه وأمر به، ولو جاز تصديقهم بمجرد الإخبار لما نهى عن تصديقهم.

هذا؛ وقد صرَّح جماعةٌ من أهل العلم بتَحْريم النَّظر في كتب أهل الكتاب؛ قال البُهُوتي في "كشاف القناع": "ولا يَجوز النَّظر في كتب أهل الكتاب نصًّا لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلَّم - غضِب حين رأى مع عُمَر صحيفةً من التوراة، وقال: ((أفيَّ شكٌّ؟ انتهِ يا ابْنَ الخطَّاب!)) الحديث، ولا النَّظر في كُتُب أهل البدع، ولا النَّظر في الكُتُب المشتمِلَة على الحقِّ والباطل، ولا روايتها، لِما في ذلك من ضررِ إفْساد العقائد". اهـ.

ونقل ابن عابدين في "حاشيته" عن عبدالغني النابلسي قولَه: "نُهينا عن النَّظر في شيءٍ من التوراة والإنجيل، سواءٌ نقَلَها إلينا الكُفَّار أو مَن أسْلَمَ منهم". اهـ.

وقال الإمام ابنُ مُفلح كما في "الآداب الشرعيَّة":

"فَصْلٌ في قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ والزَّبُورِ ونَحْوِ ذَلِكَ كما يَفْعَلُهُ بَعْضُ القُصَّاصِ:

سُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ - رضي اللَّهُ عنه - عن هَذهِ المسْأَلَةِ في رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بن إبْرَاهِيمَ فغَضِبَ فقَالَ: هَذِهِ مَسْأَلَةُ مُسْلِمٍ؟ وَغَضِبَ، وظاهِرُهُ الإنكَارُ، وذكَرَهُ القَاضِي ثمَّ احْتَجَّ بأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا رَأَى في يَدِ عُمَرَ قِطْعَةً من التَّوْرَاةِ غضِبَ، وقَالَ: ((أَلَمْ آتِ بها بَيْضَاءَ نَقِيَّةً؟)) الحديثَ، وهُوَ مَشْهُورٌ؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ وغَيْرُهُ - وهُوَ من رِوَايَة مُجَالِدٍ وجَابِرٍ الجُعْفِيِّ وهُمَا ضَعِيفَانِ - ولأَنَّهَا كُتُبٌ مُبَدَّلَةٌ مُغَيَّرَةٌ فلَمْ تَجُزْ قِرَاءَتُهَا والعَمَلُ عَلَيْهَا". اهـ.

والحاصل أنَّه لا يَجوزُ للمُسْلِم العامِّيِّ القراءةُ في التَّوراة والإنْجِيل، بَلْ مَتَى وُجِدَ عنده شيءٌ من هذه الكتب، فالواجبُ عليْهِ دفْنُها أو إحراقُها حتَّى لا يَضِلَّ بِها أحد.

أمَّا العلماء العالمون بالشَّريعة الإسلاميَّة المتضلِّعون من الكتاب والسُّنَّة، فَقَدْ يَحتاجون إلى الاطِّلاع على التَّوراة أو الإنْجيل لِقَصْدٍ شرْعِيٍّ، كالرَّدِّ على أعداءِ الله، ودفْعِ شبهاتِهم، وبيان ما في كُتُبِهم من تناقُضاتٍ واضحات.

قال في "مطالب أولى النهى" (1 /607): (ويتَّجه جوازُ نظرٍ) في كتُبِ أهل البدع لِمَن كان متضلِّعًا من الكتاب والسُّنَّة مع شدَّة تثبُّت، وصلابة دين، وجودةٍ، وفِطْنةٍ، وقوَّة ذكاء، واقْتِدار على استِخْراج الأدِلَّة (للرَّدِّ علَيْهِم) وكَشْفِ أسرارِهم، وهَتْكِ أسْتارِهِم، لئلاَّ يَغْتَرَّ أهْلُ الجَهالة بتَمْويهاتِهم الفاسدة، فتختلّ عقائدُهم الجامدة، وقد فَعَلَهُ أئمَّة من فقهاء المسلمين وأَلْزَمُوا أهلها بِما لم يُفْصِحوا عنه جوابًا، وكذلك نظروا في التَّوراة واستَخْرَجُوا منها ذِكْرَ نبيِّنا في محلات، وهو متَّجه". اهـ.

هذ؛ والله أعلم.