تسلسل الحوادث
قرأت كلاما للامام ابن تيميه فهمت منه أن الله ما زال متكلما إذا شاء بمعنى أن كل كلام لله قبله كلام إلي ما لا نهاية ،وكذلك بالنسبة للخلق فإن الخلق صفة كمال لقوله تعالى افمن يخلق كمن لا يخلق،فالقول بأن الله ظل فترة لا اول لها لم يخلق ثم ابتدأ الخلق فيه تعطيل له عن كماله،فكل خلق لله قبله خلق إلى مالا نهاية والله خالق كل ما سواه،هل ما فهمته صحيح ارجو الرد بشئ من التفصيل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومن والاه، أمَّا بعدُ:
فمذهب السَّلَفِ والأئمَّةِ كما حكاه شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّةَ - رحمه الله – في مواضع كثيرة من كتبه أن العالَمِ أو المخلوقاتُ أو الحوادثُ المنفصلةُ، كلُّ ذلكَ حادثٌ، جنسُهُ أو نوعُهُ، آحادُهُ أو أفرادُهُ؛ لأنَّ كلَّ ذلكَ مسبوقٌ بوجودِ غيرِهِ - وهذا معنى الحادثِ؛ فإنَّ الحادثَ: ما كانَ مسبوقًا بوجودِ غيرِهِ بالزمانِ، ومسبوقًا بعدمِ نفسِهِ، في حينِ أنَّ القديمَ: هو الذي لا يكونُ مسبوقًا بوجودِ غيرِهِ، ولا مسبوقًا بِعَدَمِ. نفسِهِ
كما أن تسلسلِ جنسِ الحوادثِ في الماضي لا إلى أوَّلٍ، يكون في الحوادثُ المتصلةُ - وهو جنسُ الأفعالِ الاختياريَّةِ - وفي الحوادثُ المنفصلةُ - وهو جنسُ المخلوقاتِ - فلا مَبْدَأَ لهذا الجنسِ، بل هو دائمٌ متعاقِبٌ في الماضي لا إلى أوَّلٍ، غيرُ مسبوقٍ بِعَدَمِ نفسِهِ؛ لأنه لو كانت جنس المخلوقات مفتتحًا، للزم أن تكون صفة الخلق معطلة مدة من الزمان، وهو باطل عقلاً وشرعًا، وهو معنى ما ورد عن السلف أن الله لم يزل خالقًا بالفعل، ولم يزل متكلمًا، وهكذا؛ كما في قولِهِ تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النَّحْل: 17]، ولم يقلْ سبحانَهُ: أَفَمَنْ يَقْدِرُ أو يَقْوَى على الخَلْقِ كمَنْ لا يَقْدِرُ أو كمَنْ لا يَقْوَى؛ وعلى ذلك: فصفةُ الخَلْقِ جنسُها قديمٌ غيرُ متعلِّقٍ بمشئتِهِ سبحانَهُ ولا بقدرتِهِ، وآحادُ هذه الصفةِ: حادثٌ شيئًا بعد شيءٍ؛ لتعلُّقِهَا بمشيئةِ اللهِ وقدرتِهِ.
قال شيخُ الإسلامِ في "درءِ التعارض" (1/366-367): "والقولُ الثاني: أنَّ المؤثِّرَ التامَّ يَستلزِمُ أَثَرَهُ؛ لكنَّ في معنى هذا الاستلزامِ قولَيْنِ:
أحدُهما: أنْ يكونَ معه؛ بحيثُ يكونُ زمانُ الأَثَرِ المُعَيَّنِ زمانَ المؤثِّرِ؛ فهذا هو الذي تقولُهُ المتفلسفةُ؛ وهو معلومُ الفَسَادِ بصريحِ العَقْلِ عندَ جمهورِ العُقَلاءِ.
والثاني: أنْ يكونَ الأَثَرُ عَقِبَ تَمَامِ المؤثِّرِ؛ وهذا يُقِرُّ به جمهورُ العُقَلاءِ؛ وهو يَستلزِمُ ألَّا يكونَ في العالَمِ شيءٌ قديمٌ، بل كُلُّ ما فعَلَهُ القديمُ الواجبُ بنفسِهِ، فهو مُحْدَثٌ.
وإنْ قيلَ: إنَّه لم يَزَلْ فَعَّالًا، وإنْ قيلَ بدوامِ فاعليَّتِهِ، فذلكَ لا يُناقِضُ حدوثَ كلِّ ما سواهُ، بل هو مُستلزِمٌ لحدوثِ كلِّ ما سواهُ؛ فإنَّ كلَّ مفعولٍ، فهو مُحْدَثٌ؛ فكلُّ ما سواه مفعولٌ؛ فهو مُحْدَثٌ مسبوقٌ بالعَدَمِ؛ فإنَّ المسبوقَ بغيرِهِ سَبْقًا زمانيًّا لا يكونُ قديمًا، والأَثَرُ المُتعقِّبُ لِمُؤَثِّرِهِ الذي زمانُهُ عَقِبَ زمانِ تَمَامِ مؤثِّرِهِ، ليسَ مُقارِنًا له في الزمانِ، بل زَمَنُهُ مُتعقِّبٌ لزمانِ تَمَامِ التأثيرِ؛ كتَقدُّمِ بعضِ أجزاءِ الزمانِ على بعضٍ، وليسَ في أجزاءِ الزَّمَانِ شيءٌ قديمٌ، وإنْ كانَ جِنْسُهُ قديمًا، بَلْ كلُّ جزءٍ مِنَ الزمانِ مسبوقٌ بآخَرَ؛ فليسَ مِنَ التأثيراتِ المعيَّنةِ تأثيرٌ قديمٌ؛ كما ليسَ مِنْ أجزاءِ الزَّمَانِ جزءٌ قديمٌ.
فمَنْ تَدَبَّرَ هذه الحقائقَ، وتَبيَّنَ له ما فيها مِنَ الاشتباهِ والالتباسِ، تَبَيَّنَ له مُحَارَاتُ أكابِرِ النُّظَّارْ، في هذِهِ المَهَامِهِ التي تَحَارُ فيها الأَبْصَارْ، واللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مستقيمٍ". اهـ.
وقال أيضًا - رحمه الله - في "دَرْء التعارُض" (9/152-153): "قالَ لكمْ منازعوكُمْ: هذا لفظٌ مجمَلٌ مُشتَبِهٌ، وعامَّةُ حُجَجِكمْ وحُجَجِ غَيْرِكم الباطلةِ مبناها على ألفاظٍ مجمَلةٍ متشابِهةٍ، مع إلغاءِ الفارقِ، ويأخذونَ اللفظَ المجمَلَ المشتَبِهَ، مِنْ غيرِ تمييزٍ لأحدِ معنَيَيْهِ عن الآخَرِ، فبالاشتراكِ والاشتباهِ في الألفاظِ والمعاني ضَلَّ كثيرٌ مِنَ الناسِ.
وذلك أنَّ قولَكُمُ: الحادثُ - مِنْ حيثُ هو - يَقْتَضِي أنَّه مسبوقٌ بغيرِهِ، أو الحَرَكَةُ - مِنْ حيثُ هي- تقتضي أنْ تكونَ مسبوقةً بالغَيْرِ.
يقالُ لكمُ: الحادثُ المُطْلَقُ لا وجودَ له إلَّا في الذِّهْنِ، لا في الخارجِ، وإنَّما في الخارجِ: موجوداتٌ متعاقِبَةٌ، ليستْ مجتَمِعَةً في وقتٍ واحدٍ؛ كما تَجتمِعُ المُمْكِنَاتُ والمُحْدَثَاتُ المحدودةُ، والموجوداتُ والمعدوماتُ؛ فليس في الخارجِ إلا حادثٌ بعد حادثٍ؛ فالحُكْمُ: إمَّا على كلِّ فَرْدٍ فردٍ، وإمَّا على جملةٍ محصورةٍ، وإمَّا على الجِنْسِ الدائمِ المتعاقِبِ:
فيقالُ لكمْ: أَتُرِيدُونَ بذلكَ: أنَّ كلَّ حادثٍ فلا بُدَّ أنْ يكونَ مسبوقًا بغيرِهِ، أو أنَّ الحوادثَ المحدودةَ لا بُدَّ أنْ تكونَ مسبوقةً، أو أنَّ الجِنْسَ لا بُدَّ أنْ يكونَ مسبوقًا؟:
أمَّا الأوَّلُ والثاني: فلا نِزَاعَ فيهما.
وأمَّا الثالثُ: فيقالُ: أتريدونَ بِهِ: أنَّ الجِنْسَ مسبوقٌ بِعَدَمِهِ، أَمْ مسبوقٌ بفاعلِهِ، بمعنى: أنَّه لا بُدَّ له مِنْ مُحْدِثٍ؟ الثاني: مُسلَّمٌ، والأَوَّلُ: مَحَلُّ النزاعِ». اهـ
وقال في "مجموع الفتاوى" (12/ 45- 46): "وأما جنس الحوادث شيئًا بعد شيء، فهذا شيء تنازع فيه الناس، فقيل: إن ذلك ممتنع في الماضي والمستقبل كقول الجهم وأبي الهذيل، فقال الجهم: بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل: بفناء حركات أهلهما.
وقيل: بل هو جائز في المستقبل دون الماضي؛ لأن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل، وهو قول كثير من طوائف النظار.
وقيل: بل هو جائز في الماضي والمستقبل، وهذا قول أئمة أهل الملل، وأئمة السنة كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما ممن يقول بأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وأن كلمات الله لا نهاية لها، وهي قائمة بذاته، وهو متكلم بمشيئته وقدرته، وهو أيضا قول أئمة الفلاسفة...
وقد علم بالاضطرار أن ما أخبرت به الرسل من أن الله خلق كل شيء، وأنه خلق كذا إنما أرادوا بذلك أنه خلق المخلوق وأحدثه بعد أن لم يكن؛ كما قال: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، والعقول الصريحة يوافق ذلك، وتعلم أن المفعول المخلوق المصنوع لا يكون مقارنًا للفاعل في الزمان، ولا يكون إلا بعده، وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث المفعول". اهـ.
وقال في النبوات لابن تيمية (1/ 253)
وكثير منهم -يقصد النظار- يفطن للفرق بين جنس الحوادث، وبين الحوادث المحدودة، فالجنس: مثل أن يُقال: ما زالت الحوادث توجد شيئاً بعد شيء، أو ما زال جنسها موجوداً، أو ما زال الله متكلّماً إذا شاء، أو ما زال الله فاعلاً لما يشاء، أو ما زال قادراً على أن يفعل قدرة يمكن معها اقتران المقدور بالقدرة، لا تكون قدرة يمتنع معها المقدور؛ فإنّ هذه في الحقيقة ليست قدرة.
ومثل أن يُقال في المستقبل: لا بُدّ أنّ الله يخلق شيئاً بعد شيء، ونعيم أهل الجنة دائم لا يزول، ولا ينفذ، وقد يُقال في النوعين: كلمات الله لا تنفذ، ولا نهاية لها؛ لا في الماضي، ولا في المستقبل، ونحو ذلك.
فالكلام في دوام الجنس وبقائه، وأنّه لا ينفذ، ولا ينقضي، ولا يزول، ولا ابتداء له: غير الكلام فيما يُقدر محدوداً له ابتداء، أو له ابتداء وانتهاء؛ فإنّ كثيراً من النظّار من يقول: جنس الحوادِث إذا قدّر له ابتداء، وجب أن يكون له انتهاء؛ لأنّه يمكن فرض تقدّمه على ذلك الحدّ، فيكون أكثر ممّا وجد، وما لا يتناهى لا يدخله التفاضل؛ فإنّه ليس وراء عدم النهاية شيء أكثر منها، بخلاف ما لا ابتداء له ولا انتهاء؛ فإنّ هذا لا يكون شيء فوقه، فلا يفضي إلى التفاضل فيما لا يتناهى.
إلى أن قال (1/ 327-328): "فإنّ الحادث إنّما يحدث إذا كان حدوثه ممكناً، وكان يقبل الوجود والعدم، فهو مسبوق بإمكان الحدوث وجوازه، فلا بُدَّ له من محلّ يقوم به هذا الإمكان والجواز.
وقد تنازعوا في هذا: هل الإمكان صفة خارجية، لا بُدّ لها من محلّ، أو هي حكم عقلي لا يفتقر إلى غير الذهن؟
والتحقيق: أنّه نوعان: فالإمكان الذهني: وهو تجويز الشيء، أو عدم العلم بامتناعه، محلّه الذهن. والإمكان الخارجي المتعلق بالفاعل، أو المحل؛ مثل أن تقول: يمكن القادر أن يفعل، والمحل؛ مثل أن تقول: هذه الأرض يمكن أن تزرع، وهذه المرأة يمكن أن تحبل، وهذا لا بُدّ له من محلّ خارجيّ، فإذا قيل عن الربّ: يمكن أن يخلق؛ فمعناه أنّه يقدر على ذلك، ويتمكّن منه، وهذه صفة قائمة به.
وإذا قيل: يمكن أن يحدث حادث؛ فإن قيل يمكن حدوثه بدون سبب حادث، فهو ممتنع، وإذا كان الحدوث لا بُدّ له من سبب حادث؛ فذاك السبب إن كان قائماً بذات الرب، فذاته قديمةٌ أزليّةٌ، واختصاص ذلك الوقت بقيام مشيئةٍ، أو تمام تمكّنٍ، ونحو ذلك، لا يكون إلا لسببٍ قد أحدثه قبل هذا في غيره، فلا يحدث حادثٌ مبايِنٌ إلاَّ مسبوقاً بحادثٍ مباينٍ له.
فالحدوث مسبوقاً بإمكانه، ولا بُدّ لإمكانه من محلّ، ولهذا لم يذكر الله قط أنّه أحدث شيئاً إلا من شيء، والذي يقول إنّ جنس الحوادث حدثت لا من شيء، هو كقولهم: إنها حدثت بلا سبب حادث، مع قولهم إنّها كانت ممتنعة، ثم صارت ممكنة، من غير تجدّد سبب، بل حقيقة قولهم أنّ الربّ صار قادراً بعد أن لم يكن، من غير تجدّد شيءٍ يُوجِب ذلك.
وهذه الأمور كلّها من أقوال الجهمية؛ أهل الكلام المحدَث المبتَدَع المذموم، وهو بناء على قولهم: إنّه تمتنع حوادث لا أوّل لها، وهؤلاء وأمثالهم غلطوا فيما جاء به الشرع، وأخبرت به الرسل؛ كما غلطوا في المعقولات؛ فكلّ واحدٍ ممّا يُسمّى شرعاً، وعقلاً، وسمعاً، قد وقع فيه اشتباه". اهـ.
هذا؛ والله أعلم.
- المصدر: