هل المسلم لا يتاجر مع كافر لانه لا يلتزم باحكام الشرع
هل يجوز للمسلم ان يشتري من الكافر الذي لا يبيع بأحكام الشرع مع ان المبيع مباح في ذاته. مثلا اذا باع الكافر(في الغرب) بيع بيع غرر، هل يجوز للمسلم ان يشتري منه، مع علم من المسلم انه بيع غرر. و المسلم يشترى منه لأنه وجد فيه منفعة او فرصة تجارية مع انه بيع غرر. أرجو ان تبين ما آراء الفقهاء في هذا الأمر. (البيع و الشراء يقع في دار الكفر، لا في بلد مسلم.)
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد أباحت الشريعة الإسلامية البيع والشراء مع الكفار؛ وصحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اشترى من يهودي سلعة إلى الميسرة، وفي الصحيحين "أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشترى من أحد اليَهُودِ طعامًا وأعطاهُ درعه رَهْنًا، فما وجد ما يَفْتَكُّها به حتى مات".
ولكن الشارع الحكيم حرم بيع الغرر؛ كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر"، والغرر هو المجهول العاقبة، وبيعه من الميسر ويفضي إلى مفسدة إيقاع العداوة والبغضاء وأكل المال بالباطل.
وقال النووي في "شرح مسلم" (10/ 156): "أما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع؛ ولهذا قدمه مسلم، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة: كبيع الآبق والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه... ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة، وقد يحتمل بعض الغرر بيعًا إذا دعت إليه حاجة كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل والتي في ضرعها لبن، فإنه يصح للبيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حِمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير، منها أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها، ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز، وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة والثوب ونحو ذلك شهرًا، مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يوما وقد يكون تسعة وعشرين، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض مع جهالة قدر المشروب واختلاف عادة الشاربين.
قال العلماء مدار البطلان بسبب الغرر، والصحة مع وجوده على ما ذكرناه وهو أنه إن دعت حاجة إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، وكان الغرر حقيرًا جاز البيع، وإلا فلا". اهـ. مختصرًا.
وجاء في "مجموع الفتاوى" (20/ 543): " والغرر ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودًا، أو معدومًا كالعبد الآبق والبعير الشارد ونحو ذلك مما قد لا يقدر على تسليمه، بل قد يحصل وقد لا يحصل هو غرر لا يجوز بيعه، وإن كان موجودًا فإن موجب البيع تسليم المبيع، والبائع عاجز عنه، والمشتري إنما يشتريه مخاطرة ومقامرة". اهـ.
والحاصل أنه يحرم الغرر عمومًا إلا ما دعت إليه الحاجة وكان الغرر يسيرًا.
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (29/ 48-49): "وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل:- فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها؛ كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض، وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل، وإن كان فيه منفعة - وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق" - صار هذا اللهو حقا، ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض وأكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم، والحاجة إليها ماسة. والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر.
والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم". اهـ.
إذا تقرر هذا؛ فإذا كان الغرر المسؤول عنه يسيرًا، والحاجة إلى البيع أو الشراء ماسة، جاز البيع، إن كان غير هذا فلا يجوز،، والله أعلم.
- المصدر: