أعيش في وسط فاسد وأريد الهداية
السلام عليكم
أريد أن أعمل بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ولكن المشكلة هي أنني أعيش في وسط قوم أكثر الناس همزون لمزون لا يصلون ولا يصومون ولا يتصدقون، ويعملون بالبدع ومحدثات الأمور، ويحلفون بغير الله وينذرون لغير الله، وبعض الناس يكفر بالله ورسوله باللفظ، و كل اخواتي لا يصلون و يسبون الدين و الله و يكثرون من اللعن وأنا شاب أدرس في المرحلة الثانوية وأكثر طلاب الثانوية سيئو الأخلاق لا يفعلون أوامر الله، وتوجد معنا فتيات غير محجبات والمدرسات كذلك، حتى أصبح فعل الشر شي عادي و سهلاً
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
الحمد الله الذي وفقك للرغبة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فاحمده سبحانه على العافية، واشْكُره على التوفيق بالمحافظة على أداء طاعته؛ فتوفيق الله تعالى أعظم نِعَم الله على عباده.
أمَّا وقوع كثير من المسلمين في زماننا في المعاصي الظاهرة، فلا شك أنه شاقٌّ على النفس المؤمنة أن يرى الناس مِن حوله يستسهلون الوقوع في الحرام، بل يرون المعروف منكرًا، والمنكرَ معروفًا، وهذا يتطلَّب منَّا جميعًا جُهدًا كبيرًا في الدعوة إلى الله، والعمل على تحقيق شروطها مِن العلم والصبر والتحلي بالأخلاق العالية، مِن الحلم والرفق، والحكمة، وحسن الموعظة.
ولا يخفى على من قرأ كتاب الله تعالى وتأمل معانيه، وتدبر قصص أنبياء الله تعالى، أن الصراع بين الحق والباطل مِن سُنن الله تعالى الكونية التي عُمرها عُمر الإنسان، وهذا الصراع والتدافع المستمر بين الحق والباطل هو حقيقة التكليف الشرعي، فالحق بقوته وصدقه وثباته، وسلطانه المستمد من الله، والباطل باندحاره وجلائه، فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت، ومِن طبيعة الباطل أن يَتوارَى ويزهق، وإنْ بدَا بالنظر القاصر أنَّ له صولةً وانتفاخًا وانتفاشًا، وهو هَشٌّ سريعُ العطب وأن بدى كبيرًا ضخمًا راسخًا؛ لأنه لا يطمئن إلى حقيقةٍ، فهو كشُعلة مِن الهشيم ترتفع عاليًا، ثم سريعًا ما تخبو وتستحيل رمادًا.
وقد اقَتضَتْ حكمة الله البالغة أن يخَلْقُ الإنسان على هذا الاستعداد المزدوج للهدى والضلال، فيهدي مَن يشاء برحمته إلى صراطه المستقيم، ويضلُّ مَن يشاء بعدله، فعونُ الله لكلِّ مَن جاهد نفسه في طاعة الله، ومَن عاند أو أَعْرَضَ أَضَلَّهُ الله بعدله، بأن وكله إلى نفسه؛ ولا يَظْلِمُ ربك أحدًا.
أمَّا تلك النظرة السلبيَّة التشاؤميَّة فإنها تَزول بإذن الله شيئًا فشيئًا، كلما ازددتَ قربًا مِن الله تعالى، وتمسُّكًا بدينه القويم، وأقبلتَ على قراءة كتابه العظيم بتدبُّر، وتوجهتَ بقلبك وعقلك لرب العالمين، غير منحرفٍ قيد أنملة عن صراطه المستقيم، فيقوى قلبك، ولا تتأثر بانحرافاتِ مَن حولك وأهوائهم وشهواتهم؛ فطريقُ الجنة كما أخبر اللهُ ورسوله محفوفٌ بالمكاره، وزاده الصبرُ على مشاق الطريق، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص؛ قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]؛ وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 142، 143]، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((حُفَّت الجنةُ بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات))، وروى أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خَلَق اللهُ الجنة والنار أرسل جبريل، قال: انظرْ إليها، وإلى ما أعددتُ لأهلها فيها، فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع إليه، فقال: وعزَّتك، لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها، فأمر بها فحُجبت بالمكاره، قال: ارجعْ إليها فانظر إليها، وإلى ما أعددتُ لأهلها فيها، قال: فرجع إليها فإذا هي قد حُجبت بالمكاره، فرجع إليه، فقال: وعزتك، قد خشيت ألا يَدْخُلها أحدٌ، قال: اذهبْ إلى النار فانظر إليها، وإلى ما أُعِدَّدتْ لأهلها فيها، فجاءها فنظر إليها وإلى ما أُعِدَّ لأهلها فيها، فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع، فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأُمِرَ بها فحُفَّت بالشهوات، فرجع إليه، قال: وعزتك، لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)).
قال صاحب الظلال (2/ 1081-1082): "إنَّ طريق الدعوة إلى الله شاقٌّ محفوف بالمكاره، ومع أن نصر الله للحق آتٍ لا ريب فيه، إلا أنَّ هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يُقَدِّره الله، وفْقَ علمه وحكمته، وهو غيبٌ لا يعلم موعده أحد - حتى ولا الرسول - والمشقة في هذا الطريق تنشأ مِن عاملين أساسيين: مِن التكذيب والإعراض اللَّذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر، والحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة...، ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه، وعرَف طعمه، والحماسة للحق والرغبة في استعلانه! وهذه الرغبة لا تقلُّ مشقةً عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى، فكلها مِن دواعي مشقة الطريق، والتوجيه القرآني في هذه الموجة من السياق يُعالج هذه المشقة من جانبيها؛ ذلك حين يُقرِّر أن الذين يُكذِّبون بهذا الدين أو يُحاربون دعوته - يعلمون علم اليقين أنَّ ما يدعون إليه هو الحق، وأن الرسول الذي جاء به مِن عند الله صادق، لكنهم مع هذا العلم لا يستجيبون، ويستمرون في جحودهم عنادًا وإصرارًا؛ لأنَّ لهم هوى في الإعراض والتكذيب، وأن هذا الحق يحمل معه دليلَ صدقه، وهو يخاطب الفطرة فتستجيب له، متى كانتْ هذه الفطرةُ حيةً، وأجهزة الاستقبال فيها صالحة: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36]، فأما الذين يجحدون فإنَّ قلوبهم ميتة، وهم موتى، وهم صُم وبكم في الظلمات، والرسول لا يُسمع الموتى، ولا يُسمع الصمّ الدعاء، والداعية ليس عليه أن يبعث الموتى، فذلك من شأن الله... هذا كله مِن جانبٍ، ومن الجانب الآخر، فإنَّ نصر الله آتٍ لا ريب فيه، كلُّ ما هنالك أنه يجري وفقَ سنة الله وبقدَر الله، وكما أن سنة الله لا تستعجل، وكلماته لا تَتَبَدَّل، مِن ناحية مجيء النصر في النهاية، فكذلك هي لا تَتَبَدَّل ولا تستعجل مِن ناحية الموعد المرسوم، واللهُ لا يَعجل لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة - ولو كانوا هم الرسل - فإنَّ استسلام صاحب الدعوة نفسه لقدَر الله بلا عجلة، وصبره على الأذى بلا تَمَلْمُل، ويقينه في العاقبة بلا شك، كلها مطلوبة من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم.
ويُحدِّد هذا التوجيه القرآني دورَ الرسول في هذا الدين، ودور الدعاة بعده في كل جيل؛ إنه التبليغ، والمُضِيُّ في الطريق، والصبر على مشاق الطريق، أمَّا هدى الناس أو ضلالهم فهو خارجٌ عن حدود واجبه وطاقته، والهدى والضلال إنما يتبعان سنةً إلهيةً لا تَتَبَدَّل، ولا يغير منها رغبة الرسول في هداية من يُحب، كما لا يغير منها ضيقه ببعض مَن يعاند ويحارب، إنَّ شخصه لا اعتبار له في هذه القضية، وحسابه ليس على عددِ المهتدين، إنما حسابُه على ما أدى وما صبر وما التزم، وما استقام كما أمر، وأمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس؛ {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35]".اهـ.
وهذا؛ ومِن أعظم ما يعين على الجلد في خلطة الشاردين عن الحق العملُ بوصية شيخ الإسلام ابن القيم، في معرض كلامه عن الخلطة بالناس؛ فقال في مدارج السالكين (2/ 338): "فأنت معهم مسترسل بشبَحك ورسمك وصورتك فقط، ومفارقتهم بقلبك وسِرِّك، مشاهدًا للمعنى الذي به حياتك، فإذا فارقتَه كنتَ كالحوت إذا فارق الماء، فإن هذا المعنى هو حياة القلب والروح، فإذا فات العبد عَلَتْهُ الكآبة، وغَمَرَهُ الهمُّ والغمُّ والأحزان، وتلون في أفعاله وأقواله، وتاه قلبُه في الأودية والشعاب، وفقَد نعيمَ الدنيا والآخرة، فمتى كان شهود هذا المعنى قائمًا في قلبك: لا يضرك مخالطة مَن لا تسلبك إياه مخالطته والانبساط إليه". اهـ محتصرًا.
هذا؛ والله أعلم.
- المصدر: