تهافت قول الرازي إن خلق النساء كخلق الدواب والنبات
خالد عبد المنعم الرفاعي
من تفسير الفخر الرازي(11/113) في "مفاتيح الغيب" للآية الكريمة "وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ". لقد جاء في تفسيره كلام علي أن الله لم يخلق النساء للتكليف اصلا و إنما كنعمه للرجال كما خلق الشجر و الدواب! و أن الله كلف النساء لكي نخاف من العذاب و نطيع الزوج ليس لتوجيه التكليف نحونا كالرجال. رجاء اخبرني هل هذا صحيح؟ اشرح لي لو سمحتفانا لا افهم.
لحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، ثم أمَّا بعد:
فإن نص كلام الرازي كما في تفسيره "مفاتيح الغيب" أو "التفسير الكبير" (25/ 91) عند قوله تعالى:{خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}، فقال: "دليل على أن النساء خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع؛ كما قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } [البقرة: 29]، وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف، فنقول خلق النساء من النِعم علينا، وخلقهن لنا، وتكليفهن لإتمام النعمة علينا، لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا؛ وذلك من حيث النقل والحكم والمعنى". اهـ.
ولا شك في خطأ ما ذكره الرازي بل بطلانه، والسبب الأول في وقوعه في تلك الأغاليط وغيرها هو تضلعه من الفسلفة وعلم الكلام حتى صنف في العلمين مصنفات كثيرة، فكان ينصر قول الفلاسفة المشركين في كتبه الفلسفيه، ويرجح قول المتكلمين المبتدعة في كتبه الكلامية، أما الأصلين الكتاب والسنة بله العقليات الصحيحة فبضاعته في الجميع مزاجة، وما كان للرازي وأمثاله أن يتصدوا لتفسير كتاب الله العظيم، فتفسيره قد حوى كل شيء إلا التفسير، ففيه الطب، والفلك، والفلسفة، والجغرافيا، والزراعة، والتجارة، والكيمياء، بل والكفر الصريح وتقرير كلام المشركين، والأقوال المنكرة التي لا يحل الاعتماد عليها ولا ذكرها إلا على سبيل التحذير، حتى أنه أوجب تعلم السحر؛ مستدلاً بأن العلم شريف بذاته؛ ولقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الزمر:9]، والسحر علم، فيجب تعلمه، وهو قول يعلم فسادَه بالضرورة كلُ عاقل، ويعلم فساده كل من تصوره، ومن توقف فيه فلعدم تصوره له! فلا يجوز تعلم الكفر.
وأيضًا فقد ذكر في تفسيره حديث المعراج ما هو مبني على أصول الفلاسفة الذين هم أكفر الكفار، وذكر أن الأنبياء الذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم هم الكواكب، فآدم القمر ويوسف الزهرة، وأن المعراج كان رؤية قلبية، وهو كلام لا يؤيده نصّ، ولا قاله إمام، ولا تصوره أحدٌ إلا علم فساده بالبديهة.
والحاصل أن الرازي يتكلم في القرآن العظيم بلا سند ولا نقل، وفي مسائل المعتقد يقرر كلام ابن سينا الملحد وأتباعه من الدهرية، أو كلام المتكلمة الجهمية، فحرف الآيات مراعاة لمذهبه الفاسد.
قال أبو حيان الأندلسي الإمام المفسر الكبير في تفسيره "البحر المحيط في التفسير" (1/ 547): "أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير، فنخرج عن طريقة التفسير، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، المعروف بابن خطيب الري، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير. ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال: فيه كل شيء إلا التفسير". اهـ.
وفي "حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي"(1/ 14) قال بعد أن ذكر مذاهب العلماء في التفسير منذ عصر الصحابة فمن بعدهم من التابعين إلى أن قال: "وبعد هؤلاء أبن جرير وتفسيره أجل تفسير للمتقدّمين، ثم استفاض التأليف حتى انتهى للزجاج والرماني، ومنهما أخذ الزمخشريّ، ثم جاء بعدهم من كثر السواد بأقوال الحكماء (أي الفلاسفة) والصوفية كالرازي حتى قيل في تفسيره كل شيء إلا التفسير!". اهـ.
وممن بين جهله بالكتاب والسنة ومذاهب العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه، بل أفرد مصنفات كاملة في الرد عليه، فجاء في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" (2/ 174): "وأما أقوال أئمة الفقه والحديث والتصوف والتفسير وغيرهم من علماء المسلمين، وكذلك كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فكلام الرازي يدل على أنه لم يكن مطلعاً على ذلك". اهـ.
وقال أيضًا في "مجموع الفتاوى" (13/ 180-182): "... وكان من أسباب دخول هؤلاء (يعني التتار) ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع؛ حتى أنه صنف الرازي كتابًا في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر سماه: "السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم"، ويقال: إنه صنفه لأم السلطان علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين خوارزم شاه، وكان من أعظم ملوك الأرض، وكان للرازي به اتصال قوي حتى أنه وصى إليه على أولاده، وصنف له كتابًا سماه: "الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية "، وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين... والرازي صنف الاختيارات لهذا الملك وذكر فيه الاختيار لشرب الخمر وغير ذلك.
كما ذكر في "السر المكتوم في عبادة الكواكب"، ودعوتها مع السجود لها والشرك بها ودعائها مثل ما يدعو الموحدون ربهم؛ بل أعظم والتقرب إليها بما يظن أنه مناسب لها من الكفر والفسوق والعصيان، فذكر أنه يتقرب إلى الزهرة بفعل الفواحش وشرب الخمر والغناء، ونحو ذلك مما حرمه الله ورسوله". اهـ.
بل جوز أن يغيب الحق عن الصحابة والتابعين وأن الأمة تجتمع على الضلال في تفسير القرآن والحديث، فجاء في "مجموع الفتاوى" (13/ 59): "ولهذا قال كثير منهم - يعني: المبتدعة - كأبي الحسين البصري ومن تبعه كالرازي والآمدي وابن الحاجب: إن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؛ بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين، فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث، وأن يكون الله أنزل الآية وأراد بها معنى لم يفهمه الصحابة والتابعون، ولكن قالوا: إن الله أراد معنى آخر، وهم لو تصوروا هذه المقالة لم يقولوا هذا؛ فإن أصلهم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يقولون قولين كلاهما خطأ والصواب قول ثالث لم يقولوه، لكن قد اعتادوا أن يتأولوا ما خالفهم". اهـ.
وقال أيضًا في "منهاج السنة النبوية" (5/ 439-440): "ولهذا لما صار كثير من أهل النظر - كالرازي وأمثاله - ليس عندهم إلا قول الجهمية والقدرية والفلاسفة، تجدهم في تفسير القرآن، وفي سائر كتبهم، يذكرون أقوالاً كثيرة متعددة كلها باطلة، لا يذكرون الحق، مثل تفسيره للهلال، وقد قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [البقرة: 189]، فذكر قول أهل الحساب فيه، وجعله من أقوال الفلاسفة، وذكر قول الجهمية الذين يقولون: إن القادر المختار يحدث فيه الضوء بلا سبب أصلاً ولا لحكمة.
وكذلك إذا تكلم في المطر يذكر قول أولئك الذين يجعلونه حاصلاً عن مجرد البخار المتصاعد والمنعقد في الجو، وقول من يقول: إنه أحدثه الفاعل المختار بلا سبب، ويذكر قول من يقول: إنه نزل من الأفلاك. وقد يرجح هذا القول في تفسيره، ويجزم بفساده في موضع آخر". اهـ.
وممن حذّر من تفسير الرازي الشيخ الرشيد رضا فقال في "تفسير المنار" (11/ 308-309): "اعلم أن الفخر الرازي كان إمام نظار المتكلمين والأصوليين في عصره، وأن علماء النظر اعترفوا له بهذه الإمامة من بعده، ولكنه كان من أقلهم حظًا من علم السنة وآثار الصحابة والتابعين، وأئمة السلف من المفسرين والمحدثين، بل وصفه الحافظ الذهبي إمام علم الرجال في عصره بالجهل بالحديث، فلم يجد التاج السبكي ما يدافع به عنه؛ لأنه من أئمة الأشعرية الشافعية إلا الاعتراف بأنه لم يشتغل بهذا العلم وليس من أهله، فلا معنى لطعن عليه بجهله ولا بذكره في رجاله المجروحين ولا العدول.
أما علمه بالكلام فقد قال بعض العارفين في وصف كتابه "محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين"، ما ينبئك بحقيقته عند المحققين وهو: محصل في أصول الدين حاصله من بعد تحصيله علم بلا دين.
رأس الغواية في العقل السقيم ... فما فيه فأكثره وحي الشياطين
وأما تفسيره فقد اشتهر قول بعض العلماء فيه: إن فيه كل شيء إلا التفسير كما في كتاب الإتقان، والحق أن هذه مبالغة في الإنكار على ما هو الغرض الذي امتاز به تفسيره وهو نقل آراء الفلاسفة والمتكلمين، وحجج المعتزلة والأشاعرة". اهـ. مختصرًا.
إذا تقرر هذا علم أن الرازي ليس إمامًا في التفسير وإنما هو إمام في الكلام والفلسفة، وعمدته في مباحثه ليس على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخه من الفلاسفة والمتكلين، يعتمدها في التفسير والتوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، فما وافق أصوله المبتدعة من القرآن والسنة احتج به، وما خالفهما تأوله؛ فلهذا إذا احتج بالقرآن والحديث لم يعتن بتحرير دلالتهما، ولم يستقص ما في القرآن من ذلك المعنى؛ لأن اعتماده في نفس الأمر على أصوله، والآيات التي تخالفه يأولها بما يوجب ردها كيف أمكن؛ ليس مقصوده أن يفهم مراد الله ولا مراد الرسول؛ بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بهما.
أما كلامه في الحط من قدر المرأة وتأويل القرآن العظيم بمثل هذا الكلام الفاسد المتهافت، فلا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا معقول، ولم يقله قبله أحد من أهل العلم - فيما أعلم - ومن تأمل الكتاب والسنة علم خطأه وضلاله، وأنها محض دعوى كاذبة سرت إلى مدعيها من ثقافته الفسلفية المشرقية، والتي هي من بقايا الجاهلية الأولى التي بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بهجرها وإبطالها.
أما تكرّيم الله تعالى للرجل والمرأة على حد سواء، بالاصطفاء على سائر المخلوقات، فقد سبق بيانه في فتوى: "هل النساء سفهاء"، وراجع على موقعنا مقال: "نساء الأمة تبع لنساء النبي في الالتزام بالعفة".
هذا؛ والله أعلم.