فَصْل: الحجة الثانية لمن قال بقدم الكلام

منذ 2006-12-01
السؤال: فَصْل: الحجة الثانية لمن قال بقدم الكلام
الإجابة: وأما حجتهم الثانية، وهي العمدة عند عامتهم، فتقريرها‏:‏ لو كان مخلوقًا لكان إما أن يخلقه في نفسه، أو في غيره، أو لا في محل‏.‏
والأول‏:‏ يلزم أن يكون محلاً للحوادث وهو باطل‏.‏

والثاني‏:‏ يلزم أن يكون صفة لذلك المحل الذي قامت به الصفة؛ لأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره، فإذا قام بمحل علم أو حياة، أو قدرة أو كلام، أو غير ذلك، كان ذلك المحل هو الموصوف بأنه حي، عالم، قادر، متكلم، كما يوصف بأنه متحرك إذا قامت به الحركة، أو أنه أسود وأبيض إذا قام به السواد والبياض، ونحو ذلك‏.‏

وأما قيامه لا في محل فممتنع؛ لأنه صفة‏.‏

ومعنى هذه الحجة أيضًا صحيحة، وهي إنما تدل على مذهب السلف فقط، وهي تدل على فساد قول الأشعرية، كما تدل على فساد قول المعتزلة وعلى فساد قول الجهمية مطلقًا، فإن جمهور المعتزلة والجهمية اختاروا من هذه الأقسام‏:‏ أنه يخلقه في محل‏.‏
وقالوا‏:‏ إن الله لما كلم موسى خلق صوتًا في الشجرة، فكان ذلك الصوت المخلوق من الشجرة هو كلامه‏.‏

وهذا مما كفر به أئمة السنة من قال بهذا، وقالوا‏:‏ هو يتضمن أن الشجرة هي التي قالت‏:‏ ‏{‏‏أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي}‏‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏؛ لأن الكلام كلام من قام به الكلام‏.‏
هذا هو المعقول في نظر جميع الخلق، لا سيما وقد قام الدليل على أن الله أنطق كل ناطق كما أنطق الله الجلود يوم القيامة،وقالوا‏:‏ ‏{‏‏أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 21‏]‏، فيكون كل كلام في الوجود مخلوقًا له في محل‏.
‏‏
فلو كان من يخلقه في غيره كلامًا، للزم أن يكون كل كلام في الوجود حتى الكفر والفسوق والكذب كلامًا له تعالى عن ذلك وهذا لازم الجهمية المجبرة، فإنهم يقولون‏:‏ إن الله خالق أفعال العباد وأقوالهم، والعبد عندهم لا يفعل شيئًا ولا قدرة له مؤثرة في الفعل؛ ولهذا قال بعض شيوخهم من القائلين بوحدة الوجود‏:‏

وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه

وأما المعتزلة، فلا يقولون‏:‏ إن الله خالق أفعال العباد، لكن الحجة تلزمهم بذلك، وقد اعترف حذاقهم كأبي الحسين البصري أن الفعل لا يوجد إلا بداع يدعو الفاعل، وأنه عند وجود الداعي مع القدرة يجب وجود الفعل، وقال‏:‏ إن الداعي الذي في العبد مخلوق لله، وهذا تصريح بمذهب أهل السنة، وإن لم ينطق بلفظ خلق أفعال العباد‏.‏

فإذا قال‏:‏ إن الله خلق الداعي والقدرة، وخلقها يستلزم خلق الفعل، فقد سلم المسألة، ولما كان هذا مستقرًا في نفوس عامة الخلق، قال سليمان بن داود الهاشمي الإمام نظير أحمد بن حنبل الذي قال فيه الشافعي‏:‏ ما خلفت ببغداد أعقل من رجلين‏:‏ أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي، قال‏:‏ من قال‏:‏ إن القرآن مخلوق لزم أن يكون قول فرعون كلام الله؛ فإن الله خلق في فرعون قوله‏:‏ ‏{‏‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، وعندهم أن الله خلق في الشجرة‏{‏‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏، فإذا كان كلامه لكونه خلقه فالآخر أيضًا كلامه‏.
‏‏
والأشعرية، وغيرهم من أهل السنة، أبطلوا قول المعتزلة والجهمية بأنه خلقه في غيره، بأن قالوا‏:‏ ما خلقه الله في غيره من الأعراض كان صفة لذلك وعاد حكمه على ذلك المحل، لم يكن صفة لله، كما تقدم‏.‏

وهذه حجة جيدة مستقيمة، لكن الأشعرية لم يطردوها، فتسلط عليهم المعتزلة بأنهم يصفونه بأنه خالق ورازق ومحيى ومميت، عادل محسن، من غير أن يقوم به شيء من هذه المعاني، بل يقوم بغيره، فإن الخلق عندهم هو المخلوق، والإحياء هو وجود الحياة في الحي من غير فعل يقوم بالرب، فقد جعلوه محييًا بوجود الحياة في غيره، وكذلك جعلوه مميتًا، وهذه مما عارضهم بها المعتزلة ولم يجيبوا عنها بجواب صحيح‏.‏

ولكن السلف والجمهور يقولون بأن الفعل يقوم به أيضًا وهذه القاعدة حجة لهم على الفريقين، والفريقان يقسمون الصفات إلى ذاتية وفعلية، أو ذاتية، ومعنوية، وفعلية، وهو مغلطة، فإنه لا يقوم به عندهم فعل ولا يكون له عندهم صفة فعلية، وإذا قالوا بموجب ما خلقه في غيره لزمهم أن يقولوا‏:‏ هو متحرك، وأسود وأبيض، وطويل وقصير، وحلو ومر وحامض، وغير ذلك من الصفات التي يخلقها في غيره‏.‏

ثم هم متناقضون، فهؤلاء يصفونه بالكلام الذي يخلقه في غيره، وأولئك يصفونه بكل مخلوق في غيره، فعلم أنه لا يتصف إلا بما قام به، لا بما يخلقه في غيره، وهذا حقيقة الصفة، فإن كل موصوف لا يوصف إلا بما قام به، لا بما هو مباين له، صفة لغيره‏.‏
وإن نفوا مع ذلك قيام الصفات به، لزمهم ألا يكون له صفة، لا ذاتية ولا فعلية‏.‏

وإن قالوا‏:‏ إنما سمينا الفعل صفة لأنه يوصف بالفعل، فيقال‏:‏ خالق، ورازق، قيل‏:‏ هذا لا يصح أن يقوله أحد من الصفاتية، فإن الصفة عندهم قائمة بالموصوف ليست مجرد قول الواصف، وإن قاله من يقول‏:‏ إن الصفة هي الوصف وهي مجرد قول الواصف‏.
‏‏ فالواصف إن لم يكن قوله مطابقًا كان كاذبًا؛ ولهذا إنما يجيء الوصف في القرآن مستعملاً في الكذب بأنه وصف يقوم بالواصف، من غير أن يقوم بالموصوف شيء، كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏‏سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏139‏]‏، ‏{‏‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏116‏]‏، ‏{‏‏وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏62‏]‏، ‏{‏‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏‏ ‏[‏الصافات‏:‏180‏]‏‏.‏

وقد جاء مستعملاً في الصدق فيما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة‏:‏ " أن رجلاً كان يكثر قراءة ‏{‏‏قٍلً هٍوّ اللَّهٍ أّحّد‏}‏‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سلوه لم يفعل ذلك؟ فقال‏:‏ لأنها صفة الرحمن فأنا أحبها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله يحبه‏"‏‏‏.‏

فمن وصف موصوفًا بأمر ليس هو متصفًا به كان كاذبًا، فمن وصف الله بأنه خالق، ورازق، وعالم، وقادر، وقال مع ذلك‏:‏ إنه نفسه ليس متصفًا بعلم وقدرة، أو ليس متصفًا بفعل هو الخلق والإحياء، كان قد وصفه بأمر، وهو يقول‏:‏ ليس متصفًا به، فيكون قد كذب نفسه فيما وصف به ربه، وجمع بين النقيضين، فقال‏:‏ هو متصف بهذا، ليس متصفًا بهذا‏.‏ وهذا حقيقة أقوال النفاة فإنهم يثبتون أمورًا هي حق ويقولون ما يستلزم نفيها، فيجمعون بين النقيضين ويظهر في أقوالهم التناقض‏.‏

وحقيقة قولهم‏:‏ أنه موجود ليس بموجود، عالم ليس بعالم، حي ليس بحي؛ ولهذا كان غلاتهم يمتنعون عن الإثبات والنفي معًا، فلا يصفونه لا بإثبات، ولا بنفي، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏
ومعلوم أن خلوه عن النفي والإثبات باطل أيضًا، فإن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان‏.‏

والمقصود هنا أن هذه المقدمة الصحيحة‏:‏ أنه لو خلقه في محل لكان صفة لذلك المحل، هي مقدمة صحيحة، والسلف وأتباعهم أهل السنة، والجمهور يقولون بها، وأما المعتزلة والأشعرية فيتناقضون فيها، كما تقدم‏.
‏‏
وأما القسم الثالث، وهو أنه‏:‏ لو خلقه قائمًا بنفسه لكان ذلك ممتنعًا؛ لأنه صفة، والصفة لا تقوم بنفسها، وهذا معلوم بالضرورة‏.‏ وقد حكى عن بعض المعتزلة‏:‏ أنه يخلق حبالاً في محل‏.‏
والبصريون وهم أجل وأفضل من البغداديين يقولون‏:‏ إنه يخلق إرادة لا في محل، فقد يناقضون هذه الحجة‏.‏

وأما القسم الأول‏:‏ وهو أنه لو خلقه في نفسه لكان محلاً للحوادث، فالتحقيق أن يقال‏:‏ لو خلقه في نفسه لكان محلاً للمخلوق، وهو لا يكون محلاً للمخلوق‏.‏

وإذا قالوا‏:‏ نحن نسمى كل حادث مخلوقًا، فهذا محل نزاع، فالسلف وأئمة أهل الحديث وكثير من طوائف الكلام كالهشامية والكَرَّامية وأبى معاذ التُّوْمَنِيّ وغيرهم لا يقولون‏:‏ كل حادث مخلوق، ويقولون‏:‏ الحوادث تنقسم إلى ما يقوم بذاته بقدرته ومشيئته‏.
‏‏ ومنه خلقه للمخلوقات، وإلى ما يقوم بائنًا عنه، وهذا هو المخلوق؛ لأن المخلوق لابد له من خلق، والخلق القائم بذاته لا يفتقر إلى خلق، بل هو حصل بمجرد قدرته ومشيئته‏.‏

والقدرة في القرآن متعلقة بهذا الفعل لا بالمفعول المجرد عن الفعل، كقوله‏:‏ ‏{‏‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏‏ ‏[‏القيامة‏:‏40‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏65‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏‏‏[‏القيامة‏:‏4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم‏}‏‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏‏.
‏‏
وعلى هذا، فهذه الحجة يكفي فيها أن يقال‏:‏ لو خلقه لكان إما أن يخلقه في محل فيكون صفة له، أو يخلقه قائمًا بنفسه، وكلاهما ممتنع، ولا يذكر فيها‏:‏ إما أن يخلقه في نفسه؛ لأن كونه مخلوقًا يقتضى أن له خلقًا، والخلق القائم به لو كان مخلوقًا لكان له خلق، فيلزم أن يكون كل خلق مخلوقاً، فيكون الخلق مخلوقًا بلا خلق وهذا ممتنع‏.‏

وهذا يستقيم على أصل السلف، وأهل السنة، والجمهور الذين يقولون‏:‏ لا يكون المخلوق مخلوقًا إلا بخلق، وأما من قال‏:‏ يكون مخلوقًا بلا خلق والخلق هو نفس المخلوق لا غيره، فيقال على أصله‏:‏ إما أن يخلقه في نفسه ويكون المخلوق نفس الخلق، وهو معنى كونه حادثًا، ويعود الأمر إلى أنه إذا أحدثه فإما أن يحدثه في نفسه، أو خارجًا عن نفسه، وقد تبين كيف تصاغ هذه الحجة على أصول هؤلاء وأصول هؤلاء‏.
‏‏
فإذا احتج بها على قول السلف والجمهور فلها صورتان‏:‏ إن شئت أن تقول‏:‏ إما أن يخلقه قائمًا بنفسه أو بغيره، ولا تقل في نفسه؛ لكون المخلوق لا يكون في نفسه‏.
‏‏ وإن شئت أن تدخله في التقسيم وتقول‏:‏ وإما أن يخلقه في نفسه، ثم تقول‏:‏ وهذا ممتنع؛ لأن المخلوق لابد له من خلق، فلو خلقه في نفسه لافتقر إلى خلق، وكان ما حدث في نفسه مخلوقًا مفتقرًا إلى خلق، فيكون خلقه له أيضًا مفتقرًا إلى خلق، وهلم جرا‏.‏
وإذا كان كل خلق مخلوقا لم يبق خلق إلا مخلوق، وإذا لم يبق خلق إلا مخلوق لزم وجود المخلوق بلا خلق؛ إذ ليس لنا خلق غير مخلوق‏.‏

وإن قيل‏:‏ فقد يخلقه في نفسه بخلق، وذلك الخلق يحصل بلا خلق آخر، بل بمجرد القدرة والإرادة، كما يقول من يقول‏:‏ إنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وتكلمه فعل يحصل بقدرته ومشيئته، فنحن نقول‏:‏ ذلك الفعل هو الخلق‏.‏

فيقال لهم‏:‏ فعلى هذا صار في التقسيم حادث يقوم بنفسه ليس بمخلوق، وعلى هذا التقدير فيمكن أن يقال في القرآن‏:‏ إنه حادث أو محدث وليس بمخلوق، فإن كان الحق هو القسم الأول، لم يلزم إذا لم يكن مخلوقًا أن يكون قديمًا، بل قد يكون حادثًا وليس بمخلوق، فلا يلزم من نفى كونه مخلوقًا أن يكون قديمًا، فلا تدل الحجة على قول الكُلاَّبية‏.‏

وتلخيص ذلك‏:‏ أنه إما أن يقال‏:‏الحدوث أعم من الخلق، فقد يكون الشيء حادثًا في نفسه وليس مخلوقًا، أو يقال‏:‏ كل حادث فهو مخلوق، بناء على أنه لا يقوم بذاته حادث، أو بناء على أن ما قام بنفسه إذا كان حادثًا فهو مخلوق، فإذا كان الحق هو القسم الأول، لم يلزم إذا لم يكن مخلوقًا أن يكون قديمًا، بل قد يكون حادثًا وليس بمخلوق‏.

وإن كان الحق غير الأول، فحينئذ إذا قيل‏:‏ لا يخلقه في نفسه لم تكن الحجة عليه إلا إبطال قيام الحوادث به، ولكن إذا أريد أن يدل على أنه ليس بمخلوق في نفسه وإن كان حادثًا بنفسه فإنه يستدل على ذلك بأنه لو كان مخلوقًا لكان له خلق، والخلق نفسه ليس مخلوقًا بل حادث؛ لأنه لو كان مخلوقًا لكان كل خلق مخلوقًا‏.‏ فيكون المخلوق بلا خلق وهو جمع بين النقيضين، فتعين أن يكون الخلق حادثًا غير مخلوق‏.‏

وعلى هذا التقدير، فلا يلزم إذا كان غير مخلوق أن يكون قديمًا، وإنما أريد الاستدلال على أنه لم يخلقه في نفسه، سواء قيل‏:‏ إنه تحل فيه الحوادث أو لا تحل، وهو أحسن، فيكون استدلالاً بذلك من غير التزام هذا القول‏.‏

فيقال‏:‏ لا يخلو إما أن تقوم به الحوادث وإما ألاَّ تقوم، فإن لم تقم امتنع أن يخلقه في نفسه؛ لأنه حينئذ يكون حادثًا فتقوم به الحوادث وإن كانت تقوم به الحوادث فتلك الحوادث تحصل بقدرته ومشيئته، ولا تكون كلها مخلوقة، لأن المخلوق لابد له من خلق والخلق منها، فلو كان الخلق مخلوقًا بخلق، لزم أن يكون كل خلق مخلوقًا، فيكون المخلوق حاصلا بلا خلق، وقد قيل‏:‏ إن المخلوق لابد له من خلق‏.‏

وإذا كان لا يجب فيما قام بذاته أن يكون مخلوقًا، فلو أحدثه في ذاته لم يلزم أن يكون مخلوقًا، بل يمتنع أن يكون مخلوقًا؛ لأن المخلوق هو ما له خلق قائم بذات الرب مباين للمخلوق، وهو إذا تكلم به بمشيئته وقدرته كان الكلام اسماً يتناول التكلم به ونفس الحروف، وذلك التكلم حاصل بقدرته ومشيئته لم يحصل بخلق، فإن الخلق يحصل أيضًا بقدرته ومشيئته، وهو يخلق الأشياء بكلامه، فمحال أن يكون لكلامه خلق أقرب إليه من كلامه‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن خلقه للأشياء هو نفس تكلمه بـ ‏[‏كن فيكون‏]‏، هذا هو الخلق، والخلق لا يحصل بخلق بل المخلوق يحصل بالخلق، ومن الأشياء ما يخلقه مع تكلم بفعل يفعله أيضًا، فقد تبين على كل تقدير أن كلامه إذا أحدثه في ذاته لم يكن مخلوقًا، من غير أن يلزم أنه لا تقوم به الحوادث‏.‏

وإذا بنينا على ذلك، فلفظ الحوادث مجمل، يراد به أنه لا يقوم به جنس له نوع لم يحصل منه شيء قبل ذلك، ويراد به أنه لا يقوم به لا نوع ولا فرد من أفراد الحوادث، فإذا أريد الثاني فالسلف وأئمة السنة والحديث وكثير من طوائف الكلام على خلافه‏.‏

وإن أريد الأول، فالنزاع فيه مع الكَرّامية ونحوهم، فمن يقول‏:‏ إنه حدث له من الصفات بذاته ما لم يكن حادث، صار يتكلم بمشيئته بعد أن لم يكن، وصار مريدًا للفعل بعد أن لم يكن، والكلام والإرادة الذي قالت المعتزلة‏:‏ يحدث بائنًا عنه، قالوا هم‏:‏ يحدث في ذاته، و الكُلاَّبية قالوا‏:‏ ذلك قديم يحصل بغير مشيئته وقدرته، وهؤلاء قالوا‏:‏ بل هو حادث النوع يحصل بقدرته ومشيئته القديمة، فمشيئته القديمة عندهم مع القدرة أوجبت ما يقوم بذاته‏.
‏‏ فهؤلاء يقولون‏:‏ إنه أحدث في ذاته نوع الكلام ولم يكن له قبل ذلك كلام وليس هذا مذهب السلف، بل مذهب السلف‏:‏ أنه لم يزل متكلمًا‏.‏
فتبين أن خلقه للكلام مطلقًا، في ذاته محال، من جهة أن المخلوق لا يقوم بذاته، ومن جهة أنه يلزم أنه صار متكلمًا بعد أن لم يكن، وهذا غير قولهم‏:‏ لا تقوم به الحوادث‏.‏

فصار هنا لإبطال هذا القول ثلاثة مسالك‏:‏ مسلك الكُلاَّبية، ومسلك الكَرَّامية، ومسلك السلف؛ فلهذا كان هذا القسم مما ذكره عبد العزيز بن يحيى الكناني في ‏[‏الحيدة‏]‏ وأبطله من غير أن يلتزم خلاف السلف، وقد كتبت ألفاظه وشرحتها في غير هذا الموضع‏.‏

والمقصود هنا أنه يمكن إبطال كونه خلقه في نفسه من غير التزام قول الكُلاَّبية ولا الكرامية، فإنه قد تبين أن ما قام بذاته يمتنع أن يكون مخلوقًا؛ إذ كان حاصلا بمشيئته وقدرته، والمخلوق لابد له من خلق، ونفس تكلمه بمشيئته وقدرته ليس خلقًا له؛ بل بذلك التكلم يخلق غيره، والخلق لا يكون خلقًا لنفسه‏.‏

ويدل على بطلان قول الكلابية‏:‏ أن الكلام لا يكون إلا بمشيئته وقدرته وهم يقولون‏:‏ يتكلم بلا مشيئته ولا قدرته‏.‏

وأما الكرامية فيقولون‏:‏ صار متكلمًا بعد أن لم يكن، فيلزم انتفاء صفة الكمال عنه، ويلزم حدوث الحادث بلا سبب، ويلزم أن ذاته صارت محلاً لنوع الحوادث بعد أن لم تكن كذلك، كما تقوله الكرامية وهذا باطل‏.‏
وهو الذي أبطله السلف بأن ما يقوم به من نوع الكلام والإرادة والفعل إما أن يكون صفة كمال أو صفة نقص، فإن كان كمالا فلم يزل ناقصًا حتى تجدد له ذلك الكمال، وإن كان نقصًا فقد نقص بعد الكمال‏.‏

وهذه الحجة لا تبطل قيام نوع الإرادة والكلام شيئًا بعد شيء؛ فإن ذلك إنما يتضمن حدوث إفراد الإرادة والكلام لا حدوث النوع، والنوع ما زال قديمًا، وما زال متصفًا بالكلام والإرادة وذلك صفة كمال، فلم يزل متصفًا بالكمال ولا يزال، بخلاف ما إذا قيل‏:‏ صار مريدًا ومتكلمًا بعد أن لم يكن‏.‏

وإذا قيل في ذلك‏:‏الفرد من أفراد الإرادة، والكلام، والفعل‏:‏ هل هو كمال أو نقص‏؟‏ قيل‏:‏ هو كمال وقت وجوده، ونقص قبل وجوده، مثل مناداته لموسى كانت كمالاً لما جاء موسى، ولو ناداه قبل ذلك لكان نقصًا والله منزه عنه؛ ولأن أفراد الحوادث يمتنع قدمها، وما امتنع قدمه لم يكن عدمه في القدم نقصا‏.‏

بل النقص المنفي لابد أن يكون عدم ما يمكن وجوده، بل عدم ما يمكن وجوده ويكون وجوده خيرًا من عدمه، فلا يكون عدم الشيء نقصًا إلا بهذين الشرطين‏:‏بأن يكون عدمه ممكنًا، ويكون وجوده خيرًا من عدمه، فإذا كان عدمه ممتنعًا، كعدم الشريك والولد، فهذا مدح وصفة كمال، وإذا كان عدمه ممكنًا فالأولى عدمه، كالأشياء التي لم يخلقها، فإنه كان ألا يخلقها أكمل من أن يخلقها، كما أن ما خلقه كان أن يخلقه أكمل من ألا يخلقه‏.‏

وحينئذ، فما وجد من الحوادث في ذاته أو بائنا عنه، كان وجوده وقت وجوده هو الكمال، وعدمه وقت عدمه هو الكمال، وكان عدمه وقت وجوده أو وجوده وقت عدمه نقصًا ينزه الله عنه سبحانه وتعالى‏.‏
فقد تبين الفرق بين نوع الحوادث وأعيانها، وأن النوع لو كان حادثًا بذاته بعد أن لم يكن لزم كماله بعد نقصه، أو نقصه بعد كماله‏.‏
وأيضًا، فالحادث لابد له من سبب، والأفراد يمكن حدوثها؛ لأن قبلها أمورًا أخرى تصلح أن تكون سببًا، أما إذا قدر عدم النوع كله ثم حدث، لزم أن يحدث النوع بلا سبب يقتضي حدوثه وهو ممتنع‏.‏

وأيضًا فهذا النوع إما أن يقال‏:‏ كان قادرًا عليه فيما لم يزل، أو صار قادرًا بعد أن لم يكن، فإن كان قادرًا عليه أمكن وجوده، فلا يمتنع وجوده، فلا يجوز الجزم بعدمه، وإن لم يكن قادرًا لزم حدوث القدرة بلا سبب، وانتقال القدرة والامتناع إلى الإمكان بلا سبب، وهذا بخلاف الأفراد، فإن ذلك كان ممتنعا حتى يحصل ما يصير به ممكنًا، أو كان ممكنًا ولكن الحكمة اقتضت وجوده بعد تلك الأمور، وأما النوع إذا قيل بحدوثه لم يختص بوقت؛ إذ العدم المحض لا يعقل فيه وقت يميزه عن وقت‏.‏

وأيضًا فكذلك النوع ممكن له لوجوده، وهو لا يتوقف على شيء غيره، لا منه ولا من غيره، وما كان ممكنًا لم يتوقف إلا على ذاته لزم وجوده بوجود ذاته، كحياته وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته، فدل ذلك على وجوب قدم نوع هذه الصفات ولزوم النوع لذاته وإن قيل بحدوث الأفراد‏.‏

وعلى هذا فيقال‏:‏ لا تقوم بذاته الصفات الحادثة، أي‏:‏ لا يقوم به نوع من أنواع الصفات الحادثة بمعنى أن الكلام صفة والإرادة صفة، ولا تحدث له هذه الصفات ولا نوع من أنواع هذه الصفات، بل لم يزل متكلمًا مريدًا وإن حدثت أفراد كل صفة، أي‏:‏ إرادة هذا الحادث المعين وهذا الشخص المعين، فنفس الصفة لم تزل موجودة‏.‏

وعلى هذا يقال‏:‏ لو خلق في ذاته الكلام، ولو أحدث في ذاته الكلام، ولو كان كلامه حادثًا أو محدثًا، فإن نفس الكلام، أي‏:‏ هذه الصفة ونوعها ليس بحادث ولا محدث، ولا مخلوق‏.‏
وأما الكلام المعين ‏[‏كالقرآن‏]‏ فليس بمخلوق لا في ذاته ولا خارجًا عن ذاته، بل تكلم بمشيئته وقدرته وهو حادث في ذاته‏.
‏‏
وهل يقال‏:‏ أحدثه في ذاته‏؟‏ على قولين‏:‏ أصحهما أنه يقال‏:‏ ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ}‏‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏2‏]‏‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث ألاَّ تكلَّموا في الصلاة‏"‏‏، وقد بوب البخاري في صحيحه لهذا بابًا دل عليه الكتاب والسنة‏.
‏‏
وهذا بخلاف المخلوق، فإنه ليس في عقل ولا شرع ولا لغة‏:‏ أن الإنسان يسمى ما قام به من الأفعال والأقوال خلقًا له، ويقول‏:‏ أنا خلقت ذلك، بل يقول‏:‏ أنا فعلت وتكلمت، وقد يقول‏:‏ أنا أحدثت هذه الأقوال والأفعال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم ومحدثات الأمور‏!‏ فإن كل بدعة ضلالة‏"‏‏، وقال "المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثَوْر، من أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏"‏‏‏.
‏‏
وإن كان مقصوده بالإحداث هنا أخص من معنى الإحداث بمعنى الفعل، وإنما مقصوده‏:‏ من أحدث فيها بدعة تخالف ماقد سن وشرع، ويقال للجرائم‏:‏الأحداث ولفظ الإحداث يريدون به ابتداء ما لم يكن قبل ذلك‏.‏
ومنه قوله "إن الله يحدث من أمره ما شاء‏"‏‏ ,‏{‏‏مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏}‏‏ ولا يسمون مخلوقا إلا ما كان بائنا عنه كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏110‏]‏، وإذا قالوا عن كلام المتكلم‏:‏ إنه مخلوق ومختلق، فمرادهم أنه مكذوب مفترى، كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا‏}‏‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏17‏]‏‏.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد السادس (العقيدة)
  • 0
  • 0
  • 35,981

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً