كيف يكفر صوم يوم عاشوراء الزمان المستقبل وهذا خاص برسول الله
فضيلة الشيخ أشكل عليّ قول النبي صوم صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» كيف يكفر السنة التي بعده مع أنه ليس للرجل ذنب في تلك السنة، وأيضًا لو كفرت تلك السنة البعدية ثم صام يوم عرفة من العام القادم لم يكن هناك ما يكفره وهكذا، وأيضًا صوم يوم عاشوراء يكفر السنة التي قبله، فلا يوجد ما يكفره صوم يوم عرفة.
وأيضًا فإن تكفير الزمان المستقبل إنما هو خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بنص القرآن العزيز، قال الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1، 2] ؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإن من تمام حكمة الله تعالى أن خلق الإنسان على حال تمكنه من القوع في الذنب،ـ ولو شاء الله لعصمه، ففي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم"، ومن سعة رحمة رب العالمين، أن جعل أسبابًا كثيرة تندفع بها الذنوب؛ منها التوبة والاستغفار والأعمال الصالحة، قال الله تعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود: 114]، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}[الصف: 10 - 12]، وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وفيهما عنه أيضًا: "من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه" والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، ومنها الحديث الشريف الذي ذكره الأخ السائل: صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".
هذا؛ وقد أضطرب أهل العلم في معنى الحديث، فجاء في "شرح النووي على مسلم" (8/ 51):
"معناه يكفر ذنوب صائمه في السنتين، قالوا والمراد بها الصغائر، وسبق بيان مثل هذا في تكفير الخطايا بالوضوء، وذكرنا هناك أنه إن لم تكن صغائر يرجى التخفيف من الكبائر، فإن لم يكن رفعت درجات". اهـ.
وقال العراقي في "طرح التثريب في شرح التقريب" (4/ 163): " وقد قال السرخسي من أصحابنا الشافعية: اختلف العلماء في معنى تكفير السنة المستقبلة، فقال بعضهم إذا ارتكب فيها معصية جعل الله تعالى صوم عرفة الماضي كفارة لها؛ كما جعله مكفرًا لما قبله في السنة الماضية، وقال بعضهم معناه أن الله تعالى يعصمه في السنة المستقبلة عن ارتكاب ما يحوجه إلى كفارة". اهـ.
وقد حرر تلك المسألة الكبيرة، أعني ما تندفع ببه العقوبة عن الذنوب في الآخرة، وأطال فيها النفس على عادته فأشفى وأفاد بما لا تجده لغيره من أهل العلم والتحرير، فجاء في كتابه "منهاج السنة النبوية" (6/216- 220): "فإن الإنسان قد يقول: إذا كفر عني بالصلوات الخمس، فأي شيء تكفر عني الجمعة أو رمضان، وكذلك صوم يوم عرفة وعاشوراء؟! وبعض الناس يجيب عن هذا بأنه يكتب لهم درجات إذا لم تجد ما تكفره من السيئات!
فيقال: أولا: العمل الذي يمحو الله به الخطايا ويكفر به السيئات هو العمل المقبول؛ والله تعالى إنما يتقبل من المتقين.
والناس لهم في هذه الآية وهي قوله تعالى: {إنما يتقبل الله من المتقين}[سورة المائدة: 27]، ثلاثة أقوال: طرفان ووسط، فالخوارج والمعتزلة يقولون: لا يتقبل الله إلا ممن اتقى الكبائر؛ وعندهم صاحب الكبيرة لا يقبل منه حسنة بحال.
والمرجئة يقولون: من اتقى الشرك.
والسلف والأئمة يقولون: لا يتقبل إلا ممن اتقاه في ذلك العمل، ففعله كما أمر به خالصًا لوجه الله تعالى... فصاحب الكبائر إذا اتقى الله في عمل من الأعمال تقبل الله منه، ومن هو أفضل منه إذا لم يتق الله في عمل لم يتقبله منه، وإن تقبل منه عملاً آخر.
وإذا كان الله إنما يتقبل ممن يعمل العمل على الوجه المأمور به، ففي السنن عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن العبد لينصرف عن صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، حتى قال: إلا عشرها"، وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، وفي الحديث: "رب صائم حظه من صيامه العطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر"، وكذلك الحج والجهاد وغيرهما.
وفي حديث معاذ موقوفًا ومرفوعا، وهو في السنن: " "الغزو غزوان: فغزو يبتغى به وجه الله، ويطاع فيه الأمير، وتنفق فيه كرائم الأموال، ويياسر فيه الشريك، ويجتنب فيه الفساد، ويتقى فيه الغلول، فذلك الذي لا يعدله شيء، وغزو لا يبتغى به وجه الله، ولا يطاع فيه الأمير، ولا تنفق فيه كرائم الأموال، ولا يياسر فيه الشريك، ولا يجتنب فيه الفساد، ولا يتقى فيه الغلول، فذاك حسب صاحبه أن يرجع كفافا"، وقيل لبعض السلف: الحاج كثير، فقال: الداج كثير - الداجّ الَّذين يكونُونَ مَعَ الحاجّ مثل الأجرَاء والجمالين والخدم وأشباهه - والحاج قليل، ومثل هذا كثير.
فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال، وأكثر الناس يقصرون في الحسنات، حتى في نفس صلاتهم، فالسعيد منهم من يكتب له نصفها، وهم يفعلون السيئات كثيرًا؛ فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء، وبما يقبل من الجمعة شيء، وبما يقبل من صيام رمضان شيء آخر، وكذلك سائر الأعمال، وليس كل حسنة تمحو كل سيئة، بل المحو يكون للصغائر تارة، ويكون للكبائر تارة، باعتبار الموازنة.
والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله له به كبائر؛ كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيقال: هل تنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: لا ظلم عليك، فتخرج له بطاقة قدر الكف فيها شهادة أن لا إله إلا الله، فيقول: أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فتوضع هذه البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات"، فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق، كما قالها هذا الشخص؛ وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم، كما ترجح قول صاحب البطاقة.
ثم ذكرحديث الصحيحين في قصة المرأة البغي التي سقت الكلب والرجل الذي نحى الغصن عن الطريق فشكر الله لهما فغفر لهما... ثم قال: فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلبًا يغفر لها، وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق، فعله إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه، فغفر له بذلك؛ فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وليس كل من نحى غصن شوك عن الطريق يغفر له؛ قال الله تعالى: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] ، فالناس يشتركون في الهدايا والضحايا، والله لا يناله الدم المهراق ولا اللحم المأكول، والتصدق به، لكن يناله تقوى القلوب؛ وفي الأثر: "إن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب".
قال: فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها ويصغر قدرها بما في القلوب، وما في القلوب يتفاضل، لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله - عرف الإنسان أن ما قاله الرسول كله حق، ولم يضرب بعضه ببعض". اهـ.
هذا؛ والله أعلم.