الحكمة من إباحة الحساب الجاري في البنك الربوي
خالد عبد المنعم الرفاعي
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته قد بحثت في مسألة فتح حساب جاري في بنك ربوي في حال العجز عن فتح حساب في بنك إسلامي و في حال الحاجة فوجدت أن فتح حساب في بنك ربوي حرام لأنه إعانة على الإثم و العدوان لاكن عند الحاجة يكون حلال فأنا الآن أريد دليل على كون فتح حساب في بنك ربوي عند الحاجة يكون حلال بشرط عدم ذكر مصطلحات معقدة و عدم عرض الأدلة ذات الطابع المبهم كأن يكون الدليل الضرورات تبيح المحظورة و شكرا
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فإن من استقرأ الشريعة الإسلامية الغراء في مواردها ومصادرها، واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد:- تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه؛ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
أما الدليل الجزئي على إباحة علماء العصر للتعامل مع البنك الربوي عند عدم وجود البنك الإسلامي، فآيات كثيرة في كتاب الله تعالى أخبر في أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها ؛ كقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأعراف: 42]، وقوله: { لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وأمرنا سبحانه أن نتقيه قدر الاستطاعة؛ فقال: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
والله سبحانه أخبرنا أنه وضع عنا الآصار فيما أوجبه، كما وضع عنا الأغلال فيما حرمه؛ فقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف: 157]، فخاضة الشريعة الإسلامية السعة ورفع الحرج، وهو الضيق، وهو مثل الغل وهو: الذي لا يمكنه الخروج منه مع حاجته إلى الخروج ، فما أوجب الله ما يضيق؛ ولا حرّم ما يضيق، وضده والحرج
ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} ويشهد له قوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْ} [البقرة: 185]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } [النساء: 28]، وفي الصحيحين " "إنما بعثتم ميسرين"، والأدلة في هذا أكثر من أن تستوعب وجميعها يدل على أن ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه ضيق وحرج، وهو منتف شرعًا؛ فالتكليف مشروط بالقدرة.
هذا؛ وقد استخلص الأئمة الأعلام من هذه الأدلة وغيرها قاعدة أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة، ومعلوم أن حاجة الناس للتعامل مع البنك حاجة عامة، ومن ثمّ أجازوا التعامل مع البنك الربوي إذا تعذر البنك الإسلامي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى (29/ 64- 65): "... ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْم} [البقرة: 173]، وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة: 3]، فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم، ولم يكن سببه معصية - هي ترك واجب أو فعل محرم - لم يحرم عليهم؛ لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد، وإن كان سببه معصية كالمسافر سفر معصية اضطر فيه إلى الميتة، والمنفق للمال في المعاصي حتى لزمته الديون، فإنه يؤمر بالتوبة، ويباح له ما يزيل ضرورته، فتباح له الميتة ويقضى عنه دينه من الزكاة، وإن لم يتب فهو الظالم لنفسه". اهـ.
إذا تقرر هذا، فأهل العلم المجيزون للحساب الجاري دون حساب التوفير، أحتجوا بكليات الشريعة، وعمومات النصوص التي أشرنا لبعضها، ولم يبيحوا حساب التوفير؛ لأنه من الربا الديون المجمع على تحريمه، بخلاف الحساب الجاري، وإن كان هذا من الناحية النظرية له اعتبار،، والله أعلم.