السوق الموازي في العملة
أنا طبيب مصري أعمل في السعودية والراتب بالريال السعودي وعلشان أحول راتبي الي عملة بلدي بيبقي عن طريق ما يسمي السوق السوداء شخص ما بيستلم مني الفلوس بالريال السعودي في السعودية وبيعملها ايداع في حسابي في مصر او بيسلما لشخص من اهلي بالجنيه المصري بس العملية دي ممكن تاخد ٣ ايام او اكتر لحد لما يوصل الفلوس مصر هل المعاملة دي حرام ؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن "من أصول الشرع أنه إذا تعارض المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما؛ فهو إنما نهى عن بيع الغرر لما فيه من المخاطرة التي تضر بأحدهما، وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر أعظم من ذلك، فلا يمنعهم من الضرر اليسير بوقوعهم في الضرر الكثير، بل يدفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما؛ ولهذا لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من نوع ربا أو مخاطرة فيها ضرر، أباحها لهم في العرايا للحاجة؛ لأن ضرر المنع من ذلك أشد، وكذلك لما حرم عليهم الميتة لما فيها من خبث التغذية، أباحها لهم عند الضرورة؛ لأن ضرر الموت أشد، ونظائره كثيرة"، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومن أصول الشريعة الكبار أن كل ما حرم تحريم وسائل، أعني سدًا للذريعة، أبيح للحاجة والمصلحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (20/ 350): "... ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة، وهو: اشتراء الثمر والحب بخرص، وكما نهى عن بيع الصبرة من الطعام لا يعلم كيلها بالطعام المسمى؛ لأن الجهل بالتساوي فيما يشترط فيه التساوي كالعلم بالتفاضل، والخرص لا يعرف مقدار المكال، إنما هو حزر وحدس، وهذا متفق عليه بين الأئمة؛ ثم إنه قد ثبت عنه أنه أرخص في العرايا، يبتاعها أهلها بخرصها تمرًا، فيجوز ابتياع الربوي هنا بخرصه، وأقام الخرص عند الحاجة مقام الكيل، وهذا من تمام محاسن الشريعة... ومعلوم أنه إذا أمكن التقدير بالكيل فعل، فإذا لم يمكن كان الخرص قائمًا مقامه للحاجة كسائر الأبدال في المعلوم والعلامة؛ فإن القياس يقوم مقام النص عند عدمه، والتقويم يقوم مقام المثل، وعدم الثمن المسمى عند تعذر المثل والثمن المسمى ...وحينئذ فتجويز العرايا أن تباع بخرصها لأجل الحاجة عند تعذر بيعها بالكيل:- موافق لأصول الشريعة، مع ثبوت السنة الصحيحة فيه، وهو مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، ومالك جوز الخرص في نظير ذلك للحاجة؛ وهذا عين الفقه الصحيح". اهـ. مختصرًا.
إلى أن قال (20/ 555): "ولهذا كان الصحيح أن العرايا يلحق بها ما كان في معناها". اهـ.
وبيع العرايا هو بيع ربوي بمثله على سبيل التقدير والخرص، والخرص ظنٌ وحسبان يقدر به عند الحاجة والضرورة، فأقام التقدير بالظن مقام التقدير بالعلم –بالكيل- وهو من ربا الفضل، ولكن أباحه لحاجة البائع والمشتري، وهذه قاعدة الشريعة: وهو تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، فالشريعة مبنية على الرحمة والحكمة والمصلحة، ومن ثمّ فإن كل ما يحتاج الناس إليه يوسع فيه ما لا يوسع في غيره، وأن الحاجة سبب للإباحة مع قيام السبب الخاص.
وقال أيضًا "مجموع الفتاوى" (29/ 455): " إن الربا إنما حرم لما فيه من أخذ الفضل؛ وذلك ظلم يضر المعطي، فحرم لما فيه من الضرر، وإذا كان كل من المتقابضين مقابضة أنفع له من كسر دراهمه، وهو إلى ما يأخذه محتاج؛ كان ذلك مصلحة لهما، هما يحتاجان إليها، والمنع من ذلك مضرة عليهما؛ والشارع لا ينهى عن المصالح الراجحة ويوجب المضرة المرجوحة، كما قد عرف ذلك من أصول الشرع؛ وهذا كما أن من أخذ "السفتجة" من المقرض، وهو أن يقرضه دراهم يستوفيها منه في بلد آخر، مثل أن يكون المقرض غرضه حمل دراهم إلى بلد آخر، والمقترض له دراهم في ذلك البلد، وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض، فيقترض منه في بلد دراهم المقرض، ويكتب له سفتجة - أي ورقة - إلى بلد دراهم المقترض؛ فهذا يجوز في أصح قولي العلماء، وقيل: ينهى عنه لأنه قرض جر منفعة؛ والقرض إذا جر منفعة كان ربا، والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهمه إلى بلد دراهم المقترض، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض؛ والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم ويحتاجون إليه؛ وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم وقد أغناهم الله عنه". اهـ.
وقال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين"(2/ 107-109): "وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا؛ فإن ما حرم سدًا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد.. وما حرم سدًا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبيه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنما كان سدًا للذريعة؛ فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أوبالحيل، والحيل باطلة في الشرع". اهـ.
ثم عاد وقرره في كتابه "زاد المعاد"(4/ 71) فقال: "أن تحريم ربا الفضل كان سدًا لذريعة ربا النسيئة، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا". اهـ.
إذا تقرر هذا، فالأصل في تغير العملة أن يكون التقابض يدًا بيد، ولكن إن تعذر هذا نظرًا لارتفاع قيمة عمولة التحويل عن طريق البنك، أو لضرر يلحق المحول من نقص في قيمة العملة، أو غير ذلك مما تدعو الحاجة والمصلحة إلية:- جاز تخلف التقابض عند تعذره، وجاز القبض بعد يوم أو أيام؛ لأجل الحاجة والمصلحة.
هذا؛ وكثير من أهل العلم يتشددون في هذا لظنهم أن التقابض يجب مطلقًا، سواء تعذر أم لا، فيشقون على الناس مشقة يعلم الناظر في الشريعة أن الله تعالى رفعها عنهم، ووسع عليهم، كما رود بعض تلك الأمثلة في كلام شيخي الإسلام، والظن بهم أنهم لو علموا القاعدة المذكورة، أعني أن المحرم لغيره يباح للحاجة، ما ترددوا في القول بالجواز.
وصدق من قال: "أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان"، "الفتوى الحموية" (ص: 554)،، والله أعلم.
- المصدر: