هل المعصية من القضاء و القدر
السلام عليكم لي معاصي و تبت منها ولله الحمد، فبعد التوبه هل ما مررت به من معاصي و توبه يعتبر من القضاء و القدر؟ و هل يصح ان اقول لنفسي ان هذا ما اختاره الله اي فهذا احسن الاقدار؟ و هل احاول ان انسى الماضي و اوقف التفكير به و ابداء حياه جديد و لا اجعل الماضي يعقني و احسن الظن بالله بانه عفى عني؟ و كيف اسال الله ان لا يعاقبني على زلاتي و معاصيي التي تبت منها؟ شكرا
للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فكلُّ ما يعمَلُه الإنسان لا يَخرج شيْءٌ منه عَنْ قَدَرِ الله تعالى؛ فإن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ قال الله تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وفي الصحيح عن طاوس، أنه قال: "أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز"
فالمعاصي من جُملة الأمور ما قدَّره الله - سبحانه وتعالى - على خلقه قبل أن يَخلُقَهم؛ ولذلك كان القدر يحتجُّ به عند المصائب لا عند المعائب، كما فعل آدم عليه السلام؛ ففي الصحيحَيْن: عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((احتج آدمُ وموسى، فقال له موسى: يا آدم، أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة! قال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمْرٍ قدَّره الله عليَّ قبْل أن يخلقني بأربعين سنة؟! فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى)) ثلاثًا.
وروى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجِز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان».
جاء في "شرح العقيدة الطحاوية"؛ لابن أبي العز الحنفي (1 / 70): "أنَّ آدم لَم يحتج بالقضاء والقدَر على الذنب، وهو كان أعلمَ بربِّه وذنْبه، بل آحادُ بَنِيه مِن المؤمنين لا يحتجُّ بالقدَر؛ فإنه باطل.
وموسى - عليه السلام - كان أعلم بأَبِيه وبِذَنْبه مِنْ أنْ يَلُوم آدم على ذنبٍ قد تاب منه، وتاب الله عليه، واجتباه وهداه، وإنما وقَع اللَّوْم على المصيبة التي أخرجتْ أولادَه من الجنَّة، فاحتجَّ آدمُ بالقدَر على المصيبة، لا على الخطيئة، فإنَّ القدَر يُحْتَجُّ به عند المصائب، لا عند المعائب، وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قُدِّر من المصائب يَجِب الاستسلامُ له؛ فإنه مِنْ تَمام الرِّضا بالله ربًّا". اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع فتاوى ابن تيميَّة" (2 / 494): وَجْه الحديث أنَّ موسى - عليْه السلام - لَم يَلُمْ أبَاه إِلاَّ لأجْل المصيبة التي لَحِقَتْهُم مِنْ أجْل أكْلِه من الشجرة، فقال له: لِماذا أخْرَجْتنا ونفسك من الجنَّة؟ لمَ يَلُمْه لِمُجَرَّد كوْنه أذْنَبَ ذنبًا وتاب منه؛ فإنَّ مُوسى يعْلم أنَّ التائِبَ مِنَ الذَّنْب لا يُلام، وهو قد تاب مِنْه أيضًا، ولو كان آدم يعتقد رفْع المَلاَم عنْه لأَجْل القدَر، لَم يقُلْ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، والمؤمِنُ مأْمُور عند المصائب أنْ يصبرَ ويُسَلِّمَ، وعند الذنوب أنْ يسْتغفرَ ويتوبَ؛ قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]، فأَمَرَهُ بالصبر على المصائب، والاستغفار من المعائب، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، قال ابن مسْعود: هو الرجُل تُصيبه المصيبةُ، فيَعْلم أنَّها مِنْ عند الله، فيرضى ويُسَلِّم". اهـ.
فاستعن بالله ولا تعجز وأحسن الظن بالله - تعالى – ولتعلم أن من أحسن الظن بالله، وتوكل عليه حق توكله، جعل الله له في كل أمره يسرًا، ومِن كل كرب فرجًا ومخرجًا، ومن لقي الله - سبحانه - وهو يحسن الظن به، فلن يخيِّب رجاءَه؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - تعالى -: أنا عند ظن عبدي بي))؛ متفق عليه عن أبي هريرة، وفي رواية: ((فليظن بي ما شاء))، وقال ابن مسعود: "والذي لا إله غيره، ما أُعطِيَ عبدٌ مؤمنٌ شيئًا خيرًا من حسن الظن بالله - عز وجل - والذي لا إله غيره، لا يحسن عبد بالله - عز وجل - الظن إلا أعطاه الله - عز وجل - ظنَّه؛ ذلك بأن الخير بيده".
قال الإمام النووي في "شرح مسلم": "قال العلماء: معنى حسن الظن بالله - تعالى - أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفًا راجيًا، ويكونان سواءً، وقيل: يكون الخوفُ أرجحَ، فإذا دَنَت أمارات الموت، غَلَّبَ الرجاءَ أو مَحَّضَه؛ لأن مقصود الخوف الانكفافُ عن المعاصي والقبائح، والحرصُ على الإكثار من الطاعات، وقد تعذَّر ذلك أو معظمُه في هذه الحال، فاستُحِب إحسانُ الظنِّ المتضمِّنُ للافتقار إلى الله - تعالى - والإذعان له". اهـ.
هذا؛ والله أعلم.
- المصدر: