هل مملوكية الخالق هي العبادة!
السلام عليكم .. استشكل علي مصطلح لغوي. أنا أعلم أن معنى لا إله إلا الله هو لا معبود حق إلا الله وذلك لاتصافه سبحانه وتعالى بصفات الكمال وتفرده بها عن جميع خلقه. ولكن بينما كنت أقرأ في موقع يثبت صحة الإسلام قرأت هذه العبارة: "العقل يدرك ضرورةً أن المخلوقَ مملوكٌ لخالقه، وهذه المملوكية للخالق هي العبودية، فالعبودية هي مملوكية العبد لمالكه وللمتصرِّفِ في شأنه" وأنا أعلم أنها صحيحة ولكن وردت علي شبهة فاسدة لها علاقة بالرق والعبيد. هل العبد يعتبر عبدا لسيده؟ وخطر في بالي احتمال أن يكون ذلك شرك.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:
فمن المقرر في معتقد أهل والجماعة أنه لا يسمى مجرد الإقرار بالصانع توحيد العبادة وهي العبودية لله، حتى المشركون كانوا مقرين بروبية الله تعالى؛ كما قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، ولم يقروا بذلك كرهًا؛ لأن نفس الإقرار فطري فطروا عليه، ولذلك قالواه طوعا، ومعلوم أن إيمانهم بالخالق لم يدخلهم في الإيمان؛ لأنهم لم يفروا الله تعالى بالعبادة، فالدين هو العبادة والطاعة والذل ونحوها لله وحده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى (10/ 149-151): "العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك= من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك= هي من العبادة لله؛ وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له التي خلق الخلق لها؛ كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وبها أرسل جميع الرسل؛ كما قال نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]".
أما لفظ عبدي وأمتي فهما من الألفاظ المشتركة بين العبد والرب، كالحياة والعلم، والاسم المطلق يدل على القدر المشترك بينهما، وهو ما يسمى بالمطلق الكلي؛ غير أنه لا يوجد مطلقًا بشرط الإطلاق إلا في العلم والذهن لا في الخارج، أما في الخارج، أو ما يعبر عنه بالكيف الخارجي، أو المعنى المميز= فلا؛ فعبودية الله شيء وراء كل هذا، ولا يتصور الخلط بينهما، ولا يشتبه هذا على أحد من خلق الله؛ فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله تعالى متذلل لمشيئته، ولا يملك أحد لنفسه خروجًا عما خلق له، وكل إنسان يدرك أن المشابه في الاسم فقط ككثير من أسماء الرب وأسماء العبد.
هذا؛ وقد ورد في السنة المطهرة كراهة أن يقول أحد لمملوكه: عبدي وأمتي، وإنما يقول غلامي وفتاتي؛ تذكرة لنفسه أن العبودية إنما يستحقها الله تعالى، وليبرأ بنفسه من الكبر، وليلتزم الذل والخضوع اللائق بالعبد لله عز وجل؛ ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقولن أحدكم: عبدي، فكلكم عبيد الله، ولكن ليقل: فتاي، ولا يقل العبد: ربي، ولكن ليقل: سيدي"
وعنه أيضًا عند مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم اسق ربك، أطعم ربك، وضئ ربك، ولا يقل أحدكم ربي، وليقل سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم عبدي أمتي، وليقل فتاي فتاتي غلامي»، وفي رواية ولا يقل العبد ربي ولكن ليقل سيدي وفي رواية ولا يقل العبد لسيده مولاي فإن مولاكم الله.
جاء في "المفهم" لأبي العباس القرطبي (5/ 552): "فإن هذا كله من باب الإرشاد إلى إطلاق اسم الأولى؛ لا أن إطلاق ذلك الاسم محرم. ألا ترى قول يوسف - عليه السلام -: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50]، و{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن تلد الأمة ربها وربتها".
فكان محل النهي في هذا الباب ألا تتخذ هذه الأسماء عادة، فيترك الأولى والأحسن. قال القاضي عياض: ولم ينه عنه نهي وجوب وحظر، بل نهي أدب وحض. ثم خاطبهم أحيانًا بما فهم عنهم من صحة استعمالهم له في لغتهم، وعلى غير الوجه المذموم. وقد تقدم: أنه يقال على المالك والسيد: رب. وأن أصله من رب الشيء والولد، يربه، ورباه، يربيه= إذا قام عليه بما يصلحه، ويكمله. فهو: رب، وراب". اهـ.
والله أعلم.
- المصدر: