هل يصلح لي التوبة؟ أريد الرجوع إلى الله بقلب سليم
خالد عبد المنعم الرفاعي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أنا شاب ثلاثيني فعلت الكثير من الذنوب وقلبي يرتجف من هولها ومخافة لقاء الله عز وجل معًا.. وذهبت في ذنب التخبيب دون أن ادري منه مقدمًا وتزوجتها وأنجبت منها وطلقتها بعد عدة سنوات ومع ذلك.. وذهبت في الزنا عدة مرات مع امرأة .
ثالثاً.. لا أصلي وأريد أن أصلي وأرجع إلى الله لقد ندمت على كل ما فعلته ولم أكرر أي شيء من هذه الذنوب مرة أخرى وأريد أن أتوب وألقى الله بقلب سليم هل يوجد كفارة أو أي شيء أفعله تجعلني طاهراً؟
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فإن الله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، والذنب وإن عظم، والكفر وإن غلظ، وجسم= فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب، بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136]، وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119]، وقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا* وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 70، 71]، وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
وهذه الآيات الكريمات وغيرها شاملٌة لكلِّ الذُّنوب، حتى ولو كانت أكبر الكبائر، بل الكُفْرِ والشِّرك إذا تابَ صاحبُهما واستغفَر وأصلحَ عفا الله عنه ما سَلَف وتاب عليه؛ كما قال تعالى: تعالى:{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ولتعلم أن اللّه عز وجلّ لم يخلق الإنسان عبثًا، وإنما خلقه ليرحمه، لا ليعذبه، فرحمته سبحانه لخلقه تسبق غضبه، وموجَب الرحمة فيه سابق على موجب الغضب، وغالب له؛ وهذا المعنى كثير في القرآن العظيم والسنة المشرفة؛ فإنه سبحانه يتمدح بالعفو والمغفرة والرحمة والكرم والحلم، ويتسمى ولم يتمدح بأنه المعاقب ولا الغضبان ولا المعذب، ومن أعظم مظاهر رحمة الكريم الرحيم العزيز الحكيم أنه سبحانه وتعالى عرض المذنبين والمشركين والمنافقين، وتأمل قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة: 73]، ثم قال سبحانه: { أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة: 74]، وقال في حق المنافقين: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]، ثم رغبهم في التوبة: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا* مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 146، 147].
ومن كرمه وجوده سبحانه أن دعا من قتلوا أولياءه إلى التوبة والرحمة؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]
إذا تقرر هذا؛ فيجب عليك المسارعة بالتوبة، وأخذ النفس بالحزم، مع التوبة من تضيع الصلاة بالمحافظة عليه، وأكثر من فعل الصالحات، فأبواب الخير كثيرة جدًا؛ قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود: 114].
ولتحذر من التمادي حتى لا يحال بينك وبين التوبة؛ فالله سبحانه قريب من قلب العبد، ولا تخفى عليه خافية؛ قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، صورة رهيبة مخيفة تتصدع لها القلوب وترجف لها الأفئدة؛ لقدرة الله القاهرة اللطيفة، فيفصل بين العبد وبين قلبه، ويستحوذ عليه، ويحتجزه، ويصرّفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد. وصاحبه لا يملك منه شيئاً وهو قلبه الذي بين جنبيه!
وتلك الصورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم. اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته، والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل؛ مخافة أن يكون انزلاقًا. وتوجب والاحتياط الدائم والاستقامة والافتقار لله- سبحانه- مخافة أن يُقلّب هذا القلب في سهوة من سهواته، أو غفلة من غفلاته، أو دفعة من دفعاته؛ حتى إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، فكيف بمن دونه!.
الفوائد لابن القيم (ص: 88)
الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا فهؤلاء هم الأحياء؛ ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول، فإن كان ما دعا إليه ففيه الحياة فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.
فكل من تثاقل عن الاستجابة وأبطأ عنها فلا يأمن أن الله يحول بينه وبين قلبه فلا يمكنه بعد ذلك من الاستجابة، عقوبة له على تركها بعد وضوح الحق واستبانة؛ وكما قال سبحانه: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وقوله {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[الصف: 5]، ففي هذه الآيات ونحوها تحذير عن ترك الاستجابة إلى الله بالتوبة والعمل الصالح، وأن سوء الخاتمة هي عاقبة ذلك". اهـ. مختصرًا.
والحاصل؛ أن لا يحول بينك وبين التوبة شيء فسارع إليها وفرّ إلى ربك واعتصم بجنابه، واعزم عزمًا صادقًا على عدم العود، فلا كفارة لك إلا هذا،، والله أعلم.