كشف الشبهات - (1) من أول المتن إلى قوله فحينئذ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله
" اعلم رحمك الله أن التوحيد هو: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده. فأولهم "نوح" عليه السلام أرسله الله إلى قومه، لما غلوا في الصالحين: "ودٍّ" و"سواعٍ" و"يغوثٍ" و"يعوقٍ" و"نسرٍ".
وآخر الرسل "محمد" ، وهو (الذي) كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله.
يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده؛ مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين.
فبعث الله إليهم محمداً يجدد لهم دين إبراهيم عليه السلام، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، لا يصلح منه شئ لغير الله، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما.
وإلا فهؤلاء المشركون مقرون يشهدون أن الله هو الخالق الرازق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأراضين السبع ومن فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره.
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله يشهدون لله هذا الشهادة فاقرأ قوله تعالى:﴿ {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ﴾ [يونس:31] وقوله: {﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾} [المؤمنون:84-89] وغير ذلك من الآيات.
فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله ، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو "توحيد العبادة"، الذي يسميه المشركون في زماننا "الاعتقاد" كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً. ثم منهم من يدعو "الملائكة"؛ لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل "اللات"، أو نبياً مثل "عيسى"، وعرفت أن رسول الله قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: {﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَد﴾} [الجن:18]
وقال: {﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ﴾} [الرعد:14]
وتحققت أن رسول الله قاتلهم ليكون الدعاء "كله" لله. و"النذر" كله لله، و"الذبح" كله لله، و"الاستغاثة" كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله.
وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة و الأنبياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك، هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون.
وهذا التوحيد هو معنى قولك "لا إله إلا الله" فإن "الإله" عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو شجرة، أو "قبراً"، أو" جنياً"، لم يريدوا أن "الإله" هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بـ"الإله" ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد. فأتاهم النبي يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي "لا إله إلا الله".
والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها. والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي بهذه الكلمة هو: إفراد الله تعالى بالتعلق، والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه. فإنه لما قال لهم: قولوا: (لا إله إلا الله)، قالوا: {﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ﴾[ص:5].
فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشئ من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها: لا يخلق، ولا يرزق، ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى "لا إله إلا الله".
إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه {:﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾} [النساء:48] وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس عليه من الجهل بهذا، أفادك فائدتين:
الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته، كما قال تعالى: {﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾} [يونس:58]
وأفادك أيضاً الخوف العظيم.
فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وهو قد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله – تعالى - كما كان يظن المشركون، خصوصاً إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: {﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾} [الأعراف:138]. فحينئذٍ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله "
عبد الرحمن بن صالح المحمود
أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقا.
- التصنيف:
- المصدر:
- تاريخ ومكان الإلقاء:
جامع الحسون بالدمام 3-5-1435هـ الموافق 4-3-2014م