وقال سهل بن هارون: لو أن رجلين اختطبا أو تحدثا أو احتجَّا أو وصفا وكان أحدهما بهياً، ولباساً ...

وقال سهل بن هارون: لو أن رجلين اختطبا أو تحدثا أو احتجَّا أو وصفا وكان أحدهما بهياً، ولباساً جميلاً، وذا حسبٍ، شريفاً، وكان الآخر قليلاً قميئاً باذ الهيئة، دميماً، خامل الذكر، مجهولاً، ثم كان كلامهما في مقدارٍ واحدٍ من البلاغة، وفي ميزانٍ واحدٍ من الصواب= لتصدع عنهما الجمع؛ وعامتهم يقضي للذميم القليل على الجسيم النبيل، وللباذ الهيئة على ذي الهيئة، وشغلهم التعجب عن مساواة صاحبه ولصار التعجب على مساواة صاحبه سبباً للتعجب به، ولصار الإكثار في مدحه علةً للإكثار في الثناء عليه، لأن النفوس كانت له أحقر، ومن بيانه أيأس، ومن حسده أبعد، فلما ظهر منه خلاف ما قدروه تضاعف حسن كلامه في صدورهم، وكبر في عيونهم، لأن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع، فإنما ذلك كبوادر الصبيان، وملح المجانين؛ فإن ضحك السامعين من ذلك أشد، وتعجبهم منه أكثر؛ والناس موكلون بتعظيم الغريب واستطراف البديع، وليس بهم في الموجود الزاهر، وفي ما تحت قدرتهم من الرأي والهوى مثل الذي معهم في الغريب القليل، وفي النادر الشاذ، ثم قال: وعلى هذا السبيل يستطرفون القادم إليهم، ويرحلون إلى النازح عنهم،ويتركون من هو أعم نفعاً، وأكثر في وجوه العلم تصرفاً، وأخف مؤونةً، وأكثر فائدةً.
.
.
.
ومن يصنع المعروف مع غير أهله ... يلاق الذي لاقى مجير أم عامر
وأم عامر هب كنية الضبع، ويرون قصة تتعلق بالبيت شبيهة كل الشبه بما يلي، قال الأصمعي: دخلت البادية فإذا بعجوز بين يديها شاة مقتولة، وجرو ذئب مقع، فنظرت إليها، فقالت: أتدري ما هذا؟ قلت: لا، قالت: هذا جرو ذئب أخذناه وأدخلناه بيتنا، فلما كبر قتل شاتنا، وقد قلت في ذلك شعرًا، قلت لها: ما هو؟ فأنشدت:
بقرت شويهتي، وفجعت قلبي ... وأنت لشاتنا ولدٌ ربيب
غذيت بدرها، وربيت فينا ... فمن أنبأك أن أباك ذيب؟
إذا كان الطباع طباع سوءٍ ... فليس بنافعٍ فيها الأديب
وقال بعض الحكماء: على قدر المغارس يكون اجتناء الغارس، فأخذه بعض الشعراء، فقال:
لعمرك ما المعروف في غير أهله ... وفي أهله إلا كبعض الودائع
فمستودعٌ ضاع الذي كان عنده ... ومستودعٌ ما عنده غير ضائع
وما الناس في شكر الصنيعة عندهم ... وفي كفرها إلا كبعض المزارع
فمزرعةٌ طابت، وأضعف نبتها ... ومزرعةٌ أكدت على كل زارع
.
.
ما أعطى أحد النصف فأباه إلا أخذ أقل منه يريد: ما أنصف فلم يرض بالإنصاف إلا طلبه فلم يجده، حتى يرضى بأقل منه، يقال: الإنصاف، والنصفة، والنصف، والنصف، كله بمعنى واحد.
.
.
ليس بحكيمٍ من لم يعاشر من لا يجد من معاشرته بداً، بالعدل والنَّصفة، حتى يجعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً.