انك لا تهدي من احببت سنتناول اليوم بعض كلمات من كتاب ربنا -سبحانه وتعالى-؛ فأعيرونا الأفئدة ...

انك لا تهدي من احببت
سنتناول اليوم بعض كلمات من كتاب ربنا -سبحانه وتعالى-؛ فأعيرونا الأفئدة والقلوب والعيون، ولنبدأ سويًا القراءة.

إن الإنسان في هذه الحياة لابد له من مخالطة الناس، واتخاذ بعضهم جليسا له، وعونا على مشاكل الحياة، ولكن الناس متفاوتون في أخلاقهم وطباعهم، فمنهم الخير والفاضل الذي ينتفع بصحبته وصداقته، ومجاورته ومشاورته، ومنهم الرديء الناقص العقل، الذي يتضرر بقربه وعشرته وصداقته، وجميع الاتصالات به ضرر وشر ونكد؛ ولذا يقول - صلى الله عليه وسلم - في وصف بني آدم واختلافهم: ((إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ جاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب، وبين ذلك))؛ رواه أحمد، وأبو داود، وغيرهما.

وتأمل في حال أبي طالب ومن كان يجالس، وكيف سرى أثر جلسائه عليه في خاتمة أمره - نسأله تعالى حسن الختام -

وفيه نزل قوله تعالى: ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [القصص: ٥٦]،

وقوله تعالى: ﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾ [التوبة: ١١٣].

فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سعيدبن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عم قل لا إله إلا الله كلمه أشهد لك بها عند الله

فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب

فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة

حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عز وجل: ﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾

[التوبة: ١١٣]،

وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ﴾ [القصص: ٥٦].

فوازن رحمك الله بين هذا وبين ما يجنيه الجليس الصالح من جليسه، حتى وإن كان المجالس كلبا، وذلك فيما قصه الله علينا في كتابه من حال أهل الكهف، ومعهم كلبهم، وكيف صار لهذا الكلب ذكر في القرآن بسبب مجالسته هؤلاء الفتية الصالحين ﴿ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ﴾ [الكهف: ٢٢] الآيات.

وإذا أردت معرفة الأمر الواقع؛ فانظر إلى فرعون معه هامان وزيره، وانظر إلى الحجاج معه يزيد بن مسلم شر منه، وانظر إلى يزيد بن معاوية معه مسلم بن عقبة المري شر منه.

ولكن انظر إلى سليمان بن عبد الملك؛ صحبه رجاء بن حيوة الكندي - أحد الأعلام الأفاضل - فقومه وسدده، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله))؛ رواه البخاري.

ويقول أيضا في حديث آخر: ((إذا أراد الله بالأمير خيرا؛ جعل له وزير صدق؛ إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك؛ جعل له وزير سوء؛ إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه))؛ رواه أبو داود والنسائي.

فانظروا أيها الإخوة إلى مدى تأثر الجليس بجليسه، واختاروا لأنفسكم ولمن وليتم أمرهم أهل التقى والصلاح، وتجنبوا أهل الشر والفساد؛ ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي))؛ رواه الإمام أحمد والترمذي.

وعن وديعة الأنصاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول وهو يعظ رجلا: "لا تتكلم فيما لا يعنيك، واعتزل عدوك، واحذر صديقك، إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله عز وجل ويطيعه، ولا تمش مع الفاجر فيعلمك من فجوره، ولا تطلعه على سرك، ولا تشاور في أمرك إلا الذين يخشون الله سبحانه ".

ووعظ بعضهم ابنه، فقال له: "إياك وإخوان السوء؛ فإنهم يخونون من رافقهم، ويفسدون من صادقهم، وقربهم أعدى من الجرب، ورفضهم والبعد عنهم من استكمال الدين الأدب، والمرء يعرف بقرينه، والإخوان اثنان: فمحافظ عليك عند البلاء، وصديق لك في الرخاء؛ فاحفظ صديق البلية، وتجنب صديق العافية، فإنهم أعدى الأعداء".

وقد حذرنا الله من مجالسة أهل السوء، ونهانا عن الجلوس في مجالسهم التي تنتهك فيها الحرمات،

فقال سبحانه: ﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ﴾ [النساء: ١٤٠].

وقال تعالى: ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾ [الأنعام: ٦٨].

وأخبرنا سبحانه عن حال هؤلاء الجلساء وبراءة بعضهم من بعض في الآخرة، فقال تعالى: ﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ﴾ [الزخرف: ٦٧].

ومما قيل في معنى هذه الآية: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه - في قوله تعالى: ﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ﴾ [الزخرف: ٦٧] -

قال: خليلان مؤمنان، وخليلان كافران؛ توفي أحد المؤمنين فبشر بالجنة، فذكر خليله فقال: اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر وينبئني أني ملاقيك، اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه ما أريتني وترضى عنه كما رضيت عني، فيقال له: اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرا ولبكيت قليلا، ثم يموت الآخر، فيجمع بين أرواحهما، فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل، وإذا مات أحد الكافرين بشر بالنار فيذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير وينبئني أني غير ملاقيك، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت علي، فيموت الآخر، فيجمع بين أرواحهما، فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: كل واحد لصاحبه: بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل. أخرجه عبدالرزاق وعبد بن حميد في تفسيريهما، وغيرهما.

وأخرج ابن أبي شيبة عن كعب رضي الله عنه قال: يؤتى بالرئيس في الخير يوم القيامة فيقال: أجب ربك، فينطلق به إلى ربه، فلا يحجب عنه، فيؤمر به إلى الجنة، فيرى منزله ومنازل أصحابه الذين كانوا يجامعونه على الخير ويعينونه عليه، فيقال: هذه منزلة فلان، وهذه منزلة فلان، فيرى ما أعد الله في الجنة من الكرامة، ويرى منزلته أفضل من منازلهم، ويكسى من ثياب الجنة، ويوضع على رأسه تاج، ويعلقه من ريح الجنة، ويشرق وجهه حتى يكون مثل القمر ليلة البدر، فيخرج، فلا يراه أهل ملأ إلا قالوا: اللهم اجعله منهم، حتى يأتي أصحابه الذين كانوا يجامعونه على الخير ويعينونه عليه فيقول: أبشر يا فلان، فإن الله أعد لك في الجنة كذا، وأعد لك في الجنة كذا وكذا، فلا يزال يخبرهم بما أعد الله لهم في الجنة من الكرامة حتى يعلو وجوههم من البياض مثل ما علا وجهه، فيعرفهم الناس ببياض وجوههم فيقولون: هؤلاء أهل الجنة.

ويؤتى بالرئيس في الشر فيقال: أجب ربك فينطلق به إلى ربه، فيحجب عنه، ويؤمر به إلى النار، فيرى منزله ومنازل أصحابه، فيقال: هذه منزلة فلان، وهذه منزلة فلان، فيرى ما أعد الله فيها من الهوان، ويرى منزلته شرا من منازلهم، فيسود وجهه، وتزرق عيناه، ويوضع على رأسه قلنسوة من نار، فيخرج، فلا يراه أهل ملأ إلا تعوذوا بالله منه، فيقول: ما أعاذكم الله مني، أما تذكر يا فلان كذا وكذا، فيذكرهم الشر الذي كانوا يجامعونه ويعينونه عليه، فما يزال يخبرهم بما أعد الله لهم في النار حتى يعلو وجوههم من السواد مثل الذي علا وجهه، فيعرفهم الناس بسواد وجوههم فيقولون: هؤلاء أهل النار.

وقال تعالى: ﴿ ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ﴾ [الفرقان: ٢٧].

وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في "الدلائل" من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لا يؤذيه، وكان رجلا حليما، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أبو معيط، وقدم خليله من الشام ليلا، فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشد مما كان أمرا أبو معيط، فحياه، فلم يرد عليه التحية، فقال: مالك لا ترد علي تحيتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أوقد فعلتها قريش؟ قال: نعم، قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلت؟ قال: تأتيه في مجلسه وتبصق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلمه من الشتم، ففعل، فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم أن مسح وجهه من البصاق، ثم التفت إليه فقال: إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا.

فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا، قال: قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرا،

فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه، فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين وحل به جمله في جدد من الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيرا في سبعين من قريش، وقدم إليه أبو معيط، فقال: تقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم، بما بصقت في وجهي،

فأنزل الله في أبي معيط:﴿ ويوم يعض الظالم على يديه ﴾ [الفرقان: ٢٧]،

إلى قوله: ﴿ وكان الشيطان للإنسان خذولا ﴾ [الفرقان: ٢٩].

إذا علم هذا أيها الإخوة؛ فاعلموا أن كثيرا من الناس إنما حصل له الضلال وجميع المفاسد بسبب خليله وقرينه؛ ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل))؛ رواه أحمد، والترمذي، وغيرهما.

فما من شيء أدل على شيء من الصاحب على صاحبه، وقديما قيل:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه .. فكل قرين بالمقارن يقتدي

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلين للجليس الصالح، وجليس السوء:

فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((مثل الجليس الصالح وجليس السوء؛ كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافح الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة))؛ متفق عليه.

فهذا الحديث يفيد أن الجليس الصالح جميع أحوال صديقه معه خير وبركة، ونفع ومغنم، مثل حامل المسك الذي تنتفع بما معه، إما بهبة، أو ببيع، أو أقل شيء: مدة الجلوس معه وأنت قرير النفس، منشرح الصدر برائحة المسك، وهذا تقريب وتشبيه له بذلك، وإلا فما يحصل من الخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر: فإنه إما أن يعلمك أمورا تنفعك في دينك، وإما أن يعلمك أمورا تنفعك في دنياك، أو فيهما جميعا، أو يهدي لك نصيحة تنفعك مدة حياتك، وبعد وفاتك، أو ينهاك عما فيه مضرة لك؛ فأنت معه دائما في منفعة، وربحك مضمون - بإذن الله. فتجده إن رأى أنك مقصر في طاعة الله؛ أرشدك، فتزداد همتك في الطاعة، وتجتهد في الزيادة منها، وتراه يبصرك بعيوبك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، بقوله وفعله وحاله.

فالإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنود مجندة

كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: ((الأرواح جنود مجندة، فما تعارف فيها ائتلف، وما تناكر منها اختلف))؛ فإن بعضها يقود إلى الخير، وبعضها يقود إلى الشر.

وأقل نفع يحصل من الجليس الصالح: انكفاف الإنسان بسببه عن السيئات والمساوئ والمعاصي؛ رعاية للصحبة، ومنافسة في الخير، وترفعا عن الشر. ومما يستفاد من الجليس الصالح: أنه يحمي عرضك في مغيبك وفي حضرتك، يدافع ويذب عنك، ومن ذلك أنك تنتفع بدعائه لك حيا وميتا.

وأما مصاحبة الأشرار: فهي السم الناقع، والبلاء الواقع، فتجدهم يشجعون على فعل المعاصي والمنكرات، ويرغبون فيها، ويفتحون لمن خالطهم وجالسهم أبواب الشرور، ويزينون لمجالسيهم أنواع المعاصي، ويحثونهم على أذية الخلق، ويذكرونهم بأمور الفساد، التي لم تدر في خلدهم، وإن هم أحدهم بتوبة وانزجار عن المعاصي، حسنوا عنده تأجيل ذلك، وطول الأمل، وأن ما أنت فيه أهون من غيره، وفي إمكانك التوبة والإنابة إذا كبرت في السن، وما يحصل من مخالطتهم ومعاشرتهم أعظم من هذا بكثير.

وفي هذا المعنى يقول الشاعر:

فما أكثر الإخوان حين تعدهم .. ولكنهم في النائبات قليل.

نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها، وأن يصلح نياتنا وذرياتنا، وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.