الزواج السعيد جلس الشيخ إلى جوار موسى وقال له: يا موسى إني وجدتك قوياً على العمل، أميناً عفيفاً في ...

منذ 2017-08-12
الزواج السعيد
جلس الشيخ إلى جوار موسى وقال له: يا موسى إني وجدتك قوياً على العمل، أميناً عفيفاً في تعاملك مع بناتي، وإني ﴿ أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ﴾ اللتين رأيتهما عن قرب وعلمت ما كان من أدبهما وحيائهما، ﴿ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ﴾، وهذا هو المهر الذي أطلبه إن قبلت زواج إحداهن، فما قولك ؟
فتبسم موسى وهو يهز رأسه بالموافقة، فمن ذا الذي تعرض عليه امرأة عفيفة مثل التي جاءته تمشي على استحياء، ويرفض! وزد على الزواج منها وظيفة مستقرة، وسكناً في بيت الشيخ الكبير!
أيُّ فتح هذا وأيُّ فضل..!
منذ عدة ساعات كان خائفًا يترقَّب يأوي إلى الظل مفتقرًا، الآن قد أُجر وأمِن ونجا، وزُوج ووظف! إنه فتحُ الفتاح جل جلاله..
الفتاح الذي يفتح مهما بلغت المغاليق، ويُفرِج مهما ضاقت واستحكمت حلقاتها.. يفتح حتى لو ظن كل الخلق أنه لا يفتح أبدًا.. حتى ولو بلغ الاستيئاس مبلغه !
ولقد بدا من كلام الشيخ أنه يود أن يكون المهر عشر سنوات لكنّه طلب ثمانية لأنه يعلم أن القوانين في مصر - آن ذاك - كانت تنص أن الجاني الذي يهرب خارج سيطرة الحاكم ثماني سنوات يسقط الحكم عنه بسبب التقادم فإن عاد فهو حرّ(1) ؛ وبما أن حب الوطن كبير، والمرء حين يمكن له العودة إلى وطنه ثم يجد عائقاً يتألم، ويضعف عمله تبعاً لحالته النفسية؛ حرص الشيخ أن يعود موسى إلى وطنه وأهله في الوقت المناسب، فالغربة قاتلة، والغريب سجين في غربته وإن كان حراً.
لذا حسم موسى هذه النقطة الفضفاضة في اتفاق زواجه فقال:﴿ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ﴾ فإن أتممتُ الثمانية فقط فلا تلومني، وإن استطعت إتمام العشر سنوات فهذا سيكون هدية مني ﴿ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ القصص:28.
وتم الزواج وكان الله خير شاهد ووكيل، ولله در هذا الشيخ الذي زوج موسى لا بنته رغم أنه بلا مال، ولا سكن، ولا عمل !
ولكنه اكتفى لابنته أن يزوجها لصاحب خُلقٍ ودين، فلو أحبها سيكرمها، وإن كرهها فلن يظلمها.
سنوات الإعداد والتجهيز
تزوج موسى من ابنة الرجل الصالح ومكث في مدين يرعى الغنم كعادة كل نبي قبل إرساله برسالة هداية البشر وإصلاح دنياهم، فما من نبي إلا ورعى الغنم(2) ثم اشتغل بعد ذلك بأيّة مهنة أخرى، لأن في رعي الغنم تدريب على الصبر، وتعلم لجمع الشتات؛ لأن الغنم من أكثر الأنعام شروداً عن القطيع، وتحتاج إلى قائدٍ صبورٍ يسوسها، كما هو حال البشر مع أنبيائهم وقادتهم، يحتاجون إلى من يسوسهم ويصبر على أذاهم، فالداعية لابد أن يتحلى بسمو السماء، وذلة الأرض، وثبات الجبال، وصبر الإبل، وإلا انفضّ الناس من حوله.
وهكذا نرى القدرة الإلهية تنقل موسى من مكان إلى آخر، ومن طبيعة إلى أخرى، ومن عادات قوم إلى عادات آخرين؛ ليزداد في كل يوم حنكة وعلماً وحكمة، فتجارب الحياة تصنع الرجال وقد خاض موسى عدة تجارب ساهمت في تكوين شخصيته وصناعته على عين الله؛ فمن تجربة الرعاية والحب والتدليل من أمه ومن آسية امرأة فرعون، إلى تجربة الاندفاع والتهور تحت ضغط الغيظ الحبيس مما يشاهده من ظلم لبني إسرائيل، إلى تجربة الندم والتحرج والاستغفار بعد قتله للمصري، إلى تجربة الخوف والمطاردة والفزع عندما لاحقه جنود فرعون، إلى تجربة الغربة والوحدة والجوع في صحراء مصر حتى وصل إلى مدين، إلى تجربة الخدمة ورعي الغنم لمدة عشر سنوات بعد حياة القصور والترف الذي عاشه في قصر فرعون
خاض كل هذه التجارب – دون إرادة منه - ليستطيع قيادة بني إسرائيل ويستطيع مواجهة فرعون، فلو لم يخرج موسى من قصر فرعون ولاقى ما لاقاه من خشونة العيش ومشقة السفر وعذاب الغربة، كيف كان سيشعر بمعاناة بني إسرائيل؟!
وإن لم يتعلم موسى الصبر من رعيه للغنم التي هي من أكثر الأنعام شروداً، كيف كان سيتعامل مع بني إسرائيل ويسوسهم وهو بكل هذه الحدة التي كانت ومازالت رواسبها متعلقة به ؟!
لقد سار موسى عليه السلام دون أن يشعر على خط طويل من الرعاية والتوجيه، ومن التلقي والتدريب، قبل النداء وقبل التكليف وصدق القائل: إذا أرادك الله لأمر هيأك له وهيأ لك أسبابه؛ وتكليف الله لموسى بحمل الرسالة تكليف ضخم وشاق متعدد الجوانب والتبعات، يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي، إلى جانب هبة الله اللدنية، ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير.
ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر- عدا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم- فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض، وأقدمهم عرشاً، وأثبتهم ملكاً، وأعرقهم حضارة، وأشدهم استذلالاً للخلق واستعلاء في الأرض.
كما أنه مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرءوا مذاقه، فمردوا عليه واستكانوا دهراً طويلاً، واستنقاذ قوم كهؤلاء عمل شاق عسير كان يحتاج لكل هذه التجارب التي خاضها موسى عليه السلام في حياته قبل نزول الرسالة.

5790110a908f2

  • 0
  • 0
  • 64

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً