جولة داخل سجون فرعون والتعذيب في سجون فرعون كان ممنهجاً، حتى وُصف به في القرآن ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي ...
جولة داخل سجون فرعون
والتعذيب في سجون فرعون كان ممنهجاً، حتى وُصف به في القرآن ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾ الفجر:10، وهذه الأوتاد كانت أداة من أدوات التعذيب في سجونه(1)، وإذا أردت أن تفهم وتتخيل معنى هذه الآية جيداً تعالى معي نقوم بجولة داخل سجون الفراعنة ..
انظر .. هناك خمسة رجال يلتفون حول رجل يصرخ، وهم يفعلون فيه أمرا ما !
ها قد ابتعدوا عنه قليلاً وبإمكانك الآن أن ترى معي ما يفعلون ..
لقد ربطوا حبلاً في يده اليمنى وحبلاً في اليسرى وثالثاً في قدمه اليمنى ورابعاً في اليسرى، وقام أضخم اثنين منهم بتثبيته وتراجع الثلاثة .. هل ترى ؟
إنهم يربطون أطراف الحبال في جياد والرجل يصرخ مستنجداً .. ثم إنهم وجهوا رؤوس الجياد إلى الاتجاهات الأربعة التي تشير إليها أطراف يديه ورجليه المتباعدة، ثم إنهم وخزوا الجياد فتحركت ببطء ليرتفع الرجل عن الأرض صارخاً، وظلت الجياد تتحرك تارة والرجل يتمزق باكياً
ثم إنهم ضربوا الجياد بالسياط فثارت وتحركت بعنف سريع، لتتمزق أطراف الرجل الأربعة وتجري كل منها مع جوادها !!
وها هو رجل آخر يمسكه رجلان مفتولا العضلات ويرغمانه على الركوع وهو يصرخ، ويأتي رجل آخر ماسكا وتداً خشبياً طويلاً مسنناً ويطعنه به في دبره طعنه لا تقتل، ويحاول الرجل أن يفلت بلا جدوى، ثم يقيدون يديه ورجليه بطريقة معينة إلى الوتد، ثم يتعاون الثلاثة رجال على رفع الوتد وتثبيته في فتحة في الأرض، وها هو الرجل في أعلى الوتد وكأنه جالس عليه ويترك على هذه الحال حتى يموت !
ليست المشكلة في الموت من الجوع والعطش، بل المشكلة أن هذا الوتد ينغرز ببطء شديد في أحشاء الرجل ولا يقتله، فقط يعذبه من الألم ثم يموت الرجل لما يخترقه الوتد ويخرج من جسده أو لما يموت من الألم أو من انفجار الأحشاء ..
هذا الوتد الذي رأيته الآن هو ما اصطلح على تسميته في عصرنا بالخازوق؛ وقد كان جنود فرعون يتفننون في التعذيب بالأوتاد تفنناً عجيباً .. فمرة يغرزون الوتد في فم المعذب ويعلقونه على الوتد مقلوباً، ومرة في بطنه، وهكذا يتفنن هؤلاء الزبانية في تعذيب المسلمين.
"فيه زبانية أعدوا للأذى وتخصصوا في فنه الملعون
متبلدون عقولهم بأكفهم وأكفهم للشر ذات حنين
لا فرق بينهمو وبين سياطهم كل أداة في يدي مأفون
يتلقفون القادمين كأنهم عثروا على كنزٍ لديك ثمين
بالرجل بالكرباج باليد بالعصا وبكل أسلوبٍ خسيسٍ دونِ
لا يُقدرون مفكراً ولو أنه في عَقل سُقراط وأفلاطون
لا يعبئون بصالحٍ ولو أنه في زهد عيسى أو تقى هارون
لا يرحمون الشيخ وهو محطمٌ والظهر منه تراه كالعرجون
لا يشفقون على المريض وطالما زادوا أذاه بقسوةٍ وجنون"(1)
وقد روي أيضا أنهم كانوا يشّبِحون المسجون مستلقياً بين أربعة أوتاد في الأرض تشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد، ويرسل عليه العقارب والحيات، كما روي أيضاً أنهم يسقطون فوقه صخرة عظيمة ترفع بالبكرات فتشدخه فيموت(2)، وقائمة أخرى من أدوات التعذيب وأشكاله، أدع للقارئ اللبيب المجال واسعاً لتصورها وتخيلها.
"أرأيت بالإنسان يُنفخ بطنه حتى يُرى في هيئة البالون ؟
أسمعت بالإنسان يُضغط رأسُه بالطوق حتى ينتهي لجنون ؟
أسمعت بالإنسان يُشعل جسمُه ناراً وقد صبغوه بالفزلين ؟
أسمعت بالآهات تخترق الدجى رباه عدلك .. إنهم قتلوني"(3)
لا يوجد مؤشر صريح في القرآن حول طول الفترة التي استغرقتها حملة التعذيب والقتل هذه، أي فيما إذا توقفت في تاريخ معين أم استمرّت حتى خروج بني إسرائيل من مصر، فالكلام هنا سيكون فرضية جدالية، ولكن لما كانت تلك الحملة قد أُطلِقت قبل أن تبدأ الكوارث (الإنذارات السبعة) بضرب قوم فرعون، سيبدو من المعقول القول بأن فرعون أوقف حملة الاضطهاد الدموي هذه في وقت ما لاحقاً، أملاً في أن يؤدي ذلك إلى إيقاف تلك الكوارث.
بث الأمل
استقبل موسى وهارون هذه القرارات الجديدة – بذبح كل من آمن - بمزيد من النشاط والهمة في تبليغ دعوة الله للناس، ولكنهما حرصا على التقاء هذه الفئة المسلمة – من المصريين وبني إسرائيل– سراً بعيداً عن أعين فرعون التي زرعها في كل مكان؛ وكان الهدف من هذه الزيارات والاجتماعات هو التعبئة الروحية والإيمانية، وبث روح الأمل والتفاؤل في قلوبهم.
فإنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووُجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعليهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ يونس:84
فاستجاب قومه لنصيحته، سائلين الله أن ينجيهم من بطش الطغاة ومكر الماكرين فقالوا: "اللهم لا تسلّط علينا الظالمين فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا، ولا تجعلنا فتنة لهم يفتنون بنا غيرنا؛ فيقولون لهم: لو كان هؤلاء على حق لما سُلّطنا عليهم وعذبناهم"(1).
﴿ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ يونس:86
فهم الطريق
ولما نزلت سياط العذاب تنهال عليهم، فسجنوا وضربوا، وعذبوا وشردوا، إلى جانب ما كان من تذبيح لذكورهن واستذلال لنسائهن واستباحة لأعراضهن ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الأعراف:128
فقال له قومه متعجبين من مآلات الأمور، غير مدركين لطبيعة الطريق الذي سلكوه: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾؟!! الأعراف:129.
لقد ظنوا أن الظلم لن يطول بمجيء موسى، وأن الخلاص من بطش فرعون جاء مرافقاً له ؛ لذا قالوا: إلى متى سيظل الظلم والقهر مرافقين لنا، أبعد ما جئتنا وآمنا بك يحدث لنا كل هذا؟!
لقد ظن المساكين أن طريق الإيمان مفروش بالورود والرياحين، ولم يدركوا أن الطريق محفوف بالمخاطر مليء بالأشواك، فأوصاهم نبي الله موسى بتحمل الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها؛ وانتظار الفرج القريب ﴿ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ الأعراف:129
فالمؤمن ينبغي ألا يقطع حسن ظنه بالله، وأن يتحلى بالأمل ويتخلى عن اليأس والقنوط مهما اشتد عليه البلاء وتراكم؛ فقد فقدَ يعقوب أحد أبنائه ثم فقدَ الآخر، ثم فقدَ بصره، وما زال يردد ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يوسف:87.
كما عرّفهم موسى عليه السلام بطبيعة الطريق الذي يسيرون عليه، فهو طريق ناح فيه نوح، وألقي بسببه نبي الله إبراهيم في النار، فمن الطبيعي أن يقف الظالمون ضدهم ويبذلون جهدهم للحد من نشاطهم، ويضعون العراقيل في طريقهم، ويستعينون بذوي النفوس الضعيفة، والقلوب المريضة للإساءة إليهم وتشويه سمعتهم، والنيل من أقدارهم.
ولكن مآل إرادة الطغاة إلى نقيض قصدهم ولو بعد حين؛ وإن ممتطي الباطل ومنتعلي البغي وراكبي الظلم ظنًا منهم أن تلك هي الوسائل الموصلة لعلوهم المبتغى، سيفاجأون أن السحر سينقلب على الساحر وأن يومًا سيأتي يقع فيه بهم ما كانوا يحذرون، ومن جنس ما كانوا يحذرون..!.
يا نصر الله اقترب
ومضى موسى ومن آمن معه يتحملون ضربات العذاب، وجرعات الظلم والاستبداد، وهم يرجون فرج الله، بقلوبٍ تجأر "يانصر الله اقترب" !
وبات عنوان مشهد هذه المرحلة التي استمرت عدة سنوات(1) هو: (إيمان يقابله كفر، وطغيان يقابله صبر)؛ تعرضوا خلالها لتسلط فرعون الفظيع والفتنة التي قال فيها: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ الأعراف:127.
ولقد طال بهم أمد هذا الإمتحان الذي امتد سنين عدداً، لغربلة صفوفهم وتنقيتها، فالشعوب لا تنتقل من مواقع العز إلى الذل في عام أو عامين، بل يُحسب هذا بالجيل! وذلك، لأن معركة كسر الظالمين وإزاحتهم عن المشهد هي معركة جيل كامل لا معركة سنوات، وعلى الفئة التي تنشأ للقيام بهذا العبء الضخم أن تكون طويلة النفس، شديدة الصبر، عميقة الإيمان بالله، عميقة التوكل عليه، يتحلون بالثقة في النصر ويتجملون بالصبر؛ لأنهم لو خسروا هذه المعركة بسبب نفاذ صبرهم فلا داعي أن يكون لديهم أمل في التغيير إلا بعد نصف قرن آخر؛ فالثمن الذي سيدفع في مقاومة الظلم الآن مهما كان عظيماً، هو أقل بكثير من الثمن الذي سيدفع عبر نصف قرن آخر من الذل والهوان.
وخلال هذه المرحلة العصيبة وتلك السنوات العجاف تخللت أحداث كثيرة، وانضم إلى موسى أنصار كُثُر، ولاحت بشائر نصر في الأفق ..
تعالوا بنا من خلال الفصل الرابع نتابع حكاية المرأة التي أصّر فرعون أن يُشرف على تعذيبها بنفسه ؟ ونعرف سر رائحتها الجميلة التي تعطر الجنة حتى الان ؟
ثم نشاهد كيف عذب فرعون آسية ؟ وكيف ساءت حالته النفسية بعدما قتلها بيده ؟.
ثم نعرف حكاية مستشار فرعون الذي أنقذ موسى عليه السلام من محاولة اغتيال كان فرعون يُدبر لها !
ثم نستمع إلى اعترافات الفتاة التي سعت لتشويه سمعة سيدنا موسى وادعت أنها على علاقة به ؟!
ثم ندخل سوياً قصر قارون ونشاهد كيف كان يعيش ببزخ؟ ونتعرف على سر انتكاسته وارتداده عن الاسلام حتى أصبح من أشد المعادين لموسى؟! هيا بنا نتابع ...
والتعذيب في سجون فرعون كان ممنهجاً، حتى وُصف به في القرآن ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾ الفجر:10، وهذه الأوتاد كانت أداة من أدوات التعذيب في سجونه(1)، وإذا أردت أن تفهم وتتخيل معنى هذه الآية جيداً تعالى معي نقوم بجولة داخل سجون الفراعنة ..
انظر .. هناك خمسة رجال يلتفون حول رجل يصرخ، وهم يفعلون فيه أمرا ما !
ها قد ابتعدوا عنه قليلاً وبإمكانك الآن أن ترى معي ما يفعلون ..
لقد ربطوا حبلاً في يده اليمنى وحبلاً في اليسرى وثالثاً في قدمه اليمنى ورابعاً في اليسرى، وقام أضخم اثنين منهم بتثبيته وتراجع الثلاثة .. هل ترى ؟
إنهم يربطون أطراف الحبال في جياد والرجل يصرخ مستنجداً .. ثم إنهم وجهوا رؤوس الجياد إلى الاتجاهات الأربعة التي تشير إليها أطراف يديه ورجليه المتباعدة، ثم إنهم وخزوا الجياد فتحركت ببطء ليرتفع الرجل عن الأرض صارخاً، وظلت الجياد تتحرك تارة والرجل يتمزق باكياً
ثم إنهم ضربوا الجياد بالسياط فثارت وتحركت بعنف سريع، لتتمزق أطراف الرجل الأربعة وتجري كل منها مع جوادها !!
وها هو رجل آخر يمسكه رجلان مفتولا العضلات ويرغمانه على الركوع وهو يصرخ، ويأتي رجل آخر ماسكا وتداً خشبياً طويلاً مسنناً ويطعنه به في دبره طعنه لا تقتل، ويحاول الرجل أن يفلت بلا جدوى، ثم يقيدون يديه ورجليه بطريقة معينة إلى الوتد، ثم يتعاون الثلاثة رجال على رفع الوتد وتثبيته في فتحة في الأرض، وها هو الرجل في أعلى الوتد وكأنه جالس عليه ويترك على هذه الحال حتى يموت !
ليست المشكلة في الموت من الجوع والعطش، بل المشكلة أن هذا الوتد ينغرز ببطء شديد في أحشاء الرجل ولا يقتله، فقط يعذبه من الألم ثم يموت الرجل لما يخترقه الوتد ويخرج من جسده أو لما يموت من الألم أو من انفجار الأحشاء ..
هذا الوتد الذي رأيته الآن هو ما اصطلح على تسميته في عصرنا بالخازوق؛ وقد كان جنود فرعون يتفننون في التعذيب بالأوتاد تفنناً عجيباً .. فمرة يغرزون الوتد في فم المعذب ويعلقونه على الوتد مقلوباً، ومرة في بطنه، وهكذا يتفنن هؤلاء الزبانية في تعذيب المسلمين.
"فيه زبانية أعدوا للأذى وتخصصوا في فنه الملعون
متبلدون عقولهم بأكفهم وأكفهم للشر ذات حنين
لا فرق بينهمو وبين سياطهم كل أداة في يدي مأفون
يتلقفون القادمين كأنهم عثروا على كنزٍ لديك ثمين
بالرجل بالكرباج باليد بالعصا وبكل أسلوبٍ خسيسٍ دونِ
لا يُقدرون مفكراً ولو أنه في عَقل سُقراط وأفلاطون
لا يعبئون بصالحٍ ولو أنه في زهد عيسى أو تقى هارون
لا يرحمون الشيخ وهو محطمٌ والظهر منه تراه كالعرجون
لا يشفقون على المريض وطالما زادوا أذاه بقسوةٍ وجنون"(1)
وقد روي أيضا أنهم كانوا يشّبِحون المسجون مستلقياً بين أربعة أوتاد في الأرض تشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد، ويرسل عليه العقارب والحيات، كما روي أيضاً أنهم يسقطون فوقه صخرة عظيمة ترفع بالبكرات فتشدخه فيموت(2)، وقائمة أخرى من أدوات التعذيب وأشكاله، أدع للقارئ اللبيب المجال واسعاً لتصورها وتخيلها.
"أرأيت بالإنسان يُنفخ بطنه حتى يُرى في هيئة البالون ؟
أسمعت بالإنسان يُضغط رأسُه بالطوق حتى ينتهي لجنون ؟
أسمعت بالإنسان يُشعل جسمُه ناراً وقد صبغوه بالفزلين ؟
أسمعت بالآهات تخترق الدجى رباه عدلك .. إنهم قتلوني"(3)
لا يوجد مؤشر صريح في القرآن حول طول الفترة التي استغرقتها حملة التعذيب والقتل هذه، أي فيما إذا توقفت في تاريخ معين أم استمرّت حتى خروج بني إسرائيل من مصر، فالكلام هنا سيكون فرضية جدالية، ولكن لما كانت تلك الحملة قد أُطلِقت قبل أن تبدأ الكوارث (الإنذارات السبعة) بضرب قوم فرعون، سيبدو من المعقول القول بأن فرعون أوقف حملة الاضطهاد الدموي هذه في وقت ما لاحقاً، أملاً في أن يؤدي ذلك إلى إيقاف تلك الكوارث.
بث الأمل
استقبل موسى وهارون هذه القرارات الجديدة – بذبح كل من آمن - بمزيد من النشاط والهمة في تبليغ دعوة الله للناس، ولكنهما حرصا على التقاء هذه الفئة المسلمة – من المصريين وبني إسرائيل– سراً بعيداً عن أعين فرعون التي زرعها في كل مكان؛ وكان الهدف من هذه الزيارات والاجتماعات هو التعبئة الروحية والإيمانية، وبث روح الأمل والتفاؤل في قلوبهم.
فإنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووُجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعليهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ يونس:84
فاستجاب قومه لنصيحته، سائلين الله أن ينجيهم من بطش الطغاة ومكر الماكرين فقالوا: "اللهم لا تسلّط علينا الظالمين فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا، ولا تجعلنا فتنة لهم يفتنون بنا غيرنا؛ فيقولون لهم: لو كان هؤلاء على حق لما سُلّطنا عليهم وعذبناهم"(1).
﴿ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ يونس:86
فهم الطريق
ولما نزلت سياط العذاب تنهال عليهم، فسجنوا وضربوا، وعذبوا وشردوا، إلى جانب ما كان من تذبيح لذكورهن واستذلال لنسائهن واستباحة لأعراضهن ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الأعراف:128
فقال له قومه متعجبين من مآلات الأمور، غير مدركين لطبيعة الطريق الذي سلكوه: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾؟!! الأعراف:129.
لقد ظنوا أن الظلم لن يطول بمجيء موسى، وأن الخلاص من بطش فرعون جاء مرافقاً له ؛ لذا قالوا: إلى متى سيظل الظلم والقهر مرافقين لنا، أبعد ما جئتنا وآمنا بك يحدث لنا كل هذا؟!
لقد ظن المساكين أن طريق الإيمان مفروش بالورود والرياحين، ولم يدركوا أن الطريق محفوف بالمخاطر مليء بالأشواك، فأوصاهم نبي الله موسى بتحمل الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها؛ وانتظار الفرج القريب ﴿ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ الأعراف:129
فالمؤمن ينبغي ألا يقطع حسن ظنه بالله، وأن يتحلى بالأمل ويتخلى عن اليأس والقنوط مهما اشتد عليه البلاء وتراكم؛ فقد فقدَ يعقوب أحد أبنائه ثم فقدَ الآخر، ثم فقدَ بصره، وما زال يردد ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يوسف:87.
كما عرّفهم موسى عليه السلام بطبيعة الطريق الذي يسيرون عليه، فهو طريق ناح فيه نوح، وألقي بسببه نبي الله إبراهيم في النار، فمن الطبيعي أن يقف الظالمون ضدهم ويبذلون جهدهم للحد من نشاطهم، ويضعون العراقيل في طريقهم، ويستعينون بذوي النفوس الضعيفة، والقلوب المريضة للإساءة إليهم وتشويه سمعتهم، والنيل من أقدارهم.
ولكن مآل إرادة الطغاة إلى نقيض قصدهم ولو بعد حين؛ وإن ممتطي الباطل ومنتعلي البغي وراكبي الظلم ظنًا منهم أن تلك هي الوسائل الموصلة لعلوهم المبتغى، سيفاجأون أن السحر سينقلب على الساحر وأن يومًا سيأتي يقع فيه بهم ما كانوا يحذرون، ومن جنس ما كانوا يحذرون..!.
يا نصر الله اقترب
ومضى موسى ومن آمن معه يتحملون ضربات العذاب، وجرعات الظلم والاستبداد، وهم يرجون فرج الله، بقلوبٍ تجأر "يانصر الله اقترب" !
وبات عنوان مشهد هذه المرحلة التي استمرت عدة سنوات(1) هو: (إيمان يقابله كفر، وطغيان يقابله صبر)؛ تعرضوا خلالها لتسلط فرعون الفظيع والفتنة التي قال فيها: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ الأعراف:127.
ولقد طال بهم أمد هذا الإمتحان الذي امتد سنين عدداً، لغربلة صفوفهم وتنقيتها، فالشعوب لا تنتقل من مواقع العز إلى الذل في عام أو عامين، بل يُحسب هذا بالجيل! وذلك، لأن معركة كسر الظالمين وإزاحتهم عن المشهد هي معركة جيل كامل لا معركة سنوات، وعلى الفئة التي تنشأ للقيام بهذا العبء الضخم أن تكون طويلة النفس، شديدة الصبر، عميقة الإيمان بالله، عميقة التوكل عليه، يتحلون بالثقة في النصر ويتجملون بالصبر؛ لأنهم لو خسروا هذه المعركة بسبب نفاذ صبرهم فلا داعي أن يكون لديهم أمل في التغيير إلا بعد نصف قرن آخر؛ فالثمن الذي سيدفع في مقاومة الظلم الآن مهما كان عظيماً، هو أقل بكثير من الثمن الذي سيدفع عبر نصف قرن آخر من الذل والهوان.
وخلال هذه المرحلة العصيبة وتلك السنوات العجاف تخللت أحداث كثيرة، وانضم إلى موسى أنصار كُثُر، ولاحت بشائر نصر في الأفق ..
تعالوا بنا من خلال الفصل الرابع نتابع حكاية المرأة التي أصّر فرعون أن يُشرف على تعذيبها بنفسه ؟ ونعرف سر رائحتها الجميلة التي تعطر الجنة حتى الان ؟
ثم نشاهد كيف عذب فرعون آسية ؟ وكيف ساءت حالته النفسية بعدما قتلها بيده ؟.
ثم نعرف حكاية مستشار فرعون الذي أنقذ موسى عليه السلام من محاولة اغتيال كان فرعون يُدبر لها !
ثم نستمع إلى اعترافات الفتاة التي سعت لتشويه سمعة سيدنا موسى وادعت أنها على علاقة به ؟!
ثم ندخل سوياً قصر قارون ونشاهد كيف كان يعيش ببزخ؟ ونتعرف على سر انتكاسته وارتداده عن الاسلام حتى أصبح من أشد المعادين لموسى؟! هيا بنا نتابع ...