محاولة اغتيال موسى الآن فرعون في اجتماع وزاري موسع يضم عدداً من مستشاريه؛ الغرض منه هو اقتراح حل ...
محاولة اغتيال موسى
الآن فرعون في اجتماع وزاري موسع يضم عدداً من مستشاريه؛ الغرض منه هو اقتراح حل أمثل للتخلص من موسى، فالتضييق على موسى لا يثنيه من الحديث مع الناس ليل نهار، وتقتيل أبناء الذين آمنوا معه زادهم إصراراً على التمسك بدينهم وكرها لفرعون ونظامه!
فما الحل ؟ وقد سبق – فيما أشرنا- عرض فكرة قتل موسى على طاولة المناقشة في اجتماع سابق لهم بعد أحداث يوم الزينة، ولاقت هذه الفكرة رفضاً وممانعة - من ناحية الرأي- للأسباب السابق ذكرها؛ تلك الأسباب التي جعلتهم يفكرون ألف مرة قبل أن يقدموا على محاولة قتل موسى؛ لكنهم اليوم في اجتماع مع فرعون لمناقشة هذه الأسباب من جديد، وطرح فكرة قتل موسى والخلاص منه ومن دعوته..
وكانت الكلمة الأولى في الاجتماع لفرعون ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ غافر:26.
ليبدد فرعون كل الأسباب الماضية في طيات كلامه، فهو يقول: دعوا موسى لا تقتلوه أنتم، بل إنني أنا الذي سأتولى قتله، فسكوتنا عليه أكثر من هذا سيجعل رسالته تنتشر، ويضم أعداداً أكثر وأكثر إلى صفوفه فيبدل دينكم –كما بدل دين زوجتي وخادمتي – أو يظهر في الأرض الفساد بتأليب الناس علينا.
ويبدو أن كلام فرعون - هذه المرة - لاقى قبولاً من أغلب الحاضرين في هذا الاجتماع؛ وسوف تتم عملية اغتيال موسى بالفعل.
فأوحى الله إلى موسى أن فرعون وملأه يدبرون الآن في اجتماعهم الأجواء لقتلك، فقال موسى عليه السلام طالباً العون والنصرة والحماية من الله: ﴿ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ غافر:27، فقيض الله إنسانا أجنبياً غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه، وبالغ في تسكين تلك الفتنة، واجتهد في إزالة ذلك الشر(1).
فقد كان من الحاضرين في هذا الاجتماع ﴿ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أي من عائلته، بل ومن الرؤوس الكبيرة في الدولة فقد كان مستشاراً أو أميراً أو وزيراً أو قائد جند؛ وقد كتم إيمانه ليس عن جبن أو خوف، وإنما كان كتمان إيمانه لسياسة حكيمة، وتدبير محكم، لينفع موسى عندما يشعر أن الخطر يحيط به.
فلقد كان من تدبيره – وهو رجل سياسة ومُلك- أن يجلس إلى فرعون المجلس الذي اعتاده منه - مجلس إبداء الرأي، وعرض النصيحة، في معرض تبادل الآراء، وتقليب وجوهها لا أكثر ولا أقلّ، ومن هنا يكون للرجل أن يقول ما يشاء من آراء، ويبدى ما يرى من حجج، وأن يجد لذلك من فرعون ومن حوله أذناً تسمع، وعقلاً يعقل، وإنه لا بأس على فرعون أن يأخذ بالرأي الذي يخلص به من بين تلك الآراء؛ ووقتها سيكون هو الذي يعطى الرأي ولا يأخذه، ويصدر الحكم، ولا يتلقاه!!
ومن هنا نجد الرجل المؤمن- بهذا التدبير الحكيم- سيقوم خطيباً يحتال في كلامه لدفع الملأ عن موسى, ويسلك في خطابه لفرعون وملئه مسالك شتى, مخاطباً عقولهم وقلوبهم وفي آن واحد؛ مرة بالتخويف، ومرة بالإقناع، ومرة بأخذ العبرة من التاريخ، مستخدماً أغلب أساليب الإقناع، ومنهجيات وأسس الحوار الناجح المعروفة لدى الأكاديميين الآن.
محاولة الإقناع العقلي
فعندما قال فرعون ما قاله، وسكت الحضور إقراراً وتأييداً لما سوف يفعله فرعون، قام المؤمن يقول لهم: إنكم مقدمون على فعل فظيع ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ غافر:28، هل هذه الكلمة البريئة التي يرددها موسى، المتعلقة باعتقاد قلبه, واقتناع نفسه, تستحق القتل؟
ثم يخطو بهم خطوة أخرى، فيقول لهم: إن الذي يقول هذه الكلمة البريئة: ﴿ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾يقولها ومعه حجته, وفي يده برهانه ﴿ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ غافر:28.
ثم يفرض لهم أسوأ الفروض; ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية; تمشياً مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه فيقول: ﴿ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعليهِ كَذِبُهُ﴾ غافر:28، فهو وحده الذي يتحمل تبعة عمله, ويلقى جزاءه, ويحتمل جريرته-إن كان كاذباً - فلماذا نقتله ؟!؛ ثم- من يدرى؟ - فقد يكون الرجل صادقاً فيما يقول، فماذا لو انتظرنا، ثم نظرنا في دعوته هذه، وعرضناها معرض الدراسة والبحث، فقد نجد فيها خيراً، وقد ينكشف لنا منها هدى ونور، وهل ثمة بأس علينا إذا وجدنا خيراً فأخذنا بحظنا منه؟﴿ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ غافر:28.
ثم يهددهم من طرف خفي, وهو يقول كلاماً ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ غافر:28، فإذا كان موسى كاذباً فإن الله لن يهديه ولن يوفقه, فدعوه له يلاقي منه جزاءه؛ واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وتفترون عليه, فيصيبكم هذا المآل(1)!
العزف على وتر حب الوطن
ثم يسألهم قائلاً:﴿ يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ اليوم ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا﴾ ؟! غافر:29.
ولم يقل "فمن ينصركم" ليشعرهم أن أمرهم يهمه، فهو واحد منهم، ينتظر مصيره معهم وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم، لعل هذا يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام، ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص، فهو يحاول أن يشعرهم أن بأس الله إن جاء فلا ناصر منه ولا مجير عليه، وأنهم إزاؤه ضعاف، وأنه يخاف على مصر القوية أن تسقط بسبب الإسراف في قتل الأبرياء.
ثم يسكت ولسان حاله يقول:هذا رأيي، وتلك نصيحتي لجناب الفرعون، كما يقضى بذلك واجب الولاء والإخلاص له، وللرعية..!!
وهكذا استطاع الرجل المؤمن، بحكمته وسياسته - في كتم إيمانه - أن يَلقى فرعون والملأ من حوله، بهذا المنطق الرزين الهادئ، في غلاف رقيق من النصح والمناصحة! ، ليترك الملأ من آل فرعون، وقد دارت رءوسهم من هذا المنطق الواضح وما بين يديه من حجة وبرهان.
ولكن فرعون هو فرعون، يأخذه ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة؛ تأخذه العزة بالإثم، ويرى في النصح الخالص له افتئاتاً على سلطانه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان، فقد قال معقباً على كلام مستشاره: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ غافر:29، إذ ليس لكم عندي في هذا الأمر إلا ما رأيته من قبل، وما سمعتموه منى حين قلت لكم: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» .. تلك هي كلمتي الأولى والأخيرة، وإنها الكلمة التي فيها رشادكم، وحمايتكم من هذا الشر الذي يهِبُ عليكم فهل تشكّون في حمايتي، وحرصي على حفظكم ورعايتكم، وارتياد مواقع الخير لكم؟
كلمات تدل دلالة واضحة على الفكر الإقصائي السلطوي الذي كان يحمله هذا الطاغية، فقوله ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾، يعني أنه لا ينبغي أن يرى الناس إلا ما رآه، ولا يجوز لهم أن يفكروا إلا بتفكيره، ولا ينظروا إلا إلى موضع نظره، فهو على الصواب دائماً وغيره على الخطأ، وهو المبصر وهم العميان؛ كلامه رشاد وكلام غيره غي، هو كل شيء وغيره لا شيء.
حوار عاطفي لاستمالة القلوب
وتأذن هذه الكلمات من فرعون بانفضاض مجلس المشورة، والسماح لهم بالانصراف، فبادرهم المؤمن ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ..﴾ فقعد من همّ بالوقوف، وأنصت من كان يتكلم !!
ليتابع الرجل المؤمن حديثه، ويواصل ما انقطع منه - وكأنّ فرعون لم يقل شيئاً- فخرجت الكلمات من فم الرجل المؤمن، متدفقة هادرة، تحمل نبرة عالية من الأسى والحزن والإشفاق، خشية أن ينزل عليهم عقاب من عند الله كما نزل على الذين من قبلهم، فقد كُتب عندهم في كتب التاريخ أن كل من قتلوا الأنبياء أو آذوهم عمهم الله بعذاب من عنده، فذكرهم الرجل بهذه السُنة﴿ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ غافر:30، الذين أغرقهم الله بالطوفان، ﴿وَعادٍ﴾ الذين أهلكوا بالريح العقيم، ﴿وَثَمُودَ﴾ الذين الله بالصيحة ﴿وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ ممن أهلكوا بأنواع أخرى من العذاب، جزاء تكذيبهم وتنكيلهم بأنبيائهم؛ فهل تنتظرون أن تكونوا مثلهم؟!﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ﴾ غافر:31
تذكرة بالمآل والمصير
ثم يحذرهم من يوم القيامة فيقول:﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ غافر:33، فكروا جيداً في هذا اليوم العصيب، واعملوا صالحاً من أجله، فلن ينفعكم أحد– إشارة إلى فرعون –في هذا اليوم إلا عملكم الصالح مع رحمة الله.
جولة تاريخية
ثم يذكرهم بتاريخ يوسف وما فعله أجدادهم من المصريين معه فيقول: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ غافر:34.
وهل موسى إلا من نسل آل يوسف؟ وهل جاء موسى بغير ما جاء به يوسف ؟!
ثم يسكت لينتظر ردهم، بعد أن لبستهم حال من البلبلة والاضطراب، فكلام الرجل غاية في الإقناع؛ ودارت برءوس القوم عواصف البلبلة والحيرة، فيجد فرعون نفسه في مأزق جديد، فكلام مستشاره – المؤمن – قد لانت له عقول الملأ.
مراوغة مفضوحة
نظر فرعون إلى من حوله من الملأ قاطعاً حالة التفكير التي عمتهم، قائلاً:
في أي شيء تفكرون ؟ ﴿ يا أَيُّهَا الملأ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ﴾ القصص:38، فموسى الذي تدافعون عنه يتحدث عن إله آخر.. فأين هو هذا الإله؟ لو كان في الأرض، فأي أرض هي؟ إنه لا آلهة على الأرض غيري أنا!
أم ترى هو في السماء؟ السماء ليست بعيدة!! ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ﴾ القصص:38، حتى إذا صار حجارة تصلح للبناء ﴿ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ غافر:36.
هزل في هزل، ليس فيه شيء من الجدّ.. إذ كيف يبني «هامان» صرحاً يرتفع به إلى السماء؟ وما المدة التي يستغرقها بناؤه، إن كان ذلك الأمر مستطاعاً من الأساس !!
إنها مماحكات وتعللّات يتعلل بها فرعون، ليخلص من هذا المأزق الذي أوقع فيه نفسه، بإعلان رأيه في قتل موسى والخلاص منه! وما نحسب أن «هامان» بنى هذا الصرح، وإن تلقّى أمر فرعون في حينه بالامتثال والطاعة، فهو لا يملك إلا أن يقول "تمام يافندم" كعادة العسكريين مع قادتهم، حتى وإن كان الأمر خطئاً أو غير جاد! ففي قول فرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» ما يشير إلى أنه لم يكن جادّا فيما يقول، وإنما هي مناورة من مناورات حواره السلبي(1) للخروج من المأزق.. فلقد أصدر حكمه على موسى واتهمه بالكذب قبل أن يتحقق من وجود إلهه؛ فما الداعي إذاً لبناء الصرح ؟!
ولو كان جاداً لصعد الأهرامات(2) لينظر ويطلع – كما أراد – إنما هو الاستهتار من جهة، والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى ﴿ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾ غافر:37.
الكلمة الأخيرة
وأمام هذه المراوغة، وهذا الاستهتار والإصرار على الباطل؛ ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة، ليدعو الملأ بكل وضوح إلى اتباعه في الطريق إلى الله، فهو طريق الرشاد ﴿ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ﴾ غافر:38، ليرد بوضوح وتحدٍ على فرعون الذي قال: «وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ» غافر:29
ثم حاول أن يكشف لهم قيمة هذه الحياة الزائلة في الدنيا، وأن يشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية، ويحذرهم عذاب الآخرة ويبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إليه لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾غافر:43
التدبير لاغتيال المستشار
ثم بعد هذا البيان الواضح الذي واجه به فرعون وملأه بلا تردد ولا تلعثم - بعد ما كان يكتم إيمانه - لا يبقى إلا أن يفوض أمره إلى الله، وقد قال كلمته وأراح ضميره، مهدداً إياهم بأنهم سيذكرون كلمته هذه في موقف لا تنفع فيه الذكرى ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ غافر:44، ثم قام وترك اجتماعهم وانصرف!
فنظر فرعون إلى هامان، نظرة الإذن في التخلص منه؛ فتعقبوه فلم يصلوا إليه ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ غافر:45، فقد فر الرجل إلى الجبال، تاركاً قصره ومكانته الاجتماعية، ووظيفته السيادية، وراء ظهره راغباً في جوار الله، وظل على حالته هذه عدة سنوات – ملاحقاً ومطارداً - حتى أذن الله لموسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر فخرج معهم(1).
ولما كان من الصعب – كما تبين – اغتيال موسى عليه السلام، بدأ فرعون وملؤه يفكرون في القضاء على دعوة موسى ذاتياً، لتدمر الدعوة نفسها بنفسها، وذلك بتفكيك الصف الداخلي لهذه الجماعة المؤمنة، والتشكيك في قائدها وتشويه صورته أمامهم، مستخدمين لتحقيق هذا الهدف أحد أفراد بني إسرائيل؛ وقد كان هذا الرجل ابن عم موسى ومن الفئة القريبة منه يوماً من الأيام
إنه قارون
الآن فرعون في اجتماع وزاري موسع يضم عدداً من مستشاريه؛ الغرض منه هو اقتراح حل أمثل للتخلص من موسى، فالتضييق على موسى لا يثنيه من الحديث مع الناس ليل نهار، وتقتيل أبناء الذين آمنوا معه زادهم إصراراً على التمسك بدينهم وكرها لفرعون ونظامه!
فما الحل ؟ وقد سبق – فيما أشرنا- عرض فكرة قتل موسى على طاولة المناقشة في اجتماع سابق لهم بعد أحداث يوم الزينة، ولاقت هذه الفكرة رفضاً وممانعة - من ناحية الرأي- للأسباب السابق ذكرها؛ تلك الأسباب التي جعلتهم يفكرون ألف مرة قبل أن يقدموا على محاولة قتل موسى؛ لكنهم اليوم في اجتماع مع فرعون لمناقشة هذه الأسباب من جديد، وطرح فكرة قتل موسى والخلاص منه ومن دعوته..
وكانت الكلمة الأولى في الاجتماع لفرعون ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ غافر:26.
ليبدد فرعون كل الأسباب الماضية في طيات كلامه، فهو يقول: دعوا موسى لا تقتلوه أنتم، بل إنني أنا الذي سأتولى قتله، فسكوتنا عليه أكثر من هذا سيجعل رسالته تنتشر، ويضم أعداداً أكثر وأكثر إلى صفوفه فيبدل دينكم –كما بدل دين زوجتي وخادمتي – أو يظهر في الأرض الفساد بتأليب الناس علينا.
ويبدو أن كلام فرعون - هذه المرة - لاقى قبولاً من أغلب الحاضرين في هذا الاجتماع؛ وسوف تتم عملية اغتيال موسى بالفعل.
فأوحى الله إلى موسى أن فرعون وملأه يدبرون الآن في اجتماعهم الأجواء لقتلك، فقال موسى عليه السلام طالباً العون والنصرة والحماية من الله: ﴿ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ غافر:27، فقيض الله إنسانا أجنبياً غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه، وبالغ في تسكين تلك الفتنة، واجتهد في إزالة ذلك الشر(1).
فقد كان من الحاضرين في هذا الاجتماع ﴿ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أي من عائلته، بل ومن الرؤوس الكبيرة في الدولة فقد كان مستشاراً أو أميراً أو وزيراً أو قائد جند؛ وقد كتم إيمانه ليس عن جبن أو خوف، وإنما كان كتمان إيمانه لسياسة حكيمة، وتدبير محكم، لينفع موسى عندما يشعر أن الخطر يحيط به.
فلقد كان من تدبيره – وهو رجل سياسة ومُلك- أن يجلس إلى فرعون المجلس الذي اعتاده منه - مجلس إبداء الرأي، وعرض النصيحة، في معرض تبادل الآراء، وتقليب وجوهها لا أكثر ولا أقلّ، ومن هنا يكون للرجل أن يقول ما يشاء من آراء، ويبدى ما يرى من حجج، وأن يجد لذلك من فرعون ومن حوله أذناً تسمع، وعقلاً يعقل، وإنه لا بأس على فرعون أن يأخذ بالرأي الذي يخلص به من بين تلك الآراء؛ ووقتها سيكون هو الذي يعطى الرأي ولا يأخذه، ويصدر الحكم، ولا يتلقاه!!
ومن هنا نجد الرجل المؤمن- بهذا التدبير الحكيم- سيقوم خطيباً يحتال في كلامه لدفع الملأ عن موسى, ويسلك في خطابه لفرعون وملئه مسالك شتى, مخاطباً عقولهم وقلوبهم وفي آن واحد؛ مرة بالتخويف، ومرة بالإقناع، ومرة بأخذ العبرة من التاريخ، مستخدماً أغلب أساليب الإقناع، ومنهجيات وأسس الحوار الناجح المعروفة لدى الأكاديميين الآن.
محاولة الإقناع العقلي
فعندما قال فرعون ما قاله، وسكت الحضور إقراراً وتأييداً لما سوف يفعله فرعون، قام المؤمن يقول لهم: إنكم مقدمون على فعل فظيع ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ غافر:28، هل هذه الكلمة البريئة التي يرددها موسى، المتعلقة باعتقاد قلبه, واقتناع نفسه, تستحق القتل؟
ثم يخطو بهم خطوة أخرى، فيقول لهم: إن الذي يقول هذه الكلمة البريئة: ﴿ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾يقولها ومعه حجته, وفي يده برهانه ﴿ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ غافر:28.
ثم يفرض لهم أسوأ الفروض; ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية; تمشياً مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه فيقول: ﴿ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعليهِ كَذِبُهُ﴾ غافر:28، فهو وحده الذي يتحمل تبعة عمله, ويلقى جزاءه, ويحتمل جريرته-إن كان كاذباً - فلماذا نقتله ؟!؛ ثم- من يدرى؟ - فقد يكون الرجل صادقاً فيما يقول، فماذا لو انتظرنا، ثم نظرنا في دعوته هذه، وعرضناها معرض الدراسة والبحث، فقد نجد فيها خيراً، وقد ينكشف لنا منها هدى ونور، وهل ثمة بأس علينا إذا وجدنا خيراً فأخذنا بحظنا منه؟﴿ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ غافر:28.
ثم يهددهم من طرف خفي, وهو يقول كلاماً ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ غافر:28، فإذا كان موسى كاذباً فإن الله لن يهديه ولن يوفقه, فدعوه له يلاقي منه جزاءه؛ واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وتفترون عليه, فيصيبكم هذا المآل(1)!
العزف على وتر حب الوطن
ثم يسألهم قائلاً:﴿ يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ اليوم ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا﴾ ؟! غافر:29.
ولم يقل "فمن ينصركم" ليشعرهم أن أمرهم يهمه، فهو واحد منهم، ينتظر مصيره معهم وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم، لعل هذا يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام، ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص، فهو يحاول أن يشعرهم أن بأس الله إن جاء فلا ناصر منه ولا مجير عليه، وأنهم إزاؤه ضعاف، وأنه يخاف على مصر القوية أن تسقط بسبب الإسراف في قتل الأبرياء.
ثم يسكت ولسان حاله يقول:هذا رأيي، وتلك نصيحتي لجناب الفرعون، كما يقضى بذلك واجب الولاء والإخلاص له، وللرعية..!!
وهكذا استطاع الرجل المؤمن، بحكمته وسياسته - في كتم إيمانه - أن يَلقى فرعون والملأ من حوله، بهذا المنطق الرزين الهادئ، في غلاف رقيق من النصح والمناصحة! ، ليترك الملأ من آل فرعون، وقد دارت رءوسهم من هذا المنطق الواضح وما بين يديه من حجة وبرهان.
ولكن فرعون هو فرعون، يأخذه ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة؛ تأخذه العزة بالإثم، ويرى في النصح الخالص له افتئاتاً على سلطانه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان، فقد قال معقباً على كلام مستشاره: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ غافر:29، إذ ليس لكم عندي في هذا الأمر إلا ما رأيته من قبل، وما سمعتموه منى حين قلت لكم: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» .. تلك هي كلمتي الأولى والأخيرة، وإنها الكلمة التي فيها رشادكم، وحمايتكم من هذا الشر الذي يهِبُ عليكم فهل تشكّون في حمايتي، وحرصي على حفظكم ورعايتكم، وارتياد مواقع الخير لكم؟
كلمات تدل دلالة واضحة على الفكر الإقصائي السلطوي الذي كان يحمله هذا الطاغية، فقوله ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾، يعني أنه لا ينبغي أن يرى الناس إلا ما رآه، ولا يجوز لهم أن يفكروا إلا بتفكيره، ولا ينظروا إلا إلى موضع نظره، فهو على الصواب دائماً وغيره على الخطأ، وهو المبصر وهم العميان؛ كلامه رشاد وكلام غيره غي، هو كل شيء وغيره لا شيء.
حوار عاطفي لاستمالة القلوب
وتأذن هذه الكلمات من فرعون بانفضاض مجلس المشورة، والسماح لهم بالانصراف، فبادرهم المؤمن ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ..﴾ فقعد من همّ بالوقوف، وأنصت من كان يتكلم !!
ليتابع الرجل المؤمن حديثه، ويواصل ما انقطع منه - وكأنّ فرعون لم يقل شيئاً- فخرجت الكلمات من فم الرجل المؤمن، متدفقة هادرة، تحمل نبرة عالية من الأسى والحزن والإشفاق، خشية أن ينزل عليهم عقاب من عند الله كما نزل على الذين من قبلهم، فقد كُتب عندهم في كتب التاريخ أن كل من قتلوا الأنبياء أو آذوهم عمهم الله بعذاب من عنده، فذكرهم الرجل بهذه السُنة﴿ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ غافر:30، الذين أغرقهم الله بالطوفان، ﴿وَعادٍ﴾ الذين أهلكوا بالريح العقيم، ﴿وَثَمُودَ﴾ الذين الله بالصيحة ﴿وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ ممن أهلكوا بأنواع أخرى من العذاب، جزاء تكذيبهم وتنكيلهم بأنبيائهم؛ فهل تنتظرون أن تكونوا مثلهم؟!﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ﴾ غافر:31
تذكرة بالمآل والمصير
ثم يحذرهم من يوم القيامة فيقول:﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ غافر:33، فكروا جيداً في هذا اليوم العصيب، واعملوا صالحاً من أجله، فلن ينفعكم أحد– إشارة إلى فرعون –في هذا اليوم إلا عملكم الصالح مع رحمة الله.
جولة تاريخية
ثم يذكرهم بتاريخ يوسف وما فعله أجدادهم من المصريين معه فيقول: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ غافر:34.
وهل موسى إلا من نسل آل يوسف؟ وهل جاء موسى بغير ما جاء به يوسف ؟!
ثم يسكت لينتظر ردهم، بعد أن لبستهم حال من البلبلة والاضطراب، فكلام الرجل غاية في الإقناع؛ ودارت برءوس القوم عواصف البلبلة والحيرة، فيجد فرعون نفسه في مأزق جديد، فكلام مستشاره – المؤمن – قد لانت له عقول الملأ.
مراوغة مفضوحة
نظر فرعون إلى من حوله من الملأ قاطعاً حالة التفكير التي عمتهم، قائلاً:
في أي شيء تفكرون ؟ ﴿ يا أَيُّهَا الملأ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ﴾ القصص:38، فموسى الذي تدافعون عنه يتحدث عن إله آخر.. فأين هو هذا الإله؟ لو كان في الأرض، فأي أرض هي؟ إنه لا آلهة على الأرض غيري أنا!
أم ترى هو في السماء؟ السماء ليست بعيدة!! ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ﴾ القصص:38، حتى إذا صار حجارة تصلح للبناء ﴿ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ غافر:36.
هزل في هزل، ليس فيه شيء من الجدّ.. إذ كيف يبني «هامان» صرحاً يرتفع به إلى السماء؟ وما المدة التي يستغرقها بناؤه، إن كان ذلك الأمر مستطاعاً من الأساس !!
إنها مماحكات وتعللّات يتعلل بها فرعون، ليخلص من هذا المأزق الذي أوقع فيه نفسه، بإعلان رأيه في قتل موسى والخلاص منه! وما نحسب أن «هامان» بنى هذا الصرح، وإن تلقّى أمر فرعون في حينه بالامتثال والطاعة، فهو لا يملك إلا أن يقول "تمام يافندم" كعادة العسكريين مع قادتهم، حتى وإن كان الأمر خطئاً أو غير جاد! ففي قول فرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» ما يشير إلى أنه لم يكن جادّا فيما يقول، وإنما هي مناورة من مناورات حواره السلبي(1) للخروج من المأزق.. فلقد أصدر حكمه على موسى واتهمه بالكذب قبل أن يتحقق من وجود إلهه؛ فما الداعي إذاً لبناء الصرح ؟!
ولو كان جاداً لصعد الأهرامات(2) لينظر ويطلع – كما أراد – إنما هو الاستهتار من جهة، والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى ﴿ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾ غافر:37.
الكلمة الأخيرة
وأمام هذه المراوغة، وهذا الاستهتار والإصرار على الباطل؛ ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة، ليدعو الملأ بكل وضوح إلى اتباعه في الطريق إلى الله، فهو طريق الرشاد ﴿ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ﴾ غافر:38، ليرد بوضوح وتحدٍ على فرعون الذي قال: «وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ» غافر:29
ثم حاول أن يكشف لهم قيمة هذه الحياة الزائلة في الدنيا، وأن يشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية، ويحذرهم عذاب الآخرة ويبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إليه لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾غافر:43
التدبير لاغتيال المستشار
ثم بعد هذا البيان الواضح الذي واجه به فرعون وملأه بلا تردد ولا تلعثم - بعد ما كان يكتم إيمانه - لا يبقى إلا أن يفوض أمره إلى الله، وقد قال كلمته وأراح ضميره، مهدداً إياهم بأنهم سيذكرون كلمته هذه في موقف لا تنفع فيه الذكرى ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ غافر:44، ثم قام وترك اجتماعهم وانصرف!
فنظر فرعون إلى هامان، نظرة الإذن في التخلص منه؛ فتعقبوه فلم يصلوا إليه ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ غافر:45، فقد فر الرجل إلى الجبال، تاركاً قصره ومكانته الاجتماعية، ووظيفته السيادية، وراء ظهره راغباً في جوار الله، وظل على حالته هذه عدة سنوات – ملاحقاً ومطارداً - حتى أذن الله لموسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر فخرج معهم(1).
ولما كان من الصعب – كما تبين – اغتيال موسى عليه السلام، بدأ فرعون وملؤه يفكرون في القضاء على دعوة موسى ذاتياً، لتدمر الدعوة نفسها بنفسها، وذلك بتفكيك الصف الداخلي لهذه الجماعة المؤمنة، والتشكيك في قائدها وتشويه صورته أمامهم، مستخدمين لتحقيق هذا الهدف أحد أفراد بني إسرائيل؛ وقد كان هذا الرجل ابن عم موسى ومن الفئة القريبة منه يوماً من الأيام
إنه قارون