العظات والعبر من وفاة سيِّد البَشَرِ 1- كفى بالموت عظةً وعبرةً. لقد شاء اللهُ تعالى أنْ يكونَ ...
العظات والعبر من وفاة سيِّد البَشَرِ
1- كفى بالموت عظةً وعبرةً.
لقد شاء اللهُ تعالى أنْ يكونَ الموتُ نهايةَ كُلِّ إنسانٍ مهما طال عمرُهُ، ومهما كان موقعُهُ من الحياة، وتلك سُنَّةُ الحياةِ كما عبر عنها القرآنُ الكريم في قوله تعالى :(وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) الأنبياء: 34-35
وفي قوله تعالى:(إنك ميت وإنهم ميتون) الزمر: 30، فها هو ذا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ خيرُ البشرِ، يموتُ بعد أنْ عانى من سَكَراتِ الموتِ وآلامِ المرضِ...وإذا وعى النَّاسُ هذه الحقيقةَ استشعرُوا معنى العُبُوديةِ والتَّوحيدِ، وخضعُوا للهِ الواحدِ القَهَّارِ، واستعدُّوا للموتِ بالإكثار من العملِ الصَّالحِ، وطاعة الله، وإخلاص العبادة له في كُلِّ مجالٍ من مجالاتِ الحياةِ، لاسيما عبادة الله في تحكيمِ شرعِهِ، والجهاد في سبيل ذلك؛ لأنَّ الله يَزَعُ بالسُّلطانِ ما لا يزعُ بالقرآنِ؛ لأنَّ الله تعالى الذي خلقَ البشرَ خبيرٌ بما يُصلحهم في الدُّنيا والآخرةِ... (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) الملك: 14(1).
2- عبر عن الوفاةِ أبي حامد الغزاليُّ: اعلم أنَّ في رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أسوةً حسنةً حياً وميتاً وفعلاً وقولاً وجميع أحواله عبرةٌ للناظرين، وتبصرةٌ للمستبصرين، إذ لم يكن أحدٌ أكرمَ على اللهِ منه إذ كانَ خليلَ اللهِ وحبيبَهُ ونجيَّهُ، وكان صفيَّهُ ورسولَهُ ونبيَّهُ، فانظر.. هل أمهله ساعةً عند انقضاءِ مُدَّتِهِ؟ وهل أخَّرَهُ لحظةً بعدَ حُضُورِ منيِّتِهِ؟ لا .. بل أرسلَ إليه الملائكةَ الكِرَامَ الموكَّلينَ بقبضِ أرواحِ الأنامِ، فجدُّوا بروحِهِ الزَّكيَّةِ الكريمةِ لينقلُوها، وعالجُوها ليُرَحِّلُوها عن جسدِهِ الطَّاهرِ إلى رحمةٍ ورضوان، وخيرات حسان، بل إلى مقعدِ صدقٍ في جوارِ الرَّحمنِ، فاشتدَّ مع ذلك في النَّزعِ كربُهُ، وظهرَ أنينُهُ، وترادف قلقُهُ وارتفع حَنينُه، وتغيَّرَ لونُهُ وعرق جبينُهُ، واضطربت في الانقباضِ والانبساطِ شمالُهُ ويمينُهُ حَتَّى بكى لمصرعِهِ مَنْ حضرَهُ، وانتحب لشدةِ حالِهِ مَن شهدَ منظرَهُ. فهل رأيتَ منصبَ النبوةِ دَافِعاً عنْهُ مقدوراً؟!وهل راقبَ الملَكُ فيه أهلاً وعشيراً ؟
وهل سَامَحَهُ إذْ كَانَ للحقِّ نَصِيْراً؟ وللخلقِ بَشِيراً ونَذِيْراً؟ هيهاتَ!! بل امتثلَ مَا كانَ بِهِ مأمُوراً، واتَّبعَ ما وجده في اللَّوحِ مَسْطُوراً، فهذا كانَ حالَهُ وهو عند الله ذُو المقامِ المحمودِ، والحوضِ المورودِ، وهو أولُ مَن تنشقُّ عنه الأرضُ، وهو صاحبُ الشَّفاعةِ يومَ العَرْضِ.
فالعجبُ أنا لا نعتبرُ به، ولسنا على ثقةٍ فيما نلقاهُ!! بل نحن أُسراء الشَّهواتِ وقُرَنَاءُ المعاصي والسيئات.
فَمَا بالُنا لا نَتعِظُ بمصرعِ مُحمَّدٍ سَيِّدِ المرسلينَ، وإمامِ المتقينَ، وحَبِيْبِ رَبِّ العالمينَ!!
لعلنا نظنُّ أننا مخلَّدون، أو نتوهَّمُ أنا مع سوءِ أفعالِنا عندَ اللهِ مُكْرَمُون.. هيهاتَ.. هيهاتَ!! بل نتيقن أنا جميعاً على النَّارِ واردون، ثم لا ينجُو منها إلا المتَّقُون، فنحن للورودِ مستيقنون، وللصُّدورِ عنها مُتوهِّمُون، لا.. بل ظلمنا أنفسَنَا إنْ كُنَّا كذلكَ لغالب الظنِّ مُنتظرينَ، فما نحنُ واللهِ من المتقين، وقد قال رَبُّ العالمينَ: (وإنْ منكم إلا واردُها كان على ربِّك حَتْماً مقضياً * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظَّالمينَ جثياً) مريم: 71-72.
فلينظرْ كُلُّ عبدٍ إلى نفسِهِ أنَّهُ إلى الظالمين أقربُ أم إلى المتقين؟ فانظرْ إلى نفسِكَ بعد أن تنظرَ إلى سيرةِ السَّلَفِ الصَّالحينَ، فلقدْ كَانُوا مَعَ مَا وفِّقُوا لَهُ مِنَ الخائفينَ، ثُمَّ انظرْ إلى سَيِّدِ المرسلينَ، فإنَّهُ كانَ مِنْ أمرِهِ عَلَى يقينٍ، إذْ كانَ سَيِّدَ النَّبيِّينَ، وقائدَ المتَّقينَ، واعتبرْ كيفَ كانَ كَرْبُهُ عِنْدَ فِرَاقِ الدُّنيا، وكيفَ اشتدَّ أمرُهُ عندَ الانقلابِ إلى جَنَّةِ المأْوى (2)
كيف تم غسله؟ وهل جرد من ثيابه أم لا؟
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزُّبير، عن أبيه عبّاد، عن عائشة، قالت: "لما أرادوا غَسْل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه. فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله-صلى الله عليه وسلم–من ثيابه كما نُجرد موتانا، أو نغسِّله وعليه ثيابه؟ قالت: فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلّمهم مكلّم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن غسلوا النبيَّ وعليه ثيابه، قالت: فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغسّلوه وعليه قميصه، يصبّون الماء فوق القميص، ويدلكونه والقميص دون أيديهم).
سنن أبي داود في الجنائز (3141) وغيره، وابن هشام (4/313).وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم(2693) (2/607).
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: "اجتمع القومُ لغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في البيت إلا أهله عمه العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وأسامة بن زيد، وصالح مولاه، فلما اجتمعوا لغسله نادى من وراء الناسِ أوس بن خولى الأنصاري، أحد بني عوف بن الخزرج، وكان بدرياً علي بن أبي طالب فقال: يا علي ننشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له علي بن أبي طالب: أدخل فحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلِ من غسله شيئاً، فأسنده عليٌّ إلى صدره، وعليه قميصه وكان العباسُ وفضل وقثم يقلبونه مع عليّ وكان أسامة وصالحٌ مولاه هما يصبان الماء وجعل عليٌ يغسله ولم يرَ من رسول الله-صلى الله عليه وسلم شيءُ مما يرى من الميت، وهو يقول: بأبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً، حتى إذا فرغوا من غسل رسول الله-صلى الله عليه وسلم وكان يغسل بالماء والسدر جففوه ثم صُنع له به ما يصنع بالميت، ثم أدرج في ثلاثة أثواب ثوبين أبيضين، وبردِ حبرة، ثم دعا العباس رجلين فقال ليذهب..".
وروى البيهقي عن عبد الملك بن جُريج قال: "سمعت محمد بن علي أبا جعفر قال: غُسل النبي صلى الله عليه وسلم بالسدر ثلاثاً أو غُسل وعليه قميص وغُسل من بئرٍ، يقال لها الغرس بقباء، كانت لسعد بن خيثمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب منها، وولى غسله علي، والفضل يحتضنه، والعباس يصبُّ الماء فجعل الفضل يقول: أرحني قطعت وتيني، إني لأجد شيئاً يترطل عليَّ أي يتلين عليّ). "ذهول العقول" (49).
وقال سيف بن عمر عن ابن عباس قال: لمّا فُرغ من القبر وصلّى الناسُ الظهر أخذ العباس في غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فضرب عليه كلةً من ثياب يمانية صفاقٍ في جوف البيت، فدخل الكلَّة ودعا علياً والفضل فكان إذا ذهب إلى الماء ليعُاطيها دعا أبا سفيان بن الحارث فأدخله، ورجالُ من بني هاشم من وراء الكلَّة ومن أدخل من الأنصار حيث ناشدوا أبي وسألوه، منهم أوس بن خولى-رضي الله عنهم أجمعين- ثم قال: سيف عن ابن عباس، فذكر ضرب الكلَّة، وأن العباسَ أدخل فيها علياً والفضل وأبا سفيان بن الحارث، وأسامة ورجال من بني هاشم من وراء الكلة في المبيت فذكر أنهم ألقى عليهم النعاس فسمعوا قائلاً يقول: لا تغسلوا رسول الله-صلى الله عليه وسلم– فإنه كان طاهراً. فقال العباس: إلا، بلى وقال أهلُ البيت: صدقَ، فلا تغسلوه، فقال العباس: لا ندع سنة لصوتٍ لا ندري ما هو وغشيهم النعاس ثانيةً فناداهم: أن غسلوه وعليه ثيابهُ، فقال أهلُ البيت: ألا لا. وقال العباس: ألا نعم، فشرعوا في غسله، وعليه قميص، ومجولٌ مفتوح – أي صدرية- فغسلوه بالماء القُراح، وطيبوه بالكافور في مواضع سجوده ومفاصله واعتَصر قميصه ومجوله، ثم أدرج في أكفانه، وجمروه عوداً ونداً ثم حملوه حتى وضعوه على سريره وسبحوه وهذا السياق فيه غرابة جداً.
( ذهول العقول:50)
وغسل صلى الله عليه وسلم ثلاث غسلات الأولى بالماء القراح أي الخالص م يخالطه كافور ولا حنوط ولا غير ذلك. والثاني: بالماء والسدر. والثالثة: بالماء والكافور.
قال صاحب كتاب ذهول العقول بوفاة الرسول:
وقد كان العباسُ حين دخل الكلة للغسل قعد متربعاً وأقعد علياً متربعاً متواجهين وأقعد النبي صلى الله عليه وسلم على حجورهما فنودوا أن أضجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهره، ثم اغسلوا واستروا فثاروا عن الصفيح وأضجعاه، فقربا رجل الصفيح وشرقا رأسه، ثم أخذوا في غسله وعليه قميصه ومجوله مفتوحُ الشق ولم يغسلوه إلاّ بالماء القُراح وطيبوه بالكافور، ثم اعتُصر قميصه ومجوله، وحنطوا مساجده ومفاصله ووضؤوا منه وجهه وذراعيْه وكفيه، ثم أدرجوا أكفانه على قميصه، وجمّروه عوداً ونداً ثم احتملوه حتى وضعوه على سريره وسبَّحوه).
راجع: "ذهول العقول" (143-144).
هل جُرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه:
روى ابن سعدٍ عن عليّ، وأبو داودَ ومسدد، وأبو نعيم وابن حبَّان والحاكم والبيهقي وصححه الذهبي عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: "لمَّا أرادوا غَسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه، فقالوا: والله ما ندري كيف نصنع أنجردُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم–ثيابه كما نجردُ موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجُل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن غسلوا رسول الله-صلى الله عليه وسلم– وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم–وعليه قميصه فغسلوه يفاض عليه الماء والسدر فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم (فكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه). أخرجه الحاكم (3/59) والبيهقي في الدلائل (7/242).
وروى ابن ماجه عن بريدة-رضي الله عنه– قال: (لمّا أخذوا في غُسل سول الله-صلى الله عليه وسلم – ناداهم منادٍ من الداخل أن لا تنزعوا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – قميصه). ابن ماجه (1466). وضعفه البوصيري في الزوائد. وقال عنه الألباني منكر "راجع ضعيف ابن ماجه للألباني (316).
وقال الصنعاني في خلاف الصحابة حول غسله-صلى الله عليه وسلم -: (وفي هذه القصة دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم – ليس كغيره من الموتى). راجع:" سبل السلام" (2/93) ا. هـ
وذلك؛ لأنه لم يُجرد من ثيابه كما يفعل بغيره من الموتى. قال ابن الأثير: "وفي صفته-عليه السلام-أنه كان: (أنور المتجرد) أي ما جُرد عنه الثياب من جسده وكشف." النهاية (1/256) ا. هـ.
راجع: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم – ووفاته أثر ذلك على الأمة (خالد أبو صالح) (139).
- من تولى غسله:
قال ابن إسحاق: فلما بويع أبو بكر-رضي الله عنه-، أقبل الناس على جهاز رسول الله-صلى الله عليه وسلم – يوم الثلاثاء، فحدثني عبد الله بن أبي بكر وحسين بن عبد الله وغيرهما من أصحابنا: أن عليّ بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وقُثَم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشُقران مولى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، هم الذين ولوا غسله، وأنّ أوس بن خولي أحد بني عوف بن الخزرج، قال لعليّ بن أبي طالب: أنشدك الله يا عليّ وحظنا من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وكان أوس من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم– وأهل بدر، قال: ادخل، فدخل فجلس، وحضر غسْل رسول الله-صلى الله عليه وسلم -، فأسنده عليّ بن أبي طالب إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة بن زيد وشُقران مولاه، هما اللذان يصبان الماء عليه وعليُّ يغسله قد أسنده على صدره، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه، لا يُفضي بيده إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم – وعلي يقول: بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حيّاً وميتاً، ولم يُرَ من رسول الله-صلى الله عليه وسلم – شيء مما يُرى من الميت). تاريخ الطبري (3/211، 292) وطبقات ابن سعد (2/277) وله شاهد في سنن ابن ماجه في كتاب الجنائز (2467). باب ما جاء في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وروى ابن سعد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصحّحه عن علي - رضي الله عنه – قال: غسلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئاً، وكان طيباً حيَّاً وميتاً، وولي دفْنه وإخباءه دون الناس أربعة علي والعباس والفضل، وصالح مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ولحد رسول الله لحداً ونُصب عليه اللبن نصباً) البيهقي في الدلائل (7/244) وابن سعد (2/214).
وروى ابن سَعْد عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: غَسَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – عليُّ والفضلُ، وأسامةُ بن زيد وشقران، وولي غسل سفلته عليّ والفضل محتضنُه، وكان العباس وأسامة بن زيد وشقران يصبُّون الماء. أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/213).
كيفية غَسْله:
روى ابن سعدٍ عن عليِّ، وأبو داود ومسدّدُ، وأبو نعيم، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي وصححه الذهبي عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: لمَّا أرادُوا غَسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – اختلفوا فيه، فقالوا: والله ما ندري كيف نصنعُ أنجردُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم– ثيابه كما نجرد موتانا، أم نُغسله وعليه ثيابُه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قميصه فغسلوه يفاض عليه الماء والسدر فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديمهم (فكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلاّ نساؤه). رواه الحاكم (3/59) والبيهقي في الدلائل (7/242).
وعن ابن عباس-رضي الله عنه– قال: لمَّا مات رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: اختلف الذين يُغسلونه فسمعوا قائلاً يقول: لا يدرون من هو: اغسلوا نبيكم وعليه قميصُه، فغُسِّل رسول الله-صلى الله عليه وسلم – في قميصه، وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ ما غسَّلَ رسول الله-صلى الله عليه وسلم – إلا نساؤه). أخرجه أبو داود (2/214) (3141)، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عليُّ: فما تناولت عضواً إلا كأنما يقلّبه معي ثلاثون رجلاً حتى فرغتُ من غسله). البيهقي (7/244) وابن سعد (2/213).
وروى ابن سعد عن عبد الله بن الحارث: أن عليّاً غسَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فجعل يقول: "طبت حياً وميتاً، وقال: وسطعتْ ريحٌ طيبة لم يجدوا مثلها قطّ". ابن سعد (2/214-215).
وروى البيهقي عن عبد الملك بن جُريج قال: سمعت محمدَ بن علي أبا جعفر قال: غُسِلَ النبي صلى الله عليه وسلم بالسدر ثلاثاً، أو غُسل وعليه قميص وغسل من بئرٍ، يقال لها: الغرس، بقُباء كانت لسعيد بن خيثمة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يشرب منها، وولي غسله علي والفضل يحتضنه، والعباس يصبّ الماء فجعل الفضلُ يقول: أرخي قطعت وتيني، إني لأجد شيئاً يترطَّل عليّ أي يتلين علي. ( ذهول العقول: 49).
وقال الواقدي: عن عمر بن عبد الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمَ البئرُ بئرُ غرس هي من عيون الجنة، وماؤها أطيب المياه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعذب له منها، وغُسل من بئر غرسٍ. المرجع السابق (50).
وروى ابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا أنا متُّ فاغسلوني بسبع قربٍ من بئر غرس). سنن ابن ماجه رقم (1468)، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الواحد بن أبي عوانٍ قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم– لعلي: (اغسلني إذا متُّ) فقال: يا رسول الله، ما غسُّلتُ ميتاً قط! قال: إنك ستهيأْ أو تُيسرُ، قال علي: فغسلته مما آخذُ عضواً إلا تبعني، والفضلُ آخذٌ بحضنه يقول: أعجل يا عليٌ، انقطع ظهري). أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/215).
وروى الإمام أحمد عن ابن عبَّاس-رضي الله عنه – قال: اجتمع القوم لغُسل رسول الله-صلى الله عليه وسلم–وليس في البيت إلا أهله عمه العباس بن عبد المطلب، وعليُّ بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقُتم بن عبَّاس، وأسامة بن زيد بن حارثة، وصالح مولاه فلَّما اجتمعوا لغسله نادى مناد من وراء الناس،: وهو أوس بن خولي الأنصاري أحد بني عوف بن الخزرج، وكان بدرياً على علي بن أبي طالب فقال: يا علي أنشدك الله وحظنا من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فقال له علي: ادخل، فدخل فحضر غسلَ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ولم يل من غسله شيئاً فأسنده عليّ إلى صدره، وعليه قميصه، وكان العباس، والفضل وقثم يقلبونه مع علي وكان أسامة بن زيد، وصالح مولاه يصبان الماءَ، وجعل عليَّ يغسله ولم ير من رسول الله-صلى الله عليه وسلم–شيئاً مما يرى من الميت وهو يقول: بأبي وأمي ما أطيبك حيَّاً وميتاً، حتى إذا فرغوا من رسول الله-صلى الله عليه وسلم – وكان يُغسَّل بالماء والسدر جففوه ثم صنع به ما يُصنع بالميت.
وقال ابن دحية: لم يختلف في أن الذين غسلوه-صلى الله عليه وسلم-: علي، والفضل، واختلف في العباس، وأسامة، وقثم، وشقران) نيل الأوطار (4/66).
وقال المقدسي: وغسَّله علي بن أبي طالب، وعمه العباس، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولياه، وحضرهم أوس بن خولي الأنصار).
راجع: مختصر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم للمقدسي (37).
قال الشوكاني معلقاً على قول عائشة-رضي الله عنها-: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه). قيل: فيه متمسك لمذهب الجمهور–يعني بجواز غسل الزوجة لزوجها الميت- ولكنه لا يُدل على عدم جواز الجنس لجنسه، مع وجود الزوجة، ولا على أنها أولى من الرجال؛ لأنه قول صحابية ولا حجة فيه، وقد تولى غسله-صلى الله عليه وسلم – علي، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد يناول الماء، والعباس واقف، ولم ينقل إلينا أحداً من الصحابة أنكر ذلك فكان إجماعاً منهم) نيل الأوطار (4/66).
رثاء حسان بن ثابت لنبي صلى الله عليه وسلم
بطيبةَ(1) رسمٌ(2) للرسول ومعهــــــــــدٌ***** منيــــر وقــد تعفــــو(3) الرســـومُ وتهمـد(4)
ولا تمتــحى الآيــــات مــن دار حُرْمـــةٍ ***** بــــها منـبـــرُ الهــــادي الـذي كــان يصـعـــدُ
وواضـــــحُ آثــــارٍ وباقـــي معــــــــالــمٍ ***** وربْـــــعٌ لــــه فيــــه مصلـــى ومسـجـــــــدُ
بها حجُرات(5) كــان ينــــزلُ وسطـــــها ***** مــــــن الله نـــــورٌ يُسْتــــضاءُ ويـــوقــــــــدُ
معـارف لم تُطمــــس على العهــــدِ آيُــها ***** أتـــــاها البـلــــــــى فـــالآي منــــها تجـــــدَّدُ
عرفـــتُ بهـــا رسْـــمَ الرَّسُــول وعهــده ***** وقبـــــراً بــها واراه فـــــي التــــُرْبِ مُلحِـــدُ
ظللـتُ بها أبكـــي الرَّسُـــول فأسعـــــدت ***** عيــــــونٌ ومثـــــلاها مــــن الجفـــــن تُسعـدُ
يُذَكِّـرْنَ آلاءَ(6) الرَّسُـــــول ومـــــا أرى ***** لها مُحْصيـــاً نفســــي فنفســـــي تَبَلّــــَـــدُ(7)
مُفَجَّعَةً قــد شفَّـــــها(8) فقــــــدُ أحمـــــد ***** فظلــــــَّت لآلاءِ الـرَّسُــــــــــول تُعـــــــــــدِّدُ
وما بلغــــت من كلِّ أمــــر عَشِيــــرَهُ(9) **** ولكــن لنفســــي بَعْـــدُ ما قـــد توجَّـــــدُ(10)
أطالت وقوفا تذرفُ(11) العين جهــدها **** علـــــى طـــــللِ(12) القبر الذي فيه أحمـــــدُ
فبوركــتَ يا قبــــرَ الرَّسُـــول وبوركــتْ **** بـــلادٌ ثـــوى فيـــــها الـرشيـــــــدُ المســــدَّدُ
وبـــورك لحــدٌ منـــك ضَمّـــَنَ طيِّـــــبــاً ***** عليـــــه بنــاءٌ مــن صفيـــحٍ(13) مُنَضَّـدُ(14)
تهيلُ (15) عليه التربَ أيـــدٍ وأعيــــــنٌ ***** عليـــــــه وقــــد غـــــارت بــــذلك أسعــــــدُ
لقد غيَّبـــوا حِلمْـــاً وعلمــــاً ورحمــــــة ***** عشيـــــةَ عَلّــــــــوهُ الثـــــــرى لا يوسّـــــــَدُ
وراحوا بحــــزنٍ ليــــس فيهــــم نبيُّهــــم**** وقــــــد وهنـــــت منهــــــم ظهـــورٌ وأعضدُ
يُبكَّون من تبـــكي السمــــــاوات يومــــه ***** ومن قد بكتــْه الأرضُ فالنـــاس أكْمـــــَدُ(16)
وهل عدلـــــــت يومـــــاً رزيـــةُ هـــالكٍ ***** رزيــــة يــــــــومٍ مــــات فيـــــــه محـمـــــدُ
تقطَّــع فيــــه منــــزلُ الوحــــي عنهــــم ***** وقد كان ذا نـورٍ يغـــورُ(17) ويُنْجــــــدُ(18)
يدلّ على الرحمـــن من يقتــــــدي بــــــه ***** وينقـــــــذ من هـــــولِ الخــــزايا ويُرشــــــدُ
إمـــامٌ لهــــم يهديهــم الحــقَّ جـــــــاهـداً***** معـلّــــــــِمُ صــــدقٍ إن يُطيعـــوه يَسعــــــَدوا
عفـــوٌ عــن الـزلات يقبـــــَلُ عـــــُذْرَهـم ***** وإن يحسنـــــــوا فـــالله بالخيـــــر أجـــــــودُ
وإن ناب أمـــــرٌ لـم يقـومـــــوا بحمــــلِه **** فمــــن عنـــــــده تيسيــــــــــرُ مــا يتشــــــدَّدُ
فبينا هُـــــمُ فــــــي نعمـــــــةِ الله بينهــــم ***** دليــلٌ بــه نهــــجُ(19) الطريقــــة يُقصَـــــــدُ
عزيزٌ عليه أن يجـــوروا عن الهـــــــدى ***** حـــريـــــصٌ علــــى أن يستقيمــوا ويهتــدوا
عطوف عليهــــــــم لا يُثَنّــــِي جنـــــاحه ***** إلــــى كنـــفٍ(20) يحنـــــو عليهــم ويمهــــد
فبينا هُمُ فـــــي ذلك النـــــــــورِ إذ غـــدا ***** إلــى نــــورهـــم سهمٌ من الموت(21) مقصد
فأصبحَ محمــــوداً إلــــى الله راجـعــــــاً ***** يُبَكِّيــه حَتَّـــى المـــرســلات(22) ويحمــــــدُ
وأمست بلاد الحُرْمِ(23) وحشــاً بقاعُــها ***** لغيبــــة مـا كانــــت مـن الوحــــي تعهـــــــدُ
قفاراً سوى معمورةِ اللحدِ ضـافـــها(24) ***** فقيــــدٌ يُبَكِّينـــه بــــــــلاطٌ(25) وغــرقـــــــدُ
ومسجــــــدُه فـالمـوحشـــــاتُ لفـقــــــده ***** خـــــــــلاءٌ لـــــه فيـــــه مقــــــامٌ ومقعــــــدُ
وبالجمــــرةِ الكبــــرى لــه ثمَّ أوحشـــت ***** ديــــــــــارٌ وعَـرْصــــاتٌ وربــــع ومـــولــدُ
فَبَكِّــــى رســـــول اللهِ يا عيــــنُ عــــبرةً ***** ولا أعرفنْــــكِ الـدهـــــــرَ دمعــــُك يجمـــــدُ
وما لك لا تبكيـــــن ذا النعــــمة التــــــي ***** على النـــاس منها سابــــغٌ(26) يُتَغَمّــــَدُ(27)
فجــــــودي علــــيه بالدمــــوعِ وأعْوِلـي ***** لفقـــــدِ الــذي لا مثــــله الـدهــــــرَ يـوجَــــدُ
وما فتتقد المــاضـــــون مـــــثل محمــــد ****** ولا مثـــــله حَتـــــَّى القيـــــــامة يُفقـــــــــــدُ
أعـــــفَّ وأوفـــى ذمـــة بعـــــــد ذمــــةٍ ***** وأقـــــــربَ منــــــــه نائــــــلاً لا يُنَـكَّــــــــدُ
وأبذلَ منه للطريفِ(28) وتـــالــــــدٍ(29 ****** إذ ضنَّ(30) معطـــاءٌ بمــــا كـان يُتْــلــَدُ(31)
وأكرم صيتاً(32) في البيوت إذا انتـمـــى****** وأكـــــرم جَــــــدّاً أبطحيّـــاً(33) يسَـــــــــوَّد
وأمنــــعَ ذِروات(34) وأثبـت في العـــلا ***** دعائــــــم عِــــزٍّ شــاهقــات(35) تُشيّــــــــــَدُ
وأثبت فـــرعاً في الفـــــروع ومنبتـــــــاً ***** وعوداً غذَاه المزن(36) فالعودُ أغيَـــــــدُ(37)
ربـــــــاه وليـــــــــداً فاستتــــمَّ تمـامـــــُه ***** علـــــى أكـــــرم الخيــــرات ربٌّ ممجّـــــــَدُ
تناهـــــت وصــــاةُ المسـلمــــين بـــكفــِّه ***** فــلا العلـــم محبــوس ولا الرأي يُفْنــــدُ(38)
أقـــول ولا يُلقـــَى لقـولــــي عائــــــــبٌ ***** من النـاسِ إلا عــازبُ العقــل(39) مُبْعَـــــــدُ
ولـيــــــس هــــوايَ نـــازعاً عن ثنـــــائه***** لعلــــِّي بـــه فــي جنـــةِ الخــــلـدِ أخـلـــــــدُ
مع المصطفــى أرجـــو بـــذاك جـــواره ***** وفـــي نيـلِ ذاك اليـوم أسعى وأجهــــــد(40)
وقال حسانُ-أيضاً- يبكي رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-:
مـا بــالُ عينــك لا تنـــامُ كــأنـــها ****** كُحِلتْ مآقيها(41) بكُحْلِ الأرمـَدِ(42)
جزعاً على المهديِّ أصبح ثاويــــاً ****** يا خير من وطئ الحَصَى لا تبعـــــــد
وجهي يقيك التربَ لهفي ليتنـــــي ****** غُيِّبْتُ قبلك في بقيــع الغـرقـــــدِ(43)
بأبي وأمي من شهــــدتُ وفاتــــه ****** في يوم الاثنين النَّبـــيّ المهتـــــــــدي
فظللتُ بعـــــد وفاتـــه متبــــــلـداً ****** مُتَلدَّداً(44) يا ليتنـــــي لـم أولـــــــــد
أأُقيــم بعــــــدك بالمدينــــةِ بيهـــم ****** ياليتني صُبَّحتُ(45) سَمَّ الأسـودِ(46)
أو حــلَّ أمــرُ الله فينـــا عاجــــلاً ****** في روحةٍ من يومنــــا أو مـــن غـــدِ
فتقــومُ ساعتُنــا فتلقـــــى طيِّبـــــاً ****** محضاً ضرائبه(47)كريم المَحتدِ(48)
يا بكـــــر آمنـــةَ المبــارك بكرُها ****** ولدته مُحصَنَــةً بسَعْــــدِ الأسعــــــــُدِ
نوراً أضاء علــى البريـــةِ كلّـــِها ****** من يُهْد للنــــور المبــــارك يهتـــــدي
يــا ربُّ فاجمعنــا معـــــاً ونبيّنـــا ****** في جنة تُثني عيـــــون الحُسّــــَدِ(49)
في جنةِ الفـردوسِ فاكتبـــها لنــــا ****** ياذا الجلال وذا العــــلا والسُّــــــؤددِ
والله أسمـــــع ما بقيـــت بهــــالكٍ ****** إلا بكيـتُ علــــى النَّبــــيّ محمـــــــدِ
يا ويح أنصار النَّبــــيّ ورهطــــه ******* بعد المغيــــب في ســواءِ المَلْحدِ(50)
ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحـوا *******سوداً وجوههم كلـــــونِ الإثمـــدِ(51)
ولقـد ولدنـــاه(52) وفينــــا قبــرُه ******* وفضـــولُ نعمتــــه بنـــا لم نجْحـــــدِ
والله أكـرمنـــا بـه وهــــدى بــــه ******* أنصــاره فــي كـل ســاعة مشهـــــــدِ
صلى الإله ومن يحفُّ بعــرشِــــه ******* والطيبون على المبـــــارك أحمـــــــدِ
وقال حسانُ-أيضاً-رَضِيَ اللُه عَنْهُ:
نبِّ المساكيـن أن الخير فارقهم ******مــع النَّبـيّ تولّى عنهم سَحَـــراً
كان الضيــاءَ وكان النورَ نتبَعه****** بعد الإله وكان السمعَ والبصرا
فليتنا يــــوم وارَوه بملحــــــده****** وغيَّبوه وألقَـوْا فوقـه المَــــدَرا
لم يترك الله منــا بعــده أحـــداً ****** ولم يَعِشْ بعـده أُنثـى ولا ذكـرا
ذلت رقابُ بنيِ النجَّــارِ كلِّهــمِ ****** وكان أمراً من أمر الله قد قُـدِرا
وقال حسانُ–أيضاً-:
تالله ما حملت أنثــى ولا وضــــعت ****** مثــلَ الرَّسُــــول نبــيِّ الأمــةِ الهـــادي
ولا بــرى الله خلقـــاً مــن بريتـــــه ****** أوفــى بذمـــة جــــارٍ أو بميـعــــــــــادِ
مــــن الــذي كان فينـا يُستضــاءُ بـه ****** مبـــارك الأمــر ذا عـــدلٍ وإرشـــــــادِ
أمسى نسـاؤك عطَّلـْن البيـوت فمـــا ****** يضربن فــوق قفـــــــا سِتــْرٍ بأوتـــــارِ
مثل الرواهب يَلْبَسْنَ المباذل(53) قد ****** أيقنَّ بالبؤس بعـــد النعمــةِ البـــــــــادي
يا أفضـــل الناسِ إني كنتُ في نَهـَرٍ ****** أصبحتُ منه كمثل المفرد الصادي(54)
بعض أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم في مرضه
مسارة النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: اجتمع نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنده، لم يغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشي لا تخطئ مشيتها مشية أبيها فقال: مرحباً بابنتي، فأقعدها يمينه أو شماله، ثم سارّها بشيء فبكت، ثم سارَّها فضحكت، فقلت لها: خَصّك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسِّرار وأنت تبكين؟! فلما أن قامت قلت: أخبريني ما سارّك؟ فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما توفي قلت لها: أسألك لما لي عليك من الحق لما أخبرتيني، قالت: أما الآن فنعم، قالت: سارّني في الأول قال لي: (إن جبريل كان يعارضني في القرآن كل سنة مرة، وقد عارضني في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي، فاتقي الله واصبري، فنعم السلف أنا لك) فبكيت، ثم سارّني فقال: (أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)؟ فضحكت(1).
وفي رواية لمسلم: (وأنك أول أهلي لحوقاً بي)مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل فاطمة بنت النبي (4/1905) رقم (2450).
هلموا أكتب لكم كتاباً:
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: لما حُضِر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي البيت رجال منهم عمر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هلُمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده)، فقال عمر: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي -صلى الله عليه وسلم- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قوموا قال عبيد الله: فكان بن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(2).
تصدق النبي صلى الله عليه وسلم بما عنده:
روى ابن سعد في الطبقات عن سهل بن سعد قال كانت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعة دنانير وضعها عند عائشة فلما كان في مرضه قال: (يا عائشة ابعثي بالذهب إلى علي)، ثم أُغمي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشغل عائشة ما به حتى قال ذلك ثلاث مرات كل ذلك يغمى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويشغل عائشة ما به فبعثت يعني به إلى علي فتصدق به ثم أمسى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإثنين في جديد(3) الموت فأرسلت عائشة إلى امرأة من النساء بمصباحها فقالت: أقطري لنا في مصباحنا من عُكَّتك(4) السَّمن فإن رسول الله أمسى في جديد الموت(5).
أثر السم الذي أكله في خيبر:
قالت عائشة -رضي الله عنها- كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه الذي مات فيه: (يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوانُ وجَدْتُ انقطاع أبهَري(6) من ذلك السُّم)(7).
هل مات النبي -صلى الله عليه وسلم- شهيداً؟
قال بعض العلماء: إن الله -عز وجل- جمع لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بين النبوة والشهادة، فقد خرَّج الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: لأن أحلف بالله تسعاً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قُتل قتلاً أحب إليَّ من أن أحلف واحدة، وذلك بأن الله -عز وجل- اتخذه نبياً وجعله شهيداً. مسند أحمد (5/220) رقم (3617) و(5/334) رقم (3873) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/34) وفيه زيادة: (أنه لم يقتل) بعد قوله: (واحدة) وقال الهيثمي: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح)، ورواه أيضاً الحاكم في مستدركه (3/58) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
ويقول ابن ناصر الدمشقي رحمه الله في كتابه "سلوة الكئيب بوفاة الحبيب" ص (110): ولقد حصلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- الشهادة، وهي على ما أكرمه الله تعالى زيادة.
آخر وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم-:
لقد ازدادت شدة المرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بحيث كان يغمى عليه في اليوم الواحد مرات عديدة، ومع ذلك كله أحب -صلى الله عليه وسلم- أن يفارق الدنيا وهو مطمئن على أمته أن لا تضل من بعده، فأراد أن يكتب لهم كتاباً مفصلاً ليجتمعوا عليه ولا يتنازعوا، فلما اختلفوا عنده -صلى الله عليه وسلم- عدل عن كتابة ذلك الكتاب وأوصاهم بأمر ثلاث ذكر الراوي منها اثنتين:
عن بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى عند موته بثلاث: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) ونسيت الثالثة(8).
* ومن وصاياه -صلى الله عليه وسلم- وهو يعاني سكرات الموت ما روته عائشة وابن عباس -رضي الله عنهما- قالا: لما نُزِل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذِّرُ مثل ما صنعوا(9).
* وروى الأمام مالك عن عمر بن عبد العزيز قال: كان من آخر ما تكلم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب)(10).
* وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن)(11).
* وعن أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين حضره الموت: (الصلاة وما ملكت أيمانكم)، حتى جعل يغرغر بها في صدره، ولا يفيض بها لسانه(12).
* وعن ابن عباس قال: كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السَّتر، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- معصوبٌ في مرضه الذي مات فيه، فقال: (اللهم بلغت) ثلاث مرات؛ (إنه لم يبق من مبشرَّات النبوة إلا الرؤيا، يراها المسلم أو تُرى له ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن ركعاً أو ساجداً؛ فإما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ(13) أن يستجاب لكم)(14).
الساعات الأخيرة من حياة المصطفى:
كان أبو بكر يصلي بالمسلمين، حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف في صلاة الفجر، كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجر، ينظر إلى المسلمين وهم وقوف أمام ربهم، ورأى كيف أثمر غرس دعوته وجهاده، وكيف نشأت أمة تحافظ على الصلاة، وتواظب عليها بحضرة نبيها وغيبته، وقد قرت عينه بهذا المنظر البهيج، وبهذا النجاح الذي لم يقدر لنبي أو داعٍ قبله، واطمأن أن صلة هذه الأمة بهذا الدين وعبادة الله تعالى، صلة دائمة، لا تقطعها وفاة نبيها، فملئ من السرور ما الله به عليم، واستنار وجهه وهو منير(15)، قال أنس بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه-: إن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر فتوفي من يومه (16).
ولما رأى الصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وما به من خفة انصرف بعض الصحابة إلى أعمالهم، ودخل أبو بكر على ابنته عائشة وقال: ما أرى رسول الله إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة –إحدى زوجتيه- وكانت تسكن بالسُّنح(17)، فركب على فرسه وذهب إلى منزله(18).
في الرفيق الأعلى:
واشتدت سكرات الموت بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ودخل عليه أسامة بن زيد وقد صمت فلا يقدر على الكلام، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة، فعرف أنه يدعوا له(19)، وأخذت السيدة عائشة رسول الله وأوسدته إلى صدرها بين سحرها(20) ونحرها، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر أليه، فقالت عائشة: آخذه لك، فأشار برأسه نعم، فأخذته من أخيها ثم مضغته ولينته وناولته إياه فاستاك به كأحسن ما يكون الاستياك وكل ذلك وهو لا ينفك عن قوله: (في الرفيق الأعلى)(21).
إن للموت سكرات:
وكان بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- رَكْوَة (22) أو عُلبة(23) فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء، فمسح بها وجهه ويقول: (لا إله إلا الله... إن للموت سكرات)، ثم نصب يده فجعل يقول: (في الرفيق الأعلى)، حتى قُبضَ ومالت يده.(24) وفي لفظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (اللهم أعني على سكرات الموت)(25).
وفي رواية: أن عائشة -رضي الله عنها- سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند ظهره يقول: (اللهم اغفر لي، وارحمني وألحقني بالرفيق)(26).
وقد ورد أن فاطمة -رضي الله عنها- قالت: وا كرب أباه، فقال لها: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم)، فلما مات قالت: يا أبتاه ... أجاب رباً دعاه، يا أبتاه.. جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه... إلى جبريل ننعاه، فلما دفن -صلى الله عليه وسلم- قالت لأنس كيف طابت أنفسكم أن تحثو على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراب(27).
مدة مرضه صلى الله عليه وسلم:
قال ابن حجر: "اختُلف أيضاً في مدة مرضه عليه السلام، فالأكثر على أنها ثلاثة عشر يوماً، وقيل بزيادة يوم وقيل بنقصه... وقيل: عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح". فتح الباري (7/736).
كيف فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا؟
فارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب، ويرهبه ملوك الدنيا ويفديه أصحابُه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم، وما ترك عند موته ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا أمة، ولا شيئاً، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة(28).
وتوفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير (29)
وكان ذلك يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11 للهجرة بعد الزوال(30) وله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث وستون سنة(31)، وكان أشد الأيام سواداً ووحشة ومصابا على المسلمين، ومحنة كبرى للبشرية، كما كان يوم ولادته أسعد يوم طلعت فيه الشمس(32).
يقول أنس -رضي الله عنه-: كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء(33)، وبكت أم أيمن فقيل لها: ما يبكيك على النبي، قالت: إني قد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيموت، ولكن إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا(34).
هول الفاجعة وموقف أبي بكر منها:
قال الحافظ ابن رجب: ولما توفي -صلى الله عليه وسلم- اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من اعتُقِل لسانه فلم يُطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية(35).
وقال القرطبي مبيناً عظم هذه المصيبة وما ترتب عليها من أمور:
من أعظم المصائب المصيبة في الدين.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها أعظم المصائب(36)، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه (37)
لقد أذهل نبأ الوفاة عمر -رضي الله عنه- فصار يتوعد وينذر من يزعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات ويقول: ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فيلقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات(38).
ولما سمع أبو بكر الخبر أقبل على فرس من مسكنه بالسُّنح، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلّم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مُغشّى بثوب حِبَرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليه موتتين، أما الموتة التي عليك فقد متها(39)، وخرج أبو بكر وعمر يتكلم فقال: اجلس يا عمر، وهو ماض في كلامه، وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكر في الناس خطيباً بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أما بعد: فإن من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) آل عمران: 144.
قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات(40).
قال القرطبي: هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة والجرأة جدُّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي -صلى الله عليه وسلم- فظهرت شجاعته وعلمه، قال الناس: لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر، فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُّنح(41).
فرحم الله الصدِّيق الأكبر، كم من مصيبة درأها عن الأمة، وكم من فتنة كان المخرج على يديه، وكم من مشكلة ومعضلة كشفها بشهب الأدلة من القرآن والسنة، التي خفيت على مثل عمر -رضي الله عنه-، فاعرفوا للصديق حقه، واقدروا له قدره. وأحبوا حبيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحبه إيمان وبغضه نفاق(42).
بيعة أبي بكر الصديق بالخلافة:
وبايع المسلمون أبا بكر بالخلافة، في سقيفة بني ساعدة، حتى لا يجد الشيطان سبيلاً إلى تفريق كلمتهم، وتمزيق شملهم، ولا تلعب الأهواء بقلوبهم، وليفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا وكلمة المسلمين واحدة، وشملهم منتظم، وعليهم أمير يتولى أمورهم، ومنها تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه(43).
الذين قاموا بدفنه صلى الله عليه وسلم
روى أبو يعلى وابن ماجة عن ابن عبَّاس – رضي الله تعالى عنهما – قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول - صلى الله عليه وسلم – دعا العبَّاس رجُلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عُبَيْدة بن الجَّراح وكان يضرحُ لأهل مكة، وقال لآخر: (اذهب إلى أبي طلحة، وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة، وكان يُلحد فقالوا: اللهم خِرْ لرسولك، فوجدوا أبا طلحة فجيء به ولم يوجَدْ أبو عبيدة فلحد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم– ثم دُفن رسول الله-صلى الله عليه وسلم – وسط اللَّيل من ليلة الأربعاء ونزل في حُفرته عليُّ بنُ أبي طالبٍ والفضل، وقُثم بن عبَّاس، وشُقران مولى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وقال أوس ابن خولي وهو أبو ليلى لعلي بن أبي طالب: أنشدك الله، وحظُّنا من رسول الله-صلى الله عليه وسلم– فقال له علي: انزلْ، وكان شُقران مولاهُ أخذ قطيفة حمراءَ كان سول الله-صلى الله عليه وسلم – يلبسُها فدفنها في القبر وقال: واللهُ، لا يلبسهاُ أحد بعدك أبداً فدُفنت مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم –". البيهقي في الدلائل( 7/252).
وروى ابن سعد عن أبي طلحة - رضي الله عنه – نحوه). ابن سعد (2/228).
وروى "الإمام الشافعي"-رضي الله عنه – قال: سُل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – من قبل رأسه). والبيهقي في السنن الكبرى (4/54).
وعن ابن عباس-رضي الله عنه– قال:( وضُع تحت رسول الله-صلى الله عليه وسلم – في قبره قطيفة حمراء). صحيح مسلم (2/665) رقم( 967)، كتاب الجنائز ، باب جعل القطيفة في القبر.
وعن جابر-رضي الله عنه– قال:(رُشَّ على قَبْرِ رسول الله-صلى الله عليه وسلم–الماءُ، قال: وكان الذي رَشَّ على قبره المَاءَ بلال بنْ رباح بقربه، بدءاً من قبل رأسه من شقه الأيمن حتى انتهى إلى رجليه، ثم ضرب الماء على الجدار، ولم يقدر على أن يدور من الجدار). ابن سعد في الطبقات (2/233)، والبيهقي في الدلائل (7/264).
وروى مسدد بسند صحيح عن علي-رضي الله عنه–وأجنانه دون الناس أربعة: علي بن أبي طالب، والعبَّاس، والفضل بن العباس، وصالح مولى رسول الله-صلى الله عليه وسلم – (ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ألحدَ ونصب عليه اللبن نصباً) صحيح ابن حبان (14/602).
قال الشعبي وأخبرني مرحب أو ابن أبي مرحب أنهم أدخلوا معهم في القبر عبد الرحمن بن عوف. ابن سعد (2/229).
وروى ابن سعد عن ابن شهاب قال: ولي وضع رسول الله-صلى الله عليه وسلم–في قبره هؤلاء الرهطُ الذين غسَّلوه: العباس وعليَّ والفضل وصالح مولاه وخلّي أصحابُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم– بين رسول الله-صلى الله عليه وسلم وأهلهِ ...). ابن سعد (2/230).
وعن أنس رضي الله عنه قال: (لمَّا دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة رضي الله عنها : يا أنسُ، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب).
البخاري، الفتح، رقم(7/755).رقم(4462).كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن نفراً من أهل العراق، قالوا لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (يا أبا الحسن، جئناك نسألك عن أمر، نحبُّ أن تنجزنا عنه قال: أظن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان أحدث الناسَ عهداً برسول الله-صلى الله عليه وسلم–قالوا: أجل عن ذلك جئنا لنسألك، قال: أحدث الناسِ عهداً برسول الله-صلى الله عليه وسلم–قُتمُ بن العَبَّاس". البيهقي في الدلائل (7/257).
وعن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة قال: لمَّا وضع رسول الله-صلى الله عليه وسلم–في لحده ألقى المغيرةُ بن شعبة خاتمهُ في قبر النبي-صلى الله عليه وسلم–فقال علي: إنما ألقيته لتنزل فنزل، فأعطاه إياه أو أمر رجلاً فأعطاه). البيهقي في الدلائل (7/258) والمغازي للواقدي (3/1121).
وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله-صلى الله عليه وسلم–عليَّ بن أبي طالب، والفضل بن العباس، وقُثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله-صلى الله عليه وسلم –). تاريخ الطبراني 3/213، والمعارف لابن قتيبة 166، وطبقات ابن سعد (2/300)، وأنساب الأشراف (1/577)، وتاريخ الإسلام (السيرة) 581.
وقد قال أوس بن خولي لعلي بن أبي طالب: انزل، فنزل مع القوم، وقد كان مولاه شُقران حين وضع رسول الله-صلى الله عليه وسلم في حُفرته وبنى عليه قد أخذ قطيفة، وقد كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم–يلبسها ويفترشها، فدفنها في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك أبداً. قال: فدُفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تاريخ الطبري (3/214).
ولما فُزع من دفنه يوم الثلاثاء، وكانت وفاته يوم الاثنين حين زاغت الشمس قال علي: قد سمعنا همهمة ولم نر شخصاً، سمعنا هاتفاً يقول: ادخلوا رحمكم الله فصلّوا على نبيكم.
ثم دفن من وسط الليل، ليلة الأربعاء، وكانت مدة شكواه ثلاثَ عشر ليلة. ولما دفُن-عليه الصلاة والسلام – قالت فاطمة ابنته:
اغبَّر آفـاقُ السمـاء وكــــَوَّرتْ **** شمسُ النهارِ وأظلـــمَ العصــــران
فالأرض من بعد النبي كئـيبــة **** أسـفــــاً عليـــــه كثــيرةٌ الـرجــفانِ
فليبكه شرقُ البــلاد وغربـــها **** ولتبـــكه مضـJJـــرٌ وكــل يمــــان
وليبكه الطـــودُ المعـظّم جــوُّه **** والبـيــت ذو الأستــــار والأركــان
يا خاتم الرُّسلِ المبَارك ضوؤه **** صلَّــى عليـــك مُـنــزلُ الفـرقــــان
مرض النبي صلى الله عليه وسلم
بدء الشكوى:
قال محمد بن إسحاق: رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع في ذي الحجة، فأقام بالمدينة بقيته والمحرم وصفراً، وبعث أسامة بن زيد، فبينا الناس على ذلك ابتدئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شكواه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراده الله من رحمته وكرامته في ليالٍ بقين من صفر، أو في أول شهر ربيع الأول، فكان أول ما ابتدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر لي، أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل فاستغفر لهم ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك(1).
النبي في البقيع وزيارته قتلى أحد وصلاته عليهم:
عن أبي مويهبة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جوف الليل فقال: (يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي)، فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال: (السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شرٌ من الأولى(2))، ثم أقبل عليَّ فقال: (يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة)، قال فقلت: بأبي أنت وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: (لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة)، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدأ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعه الذي قبضه الله فيه(3).
ومن حديث عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلَّى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: (إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)، فقال عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(4).
وارأساه!!
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: رجع إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة من البقيع فوجدني، وأنا أجد صداعاً وأنا أقول: وارأساه، قال: (بل أنا يا عائشة وارأساه وما ضرك لو مِت قبلي فغسلتك وكفنتك، وصليت عليك ودفنتك)، فقلت: لكأني بك -والله- لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بدأ وجعه الذي مات فيه(5).
وهذا الحديث أصله في البخاري قالت عائشة: وارأساه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك)، فقالت عائشة: واثكلياه!! والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذاك لظللت آخر يومك مُعَرِّساً ببعض أزواجك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بل أنا وارأساه)(6).
في بيت ميمونة:
عن عائشة قالت: أول ما اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة فاستأذن أزواجه أن يمرَّض في بيتها فأذِنَّ له(7)
في بيت عائشة:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما ثقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واشتد وجعه استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي، فأذن له فخرج وهو بين رجلين، تخط رجلاه في الأرض؛ بين عباسٍ ورجل آخر، قال ابن عباس: هو عليٌّ. قالت: ولما دخل بيتي اشتد وجعُه، قال: (أهريقوا علي من سبع قرب لم تُحلل أوكيتهن(8)، لعلي أعهد إلى الناس)، فأجلسناه في مِخْضَب(9) لحفصة، ثم طَفِقْنا(10) نَصُبُّ عليه من تلك القرب، حتى طَفِقَ يشير إلينا بيده أن قد فعلتنَّ، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم (11)
وقالت عائشة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟) يريد يومي فإذنَ له أزواجُه أن يكون حيث شاء فكان في بيتي حتى مات في اليوم الذي كان يدور عليَّ فيه، وقبضه الله وإن رأسه لبين نحري(12) وسحري(13)، وخالط ريقه ريقي، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يسنتنَّ به، فنظر -صلى الله عليه وسلم- إليه، فقلت: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه، فقضمتُه(14)، ثم مضغتُه، فأعطيتُه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستنّ به، وهو مستندٌ إلى صدري(15).
وصيته -صلى الله عليه وسلم- بالأنصار:
ولما اشتد الوجع برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجد العباس رضي الله عنه قوم من الأنصار يبكون، فقال لهم ما يبكيكم؟ قالوا ذكرنا مجلسنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدخل العباس عليه -صلى الله عليه وسلم- فأخبره فعُصِّب بعصابة دسماء(16)، أو قال: بحاشية برد(17)، وخرج وصعد المنبر ولم يصعَدْ بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي(18)، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)(19).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه ملحفة متعطفا بها على منكبيه وعليه عصابة دسماء حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد أيها الناس فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم) (20)
أمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس:
لما اشتد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الوجع والحمى، ولم يستطع الخروج للصلاة بالناس أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، وكان ذلك منه في الأيام الأخيرة من مرضه.
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة فقلت ألا تحدثيني عن مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: بلى ثقل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (أصلى الناس؟) قلنا: لا هم ينتظرونك، قال: (ضعوا لي ماء في المخضب) قالت: ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أصلى الناس؟) قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: (ضعوا لي ماء في المخضب) قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: (أصلى الناس؟)، قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: (ضعوا لي ماء في المخضب)، فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: (أصلى الناس؟)، فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي -عليه السلام لصلاة- العشاء الآخرة، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقاً: يا عمر صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن لا يتأخر، قال أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، قال: فجعل أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قاعد(21).
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن بلال، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فقيل له إن أبا بكر رجل أسيف(22) إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: (إنكن صواحب يوسف(23) مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فخرج أبو بكر فصلى فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- من نفسه خفة فخرج يهادي بين رجلين كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مكانك ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه. قيل للأعمش وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر! فقال برأسه نعم(24).
قراءة عائشة المعوذات عليه صلى الله عليه وسلم:
عن عروة بن الزبير -رضي الله عنهما- أن عائشة -رضي الله عنها- أخبرته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه، طفِقْتُ أنفث على نفسه بالمعوَّذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه (25)
شدة الحمى التي نزلت بالنبي صلى الله عليه وسلم:
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: وضع رجل يده على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حُمَّاك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنا معشر الأنبياء يُضاعفُ لنا البلاءُ كما يُضاعف لنا الأجرُ. إن كان النبي من الأنبياء يُبتلى بالقمل حتى يَقْتُلَهُ، وان كان النبي من الأنبياء ليُبتلي بالفقر حتى يأخذ العباءة فيجوبها (26) وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء) (27)
قالت عائشة: ما رأيت رجلاً أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
البخاري مع الفتح، كتاب المرضى، باب شدة المرض (5646)، مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثوب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها(4/1990) رقم (2570).
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك وعكاً شديداً فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكاً شديداً! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أجل)، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) البخاري مع الفتح، كتاب المرضى، باب وضع اليد على المريض (5660)، مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثوب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (4/1991) رقم (2571).
عظم المصيبة بوفاته صلى الله عليه وسلم
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في أحداث سنة إحدى عشرة من الهجرة: استهلت هذه السنة وقد استقر الركابُ الشريف النبوي بالمدينة النبوية المطهرة، مرجعه من حجة الوداع.
وقد وقعت في هذه السنة أمورٌ عظام، من أعظمها حطباً وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه عليه السلام نقله الله -عز وجل- من هذه الدار الفانية إلى النعيم المقيم الأبدي، في محلة عالية رفيعة، ودرجة في الجنة لا أعلى منها ولا أسنى، كما قال تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى)الضحى: 4-5، وذلك بعد ما أكمل أداء الرسالة التي أمره الله بإبلاغها ونصح أمته، ودلهم على خير ما يعلمه لهم، وحذرهم ونهاهم عما فيه مضرة لهم في دنياهم وآخراهم (1)
لقد كانت وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعظم حدث مر بالمسلمين فأذهل عقولهم، وزلزل أركانهم، وأفقدهم الوعي والفكر والفهم.
قال الحافظ ابن رجب: ولما توفي -صلى الله عليه وسلم- اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من اعتُقِل لسانه فلم يُطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية(2).
وقال الإمام أبو بكر ابن العربي: بعد أن استأثر الله بنبيه -صلى الله عليه وسلم- وقد أكمل له ولنا دينه، وأتم عليه وعلينا نعمته، كما قال تعالى: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)المائدة: 3. وما من شيء في الدنيا يكمُلُ إلا وجاءه النقصان ليكون الكمال الذي يراد به وجه الله خاصة، وذلك العمل الصالح والدار الآخرة فهي دار الله الكاملة.
واضطربت الحال، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة أبي بكر، فكان موت النبي -صلى الله عليه وسلم- قاصمة الظهر ومصيبة العمر؛ فأما علي فاستخفى في بيته مع فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فأهجر(3) وقال: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واضطرب أمر الأنصار يطلبون الأمر لأنفسهم أو الشركة فيه مع المهاجرين، وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع أسامة بن زيد بالجرف(4).
وقد بين الحافظ ابن كثير عظم الخطب وشدة البلاء واضطراب الأمر فقال مصوراً حال المسلمين: فاشتدت الرزيةُ بموته صلى الله عليه وسلم وعظُم الخطب، وجلَّ الأمر وأصيب المسلمون بنبيهم، وأنكر عمر بن الخطاب ذلك، وماج الناس، وجاء الصديق المؤيد المنصور -رضي الله عنه- أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، فأقام الأوَد(5)، وصدع بالحق وخطب الناس(6)
قال ابن عبد البر: ولم يصدق عمر بموته، وأنكر على من قال: مات وخرج إلى المسجد، فخطب وقال في خطبته: إن المنافقين يقولون: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي، والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم، والله ليرجعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجالٍ وأرجلهم، زعموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات(7).
وأخرج ابن سعد عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كاد بعضهم يوسوس!! فكنت ممن حزن عليه، فبينا أنا جالس في أُطم من آطام المدينة(8) -وقد بويع أبو بكر- إذ مر بي عمر فسلم علي فلم أشعر به لما بي من الحُزن(9).
وقال أبو ذؤيب الهذلي: قدمت المدينة، ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مه!! فقالوا: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لقد حزن عليه -صلى الله عليه وسلم- أصحابه حزناً شديداً وكانت الواقعة عليهم عظيمة، لم يطق بعضهم أن يتحمل تلك الصدمة التي تلقها عندما سمعوا بموت حبيبهم الذي كانوا يجالسونه ويسمعون كلامه، ويتلوا عليهم آيات ربهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويخرج معم للقتال ويشاركهم في شؤون حياتهم، وبفقده فقد انتهى ذلك كله. حقاً إنها لمصيبة عظيمة، وخطب جلل، عليهم وعلى الأمة جميعاً أولها وآخرها.
وكيف لا تكون كذلك وهو الرحمة المهداة، والبشير النذير، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبودية المخلوقات إلى عبودية رب الأرض والسماوات، ولكن التسليم لقضاء الله وقدره يجعل المؤمن راضياً بما قضى ويستسلم لما نزل.
ولم يصب المؤمن بمصيبة مثل ما أصيب بموت الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مُصابه بي فإنها أعظم المصائب)(10).
وقال ابن رجب: كل المصائب تهون عند هذه المصيبة... قال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبد الله اتق الله، فإن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
تذكــــــرتُ لمـــا فــرقَ الدهــرُ بيننـــا *** فعـزيــتُ نفســـي بالنــبي مـحمــــد
وقـلــــتُ لـــهـا إنَّ المنـــــايا سـبيلنـــا *** فمـن لم يمـتْ في يومه مات في غد
كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول، فكيف بقلوب المؤمنين!!
لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه وصاح كما يصيح الصبي، فنزل إليه فاعتنقه، فجعل يُهَدَّى(11) كما يُهَدَّى الصبي الذي يُسَكَّن عند بكائه فقال: (لو لم أعتنقه لحن إلى يوم القيامة)(12).
كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه(13)، وروي أن بلالاً كان يؤذن بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل دفنه فإذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب، فلما دفن ترك بلال الأذان.
وتُلفِتُ أم أيمن نظرنا إلى أمر آخر عظيم أصيب به المسلمون بوفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو انقطاع الوحي من السماء، قال أبو بكر لعمر -رضي الله عنهما-: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقال لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، قالت: والله ما أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها(14).
وذكر موسى بن عقبة في قصة وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أن الناس رجعوا حين فرغ أبو بكر من خطبته وأم أيمن قاعدة تبكي، فقيل لها: ما يبكيك يا أم أيمن؟ قد أكرم الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأدخله جنته، وأراحه من نصب الدنيا، فقالت: إنما أبكي على خبر السماء، كان يأتينا غضاً جديداً كل يوم وليلة فقد انقطع ورفع وعليه أبكي... فعجب الناسُ من قولها(15).
النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة-رَضِيَ اللهُ عنهُ – قال: قال رسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -:(لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة) المسند (2/495).
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود من طرق عن مالك بن أنس عن أبي الزناد عبد الله ابن ذكوان عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة: أن رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ– قال:(لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة). لفظ البخاري كتاب الفرائض باب قول النَّبيِّ لا نورث ما تركنا صدقة (12/8) رقم (6729).
وعن عائشة-رَضِيَ اللهُ عنهُا –:أن أزواج النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–حين تُوفِّيَ رسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر ليسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قد قال رسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: (لا نورث ما تركنا صدقة) رواه البخاري كتاب الفرائص باب قول النَّبيّ ما تركنا صدقة (12/8) رقم (6730)، ومسلم كتاب الجهاد والسير باب قول النَّبيّ ما تركناه فهو صدقة (3/1379) رقم (1758).
وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عنهُا-:أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر-رَضِيَ اللهُ عنهُ –يلتمسان ميراثهما من رسول الله وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر. فقال لهما أبوبكر: سمعت سول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –يقول:(لا نُورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال). قال أبوبكر والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –يصنعه فيه إلا صنعته.
البخاري- الفتح- كتاب الفرائض، باب قول النَّبيّ ما تركنا صدقة (12/7) رقم (6725).
وعن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أرسل إليَّ عمر بعدما تعالى النهار، قال: فذهبت فوجدته على سرير مفضياً إلى رماله فجاء يرفأ، فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام؟ قال: نعم إئذن لهم. فدخلوا عليه، ثم جاء يرفأ فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في العباس وعلي، قال: نعم فأذن لهما، فدخلا عليه. ثم أقبل عمر على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض تعلمون أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – قال: (لا نورث ما تركنا صدقة؟) قالوا: نعم. فقال عمر للعباس وعلي عليهما السلام: توفي رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ– فقال أبوبكر: أنا ولي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – فجئتما إلى أبي بكر، تطلب أنت–للعباس-ميراثك من ابن أخيك. ويطلب هذا – يعني علياً- ميراث امرأته من أبيها. فقال أبوبكر: قال رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: (إنا لا نورث ما تركنا فهو صدقة). قال عمر: إن الله خصَّ رسوله بخاصة لم يخص بها أحداً من الناس، فقال: (ما أفاء الله على رسول الله منهم فما أوجفتم عليه من خيلٍ ولا ركاب). الحشر: 6. فكان مما أفاء الله على رسوله بني النضير، فو الله ما استأثر بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – ولا أخذها دونكم، فكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – إنما يأخذ منها نفقته سنة أو نفقته ونفقة أهله سنةً، ويجعل ما بقي أسوة المال..)
رواه مسلم كتاب الجهاد والسير باب حكم الفيء (3/1377) رقم (1757)، والبخاري نحوه البخاري ،كتاب المغازي، باب حديث بني النضير (7/389) رقم (4034).
فالذي تركه النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-بعد موته صدقة على المسلمين، وإنما يعطى أهل بيته وأهله ما يكفيهم من هذا المال. والباقي يُصرف في مصالح المسلمين، وذلك لما ورد صريحاً عنه-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
الإرث الحقيقي الذي ورثه:
لقد خرج النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –من هذه الحياة الدنيا، ولم يترك شيئاً من عرضها الزائل لأحدٍ بعده، وخرج منها كما دخل إليها، وقد ترك بها للناس هذا الدين القيم ومهد فيها لهذه الحضارة الإسلامية الكبرى التي تفيأ العالم ظلاها من قبل، وسيتفيأ ظلالها من بعد، وأقر فيها التوحيد، وجعل فيها كلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وقضي فيها على الوثنية في كل صورها ومظاهرها القضاء المبرم، ودعا الناس فيها أن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وترك من بعده كتاب الله هدى للناس ورحمة، وكان فيها المثل الأسمى والأسوة الحسنة. وترك هذا العالم مخلفاً هذا الميراث الروحي العظيم الذي لا يزال ينتشر في العالم حتى يتم الله كلمته، وينصر دينه على الدين كله ولو كره الكافرون.
فالأنبياء لم يكن ميراثهم الدنيا؛ وإنما كان ميراثهم الذي ورَّثوه الشرع الذي أمرهم الله به، فعن أبي الدرداء - رَضِيَ اللهُ عنهُ – قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العالم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي، وحسنه الألباني في" صحيح الترغيب والترهيب"(33).
وقد كان الصحابة يعلمون أن الميراث الذي تركه لهم هو الدين.
فقد مرَّ أبو هريرة بسوق المدينة فوقف عليها فقال: يا أهل السوق! ما أعجزكم قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراثُ رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يُقسَّم، ولا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هؤلاء؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعاً ، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: وما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد فدخلنا فيه، فلم نر فيه شيئاً يُقسَّم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً ؛ قالوا: بلى رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرأون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: ذلك ميراث محمد. قال الألباني: حسن موقوف، "صحيح الترغيب والترهيب" ( 83)، فميراث النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – الحقيقي الذي ورثه هو الدين؛ هو العلم الذي أخذه عنه الصحابة، ومن بعدهم التابعون ثم الأمة من بعد، فهذا الميراث لا زالت الأمة تنهل منه حتى يأتي أمر الله.
5- شبــهة وردهــا:
ادعت الرافضة أن أبا بكر قد منع فاطمة والعباس من سهمهما من فَدَك، وخيبر، ولم يعطهما من هذا الميراث الذي تركه النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ .
قال ابن كثير: وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل، وتكلفوا ما لا علم لهم به، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم، وحاول بعضهم أن يرد خبر أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عنهُ – فيما ذكر، وذلك بأنه مخالف للقرآن، حيث يقول الله - تعالى-: (وورث سليمان داود)النمل: 16، وحيث قال تعالى إخباراً عن زكريا أنه قال: (فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربِّ رضياً)مريم:5-6.
واستدلالاتهم بهذا باطل من وجوه :
أحدها: أن قوله (وورث سليمان داود)النمل: 16 إما يعني بذلك في الملك والنبوة، أي جعلناه قائماً بعده فيما كان عليه من الملك وتدبير الرعايا، والحكم بين بني إسرائيل، وجعلناه نبياً كريماً كأبيه، وكما جمع لأبيه الملك والنبوة كذلك جعل ولده بعده، وليس المراد بهذا وراثة المال؛ لأن داود كما ذكره كثير من المفسرين كان له أولاد كثيرون يقال مائة، فلم اقتصر على ذكر سليمان من بينهم لو كان المراد وراثة المال؟ إنما المراد وراثة القيام بعده بالنبوة والملك، ولهذا قال: (وورث سليمان داود). وقال: (يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين)النمل: 16. وما بعدها من الآيات.
وأما قصة زكريا فإنه - عليه السلام- من الأنبياء الكرام، والدنيا كانت عنده أحقر من أن يسأل الله ولداً لميراثه في ماله؟ وإنما كان نجاراً يأكل من كسب يده. رواه البخاري(1)، ولم يكن ليدخر منها فوق قوته حتى يسأل الله ولداً يرث عنه ماله – أن لو كان له ماله- وإنما سأل ولداً صالحاً يرثه في النبوة، والقيام بمصالح بني إسرائيل، وحملهم على السداد، ولهذا قال تعالى: (كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)مريم: 1-6. القصة بتمامها
فقال: ولياً يرثني من آل يعقوب، يعني النبوة كما قررنا ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة، وقد تقدم رواية أبي سلمة عن أبي هريرة عن أبي بكر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – قال: (النَّبيّ لا يُورث) وهذا اسم جنس يعم كُلَّ الأنبياء، وقد حسَّنه الترمذي وفي الحديث الآخر: (نحن معشر الأنبياء لا نُورث) رواه أحمد.
والوجه الثاني: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – قد خُصَّ من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فلو ندر أن غيره من الأنبياء يورثون – وليس الأمر كذلك- لكان ما رواه من ذكرنا من الصحابة الذين منهم الأئمة الأربعة، أبوبكر وعمر وعثمان وعلي مبيناً لتخصيصه بهذا الحكم دون ما سواه.
والثالث: أنه يجب العمل بهذا الحديث والحكم بمقتضاه كما حكم به الخلفاء، واعترف بصحته العلماء، سواء كان من خصائصه أم لا. فإنه قال: (لا نورث ما تركناه صدقة) إذ يحتمل من حيث اللفظ أن يكون قوله عليه السلام: (ما تركناه صدقة) أن يكون خبراً عن حكمه أو حكم سائر الأنبياء معه، على ما تقدم وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون إنشاء وصيته كأنه يقول: لا نورث؛ لأن جميع ما تركناه صدقة، ويكون تخصيصه من حيث جواز جعله ماله كله صدقة، والاحتمال الأول أظهر، وهو الذي سلكه الجمهور، وقد يُقوَّى المعنى الثاني بما تقدم حديث مالك وغيره عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عنهُ – أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – قال: (لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومُؤنة عاملي فهو صدقة)
البخاري كتاب الوصايا باب نفقة القيم للواقف (5/476) رقم (2776)، ومسلم كتاب الجهاد والسير باب قول النَّبيّ لا نورث ما تركنا فهو صدقة (3/1382) رقم (1760).
وهذا اللفظ مخرج في الصحيحين، وهو يرد تحريف من قال من الجهلة من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث ما تركناه صدقة بالنصب جعل – ما- نافية، فكيف يصنع بأول الحديث، وهو قوله: (لا نُورث؟) وبهذه الرواية (ما تركت بعد نفقة نسائي ومُؤنة عاملي فهو صدقة). وما شأن هذا إلا كما حكى بعض المعتزلة أنه قرأ على شيخ من أهل السنة، (وكلم الله موسى تكليماً)النساء: 164، بنصب الجلالة. فقال له الشيخ: ويحك كيف تصنع بقول الله تعالى: (فلما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه)الأعرف: 143 ؟
والمقصود أنه يجب العمل بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: (لا نورث ما تركنا صدقة). على كل تقدير احتمله اللفظ والمعنى فإنه مخصص لعموم آية الميراث، ومخرج له - عليه السلام- منها، إما وحده أو مع غيره من إخوانه الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام. البداية والنهاية (3/253-254). رحم الله ابن كثير رحمة واسعة.
قال حماد بن سلمة: والذي جاءت به الروايات الصحاح فيما طلبه العباس وفاطمة وعلي لها، وأزواج النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – من أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عنهُم جميعاً – إنما هو الميراث حتى أخبرهم أبو بكر والأكابر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – أنه قال: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة) فقبلوا ذلك، وعلموا أنه الحق، ولو لم يقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ذلك كان لأبي بكر وعمر فيه الحظ الوافر بميراث عائشة وحفصة-رَضِيَ اللهُ عنهُا–فآثروا أمر الله وأمر رسوله، ومنعوا عائشة وحفصة ومن سواهما ذلك. ولو كان رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–يُورث لكان لأبي بكر وعمر أعظم الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
فأما ما يحكيه قوم أن فاطمة-رضي الله عنها-طلبت فدك، وذكرت أن رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ– أقطعها إياها، وشهد لها علي عليه السلام، فلم يقبل أبو بكر شهادته؛ لأنه زوجها، فهذا أمر لا أصل له، ولا تثبت به رواية أنها ادعت ذلك، وإنما هو أمر مفتعل لا ثبت فيه، وإنما طلبت وادعت الميراث هي وغيرها من الورثة، وكان النظر والدعوى في ذلك، وقد بينا ما جاءت به الروايات الصحاح فيه، وإنما طلبت هي، والعباس عليهما السلام من فدك وغيرها مما خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – الميراث، ولم تذكر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – أقطعها إياها، بل كان طلبها من فدك، وغير فدك ميراثها. تركة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – والسبل التي وجهها فيها (ص86).
ميراثُ النَّبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ)
1-أملاك النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:
لقد كان للنَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–في حياته من السِّلاحِ، والأثاثِ، والخيلِ، والدَّوابِّ، والكِسْوةِ، والمنائحِ واللِّقاحِ، وغير ذلك من الأشياء التي لابُدَّ له منها، وكان له أرضٌ بِفَدَك وخَيِبَر.
وقد ذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله سلاحَهُ وأثاثَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ،فَقَالَ: كانَ له تسعة أسياف:
مأثور: هو أول سيف ملكه، ورثه من أبيه.
والعضب، وذو الفِقَار، بكسر الفاء، وبفتح الفاء، وكانَ لا يكادُ يُفارِقُهُ، وكانت قائمتُهُ وقبيعتُهُ وحلقتُهُ وذؤابتُهُ وبكراتُهُ، ونعلُهُ من فِضَّةٍ. والقلعي والبتَّار، والحتف، والرَّسوب، والمِخْذَم، والقضيب، وكان نَعْلُ سيفِهِ فِضَّةً، وما بين ذلك حلق فضة.
وكان سيفُهُ ذو الفقار تنفَّلَهُ يوم بدر، وهو الذي أُري فيه الرُّؤيا(1)؛ودَخَلَ يوم الفتحِ مَكَّةَ، وعلى سيفِهِ ذهبٌ وفِضَّةٌ.
وكان له سبعةُ أدرعٍ:
ذاتُ الفُضُولِ: وهي التي رهنها عندَ أبي الشَّحمِ اليهوديِّ على شعيرٍ لعيالِهِ، وكان ثلاثينَ صاعاً، وكان الدَّينُ إلى سنةٍ، وكانتِ الدِّرعُ من حديدٍ وذات الوِشَاحِ، وذات الحواشي، والسَّعدية، وفضة، والبتراء، والخِرْنِق.
وكان له سِتُ قِسِيٍّ: الزَّوراء، والرَّوحاء، والصفراء، والبيضاء، وال كتوم كُسِرَتْ يوم أحد، فأخذها قتادةُ بن النُّعمانِ، والسداد.
وكانت له جُعبةٌ تُدعى: الكافور، ومنطقة من أديم منشور فيها ثلاث حلق من فضة، والأبزيم من فِضَّة، والطرف من فضة، وكذا قالَ بعضُهم.
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة: لم يبلغْنا أنَّ النَّبيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ– شدَّ عَلَى وَسَطِهِ منطقةً.
وكان له تُرسٌ يُقال له: الزَّلوق، وترس يُقَال له: الفُتَق، قيل: وتُرسٌ أُهديَ إليه، فيه صورةُ تمثالٍ، فوضع يدَهُ عليه، فأذهب اللهُ ذلك التَّمثالَ.
وكانتْ له خمسةُ أرماحٍ، يُقَالُ لأحدِهِم: المُثوي، والآخر: المُثْني.
وحَرْبةٌ يُقالُ لها: النبعة، وأخرى كبيرة تُدعى: البيضاء، وأُخرى صغيرة، شبه العُكَّاز يُقالُ لها: العنزة يُمشى بها بين يديه في الأعياد، تُركز أمامه، فيتخذها سترة يُصلِّي إليها، وكان يمشي بها أحياناً.
وكان له مِغْفرٌ من حديدٍ يُقَالُ له: الموشَّحُ، وُشِّحَ بشبهٍ(النحاس الأصفر)،ومِغْفَر آخر يُقال له: السَّبوغ، أو: ذو السبوغ.
وكان له ثلاث جباب يلبسُها في الحربِ: قيل فيها: جُبَّةُ سندسٍ أخضر، والمعروفُ أنَّ عُروةَ بنَ الزُّبيرِ كَانَ لَهُ يلمق(هو القباء، فارسي مُعرَّب)من ديباج، بطانته سندس أخضر، يلبسه في الحرب، والإمام أحمدُ في إحدى روايتيِهِ يُجوِّزُ لُبسَ الحريرِ في الحربِ.
وكانت له رايةٌ سوداء يُقَالُ لها: العُقَاب. وفي "سُنن أبي داودَ" عن رَجُلٍ من الصَّحَابةِ، قَالَ: رأيتُ رايةَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ صفراء، و كانت له ألويةٌ بيضاءُ، وربما جعل فيها الأسود.
وكان له فِسَطاطٌ يُسمَّى: الكن، ومحجن قدر ذراع أو أطول، يمشي به ويركب به ويعلقه بين يديه على بعيره، ومِخصَرة تُسمَّى: العُرْجُون، وقضيب من الشَّوحطِ يُسمَّى: الممشوق. قيل: وهو الذي كان يتداوله الخلفاء.
وكان له قدح يُسمَّى: الرَّيَّان، ويسمى مغنياً وقدح آخر مضبب بسلسة من فضة.
وكان له قدح من قوارير، وقدح من عيدان يوضع تحت سريره يبول فيه بالليل، وركوة تُسمَّى: الصادر، قيل وتور من حجارة يتوضأ منه، ومخضب من شبهٍ. وقعب يُسمَّى: السعة، ومغتسل من صُفْر ومدهن، وربعة يجعل فيها المرآة والمشط. قيل: وكان المشط من عاج، وهو الذَّبْلُ، ومكحلة يكتحل منها عند النوم ثلاثاً في كل عين بالإثمد، وكان في الربعة المقراضان والسواك.
وكانت قصعة تسمى: الغراء، لها أربع حلق، يحملها أربعة رجال بينهم، وصاع، ومد، وقطيفة، وسرير قوائمه من ساج، أهداه له سعد بن زُرارة، وفراش من أدم حشوه ليف.
وهذه الجملة قد رُويت متفرقة في أحاديث.
وقد روى الطبراني في (معجمه) حديثاً جامعاً في الآنية من حديث ابن عباس قال: (كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – سيف قائمته من فضة، وقبيعته من فضة، وكان يُسمَّى ذا الفقار، وكانت له قوس تسمى: السداد، وكانت له كنانة تسمى الجمع، وكانت له درع موشَّحة بالنحاس تُسمَّى: ذات الفضول، وكانت له حربة تسمى: النبعاء، وكان له محجن يسمى: الدقن، وكان له ترس أبيض يسمى الموجز، وكان له فرس أدهم يسمى السَّكْب، وكان له سرج يسمى: الداج، وكانت له بغلة شهباء تسمى دُلدُل، وكانت له ناقة تسمى: القصواء، وكان له حمار يسمى: يعفور، وكان له بساط يسمى: الكن، وكانت له عنزة تسمى: القمرة، وكانت له ركوة تسمى: الصادرة، وكانت له مقراض اسمه: الجامع، ومرآة، وقضيب شوحط يسمى: الموت).
أما دوابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:
فمن الخيل: السَّكْب. والمُرْتجز، واللحيف، واللزاز، والظَّرب، وسَبْحَة، والوَرْدُ، فهذه سبعة متفق عليها، جمعها الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن جماعة الشافعي في بيت فقال:
والخيلُ سَكْبٌ لُحَيْفٌ سَبْحةٌ ظَرِبٌ لِزَازُ مرتجزٌ وَرْدٌ لَها اسْرَارُ
وكان له من البغال دُلدُل، وكانت شهباء، أهداها له المقوقِس. وبغلة أخرى يقال لها: (فضة) أهداها له فروة الجذامي، وبغلة شهباء أهداها له صاحب أيلة وأخرى أهداها له صاحب دومة الجندل، وقد قيل: إن النجاشي أهدى له بغلة فكان يركبها.
ومن الحمير: عُفَير، وكان أشهب، أهداه له المقوقِس ملك القبط، وحمار آخر أهداه له فروة الجذامي، وذُكر أن سعد بن عُبادة أعطى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – حماراً فركبه.
ومن الإبل القصواء، قيل: وهي التي هاجر عليها والعضباء، والجدعاء، ولم يكن بها عضب ولا جدع.
وغنم-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يوم بدر جملاً مهرياً لأبي جهل في أنفه بُرةٌ من فضة، فأهداه – ذبحه هدياً- يوم الحديبية ليغيظ به المشركين.
وكانت له خمس وأربعون لقحة، وكانت لهُ مَهْرِيَّةٌ أرسل بها إليه سعد بن عبادة من نعم بني عقيل.
وكانت له مئة شاة وكان لا يريد أن تزيد، كلما ولَّد له الراعي بهمة ذبح مكانها شاة، وكانت له سبع أعنز منائح ترعاهن أم أيمن. باختصار من "زاد المعاد" (1/130-135).
ولما فتح خيبر وقسم أرضها، وكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – والمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم لنوائبه وما ينزل به من أمور المسلمين.
وأما فدك فقد كانت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – خالصة؛ لأنه لم يُوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.
وقال حماد بن إسحاق بن إسماعيل بعد ذكر تركته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: "ووقفت هذه الأشياء التي ذكرناها من الأموال التي أفاءها الله عليه، والكسوة والخيل والبغلة والحربة، وما ذكرنا مع ذلك بعد وفاته على أن ذلك كله صدقة بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -. (ما تركنا فهو صدقة).
وكانت غلات الضياع تقسم في سبل الخير على ما كان يقسمها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – في حياته.
وأما ما سوى ذلك مثل البغلة، والحربة، والكسوة، والسلاح، والسرير – والخاتم- فوقف أيضاً يتجمل به الأئمة المسلمون بعده، ويتبركون به كما كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يتجمل به، وكان ذلك في أيدي الأئمة واحداً بعد واحد. (تركة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- :113)
2- ما تركه النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بعد موته من التركة:
عن عمرو بن الحارث- رَضِيَ اللهُ عنهُ –قال:(ما ترك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة). البخاري ،كتاب المغازي ،باب مرض النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، ووفاته (7/755) رقم (4461).
وعنه قال: ما ترك رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–عند موته درهماً ولا ديناراً، ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة).
البخاري مع الفتح كتاب الوصايا باب الوصايا (5/419)- رقم (2739).
قال ابن حجر: قوله: ولا عبداً، ولا أمةً، أي في الرق، وفيه دلالة على أن من ذكر من رقيق النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – في جميع الأخبار كان إما مات و إما أُعتق، واستُدل به على عتق أم الولد بناءً على أن مارية والدة إبراهيم ابن النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –عاشت بعد النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-،وأما على قول من قال: إنها ماتت في حياته-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–فلا حجة فيه.
وقوله: (ولا شيئاً)،وفي رواية الكشميهني (ولا شاة)، والأول أصح وهي رواية الإسماعيلي أيضاً من طريق زهير، نعم روى مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم من طريق مسروق عن عائشة قالت: (ما ترك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – درهماً ولا ديناراً، ولا شاةً ولا بعيراً، ولا أوصى بشيء). فتح الباري (5/424).
وقال عروة عن عائشة قالت: توفي رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد رطب إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني. البخاري كتاب فرض الخمس باب نفقة نساء النَّبيّ بعد وفاته (6/241) رقم (3097)، ومسلم كتاب الزهد والرقائق (4/2282) رقم (2973).
وقالت: تُوفي رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –ودرعه مرهونة بثلاثين صاعاً من شعير. أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير باب ما قيل في درع النَّبيّ والقميص في الحرب (6/116) رقم (2916).
قال ابن كثير: (باب بيان أن النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–لم يترك ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شاة ولا بعيراً ولا شيئاً يُورث عنه: بل أرضاً جعلها كلها صدقة لله - عزَّ وجلَّ -). البداية والنهاية (3/247).
وقال : (تنبيه: قد وردت أحاديث كثيرة في ذكر أشياء كان يختص بها صلوات الله وسلامه عليه في حياته من دور ومساكن نسائه، وإماء وعبيد وخيول، وإبل وغنم وسلاح، وبغلة وحمار، وثياب، وأثاث، وخاتم وغير ذلك.. فلعله عليه السلام تصدق بكثير منها في حياته منجزاً، وأعتق من أعتق من إمائه وعبيده وأرصد ما أرصد من أمتعته مع ما خصه الله به من الأرضين، من بني النضير وخيبر وفدك في مصالح المسلمين).
غسل النبي صلى الله عليه وسلم وتكفينه ودفنه
غسل النبي صلى الله عليه وسلم ومن قام به:
لما تيقن المسلمون من وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- إثر ذلك الخلاف العظيم الذي دب بينهم حول حقيقة موته -صلى الله عليه وسلم-؛ واجهتهم مشكلة أخرى أطلت عليهم برأسها وهي كيفية تغسيله -صلى الله علي وسلم-، فاختلفوا في ذلك أيضاً، وأصابتهم الحيرة والقلق؛ هل يجردوه -صلى الله علي وسلم-، من ثيابه عند غسله كما يفعلون مع غيره من الموتى، أم يغسلوه وعليه ثيابه كرامة له -صلى الله عليه وسلم-.
قالت عائشة: لما أرادوا غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: ما ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره فكلمهم مكلمٌ من ناحية البيت لا يدرون من هو!!: أن اغسلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه ثيابه، فغسلوه، وعليه قميصه؛ يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون بالقميص دون أيديهم. قالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ ما غسَّله إلا نساؤه(1)
وروى البيهقي في الدلائل عن محمد بن علي أبي جعفر قال: غُسِّل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً بالسدر، وغُسِّل وعليه قميص، وغُسِّل من بئر يقال لها الغرس بقباء، كانت لسعد بن خيثمة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يشرب منها، وولي سفلته علي، والفضل محتضنه، والعباس يصبُ الماء فجعل الفضل يقول: أرحني قطعت وتيني إني لأجد شيئاً يترطلُ علي(2)
قال الألباني في الجنائز: وفي مرسل الشعبي أنه غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع علي رضي الله عنه: الفضلُ -يعني ابن العباس- وأسامة بن زيد، أخرجه أبو داود، وسنده صحيح مرسل(3).
كفن الرسول صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت كفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب بيض سحولية (4) من كرسف(5) ليس فيها قميص ولا عمامة(6).
وقالت -رضي الله عنها-: أُدرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حلة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت عنه وكفن في ثلاثة أثواب سحول يمانية ليس فيها عمامة ولا قميص، فرفع عبد الله الحلة، فقال: أكفن فيها، ثم قال: لم يكفن فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأكفن فيها فتصدق بها(7).
وفي رواية أخرى: فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسنها حتى أكفن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله -عز وجل- لنبيه لكفنه فيها، فباعها وتصدق بثمنها(8).
وفي رواية: أنه -صلى الله عليه وسلم- حين توفي سُجِّي(9) ببرد (10)حِبَرة(11) ألا أن عائشة قالت لما ذكروا لها بردين وثوب حبرة: قد أُتي بالبرد، ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه(12).
الصلاة عليه صلى الله عليه سلم
روى الحافظ البيهقي في الدلائل عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالاً، حتى فرغوا، ثم أدخل النساء فصلين عليه، ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه، ثم أدخل العبيد فصلوا عليه أرسالاً، لم يؤمهم على رسول الله أحد(13).
وفي المسند أن أبا عسيب شهد الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: كيف صُلي عليه؟ قال: أدخلوا أرسالاً أرسالاً، قال: فكانوا يدخلون من هذا الباب فيصلون عليه ثم يخرجون من الباب الآخر(14).
وروى ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضع على سريره، فكان الناس يدخلون زمراً زمراً يصلون عليه ويخرجون ولم يؤمنهم أحد، وتوفي يوم الاثنين، ودفن الثلاثاء صلى الله عليه وسلم (15)
قال الحافظ ابن كثير: وهذا الصنيع، وهو صلاتهم عليه فرادى لم يرمهم أحد عليه، أمرٌ مجمع عليه لا خلاف فيه(16).
تعليل صلاتهم عليه صلى الله عليه وسلم فرادى:
قال الشافعي -رحمه الله في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بغير إمام-: وذلك لِعُظْمِ أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي، وتنافُسُهم على أن لا يتولى الإمامة في الصلاة عليه أحد.
رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/30).
وقيل: إنه كان آخر العهد برسول الله -صلى الله علي وسلم-، فأراد كل واحد مهم أن يأخذ البركة بالصلاة عليه مُخْتصاً به دون أن يكون فيها تابعاً لغيره سلوة الكئيب بوفاة الحبيب ص 148.
وقال ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" (5/232) معللاً صلاتهم عليه -صلى الله عليه وسلم- فرادى: (وهذا الصنيع - وهو صلاتهم عليه فرادى لم يؤمهم أحد عليه- أمر مجمع عليه، لا خلاف فيه، وقد اختلف في تعليله... وليس لأحد أن يقول: لأنه لم يكن لهم إمام، لأنا قد قدمنا أنهم إنما شرعوا في تجهيزه -عليه السلام- بعد تمام بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- وأرضاه. وقد قال بعض العلماء: إنما لم يؤمهم عليه أحد ليباشر كل واحد من الناس الصلاة عليه منه إليه، ولتكرر صلاة المسلمين عليه مرة بعد مرة، من كل فرد من آحاد الصحابة، رجالهم ونسائهم وصبيانهم، حتى العبيد والإماء، وأما السهيلي فقال ما حاصله: إن الله قد أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر كل واحد من المؤمنين أن يباشر الصلاة عليه منه إليه، والصلاة عليه بعد موته من هذا القبيل، قال: وأيضاً فإن الملائكة لنا في ذلك أئمة، والله أعلم).أهـ
فائـدة:
قال الحاكم أبو أحمد: فكان أولهم عليه صلاة العباس عمه، ثم بنو هاشم ،ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم سائر الناس، فلما فرغ الرجال صلى الصبيان، ثم النساء(17).
دفنه صلى الله عليه وسلم
أولاً: المكان الذي دفن فيه صلى الله عليه وسلم:
اختلف المسلمون في موقع دفنه، فقال بعضهم: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: بالبقيع، وقال قائل في مصلاه(18). فجاء أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فحسم مادة هذا الخلاف أيضاً بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالت عائشة وابن عباس: لما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغسل اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: ما نسيتُ ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما قبض اللهُ نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه)(19).
قال الحافظ ابن كثير: وهذا هو المتواتر تواتراً ضرورياً معلوماً من الدفن الذي هو اليوم داخل مسجد المدينة(20).
وقال أيضاً في "البداية والنهاية": قد علم بالتواتر أنه -صلى الله عليه وسلم- دفن في حجرة عائشة التي كانت تختص بها، شرقي مسجده في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة، ثم دفن فيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما(21). أهـ
فائـدة:
ودفنه صلى الله عليه وسلم في موضع موته من خصائص الأنبياء عليهم السلام.
قال شيخ الحديث الكاندهلوي: ولذا سأل موسى ربه عند موته أن يدنيه من الأرض المقدسة، لأنه لا يمكن نقله إليها بعد موته، بخلاف غير الأنبياء فينتقلون من بيوتهم إلى المدائن، فهذا من خصائص الأنبياء كما ذكره غير واحد(22). أهـ
وقال الشيخ الألباني: والسنة الدفن في المقبرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع، كما تواترت الأخبار بذلك، ولم ينقل إلينا عن أحد من السلف أنه دفن في غير المقبرة، إلا ما تواتر أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفن في حجرته، وذلك من خصوصياته عليه الصلاة والسلام(23).
ثانياً: في لحد قبره صلى الله عليه وسلم:
قال أنس بن مالك -رضي الله عنه- لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بالمدينة رجل يلحَدُ(24) وآخر يضْرَحُ (25) فقالوا: نستخيرُ ربنا ونبعث إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم(26).
وعن عائشة رضي الله عنهما قالت: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلفوا في اللحدِ والشق، حتى تكلموا في ذلك وارتفعت أصواتهم، فقال عمر: لا تصخَبوا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم حياً ولا ميتاً، أو كلمة نحوها، فأرسلوا إلى الشقَّاق واللاحد جميعاً، فجاء اللاحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دفن صلى الله عليه وسلم(27)
وعن عروة مرسلاً: كان في المدينة رجلان أحدهما يلحدُ، والأخر يشقُّ، فقالوا: أيهما جاء أولاً عمل عمله، فجاء الذي يلحد فلحد له(28).
وعن ابن عباس بسند ضعيف: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثوا إلى أبي عبيدة بن الجراح، وكان يَضْرَحُ كضرح أهل مكة، وبعثوا إلى أبي طلحة –زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه- وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة، وكان يلحَدُ، فبعثوا إليهما رسولين فقالوا: اللهم خِرْ لرسولك، فوجدوا أبا طلحة فجيء به، ولم يوجد أبو عبيدة، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم (29).
ثالثاً: من باشر دفنه صلى الله عليه وسلم:
قال محمد بن إسحاق: وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقُثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(30).
وزاد النووي(31) والمقدسي(32): العباس.
قال النووي -رحمه الله- ويقال: كان أسامة بن زيد، وأوس بن خَوْلى(33) معهم، ودُفن في اللحد، وبني عليه -صلى الله عليه وسلم- في لحده اللَّبن، يُقال إنها تسع لبنات، ثم أهالوا التراب(34).
قال المقدسي -رحمه الله- وفرش تحته -صلى الله عليه وسلم- قطيفة حمراء كان يتغطى بها، وقد أشار إلى ذلك ابن عباس -رضي الله عنه- كما عند مسلم وغيره(35).
والقطيفة هي كساء له خمل. النهاية (4/84).
وقد بين العلماء أن الذي وضع القطيفة هو شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون علم من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك ذهب الجمهور إلى كراهة وضع شيء في القبر تحت الميت، قال النووي: وقد نص الشافعي وجميع أصحابنا وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت في القبر، وشذ عنهم البغوي من أصحابنا، والصواب كراهته لما قال الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك لم يوافقه غيره من الصحابة، ولا علموا ذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها ويفترشها، فلم تطب نفس شقران أن يستبدلها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه غيره فروى البيهقي عن ابن عباس أنه كره أن يجعل تحت الميت ثوب في قبره. والله أعلم (36). أهـ
رابعاً: متى دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
ذهب كثير من العلماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم دفن ليلة الأربعاء قال الحافظ ابن كثير: والمشهور عن الجمهور ما أسلفناه من أنه عليه السلام توفي يوم الإثنين ودفن ليلة الأربعاء (37)
بعضُ المراثي التي قِيلتْ في وَفَاةِ سَيِّدِ المرسلينَ، وقائدِ الغُرِّ المحجَّلين (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ)
قال أبو بكر الصديق َرضِيَ اللُه عَنْهُ:
يـا عيــنُ بكِّـــي و لا تَسْـــامـي ***** وحُقَّ البـــُكاءُ علــى السَّيـــِّدِ
على ذِي الفواضلِ والمكرُمـاتِ ***** ومَحْضِ الضَّريبةِ والمَحْتــــِدِ
علـى خَيْرِ خِنْدِفَ ([1]) عِنْدَ البلاءِ***** أمْســى يُغَيّــَبُ فِــي الْمُلــْحَدِ
فصَــلَّى الـملِيـكُّ وَلــيُّ العِبَـــاد ***** وَرَبُّ البــلادِ عَلــــَى أحمـــدِ
فكيفَ الإقامـةُ بعـــدَ الحبـيــــبِ***** وزيـــنِ المحــافلِ والـمَشْهَــدِ
فليتَ الـمـمـــــات لنـــا كلِّــــنـا ***** وَكُنَّا جميـعاً مَـعَ المُهْتَـدى([2])
ومِمَّا نُسِبَ إلى أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ في رِثَاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ([3]):
لمَّا رأيــتُ نبيّـنــــــا متجنـــــدلاً ***** ضاقـــت علىّ بعرضهنّ الدورُ
فارتـاع قلبي عنـد ذاك لِمـوتــــه ***** والعظــمُ مني ما حييــتُ كسيـرُ
أعتيق ويْحك!! إن خِلَّك قـد ثوى ***** والصبرُ عندك ما بقيـتَ يسيــرُ
يا ليتني من قبـل مهلك صاحبـي ***** غُيِّبـتُ في لحـدٍ عليه صخـــورُ
فلتــحدُثــنَّ بـدائـــع مــن بعــــده ***** تعيــا بهـنَّ جــوانـحٌ وصـــدورُ
وقال عمرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللُه عَنْهُ:
ما زَالَتُ مُذ وضع الفِرَاشَ لِجنْبِه *****وثَــوى مَريضــاً خائـــِفاً أَتَوقَّـــعُ
شَفَقاً عَليْــهِ أن يـــزُولَ مكـــــانُه ***** عنَّــا، فَنَبْــــقَى بَعْـــدَه نَتَــوَجَّـــع
نَفْســـي فـداؤُكَ مَنْ لنا في أَمرِنا **** أَوْ مَـــنْ نُشَـــاورُهُ إذاً فَتــَرَجَّـــعُ
وإذا تَحَدَّثنَـا الحــوادٍثَ: مَـنْ لنــا ***** بالوَحي مِن رَبِّ رحيــمٍ يسمــــعُ
ليتِ السمــاءَ تفطَّـــرتْ أَكنَافُـــهَا *****وتناثرتْ فيها النجــــومُ الطُّلّــــَعُ
لمَّــا رأيــتُ النــاسَ هـدَّ جميعُهمْ ***** صوتٌ يُنـــادي بالنَّعــيِّ فيُسْمـــَعُ
وسمعتُ صــوتاً قبلَ ذلِكَ هدَّنــي***** عَبَّـــاسُ يَنْــــعاهُ بِصــوتٍ يُقْطَــعُ
فلْيَبْــكِه أهـــلُ المــدائـنِ كُلّـــــِها *****والمُسلمون بكلِّ أرضٍ تُجدع ([4])
وقالَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللُه عَنْهُ :
ألا طَرَق النّــَاعي بليـــلٍ فــَرَاعَني *** وأَرَّقنـــي لمـــا استَـــهلَّ مُنَــادِيَــــا
فقلـتُ لـهُ لمّــَا رأيــتُ الـذي أتَـى *** أَغَيْرَ رســول اللهِ أَصْبَـحتَ نَاعِيــَا
فَحُقِّـقَ مـا أَشْفَيْــتُ منـه وَلـم يُبــلْ *** وكــان خليـلي عُدَّتِـــي وَجِمَــاليــا
فوالله لا أنسـاكَ أَحمَــدُ ما مَشَـتْ *** بيَ العِيسُ في أرضٍ وجاوَزْتَ واديا
وكنـتَ متى أَهْبِطُ من الأرضَ تَلْعَةً *** أَجِــد أثــراً منــهُ جــديــداً وعافِيــا
شديــدٌ جَـرِيٌّ النَّفــسِ نهـدٌ مُصـَدَّرٌ *** يــَرَين بـــه لَيْثـــاً عليـهن ضَـارِيـــَا
من الأُسـْدِ قد أَحْمِي العَـرِينَ مهابةً*** هوَ الموتُ مَغْـدُوٌ عليــه وغَدِيــا([5])
جـوَادٌ تشَظَّــى الخيــلُ عنــه كأنـَّما *** تَفَـــادَى سِبـاعُ الأرضِ منـه تفادِيـَا
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رَضِيَ اللُه عَنْهُ:
أرقتُ فبات لــيلي لا يــزولُ **** وليلُ أخي المصيبةِ فيه طُولُ
وأسعدني البُكاء وذاك فيـــما ***** أصيــبَ المسلمــونَ بـه قليـلُ
فقد عَظُمَــتْ مُصيبتُنا وجَلَّت ***** عشيَّة قِيْلَ: قَدْ قُبِضَ الرَّسُـول
فَظَلَّ النَّــاسُ منقطعيــن فيـها ***** كأنَّ النَّاس لَيــْس لَهُـمْ حَوِيــلُ
كأنَّ النــاس إذْ فقــدوه عُمـْيٌ ***** أضرَّ بلـــبِّ حازِمِهِـم عَليـــلُ
وحُقَّ لتـلك مَـرْزيــة علينـــا ***** وحُقَّ لها تطــير لها الُعقـــولُ
وأضحت أرضنُا ممـا عَراها ***** تكــادُ بنــا جـــوانِبُــها تميـــلُ
فقدنا الوحي والنـزيــل فيــنا ***** يروح به ويغـــدو جبــرائيــل
وذاك أحـــقُّ ما سالـتْ عليهِ ***** نُفوسُ النَّاس أو كادت تسيلُ
أُصبنا بالنَّبــيّ وقــد رُزِئنـــا ***** مُصِيْبتُنَـــا فَمحْمَــــلُها ثَقِيــــْلُ
نبيٌّ كان يجلــو الشــكَ عنّــَا ***** بمــا يُوحَـــى إليـه وما يَقـولُ
ويهدينــا فلا يخشــى ملامــاً ***** علينا والرَّسُول لنــا دليــلُ ([6])
يُخَبِّرُنا بظهــر الغيـب عـــمَّا **** يَكُونُ فلا يَخُــون ولا يَحُــولُ
فلم نَرَ مثلَهُ في النَّــاس حيــّاً **** وَلَيْسَ لهُ من المـــوت عَدِيــلُ
أفاطمُ إن جزعت فذاك عـذر ***** وإن لم تَجْزَعي فهــو السَّبِيـلُ
فَعُــوذي بالعــَزَاء فــإنَّ فيــه ***** ثـوابَ الله والفضلُ الجـزِيــلُ
وَقُـولِي في أبيك ولا تَمَلـِّــي ***** وَهَـلْ يَجــزي بفعـل أبيك قيلُ
فقبــر أيبــكِ سيــدُ كلِّ قبـــر ***** وفيـه سيــد النــاس الرَّسُــول
صــلاةُ الله مــن ربٍّ رحيــم ***** عليـه لا تحـولُ ولا تَزُولُ ([7])
بعضُ المراثي التي قِيلتْ في وَفَاةِ سَيِّدِ المرسلينَ، وقائدِ الغُرِّ المحجَّلين (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ)
قال أبو بكر الصديق رَضِيَ اللُه عَنْهُ :
يـا عيــنُ بكِّـــي و لا تَسْـــامـي ***** وحُقَّ البـــُكاءُ علــى السَّيـــِّدِ
على ذِي الفواضلِ والمكرُمـاتِ ***** ومَحْضِ الضَّريبةِ والمَحْتــــِدِ
علـى خَيْرِ خِنْدِفَ ([1]) عِنْدَ البلاءِ***** أمْســى يُغَيّــَبُ فِــي الْمُلــْحَدِ
فصَــلَّى الـملِيـكُّ وَلــيُّ العِبَـــاد ***** وَرَبُّ البــلادِ عَلــــَى أحمـــدِ
فكيفَ الإقامـةُ بعـــدَ الحبـيــــبِ***** وزيـــنِ المحــافلِ والـمَشْهَــدِ
فليتَ الـمـمـــــات لنـــا كلِّــــنـا ***** وَكُنَّا جميـعاً مَـعَ المُهْتَـدى([2])
ومِمَّا نُسِبَ إلى أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ في رِثَاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ([3]):
لمَّا رأيــتُ نبيّـنــــــا متجنـــــدلاً ***** ضاقـــت علىّ بعرضهنّ الدورُ
فارتـاع قلبي عنـد ذاك لِمـوتــــه ***** والعظــمُ مني ما حييــتُ كسيـرُ
أعتيق ويْحك!! إن خِلَّك قـد ثوى ***** والصبرُ عندك ما بقيـتَ يسيــرُ
يا ليتني من قبـل مهلك صاحبـي ***** غُيِّبـتُ في لحـدٍ عليه صخـــورُ
فلتــحدُثــنَّ بـدائـــع مــن بعــــده ***** تعيــا بهـنَّ جــوانـحٌ وصـــدورُ
وقال عمرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللُه عَنْهُ:
ما زَالَتُ مُذ وضع الفِرَاشَ لِجنْبِه *****وثَــوى مَريضــاً خائـــِفاً أَتَوقَّـــعُ
شَفَقاً عَليْــهِ أن يـــزُولَ مكـــــانُه ***** عنَّــا، فَنَبْــــقَى بَعْـــدَه نَتَــوَجَّـــع
نَفْســـي فـداؤُكَ مَنْ لنا في أَمرِنا **** أَوْ مَـــنْ نُشَـــاورُهُ إذاً فَتــَرَجَّـــعُ
وإذا تَحَدَّثنَـا الحــوادٍثَ: مَـنْ لنــا ***** بالوَحي مِن رَبِّ رحيــمٍ يسمــــعُ
ليتِ السمــاءَ تفطَّـــرتْ أَكنَافُـــهَا *****وتناثرتْ فيها النجــــومُ الطُّلّــــَعُ
لمَّــا رأيــتُ النــاسَ هـدَّ جميعُهمْ ***** صوتٌ يُنـــادي بالنَّعــيِّ فيُسْمـــَعُ
وسمعتُ صــوتاً قبلَ ذلِكَ هدَّنــي***** عَبَّـــاسُ يَنْــــعاهُ بِصــوتٍ يُقْطَــعُ
فلْيَبْــكِه أهـــلُ المــدائـنِ كُلّـــــِها *****والمُسلمون بكلِّ أرضٍ تُجدع([4])
وقالَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ-رَضِيَ اللُه عَنْهُ-:
ألا طَرَق النّــَاعي بليـــلٍ فــَرَاعَني *** وأَرَّقنـــي لمـــا استَـــهلَّ مُنَــادِيَــــا
فقلـتُ لـهُ لمّــَا رأيــتُ الـذي أتَـى *** أَغَيْرَ رســول اللهِ أَصْبَـحتَ نَاعِيــَا
فَحُقِّـقَ مـا أَشْفَيْــتُ منـه وَلـم يُبــلْ *** وكــان خليـلي عُدَّتِـــي وَجِمَــاليــا
فوالله لا أنسـاكَ أَحمَــدُ ما مَشَـتْ *** بيَ العِيسُ في أرضٍ وجاوَزْتَ واديا
وكنـتَ متى أَهْبِطُ من الأرضَ تَلْعَةً *** أَجِــد أثــراً منــهُ جــديــداً وعافِيــا
شديــدٌ جَـرِيٌّ النَّفــسِ نهـدٌ مُصـَدَّرٌ *** يــَرَين بـــه لَيْثـــاً عليـهن ضَـارِيـــَا
من الأُسـْدِ قد أَحْمِي العَـرِينَ مهابةً*** هوَ الموتُ مَغْـدُوٌ عليــه وغَدِيــا ([5])
جـوَادٌ تشَظَّــى الخيــلُ عنــه كأنـَّما *** تَفَـــادَى سِبـاعُ الأرضِ منـه تفادِيـَا
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رَضِيَ اللُه عَنْهُ :
أرقتُ فبات لــيلي لا يــزولُ **** وليلُ أخي المصيبةِ فيه طُولُ
وأسعدني البُكاء وذاك فيـــما ***** أصيــبَ المسلمــونَ بـه قليـلُ
فقد عَظُمَــتْ مُصيبتُنا وجَلَّت ***** عشيَّة قِيْلَ: قَدْ قُبِضَ الرَّسُـول
فَظَلَّ النَّــاسُ منقطعيــن فيـها ***** كأنَّ النَّاس لَيــْس لَهُـمْ حَوِيــلُ
كأنَّ النــاس إذْ فقــدوه عُمـْيٌ ***** أضرَّ بلـــبِّ حازِمِهِـم عَليـــلُ
وحُقَّ لتـلك مَـرْزيــة علينـــا ***** وحُقَّ لها تطــير لها الُعقـــولُ
وأضحت أرضنُا ممـا عَراها ***** تكــادُ بنــا جـــوانِبُــها تميـــلُ
فقدنا الوحي والنـزيــل فيــنا ***** يروح به ويغـــدو جبــرائيــل
وذاك أحـــقُّ ما سالـتْ عليهِ ***** نُفوسُ النَّاس أو كادت تسيلُ
أُصبنا بالنَّبــيّ وقــد رُزِئنـــا ***** مُصِيْبتُنَـــا فَمحْمَــــلُها ثَقِيــــْلُ
نبيٌّ كان يجلــو الشــكَ عنّــَا ***** بمــا يُوحَـــى إليـه وما يَقـولُ
ويهدينــا فلا يخشــى ملامــاً ***** علينا والرَّسُول لنــا دليــلُ ([6])
يُخَبِّرُنا بظهــر الغيـب عـــمَّا **** يَكُونُ فلا يَخُــون ولا يَحُــولُ
فلم نَرَ مثلَهُ في النَّــاس حيــّاً **** وَلَيْسَ لهُ من المـــوت عَدِيــلُ
أفاطمُ إن جزعت فذاك عـذر ***** وإن لم تَجْزَعي فهــو السَّبِيـلُ
فَعُــوذي بالعــَزَاء فــإنَّ فيــه ***** ثـوابَ الله والفضلُ الجـزِيــلُ
وَقُـولِي في أبيك ولا تَمَلـِّــي ***** وَهَـلْ يَجــزي بفعـل أبيك قيلُ
فقبــر أيبــكِ سيــدُ كلِّ قبـــر ***** وفيـه سيــد النــاس الرَّسُــول
صــلاةُ الله مــن ربٍّ رحيــم ***** عليـه لا تحـولُ ولا تَزُولُ([7])
المكان الذي دفن فيه الرسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن كثير: ( الصحيح المشهور عند الجمهور أنه-صلى الله عليه وسلم– تُوفي يوم الاثنين ودُفن يوم الأربعاء). راجع: البداية والنهاية (5/237).
وروى يعقوب بن سفيان عن أبي جعفر أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم–تُوفي يوم الاثنين فلبث ذلك اليومَ وتلك الليْلة ويومَ الثلاثاء إلى آخر النهار. "قال ابن كثير: وهو قول غريب".
وروى يعقوب أيضاً عن مكحول قال: مكث رسول الله-صلى الله عليه وسلم–ثلاث أيَّام لا يُدفن قال ابن كثير: "غريبٌ، والصحيح أنه مكث بقية يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء بكامله ودُفن ليلة الأربعاء".
وروى ابن سعد وابن ماجه، وأبو يعلى عن ابن عبَّاس-رضي الله عنهما–قال: لمَّا فُرغ من جهاز رسول الله-صلى الله عليه وسلم–يوم الثلاثاء وُضع على سريره في بيته وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه، فقال قائل: ندفنه مع أصحابه بالبقيع، وقال قائل: (ادفنوه في مسجده؛ فقال أبوبكر: (سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم–يقول: (ما قُبض نبيٌّ إلا دفن حيثُ قُبض)(1) فرُفع فراش رسول الله-صلى الله عليه وسلم–الذي تُوفي عليه فحفروا له تحته.
(ابن سعد (1/223) وابن ماجه (1628) والبيهقي في الدلائل (7/260) ومسند أبي بكر (78).
وروى الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن عبد العزيز بن جريج أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم–لم يدروا أين يقبروا رسول الله-صلى الله عليه وسلم–حتى قال أبوبكر: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم–يقول: (لم يقبر نبي قط إلا حيث يَموت فأخذوا فراشه وحفروا تحته).
وروى الترمذي وأبو يعلى عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: لما قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم – اختلفوا في دفنه فقال أبوبكر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: (ما قَبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يُدفن فيه)، ادفنوه في موضع فراشه). الترمذي رقم كتاب الجنائز عن رسول الله (3/338) رقم (1018)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5649).
وقال الطبري: (فلما فُرغ من جهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يوم الثلاثاء، وُضع في سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه. فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبوبكر: إني سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم – يقول: (ما قُبض نبي إلا دُفن حيثُ يقبض)؛ فرفع فراش رسول الله-صلى الله عليه وسلم–الذي تُوفي عليه، فحُفر له تحته، ثم دخل الناس على رسول الله-صلى الله عليه وسلم–يصلّون عليه أرسالاً؛ دخل الرجال حتى إذا فرغوا أُدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أُدخل الصبيان، ولم يؤم الناسَ على رسول الله-صلى الله عليه وسلم–أحد). تاريخ الطبري (3/213)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز (1628)، باب ما جاء في دفن النبي-صلى الله عليه وسلم-، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه رقم (321).
ثم دُفن رسول الله-صلى الله عليه وسلم–من وسط الليل ليلة الأربعاء. تاريخ الطبري (3/213).
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن امرأته فاطمة بنت عُمارة، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، عن عائشة-رضي الله عنها- قالت: دفن رسول الله في جوف الليل من ليلة الأربعاء. ابن هشام (4/315) تحقيق عمر عبد السلام تدمري.
وروى ابن سعد والبيهقيُّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما علمنا بدفن رسول الله-صلى الله عليه وسلم–حتى سمعنا المساحي ليلة الثُلاثاء في السَّحر). ابن سعد (2/232-233).
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن أنس-رضي الله عنه-قال: (تُوفي رسول الله-صلى الله عليه وسلم–وكان بالمدينة رَجُلُ يُلحِدُ والآخر يضرح فقالوا: نستخيرُ ربَّنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه، فأرسلوا إليهما فسبق صاحب اللّحد (أبو طلحة) فلَّحدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم)
أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً (1/231) وابن ماجه- كتاب الجنائز- باب ما جاء في الشق (1/496) رقم (1557).
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله-صلى الله عليه وسلم–كان أبو عبيدة يضرح لأهل مكة، وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة، فأرسل العباس خلفهما رجلين وقال: (اللهم خِر لرسولك أيهما جاء حفر له)، فجاء أبو طلحة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
راجع: السيرة النبوية للذهبي. ص405.
وقال ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: عرضت عائشة على أبيها رؤيا وكان من أعبر الناس قالت رأيت ثلاثة أقمار وقعن في حجرتي، فقال: إن صدقت رؤياك دُفن في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثة، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة هذا خير أقماركِ.
السيرة النبوية للذهبي (405-406).
شبهة:
هل دُفن النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف؟
الجواب: أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم، فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لما مات-صلى الله عليه وسلم، دفنوه في حجرة عائشة التي كانت بجانب مسجده، وكان يفصل بينهما جدار فيه باب، كان-صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى المسجد، وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء ولا خلاف في ذلك بينهم، والصحابة-رضي الله عنهم–حينما دفنوه-صلى الله عليه وسلم–في الحجرة، إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً، لقوله-عليه الصلاة والسلام–من حديث عائشة-رضي الله عنها– قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت: فلولا ذاك أُبرز قبره غير أنه خشي أن يُتخذ مسجداً)
البخاري، الفتح،(3/156) رقم (1330) كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد قبوراً.
ولكن وقع بعدهم ما يكن في حسبانهم! ذلك أن الوليد بن عبد الملك أمر سنة ثمان وثمانين بتوسيع المسجد النبوي وإضافة حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة، فصار القبر بذلك في المسجد.
راجع: تاريخ ابن جرير (5/222-223). وتاريخ ابن كثير (9/74-75).
قال "العلامة الحافظ محمد بن عبد الهادي" في "الصارم المنكي" ص (136):
"وإنما أُدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان من آخرهم موتاً جابر بن عبد الله، وتُوفي في خلافة عبد الملك، فإنه تُوفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولىَّ سنة ست وثمانين، وتُوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك.
قال "الشيخ الألباني": وإنما لم يُسمِّ الحافظُ ابن عبد الهادي السنة التي وقع فيها ذلك؛ لأنها لم ترد في رواية ثابتة على طريقة المحدثين، وما نقلناه عن ابن جرير هو من رواية الواقدي وهو متهم، ورواية ابن أبي شيبة الآتية في كلام "الحافظ ابن عبد الهادي" مدارها على مجاهيل وهم عن مجهول! كما هو ظاهر، فلا حجة في شيء من ذلك، وإنما العمدة على اتفاق المؤرخين على أن إدخال الحجرة إلى المسجد كان في ولاية الوليد. قال "محمد بن عبد الهادي"، وقد ذكر أبو زيد عمر بن شُبَّة النميري في كتاب (أخبار المدينة) مدينة رسول الله-صلى الله عليه وسلم–عن أشياخه عمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة وعمل سقفه بالساج، وماء الذهب، وهدم حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم– فأدخلها في المسجد أو دخل القبر فيه.
يتبين لنا مما أوردناه أن القبر الشريف إنما أُدخل المسجد النبوي حين لم يكن في المدينة أحد من الصحابة، وأن ذلك كان على خلاف غرضهم الذي رموا إليه حين دفنوه في حجرته-صلى الله عليه وسلم-، فلا يجوز لمسلم بعد أن عرف هذه الحقيقة أن يحتج بما وقع بعد الصحابة؛ لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة وما فهم الصحابة والأئمة منها كما سبق بيانه، وهو مخالف أيضاً لصنيع عمر، وعثمان حين وسعا المسجد ولم يدخلا القبر فيه، ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد بن عبد الملك عفا الله عنه، ولئن كان مضطراً إلى توسيع المسجد، فإنه كان باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى هذا النوع من الخطأ حين قام هو-رضي الله عنه–بتوسيع المسجد من الجهات الأخرى، ولم يتعرض للحجرة، بل قال: (إنه لا سبيل عليها).
انظر طبقات ابن سعد (4/21) وغيره
فأشار رضي الله عنه إلى المحذور الذي يترتب من جراء هدمها وضمها إلى المسجد.
ومع هذه المخالفة الصريحة للأحاديث المتقدمة وسنة الخلفاء الراشدين، فإن المخالفين لما أدخلوا القبر النبوي في المسجد الشريف احتاطوا للأمر شيئاً ما، فحاولوا تقليل المخالفة ما أمكنهم. قال النووي في (شرح مسلم) (5/14): (ولما احتاجت الصحابة.(2) والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله-صلى الله عليه وسلم–حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر).
ونقل "الحافظ ابن رجب" في (الفتح) نحوه عن القرطبي كما في (الكواكب) (65/91/1) وذكر "ابن تيمية" في (الجواب الباهر) (9/2): (أن الحجرة لما أدخلت إلى المسجد سُد بابها، وبني عليها حائط آخر، صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيداً، وقبره وثناً).
نقلاً من كتاب: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد (58-68) تأليف/ محمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الرابعة - المكتب الإسلامي.
وقد وردت الأدلة الصحيحة على تحريم اتخاذ القبور مساجد:
ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). رواه مسلم كتاب الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد (1/377) رقم (532).
وفي الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذِّر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً". البخاري، الفتح،(3/156) رقم (1330). كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد قبوراً.
قال "ابن تيمية": واتخاذ القبور مسجداً هو أن يتخذ للصلوات الخمس، وغيرها كما تبنى المساجد لذلك، والمكان مسجداً إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين".
فحرم صلى الله عليه وسلم أن تتخذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها؛ كما تقصد المساجد وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلا أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء به، والدعاء عنده، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذريعة إلى الشرك بالله.
راجع: مجموع الفتاوى (1/163-164).
ولم يكن في المدينة المنورة أحد من الصحابة حينذاك خلافاً لمن توهم ذلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
1- كفى بالموت عظةً وعبرةً.
لقد شاء اللهُ تعالى أنْ يكونَ الموتُ نهايةَ كُلِّ إنسانٍ مهما طال عمرُهُ، ومهما كان موقعُهُ من الحياة، وتلك سُنَّةُ الحياةِ كما عبر عنها القرآنُ الكريم في قوله تعالى :(وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) الأنبياء: 34-35
وفي قوله تعالى:(إنك ميت وإنهم ميتون) الزمر: 30، فها هو ذا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ خيرُ البشرِ، يموتُ بعد أنْ عانى من سَكَراتِ الموتِ وآلامِ المرضِ...وإذا وعى النَّاسُ هذه الحقيقةَ استشعرُوا معنى العُبُوديةِ والتَّوحيدِ، وخضعُوا للهِ الواحدِ القَهَّارِ، واستعدُّوا للموتِ بالإكثار من العملِ الصَّالحِ، وطاعة الله، وإخلاص العبادة له في كُلِّ مجالٍ من مجالاتِ الحياةِ، لاسيما عبادة الله في تحكيمِ شرعِهِ، والجهاد في سبيل ذلك؛ لأنَّ الله يَزَعُ بالسُّلطانِ ما لا يزعُ بالقرآنِ؛ لأنَّ الله تعالى الذي خلقَ البشرَ خبيرٌ بما يُصلحهم في الدُّنيا والآخرةِ... (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) الملك: 14(1).
2- عبر عن الوفاةِ أبي حامد الغزاليُّ: اعلم أنَّ في رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أسوةً حسنةً حياً وميتاً وفعلاً وقولاً وجميع أحواله عبرةٌ للناظرين، وتبصرةٌ للمستبصرين، إذ لم يكن أحدٌ أكرمَ على اللهِ منه إذ كانَ خليلَ اللهِ وحبيبَهُ ونجيَّهُ، وكان صفيَّهُ ورسولَهُ ونبيَّهُ، فانظر.. هل أمهله ساعةً عند انقضاءِ مُدَّتِهِ؟ وهل أخَّرَهُ لحظةً بعدَ حُضُورِ منيِّتِهِ؟ لا .. بل أرسلَ إليه الملائكةَ الكِرَامَ الموكَّلينَ بقبضِ أرواحِ الأنامِ، فجدُّوا بروحِهِ الزَّكيَّةِ الكريمةِ لينقلُوها، وعالجُوها ليُرَحِّلُوها عن جسدِهِ الطَّاهرِ إلى رحمةٍ ورضوان، وخيرات حسان، بل إلى مقعدِ صدقٍ في جوارِ الرَّحمنِ، فاشتدَّ مع ذلك في النَّزعِ كربُهُ، وظهرَ أنينُهُ، وترادف قلقُهُ وارتفع حَنينُه، وتغيَّرَ لونُهُ وعرق جبينُهُ، واضطربت في الانقباضِ والانبساطِ شمالُهُ ويمينُهُ حَتَّى بكى لمصرعِهِ مَنْ حضرَهُ، وانتحب لشدةِ حالِهِ مَن شهدَ منظرَهُ. فهل رأيتَ منصبَ النبوةِ دَافِعاً عنْهُ مقدوراً؟!وهل راقبَ الملَكُ فيه أهلاً وعشيراً ؟
وهل سَامَحَهُ إذْ كَانَ للحقِّ نَصِيْراً؟ وللخلقِ بَشِيراً ونَذِيْراً؟ هيهاتَ!! بل امتثلَ مَا كانَ بِهِ مأمُوراً، واتَّبعَ ما وجده في اللَّوحِ مَسْطُوراً، فهذا كانَ حالَهُ وهو عند الله ذُو المقامِ المحمودِ، والحوضِ المورودِ، وهو أولُ مَن تنشقُّ عنه الأرضُ، وهو صاحبُ الشَّفاعةِ يومَ العَرْضِ.
فالعجبُ أنا لا نعتبرُ به، ولسنا على ثقةٍ فيما نلقاهُ!! بل نحن أُسراء الشَّهواتِ وقُرَنَاءُ المعاصي والسيئات.
فَمَا بالُنا لا نَتعِظُ بمصرعِ مُحمَّدٍ سَيِّدِ المرسلينَ، وإمامِ المتقينَ، وحَبِيْبِ رَبِّ العالمينَ!!
لعلنا نظنُّ أننا مخلَّدون، أو نتوهَّمُ أنا مع سوءِ أفعالِنا عندَ اللهِ مُكْرَمُون.. هيهاتَ.. هيهاتَ!! بل نتيقن أنا جميعاً على النَّارِ واردون، ثم لا ينجُو منها إلا المتَّقُون، فنحن للورودِ مستيقنون، وللصُّدورِ عنها مُتوهِّمُون، لا.. بل ظلمنا أنفسَنَا إنْ كُنَّا كذلكَ لغالب الظنِّ مُنتظرينَ، فما نحنُ واللهِ من المتقين، وقد قال رَبُّ العالمينَ: (وإنْ منكم إلا واردُها كان على ربِّك حَتْماً مقضياً * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظَّالمينَ جثياً) مريم: 71-72.
فلينظرْ كُلُّ عبدٍ إلى نفسِهِ أنَّهُ إلى الظالمين أقربُ أم إلى المتقين؟ فانظرْ إلى نفسِكَ بعد أن تنظرَ إلى سيرةِ السَّلَفِ الصَّالحينَ، فلقدْ كَانُوا مَعَ مَا وفِّقُوا لَهُ مِنَ الخائفينَ، ثُمَّ انظرْ إلى سَيِّدِ المرسلينَ، فإنَّهُ كانَ مِنْ أمرِهِ عَلَى يقينٍ، إذْ كانَ سَيِّدَ النَّبيِّينَ، وقائدَ المتَّقينَ، واعتبرْ كيفَ كانَ كَرْبُهُ عِنْدَ فِرَاقِ الدُّنيا، وكيفَ اشتدَّ أمرُهُ عندَ الانقلابِ إلى جَنَّةِ المأْوى (2)
كيف تم غسله؟ وهل جرد من ثيابه أم لا؟
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزُّبير، عن أبيه عبّاد، عن عائشة، قالت: "لما أرادوا غَسْل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه. فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله-صلى الله عليه وسلم–من ثيابه كما نُجرد موتانا، أو نغسِّله وعليه ثيابه؟ قالت: فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلّمهم مكلّم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن غسلوا النبيَّ وعليه ثيابه، قالت: فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغسّلوه وعليه قميصه، يصبّون الماء فوق القميص، ويدلكونه والقميص دون أيديهم).
سنن أبي داود في الجنائز (3141) وغيره، وابن هشام (4/313).وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم(2693) (2/607).
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: "اجتمع القومُ لغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في البيت إلا أهله عمه العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وأسامة بن زيد، وصالح مولاه، فلما اجتمعوا لغسله نادى من وراء الناسِ أوس بن خولى الأنصاري، أحد بني عوف بن الخزرج، وكان بدرياً علي بن أبي طالب فقال: يا علي ننشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له علي بن أبي طالب: أدخل فحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلِ من غسله شيئاً، فأسنده عليٌّ إلى صدره، وعليه قميصه وكان العباسُ وفضل وقثم يقلبونه مع عليّ وكان أسامة وصالحٌ مولاه هما يصبان الماء وجعل عليٌ يغسله ولم يرَ من رسول الله-صلى الله عليه وسلم شيءُ مما يرى من الميت، وهو يقول: بأبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً، حتى إذا فرغوا من غسل رسول الله-صلى الله عليه وسلم وكان يغسل بالماء والسدر جففوه ثم صُنع له به ما يصنع بالميت، ثم أدرج في ثلاثة أثواب ثوبين أبيضين، وبردِ حبرة، ثم دعا العباس رجلين فقال ليذهب..".
وروى البيهقي عن عبد الملك بن جُريج قال: "سمعت محمد بن علي أبا جعفر قال: غُسل النبي صلى الله عليه وسلم بالسدر ثلاثاً أو غُسل وعليه قميص وغُسل من بئرٍ، يقال لها الغرس بقباء، كانت لسعد بن خيثمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب منها، وولى غسله علي، والفضل يحتضنه، والعباس يصبُّ الماء فجعل الفضل يقول: أرحني قطعت وتيني، إني لأجد شيئاً يترطل عليَّ أي يتلين عليّ). "ذهول العقول" (49).
وقال سيف بن عمر عن ابن عباس قال: لمّا فُرغ من القبر وصلّى الناسُ الظهر أخذ العباس في غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فضرب عليه كلةً من ثياب يمانية صفاقٍ في جوف البيت، فدخل الكلَّة ودعا علياً والفضل فكان إذا ذهب إلى الماء ليعُاطيها دعا أبا سفيان بن الحارث فأدخله، ورجالُ من بني هاشم من وراء الكلَّة ومن أدخل من الأنصار حيث ناشدوا أبي وسألوه، منهم أوس بن خولى-رضي الله عنهم أجمعين- ثم قال: سيف عن ابن عباس، فذكر ضرب الكلَّة، وأن العباسَ أدخل فيها علياً والفضل وأبا سفيان بن الحارث، وأسامة ورجال من بني هاشم من وراء الكلة في المبيت فذكر أنهم ألقى عليهم النعاس فسمعوا قائلاً يقول: لا تغسلوا رسول الله-صلى الله عليه وسلم– فإنه كان طاهراً. فقال العباس: إلا، بلى وقال أهلُ البيت: صدقَ، فلا تغسلوه، فقال العباس: لا ندع سنة لصوتٍ لا ندري ما هو وغشيهم النعاس ثانيةً فناداهم: أن غسلوه وعليه ثيابهُ، فقال أهلُ البيت: ألا لا. وقال العباس: ألا نعم، فشرعوا في غسله، وعليه قميص، ومجولٌ مفتوح – أي صدرية- فغسلوه بالماء القُراح، وطيبوه بالكافور في مواضع سجوده ومفاصله واعتَصر قميصه ومجوله، ثم أدرج في أكفانه، وجمروه عوداً ونداً ثم حملوه حتى وضعوه على سريره وسبحوه وهذا السياق فيه غرابة جداً.
( ذهول العقول:50)
وغسل صلى الله عليه وسلم ثلاث غسلات الأولى بالماء القراح أي الخالص م يخالطه كافور ولا حنوط ولا غير ذلك. والثاني: بالماء والسدر. والثالثة: بالماء والكافور.
قال صاحب كتاب ذهول العقول بوفاة الرسول:
وقد كان العباسُ حين دخل الكلة للغسل قعد متربعاً وأقعد علياً متربعاً متواجهين وأقعد النبي صلى الله عليه وسلم على حجورهما فنودوا أن أضجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهره، ثم اغسلوا واستروا فثاروا عن الصفيح وأضجعاه، فقربا رجل الصفيح وشرقا رأسه، ثم أخذوا في غسله وعليه قميصه ومجوله مفتوحُ الشق ولم يغسلوه إلاّ بالماء القُراح وطيبوه بالكافور، ثم اعتُصر قميصه ومجوله، وحنطوا مساجده ومفاصله ووضؤوا منه وجهه وذراعيْه وكفيه، ثم أدرجوا أكفانه على قميصه، وجمّروه عوداً ونداً ثم احتملوه حتى وضعوه على سريره وسبَّحوه).
راجع: "ذهول العقول" (143-144).
هل جُرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه:
روى ابن سعدٍ عن عليّ، وأبو داودَ ومسدد، وأبو نعيم وابن حبَّان والحاكم والبيهقي وصححه الذهبي عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: "لمَّا أرادوا غَسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه، فقالوا: والله ما ندري كيف نصنع أنجردُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم–ثيابه كما نجردُ موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجُل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن غسلوا رسول الله-صلى الله عليه وسلم– وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم–وعليه قميصه فغسلوه يفاض عليه الماء والسدر فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم (فكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه). أخرجه الحاكم (3/59) والبيهقي في الدلائل (7/242).
وروى ابن ماجه عن بريدة-رضي الله عنه– قال: (لمّا أخذوا في غُسل سول الله-صلى الله عليه وسلم – ناداهم منادٍ من الداخل أن لا تنزعوا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – قميصه). ابن ماجه (1466). وضعفه البوصيري في الزوائد. وقال عنه الألباني منكر "راجع ضعيف ابن ماجه للألباني (316).
وقال الصنعاني في خلاف الصحابة حول غسله-صلى الله عليه وسلم -: (وفي هذه القصة دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم – ليس كغيره من الموتى). راجع:" سبل السلام" (2/93) ا. هـ
وذلك؛ لأنه لم يُجرد من ثيابه كما يفعل بغيره من الموتى. قال ابن الأثير: "وفي صفته-عليه السلام-أنه كان: (أنور المتجرد) أي ما جُرد عنه الثياب من جسده وكشف." النهاية (1/256) ا. هـ.
راجع: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم – ووفاته أثر ذلك على الأمة (خالد أبو صالح) (139).
- من تولى غسله:
قال ابن إسحاق: فلما بويع أبو بكر-رضي الله عنه-، أقبل الناس على جهاز رسول الله-صلى الله عليه وسلم – يوم الثلاثاء، فحدثني عبد الله بن أبي بكر وحسين بن عبد الله وغيرهما من أصحابنا: أن عليّ بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وقُثَم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشُقران مولى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، هم الذين ولوا غسله، وأنّ أوس بن خولي أحد بني عوف بن الخزرج، قال لعليّ بن أبي طالب: أنشدك الله يا عليّ وحظنا من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وكان أوس من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم– وأهل بدر، قال: ادخل، فدخل فجلس، وحضر غسْل رسول الله-صلى الله عليه وسلم -، فأسنده عليّ بن أبي طالب إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة بن زيد وشُقران مولاه، هما اللذان يصبان الماء عليه وعليُّ يغسله قد أسنده على صدره، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه، لا يُفضي بيده إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم – وعلي يقول: بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حيّاً وميتاً، ولم يُرَ من رسول الله-صلى الله عليه وسلم – شيء مما يُرى من الميت). تاريخ الطبري (3/211، 292) وطبقات ابن سعد (2/277) وله شاهد في سنن ابن ماجه في كتاب الجنائز (2467). باب ما جاء في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وروى ابن سعد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصحّحه عن علي - رضي الله عنه – قال: غسلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئاً، وكان طيباً حيَّاً وميتاً، وولي دفْنه وإخباءه دون الناس أربعة علي والعباس والفضل، وصالح مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ولحد رسول الله لحداً ونُصب عليه اللبن نصباً) البيهقي في الدلائل (7/244) وابن سعد (2/214).
وروى ابن سَعْد عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: غَسَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – عليُّ والفضلُ، وأسامةُ بن زيد وشقران، وولي غسل سفلته عليّ والفضل محتضنُه، وكان العباس وأسامة بن زيد وشقران يصبُّون الماء. أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/213).
كيفية غَسْله:
روى ابن سعدٍ عن عليِّ، وأبو داود ومسدّدُ، وأبو نعيم، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي وصححه الذهبي عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: لمَّا أرادُوا غَسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – اختلفوا فيه، فقالوا: والله ما ندري كيف نصنعُ أنجردُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم– ثيابه كما نجرد موتانا، أم نُغسله وعليه ثيابُه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قميصه فغسلوه يفاض عليه الماء والسدر فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديمهم (فكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلاّ نساؤه). رواه الحاكم (3/59) والبيهقي في الدلائل (7/242).
وعن ابن عباس-رضي الله عنه– قال: لمَّا مات رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: اختلف الذين يُغسلونه فسمعوا قائلاً يقول: لا يدرون من هو: اغسلوا نبيكم وعليه قميصُه، فغُسِّل رسول الله-صلى الله عليه وسلم – في قميصه، وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ ما غسَّلَ رسول الله-صلى الله عليه وسلم – إلا نساؤه). أخرجه أبو داود (2/214) (3141)، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عليُّ: فما تناولت عضواً إلا كأنما يقلّبه معي ثلاثون رجلاً حتى فرغتُ من غسله). البيهقي (7/244) وابن سعد (2/213).
وروى ابن سعد عن عبد الله بن الحارث: أن عليّاً غسَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فجعل يقول: "طبت حياً وميتاً، وقال: وسطعتْ ريحٌ طيبة لم يجدوا مثلها قطّ". ابن سعد (2/214-215).
وروى البيهقي عن عبد الملك بن جُريج قال: سمعت محمدَ بن علي أبا جعفر قال: غُسِلَ النبي صلى الله عليه وسلم بالسدر ثلاثاً، أو غُسل وعليه قميص وغسل من بئرٍ، يقال لها: الغرس، بقُباء كانت لسعيد بن خيثمة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يشرب منها، وولي غسله علي والفضل يحتضنه، والعباس يصبّ الماء فجعل الفضلُ يقول: أرخي قطعت وتيني، إني لأجد شيئاً يترطَّل عليّ أي يتلين علي. ( ذهول العقول: 49).
وقال الواقدي: عن عمر بن عبد الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمَ البئرُ بئرُ غرس هي من عيون الجنة، وماؤها أطيب المياه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعذب له منها، وغُسل من بئر غرسٍ. المرجع السابق (50).
وروى ابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا أنا متُّ فاغسلوني بسبع قربٍ من بئر غرس). سنن ابن ماجه رقم (1468)، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الواحد بن أبي عوانٍ قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم– لعلي: (اغسلني إذا متُّ) فقال: يا رسول الله، ما غسُّلتُ ميتاً قط! قال: إنك ستهيأْ أو تُيسرُ، قال علي: فغسلته مما آخذُ عضواً إلا تبعني، والفضلُ آخذٌ بحضنه يقول: أعجل يا عليٌ، انقطع ظهري). أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/215).
وروى الإمام أحمد عن ابن عبَّاس-رضي الله عنه – قال: اجتمع القوم لغُسل رسول الله-صلى الله عليه وسلم–وليس في البيت إلا أهله عمه العباس بن عبد المطلب، وعليُّ بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقُتم بن عبَّاس، وأسامة بن زيد بن حارثة، وصالح مولاه فلَّما اجتمعوا لغسله نادى مناد من وراء الناس،: وهو أوس بن خولي الأنصاري أحد بني عوف بن الخزرج، وكان بدرياً على علي بن أبي طالب فقال: يا علي أنشدك الله وحظنا من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فقال له علي: ادخل، فدخل فحضر غسلَ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ولم يل من غسله شيئاً فأسنده عليّ إلى صدره، وعليه قميصه، وكان العباس، والفضل وقثم يقلبونه مع علي وكان أسامة بن زيد، وصالح مولاه يصبان الماءَ، وجعل عليَّ يغسله ولم ير من رسول الله-صلى الله عليه وسلم–شيئاً مما يرى من الميت وهو يقول: بأبي وأمي ما أطيبك حيَّاً وميتاً، حتى إذا فرغوا من رسول الله-صلى الله عليه وسلم – وكان يُغسَّل بالماء والسدر جففوه ثم صنع به ما يُصنع بالميت.
وقال ابن دحية: لم يختلف في أن الذين غسلوه-صلى الله عليه وسلم-: علي، والفضل، واختلف في العباس، وأسامة، وقثم، وشقران) نيل الأوطار (4/66).
وقال المقدسي: وغسَّله علي بن أبي طالب، وعمه العباس، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولياه، وحضرهم أوس بن خولي الأنصار).
راجع: مختصر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم للمقدسي (37).
قال الشوكاني معلقاً على قول عائشة-رضي الله عنها-: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه). قيل: فيه متمسك لمذهب الجمهور–يعني بجواز غسل الزوجة لزوجها الميت- ولكنه لا يُدل على عدم جواز الجنس لجنسه، مع وجود الزوجة، ولا على أنها أولى من الرجال؛ لأنه قول صحابية ولا حجة فيه، وقد تولى غسله-صلى الله عليه وسلم – علي، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد يناول الماء، والعباس واقف، ولم ينقل إلينا أحداً من الصحابة أنكر ذلك فكان إجماعاً منهم) نيل الأوطار (4/66).
رثاء حسان بن ثابت لنبي صلى الله عليه وسلم
بطيبةَ(1) رسمٌ(2) للرسول ومعهــــــــــدٌ***** منيــــر وقــد تعفــــو(3) الرســـومُ وتهمـد(4)
ولا تمتــحى الآيــــات مــن دار حُرْمـــةٍ ***** بــــها منـبـــرُ الهــــادي الـذي كــان يصـعـــدُ
وواضـــــحُ آثــــارٍ وباقـــي معــــــــالــمٍ ***** وربْـــــعٌ لــــه فيــــه مصلـــى ومسـجـــــــدُ
بها حجُرات(5) كــان ينــــزلُ وسطـــــها ***** مــــــن الله نـــــورٌ يُسْتــــضاءُ ويـــوقــــــــدُ
معـارف لم تُطمــــس على العهــــدِ آيُــها ***** أتـــــاها البـلــــــــى فـــالآي منــــها تجـــــدَّدُ
عرفـــتُ بهـــا رسْـــمَ الرَّسُــول وعهــده ***** وقبـــــراً بــها واراه فـــــي التــــُرْبِ مُلحِـــدُ
ظللـتُ بها أبكـــي الرَّسُـــول فأسعـــــدت ***** عيــــــونٌ ومثـــــلاها مــــن الجفـــــن تُسعـدُ
يُذَكِّـرْنَ آلاءَ(6) الرَّسُـــــول ومـــــا أرى ***** لها مُحْصيـــاً نفســــي فنفســـــي تَبَلّــــَـــدُ(7)
مُفَجَّعَةً قــد شفَّـــــها(8) فقــــــدُ أحمـــــد ***** فظلــــــَّت لآلاءِ الـرَّسُــــــــــول تُعـــــــــــدِّدُ
وما بلغــــت من كلِّ أمــــر عَشِيــــرَهُ(9) **** ولكــن لنفســــي بَعْـــدُ ما قـــد توجَّـــــدُ(10)
أطالت وقوفا تذرفُ(11) العين جهــدها **** علـــــى طـــــللِ(12) القبر الذي فيه أحمـــــدُ
فبوركــتَ يا قبــــرَ الرَّسُـــول وبوركــتْ **** بـــلادٌ ثـــوى فيـــــها الـرشيـــــــدُ المســــدَّدُ
وبـــورك لحــدٌ منـــك ضَمّـــَنَ طيِّـــــبــاً ***** عليـــــه بنــاءٌ مــن صفيـــحٍ(13) مُنَضَّـدُ(14)
تهيلُ (15) عليه التربَ أيـــدٍ وأعيــــــنٌ ***** عليـــــــه وقــــد غـــــارت بــــذلك أسعــــــدُ
لقد غيَّبـــوا حِلمْـــاً وعلمــــاً ورحمــــــة ***** عشيـــــةَ عَلّــــــــوهُ الثـــــــرى لا يوسّـــــــَدُ
وراحوا بحــــزنٍ ليــــس فيهــــم نبيُّهــــم**** وقــــــد وهنـــــت منهــــــم ظهـــورٌ وأعضدُ
يُبكَّون من تبـــكي السمــــــاوات يومــــه ***** ومن قد بكتــْه الأرضُ فالنـــاس أكْمـــــَدُ(16)
وهل عدلـــــــت يومـــــاً رزيـــةُ هـــالكٍ ***** رزيــــة يــــــــومٍ مــــات فيـــــــه محـمـــــدُ
تقطَّــع فيــــه منــــزلُ الوحــــي عنهــــم ***** وقد كان ذا نـورٍ يغـــورُ(17) ويُنْجــــــدُ(18)
يدلّ على الرحمـــن من يقتــــــدي بــــــه ***** وينقـــــــذ من هـــــولِ الخــــزايا ويُرشــــــدُ
إمـــامٌ لهــــم يهديهــم الحــقَّ جـــــــاهـداً***** معـلّــــــــِمُ صــــدقٍ إن يُطيعـــوه يَسعــــــَدوا
عفـــوٌ عــن الـزلات يقبـــــَلُ عـــــُذْرَهـم ***** وإن يحسنـــــــوا فـــالله بالخيـــــر أجـــــــودُ
وإن ناب أمـــــرٌ لـم يقـومـــــوا بحمــــلِه **** فمــــن عنـــــــده تيسيــــــــــرُ مــا يتشــــــدَّدُ
فبينا هُـــــمُ فــــــي نعمـــــــةِ الله بينهــــم ***** دليــلٌ بــه نهــــجُ(19) الطريقــــة يُقصَـــــــدُ
عزيزٌ عليه أن يجـــوروا عن الهـــــــدى ***** حـــريـــــصٌ علــــى أن يستقيمــوا ويهتــدوا
عطوف عليهــــــــم لا يُثَنّــــِي جنـــــاحه ***** إلــــى كنـــفٍ(20) يحنـــــو عليهــم ويمهــــد
فبينا هُمُ فـــــي ذلك النـــــــــورِ إذ غـــدا ***** إلــى نــــورهـــم سهمٌ من الموت(21) مقصد
فأصبحَ محمــــوداً إلــــى الله راجـعــــــاً ***** يُبَكِّيــه حَتَّـــى المـــرســلات(22) ويحمــــــدُ
وأمست بلاد الحُرْمِ(23) وحشــاً بقاعُــها ***** لغيبــــة مـا كانــــت مـن الوحــــي تعهـــــــدُ
قفاراً سوى معمورةِ اللحدِ ضـافـــها(24) ***** فقيــــدٌ يُبَكِّينـــه بــــــــلاطٌ(25) وغــرقـــــــدُ
ومسجــــــدُه فـالمـوحشـــــاتُ لفـقــــــده ***** خـــــــــلاءٌ لـــــه فيـــــه مقــــــامٌ ومقعــــــدُ
وبالجمــــرةِ الكبــــرى لــه ثمَّ أوحشـــت ***** ديــــــــــارٌ وعَـرْصــــاتٌ وربــــع ومـــولــدُ
فَبَكِّــــى رســـــول اللهِ يا عيــــنُ عــــبرةً ***** ولا أعرفنْــــكِ الـدهـــــــرَ دمعــــُك يجمـــــدُ
وما لك لا تبكيـــــن ذا النعــــمة التــــــي ***** على النـــاس منها سابــــغٌ(26) يُتَغَمّــــَدُ(27)
فجــــــودي علــــيه بالدمــــوعِ وأعْوِلـي ***** لفقـــــدِ الــذي لا مثــــله الـدهــــــرَ يـوجَــــدُ
وما فتتقد المــاضـــــون مـــــثل محمــــد ****** ولا مثـــــله حَتـــــَّى القيـــــــامة يُفقـــــــــــدُ
أعـــــفَّ وأوفـــى ذمـــة بعـــــــد ذمــــةٍ ***** وأقـــــــربَ منــــــــه نائــــــلاً لا يُنَـكَّــــــــدُ
وأبذلَ منه للطريفِ(28) وتـــالــــــدٍ(29 ****** إذ ضنَّ(30) معطـــاءٌ بمــــا كـان يُتْــلــَدُ(31)
وأكرم صيتاً(32) في البيوت إذا انتـمـــى****** وأكـــــرم جَــــــدّاً أبطحيّـــاً(33) يسَـــــــــوَّد
وأمنــــعَ ذِروات(34) وأثبـت في العـــلا ***** دعائــــــم عِــــزٍّ شــاهقــات(35) تُشيّــــــــــَدُ
وأثبت فـــرعاً في الفـــــروع ومنبتـــــــاً ***** وعوداً غذَاه المزن(36) فالعودُ أغيَـــــــدُ(37)
ربـــــــاه وليـــــــــداً فاستتــــمَّ تمـامـــــُه ***** علـــــى أكـــــرم الخيــــرات ربٌّ ممجّـــــــَدُ
تناهـــــت وصــــاةُ المسـلمــــين بـــكفــِّه ***** فــلا العلـــم محبــوس ولا الرأي يُفْنــــدُ(38)
أقـــول ولا يُلقـــَى لقـولــــي عائــــــــبٌ ***** من النـاسِ إلا عــازبُ العقــل(39) مُبْعَـــــــدُ
ولـيــــــس هــــوايَ نـــازعاً عن ثنـــــائه***** لعلــــِّي بـــه فــي جنـــةِ الخــــلـدِ أخـلـــــــدُ
مع المصطفــى أرجـــو بـــذاك جـــواره ***** وفـــي نيـلِ ذاك اليـوم أسعى وأجهــــــد(40)
وقال حسانُ-أيضاً- يبكي رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-:
مـا بــالُ عينــك لا تنـــامُ كــأنـــها ****** كُحِلتْ مآقيها(41) بكُحْلِ الأرمـَدِ(42)
جزعاً على المهديِّ أصبح ثاويــــاً ****** يا خير من وطئ الحَصَى لا تبعـــــــد
وجهي يقيك التربَ لهفي ليتنـــــي ****** غُيِّبْتُ قبلك في بقيــع الغـرقـــــدِ(43)
بأبي وأمي من شهــــدتُ وفاتــــه ****** في يوم الاثنين النَّبـــيّ المهتـــــــــدي
فظللتُ بعـــــد وفاتـــه متبــــــلـداً ****** مُتَلدَّداً(44) يا ليتنـــــي لـم أولـــــــــد
أأُقيــم بعــــــدك بالمدينــــةِ بيهـــم ****** ياليتني صُبَّحتُ(45) سَمَّ الأسـودِ(46)
أو حــلَّ أمــرُ الله فينـــا عاجــــلاً ****** في روحةٍ من يومنــــا أو مـــن غـــدِ
فتقــومُ ساعتُنــا فتلقـــــى طيِّبـــــاً ****** محضاً ضرائبه(47)كريم المَحتدِ(48)
يا بكـــــر آمنـــةَ المبــارك بكرُها ****** ولدته مُحصَنَــةً بسَعْــــدِ الأسعــــــــُدِ
نوراً أضاء علــى البريـــةِ كلّـــِها ****** من يُهْد للنــــور المبــــارك يهتـــــدي
يــا ربُّ فاجمعنــا معـــــاً ونبيّنـــا ****** في جنة تُثني عيـــــون الحُسّــــَدِ(49)
في جنةِ الفـردوسِ فاكتبـــها لنــــا ****** ياذا الجلال وذا العــــلا والسُّــــــؤددِ
والله أسمـــــع ما بقيـــت بهــــالكٍ ****** إلا بكيـتُ علــــى النَّبــــيّ محمـــــــدِ
يا ويح أنصار النَّبــــيّ ورهطــــه ******* بعد المغيــــب في ســواءِ المَلْحدِ(50)
ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحـوا *******سوداً وجوههم كلـــــونِ الإثمـــدِ(51)
ولقـد ولدنـــاه(52) وفينــــا قبــرُه ******* وفضـــولُ نعمتــــه بنـــا لم نجْحـــــدِ
والله أكـرمنـــا بـه وهــــدى بــــه ******* أنصــاره فــي كـل ســاعة مشهـــــــدِ
صلى الإله ومن يحفُّ بعــرشِــــه ******* والطيبون على المبـــــارك أحمـــــــدِ
وقال حسانُ-أيضاً-رَضِيَ اللُه عَنْهُ:
نبِّ المساكيـن أن الخير فارقهم ******مــع النَّبـيّ تولّى عنهم سَحَـــراً
كان الضيــاءَ وكان النورَ نتبَعه****** بعد الإله وكان السمعَ والبصرا
فليتنا يــــوم وارَوه بملحــــــده****** وغيَّبوه وألقَـوْا فوقـه المَــــدَرا
لم يترك الله منــا بعــده أحـــداً ****** ولم يَعِشْ بعـده أُنثـى ولا ذكـرا
ذلت رقابُ بنيِ النجَّــارِ كلِّهــمِ ****** وكان أمراً من أمر الله قد قُـدِرا
وقال حسانُ–أيضاً-:
تالله ما حملت أنثــى ولا وضــــعت ****** مثــلَ الرَّسُــــول نبــيِّ الأمــةِ الهـــادي
ولا بــرى الله خلقـــاً مــن بريتـــــه ****** أوفــى بذمـــة جــــارٍ أو بميـعــــــــــادِ
مــــن الــذي كان فينـا يُستضــاءُ بـه ****** مبـــارك الأمــر ذا عـــدلٍ وإرشـــــــادِ
أمسى نسـاؤك عطَّلـْن البيـوت فمـــا ****** يضربن فــوق قفـــــــا سِتــْرٍ بأوتـــــارِ
مثل الرواهب يَلْبَسْنَ المباذل(53) قد ****** أيقنَّ بالبؤس بعـــد النعمــةِ البـــــــــادي
يا أفضـــل الناسِ إني كنتُ في نَهـَرٍ ****** أصبحتُ منه كمثل المفرد الصادي(54)
بعض أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم في مرضه
مسارة النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: اجتمع نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنده، لم يغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشي لا تخطئ مشيتها مشية أبيها فقال: مرحباً بابنتي، فأقعدها يمينه أو شماله، ثم سارّها بشيء فبكت، ثم سارَّها فضحكت، فقلت لها: خَصّك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسِّرار وأنت تبكين؟! فلما أن قامت قلت: أخبريني ما سارّك؟ فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما توفي قلت لها: أسألك لما لي عليك من الحق لما أخبرتيني، قالت: أما الآن فنعم، قالت: سارّني في الأول قال لي: (إن جبريل كان يعارضني في القرآن كل سنة مرة، وقد عارضني في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي، فاتقي الله واصبري، فنعم السلف أنا لك) فبكيت، ثم سارّني فقال: (أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)؟ فضحكت(1).
وفي رواية لمسلم: (وأنك أول أهلي لحوقاً بي)مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل فاطمة بنت النبي (4/1905) رقم (2450).
هلموا أكتب لكم كتاباً:
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: لما حُضِر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي البيت رجال منهم عمر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هلُمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده)، فقال عمر: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي -صلى الله عليه وسلم- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قوموا قال عبيد الله: فكان بن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(2).
تصدق النبي صلى الله عليه وسلم بما عنده:
روى ابن سعد في الطبقات عن سهل بن سعد قال كانت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعة دنانير وضعها عند عائشة فلما كان في مرضه قال: (يا عائشة ابعثي بالذهب إلى علي)، ثم أُغمي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشغل عائشة ما به حتى قال ذلك ثلاث مرات كل ذلك يغمى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويشغل عائشة ما به فبعثت يعني به إلى علي فتصدق به ثم أمسى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإثنين في جديد(3) الموت فأرسلت عائشة إلى امرأة من النساء بمصباحها فقالت: أقطري لنا في مصباحنا من عُكَّتك(4) السَّمن فإن رسول الله أمسى في جديد الموت(5).
أثر السم الذي أكله في خيبر:
قالت عائشة -رضي الله عنها- كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه الذي مات فيه: (يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوانُ وجَدْتُ انقطاع أبهَري(6) من ذلك السُّم)(7).
هل مات النبي -صلى الله عليه وسلم- شهيداً؟
قال بعض العلماء: إن الله -عز وجل- جمع لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بين النبوة والشهادة، فقد خرَّج الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: لأن أحلف بالله تسعاً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قُتل قتلاً أحب إليَّ من أن أحلف واحدة، وذلك بأن الله -عز وجل- اتخذه نبياً وجعله شهيداً. مسند أحمد (5/220) رقم (3617) و(5/334) رقم (3873) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/34) وفيه زيادة: (أنه لم يقتل) بعد قوله: (واحدة) وقال الهيثمي: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح)، ورواه أيضاً الحاكم في مستدركه (3/58) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
ويقول ابن ناصر الدمشقي رحمه الله في كتابه "سلوة الكئيب بوفاة الحبيب" ص (110): ولقد حصلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- الشهادة، وهي على ما أكرمه الله تعالى زيادة.
آخر وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم-:
لقد ازدادت شدة المرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بحيث كان يغمى عليه في اليوم الواحد مرات عديدة، ومع ذلك كله أحب -صلى الله عليه وسلم- أن يفارق الدنيا وهو مطمئن على أمته أن لا تضل من بعده، فأراد أن يكتب لهم كتاباً مفصلاً ليجتمعوا عليه ولا يتنازعوا، فلما اختلفوا عنده -صلى الله عليه وسلم- عدل عن كتابة ذلك الكتاب وأوصاهم بأمر ثلاث ذكر الراوي منها اثنتين:
عن بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى عند موته بثلاث: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) ونسيت الثالثة(8).
* ومن وصاياه -صلى الله عليه وسلم- وهو يعاني سكرات الموت ما روته عائشة وابن عباس -رضي الله عنهما- قالا: لما نُزِل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذِّرُ مثل ما صنعوا(9).
* وروى الأمام مالك عن عمر بن عبد العزيز قال: كان من آخر ما تكلم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب)(10).
* وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن)(11).
* وعن أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين حضره الموت: (الصلاة وما ملكت أيمانكم)، حتى جعل يغرغر بها في صدره، ولا يفيض بها لسانه(12).
* وعن ابن عباس قال: كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السَّتر، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- معصوبٌ في مرضه الذي مات فيه، فقال: (اللهم بلغت) ثلاث مرات؛ (إنه لم يبق من مبشرَّات النبوة إلا الرؤيا، يراها المسلم أو تُرى له ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن ركعاً أو ساجداً؛ فإما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ(13) أن يستجاب لكم)(14).
الساعات الأخيرة من حياة المصطفى:
كان أبو بكر يصلي بالمسلمين، حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف في صلاة الفجر، كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجر، ينظر إلى المسلمين وهم وقوف أمام ربهم، ورأى كيف أثمر غرس دعوته وجهاده، وكيف نشأت أمة تحافظ على الصلاة، وتواظب عليها بحضرة نبيها وغيبته، وقد قرت عينه بهذا المنظر البهيج، وبهذا النجاح الذي لم يقدر لنبي أو داعٍ قبله، واطمأن أن صلة هذه الأمة بهذا الدين وعبادة الله تعالى، صلة دائمة، لا تقطعها وفاة نبيها، فملئ من السرور ما الله به عليم، واستنار وجهه وهو منير(15)، قال أنس بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه-: إن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر فتوفي من يومه (16).
ولما رأى الصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وما به من خفة انصرف بعض الصحابة إلى أعمالهم، ودخل أبو بكر على ابنته عائشة وقال: ما أرى رسول الله إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة –إحدى زوجتيه- وكانت تسكن بالسُّنح(17)، فركب على فرسه وذهب إلى منزله(18).
في الرفيق الأعلى:
واشتدت سكرات الموت بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ودخل عليه أسامة بن زيد وقد صمت فلا يقدر على الكلام، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة، فعرف أنه يدعوا له(19)، وأخذت السيدة عائشة رسول الله وأوسدته إلى صدرها بين سحرها(20) ونحرها، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر أليه، فقالت عائشة: آخذه لك، فأشار برأسه نعم، فأخذته من أخيها ثم مضغته ولينته وناولته إياه فاستاك به كأحسن ما يكون الاستياك وكل ذلك وهو لا ينفك عن قوله: (في الرفيق الأعلى)(21).
إن للموت سكرات:
وكان بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- رَكْوَة (22) أو عُلبة(23) فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء، فمسح بها وجهه ويقول: (لا إله إلا الله... إن للموت سكرات)، ثم نصب يده فجعل يقول: (في الرفيق الأعلى)، حتى قُبضَ ومالت يده.(24) وفي لفظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (اللهم أعني على سكرات الموت)(25).
وفي رواية: أن عائشة -رضي الله عنها- سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند ظهره يقول: (اللهم اغفر لي، وارحمني وألحقني بالرفيق)(26).
وقد ورد أن فاطمة -رضي الله عنها- قالت: وا كرب أباه، فقال لها: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم)، فلما مات قالت: يا أبتاه ... أجاب رباً دعاه، يا أبتاه.. جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه... إلى جبريل ننعاه، فلما دفن -صلى الله عليه وسلم- قالت لأنس كيف طابت أنفسكم أن تحثو على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراب(27).
مدة مرضه صلى الله عليه وسلم:
قال ابن حجر: "اختُلف أيضاً في مدة مرضه عليه السلام، فالأكثر على أنها ثلاثة عشر يوماً، وقيل بزيادة يوم وقيل بنقصه... وقيل: عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح". فتح الباري (7/736).
كيف فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا؟
فارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب، ويرهبه ملوك الدنيا ويفديه أصحابُه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم، وما ترك عند موته ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا أمة، ولا شيئاً، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة(28).
وتوفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير (29)
وكان ذلك يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11 للهجرة بعد الزوال(30) وله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث وستون سنة(31)، وكان أشد الأيام سواداً ووحشة ومصابا على المسلمين، ومحنة كبرى للبشرية، كما كان يوم ولادته أسعد يوم طلعت فيه الشمس(32).
يقول أنس -رضي الله عنه-: كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء(33)، وبكت أم أيمن فقيل لها: ما يبكيك على النبي، قالت: إني قد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيموت، ولكن إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا(34).
هول الفاجعة وموقف أبي بكر منها:
قال الحافظ ابن رجب: ولما توفي -صلى الله عليه وسلم- اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من اعتُقِل لسانه فلم يُطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية(35).
وقال القرطبي مبيناً عظم هذه المصيبة وما ترتب عليها من أمور:
من أعظم المصائب المصيبة في الدين.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها أعظم المصائب(36)، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه (37)
لقد أذهل نبأ الوفاة عمر -رضي الله عنه- فصار يتوعد وينذر من يزعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات ويقول: ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فيلقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات(38).
ولما سمع أبو بكر الخبر أقبل على فرس من مسكنه بالسُّنح، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلّم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مُغشّى بثوب حِبَرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليه موتتين، أما الموتة التي عليك فقد متها(39)، وخرج أبو بكر وعمر يتكلم فقال: اجلس يا عمر، وهو ماض في كلامه، وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكر في الناس خطيباً بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أما بعد: فإن من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) آل عمران: 144.
قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات(40).
قال القرطبي: هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة والجرأة جدُّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي -صلى الله عليه وسلم- فظهرت شجاعته وعلمه، قال الناس: لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر، فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُّنح(41).
فرحم الله الصدِّيق الأكبر، كم من مصيبة درأها عن الأمة، وكم من فتنة كان المخرج على يديه، وكم من مشكلة ومعضلة كشفها بشهب الأدلة من القرآن والسنة، التي خفيت على مثل عمر -رضي الله عنه-، فاعرفوا للصديق حقه، واقدروا له قدره. وأحبوا حبيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحبه إيمان وبغضه نفاق(42).
بيعة أبي بكر الصديق بالخلافة:
وبايع المسلمون أبا بكر بالخلافة، في سقيفة بني ساعدة، حتى لا يجد الشيطان سبيلاً إلى تفريق كلمتهم، وتمزيق شملهم، ولا تلعب الأهواء بقلوبهم، وليفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا وكلمة المسلمين واحدة، وشملهم منتظم، وعليهم أمير يتولى أمورهم، ومنها تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه(43).
الذين قاموا بدفنه صلى الله عليه وسلم
روى أبو يعلى وابن ماجة عن ابن عبَّاس – رضي الله تعالى عنهما – قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول - صلى الله عليه وسلم – دعا العبَّاس رجُلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عُبَيْدة بن الجَّراح وكان يضرحُ لأهل مكة، وقال لآخر: (اذهب إلى أبي طلحة، وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة، وكان يُلحد فقالوا: اللهم خِرْ لرسولك، فوجدوا أبا طلحة فجيء به ولم يوجَدْ أبو عبيدة فلحد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم– ثم دُفن رسول الله-صلى الله عليه وسلم – وسط اللَّيل من ليلة الأربعاء ونزل في حُفرته عليُّ بنُ أبي طالبٍ والفضل، وقُثم بن عبَّاس، وشُقران مولى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وقال أوس ابن خولي وهو أبو ليلى لعلي بن أبي طالب: أنشدك الله، وحظُّنا من رسول الله-صلى الله عليه وسلم– فقال له علي: انزلْ، وكان شُقران مولاهُ أخذ قطيفة حمراءَ كان سول الله-صلى الله عليه وسلم – يلبسُها فدفنها في القبر وقال: واللهُ، لا يلبسهاُ أحد بعدك أبداً فدُفنت مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم –". البيهقي في الدلائل( 7/252).
وروى ابن سعد عن أبي طلحة - رضي الله عنه – نحوه). ابن سعد (2/228).
وروى "الإمام الشافعي"-رضي الله عنه – قال: سُل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – من قبل رأسه). والبيهقي في السنن الكبرى (4/54).
وعن ابن عباس-رضي الله عنه– قال:( وضُع تحت رسول الله-صلى الله عليه وسلم – في قبره قطيفة حمراء). صحيح مسلم (2/665) رقم( 967)، كتاب الجنائز ، باب جعل القطيفة في القبر.
وعن جابر-رضي الله عنه– قال:(رُشَّ على قَبْرِ رسول الله-صلى الله عليه وسلم–الماءُ، قال: وكان الذي رَشَّ على قبره المَاءَ بلال بنْ رباح بقربه، بدءاً من قبل رأسه من شقه الأيمن حتى انتهى إلى رجليه، ثم ضرب الماء على الجدار، ولم يقدر على أن يدور من الجدار). ابن سعد في الطبقات (2/233)، والبيهقي في الدلائل (7/264).
وروى مسدد بسند صحيح عن علي-رضي الله عنه–وأجنانه دون الناس أربعة: علي بن أبي طالب، والعبَّاس، والفضل بن العباس، وصالح مولى رسول الله-صلى الله عليه وسلم – (ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ألحدَ ونصب عليه اللبن نصباً) صحيح ابن حبان (14/602).
قال الشعبي وأخبرني مرحب أو ابن أبي مرحب أنهم أدخلوا معهم في القبر عبد الرحمن بن عوف. ابن سعد (2/229).
وروى ابن سعد عن ابن شهاب قال: ولي وضع رسول الله-صلى الله عليه وسلم–في قبره هؤلاء الرهطُ الذين غسَّلوه: العباس وعليَّ والفضل وصالح مولاه وخلّي أصحابُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم– بين رسول الله-صلى الله عليه وسلم وأهلهِ ...). ابن سعد (2/230).
وعن أنس رضي الله عنه قال: (لمَّا دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة رضي الله عنها : يا أنسُ، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب).
البخاري، الفتح، رقم(7/755).رقم(4462).كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن نفراً من أهل العراق، قالوا لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (يا أبا الحسن، جئناك نسألك عن أمر، نحبُّ أن تنجزنا عنه قال: أظن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان أحدث الناسَ عهداً برسول الله-صلى الله عليه وسلم–قالوا: أجل عن ذلك جئنا لنسألك، قال: أحدث الناسِ عهداً برسول الله-صلى الله عليه وسلم–قُتمُ بن العَبَّاس". البيهقي في الدلائل (7/257).
وعن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة قال: لمَّا وضع رسول الله-صلى الله عليه وسلم–في لحده ألقى المغيرةُ بن شعبة خاتمهُ في قبر النبي-صلى الله عليه وسلم–فقال علي: إنما ألقيته لتنزل فنزل، فأعطاه إياه أو أمر رجلاً فأعطاه). البيهقي في الدلائل (7/258) والمغازي للواقدي (3/1121).
وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله-صلى الله عليه وسلم–عليَّ بن أبي طالب، والفضل بن العباس، وقُثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله-صلى الله عليه وسلم –). تاريخ الطبراني 3/213، والمعارف لابن قتيبة 166، وطبقات ابن سعد (2/300)، وأنساب الأشراف (1/577)، وتاريخ الإسلام (السيرة) 581.
وقد قال أوس بن خولي لعلي بن أبي طالب: انزل، فنزل مع القوم، وقد كان مولاه شُقران حين وضع رسول الله-صلى الله عليه وسلم في حُفرته وبنى عليه قد أخذ قطيفة، وقد كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم–يلبسها ويفترشها، فدفنها في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك أبداً. قال: فدُفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تاريخ الطبري (3/214).
ولما فُزع من دفنه يوم الثلاثاء، وكانت وفاته يوم الاثنين حين زاغت الشمس قال علي: قد سمعنا همهمة ولم نر شخصاً، سمعنا هاتفاً يقول: ادخلوا رحمكم الله فصلّوا على نبيكم.
ثم دفن من وسط الليل، ليلة الأربعاء، وكانت مدة شكواه ثلاثَ عشر ليلة. ولما دفُن-عليه الصلاة والسلام – قالت فاطمة ابنته:
اغبَّر آفـاقُ السمـاء وكــــَوَّرتْ **** شمسُ النهارِ وأظلـــمَ العصــــران
فالأرض من بعد النبي كئـيبــة **** أسـفــــاً عليـــــه كثــيرةٌ الـرجــفانِ
فليبكه شرقُ البــلاد وغربـــها **** ولتبـــكه مضـJJـــرٌ وكــل يمــــان
وليبكه الطـــودُ المعـظّم جــوُّه **** والبـيــت ذو الأستــــار والأركــان
يا خاتم الرُّسلِ المبَارك ضوؤه **** صلَّــى عليـــك مُـنــزلُ الفـرقــــان
مرض النبي صلى الله عليه وسلم
بدء الشكوى:
قال محمد بن إسحاق: رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع في ذي الحجة، فأقام بالمدينة بقيته والمحرم وصفراً، وبعث أسامة بن زيد، فبينا الناس على ذلك ابتدئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شكواه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراده الله من رحمته وكرامته في ليالٍ بقين من صفر، أو في أول شهر ربيع الأول، فكان أول ما ابتدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر لي، أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل فاستغفر لهم ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك(1).
النبي في البقيع وزيارته قتلى أحد وصلاته عليهم:
عن أبي مويهبة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جوف الليل فقال: (يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي)، فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال: (السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شرٌ من الأولى(2))، ثم أقبل عليَّ فقال: (يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة)، قال فقلت: بأبي أنت وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: (لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة)، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدأ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعه الذي قبضه الله فيه(3).
ومن حديث عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلَّى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: (إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)، فقال عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(4).
وارأساه!!
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: رجع إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة من البقيع فوجدني، وأنا أجد صداعاً وأنا أقول: وارأساه، قال: (بل أنا يا عائشة وارأساه وما ضرك لو مِت قبلي فغسلتك وكفنتك، وصليت عليك ودفنتك)، فقلت: لكأني بك -والله- لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بدأ وجعه الذي مات فيه(5).
وهذا الحديث أصله في البخاري قالت عائشة: وارأساه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك)، فقالت عائشة: واثكلياه!! والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذاك لظللت آخر يومك مُعَرِّساً ببعض أزواجك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بل أنا وارأساه)(6).
في بيت ميمونة:
عن عائشة قالت: أول ما اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة فاستأذن أزواجه أن يمرَّض في بيتها فأذِنَّ له(7)
في بيت عائشة:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما ثقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واشتد وجعه استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي، فأذن له فخرج وهو بين رجلين، تخط رجلاه في الأرض؛ بين عباسٍ ورجل آخر، قال ابن عباس: هو عليٌّ. قالت: ولما دخل بيتي اشتد وجعُه، قال: (أهريقوا علي من سبع قرب لم تُحلل أوكيتهن(8)، لعلي أعهد إلى الناس)، فأجلسناه في مِخْضَب(9) لحفصة، ثم طَفِقْنا(10) نَصُبُّ عليه من تلك القرب، حتى طَفِقَ يشير إلينا بيده أن قد فعلتنَّ، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم (11)
وقالت عائشة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟) يريد يومي فإذنَ له أزواجُه أن يكون حيث شاء فكان في بيتي حتى مات في اليوم الذي كان يدور عليَّ فيه، وقبضه الله وإن رأسه لبين نحري(12) وسحري(13)، وخالط ريقه ريقي، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يسنتنَّ به، فنظر -صلى الله عليه وسلم- إليه، فقلت: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه، فقضمتُه(14)، ثم مضغتُه، فأعطيتُه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستنّ به، وهو مستندٌ إلى صدري(15).
وصيته -صلى الله عليه وسلم- بالأنصار:
ولما اشتد الوجع برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجد العباس رضي الله عنه قوم من الأنصار يبكون، فقال لهم ما يبكيكم؟ قالوا ذكرنا مجلسنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدخل العباس عليه -صلى الله عليه وسلم- فأخبره فعُصِّب بعصابة دسماء(16)، أو قال: بحاشية برد(17)، وخرج وصعد المنبر ولم يصعَدْ بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي(18)، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)(19).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه ملحفة متعطفا بها على منكبيه وعليه عصابة دسماء حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد أيها الناس فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم) (20)
أمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس:
لما اشتد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الوجع والحمى، ولم يستطع الخروج للصلاة بالناس أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، وكان ذلك منه في الأيام الأخيرة من مرضه.
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة فقلت ألا تحدثيني عن مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: بلى ثقل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (أصلى الناس؟) قلنا: لا هم ينتظرونك، قال: (ضعوا لي ماء في المخضب) قالت: ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أصلى الناس؟) قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: (ضعوا لي ماء في المخضب) قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: (أصلى الناس؟)، قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: (ضعوا لي ماء في المخضب)، فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: (أصلى الناس؟)، فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي -عليه السلام لصلاة- العشاء الآخرة، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقاً: يا عمر صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن لا يتأخر، قال أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، قال: فجعل أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قاعد(21).
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن بلال، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فقيل له إن أبا بكر رجل أسيف(22) إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: (إنكن صواحب يوسف(23) مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فخرج أبو بكر فصلى فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- من نفسه خفة فخرج يهادي بين رجلين كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مكانك ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه. قيل للأعمش وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر! فقال برأسه نعم(24).
قراءة عائشة المعوذات عليه صلى الله عليه وسلم:
عن عروة بن الزبير -رضي الله عنهما- أن عائشة -رضي الله عنها- أخبرته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه، طفِقْتُ أنفث على نفسه بالمعوَّذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه (25)
شدة الحمى التي نزلت بالنبي صلى الله عليه وسلم:
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: وضع رجل يده على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حُمَّاك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنا معشر الأنبياء يُضاعفُ لنا البلاءُ كما يُضاعف لنا الأجرُ. إن كان النبي من الأنبياء يُبتلى بالقمل حتى يَقْتُلَهُ، وان كان النبي من الأنبياء ليُبتلي بالفقر حتى يأخذ العباءة فيجوبها (26) وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء) (27)
قالت عائشة: ما رأيت رجلاً أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
البخاري مع الفتح، كتاب المرضى، باب شدة المرض (5646)، مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثوب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها(4/1990) رقم (2570).
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك وعكاً شديداً فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكاً شديداً! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أجل)، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) البخاري مع الفتح، كتاب المرضى، باب وضع اليد على المريض (5660)، مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثوب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (4/1991) رقم (2571).
عظم المصيبة بوفاته صلى الله عليه وسلم
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في أحداث سنة إحدى عشرة من الهجرة: استهلت هذه السنة وقد استقر الركابُ الشريف النبوي بالمدينة النبوية المطهرة، مرجعه من حجة الوداع.
وقد وقعت في هذه السنة أمورٌ عظام، من أعظمها حطباً وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه عليه السلام نقله الله -عز وجل- من هذه الدار الفانية إلى النعيم المقيم الأبدي، في محلة عالية رفيعة، ودرجة في الجنة لا أعلى منها ولا أسنى، كما قال تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى)الضحى: 4-5، وذلك بعد ما أكمل أداء الرسالة التي أمره الله بإبلاغها ونصح أمته، ودلهم على خير ما يعلمه لهم، وحذرهم ونهاهم عما فيه مضرة لهم في دنياهم وآخراهم (1)
لقد كانت وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعظم حدث مر بالمسلمين فأذهل عقولهم، وزلزل أركانهم، وأفقدهم الوعي والفكر والفهم.
قال الحافظ ابن رجب: ولما توفي -صلى الله عليه وسلم- اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من اعتُقِل لسانه فلم يُطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية(2).
وقال الإمام أبو بكر ابن العربي: بعد أن استأثر الله بنبيه -صلى الله عليه وسلم- وقد أكمل له ولنا دينه، وأتم عليه وعلينا نعمته، كما قال تعالى: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)المائدة: 3. وما من شيء في الدنيا يكمُلُ إلا وجاءه النقصان ليكون الكمال الذي يراد به وجه الله خاصة، وذلك العمل الصالح والدار الآخرة فهي دار الله الكاملة.
واضطربت الحال، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة أبي بكر، فكان موت النبي -صلى الله عليه وسلم- قاصمة الظهر ومصيبة العمر؛ فأما علي فاستخفى في بيته مع فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فأهجر(3) وقال: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واضطرب أمر الأنصار يطلبون الأمر لأنفسهم أو الشركة فيه مع المهاجرين، وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع أسامة بن زيد بالجرف(4).
وقد بين الحافظ ابن كثير عظم الخطب وشدة البلاء واضطراب الأمر فقال مصوراً حال المسلمين: فاشتدت الرزيةُ بموته صلى الله عليه وسلم وعظُم الخطب، وجلَّ الأمر وأصيب المسلمون بنبيهم، وأنكر عمر بن الخطاب ذلك، وماج الناس، وجاء الصديق المؤيد المنصور -رضي الله عنه- أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، فأقام الأوَد(5)، وصدع بالحق وخطب الناس(6)
قال ابن عبد البر: ولم يصدق عمر بموته، وأنكر على من قال: مات وخرج إلى المسجد، فخطب وقال في خطبته: إن المنافقين يقولون: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي، والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم، والله ليرجعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجالٍ وأرجلهم، زعموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات(7).
وأخرج ابن سعد عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كاد بعضهم يوسوس!! فكنت ممن حزن عليه، فبينا أنا جالس في أُطم من آطام المدينة(8) -وقد بويع أبو بكر- إذ مر بي عمر فسلم علي فلم أشعر به لما بي من الحُزن(9).
وقال أبو ذؤيب الهذلي: قدمت المدينة، ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مه!! فقالوا: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لقد حزن عليه -صلى الله عليه وسلم- أصحابه حزناً شديداً وكانت الواقعة عليهم عظيمة، لم يطق بعضهم أن يتحمل تلك الصدمة التي تلقها عندما سمعوا بموت حبيبهم الذي كانوا يجالسونه ويسمعون كلامه، ويتلوا عليهم آيات ربهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويخرج معم للقتال ويشاركهم في شؤون حياتهم، وبفقده فقد انتهى ذلك كله. حقاً إنها لمصيبة عظيمة، وخطب جلل، عليهم وعلى الأمة جميعاً أولها وآخرها.
وكيف لا تكون كذلك وهو الرحمة المهداة، والبشير النذير، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبودية المخلوقات إلى عبودية رب الأرض والسماوات، ولكن التسليم لقضاء الله وقدره يجعل المؤمن راضياً بما قضى ويستسلم لما نزل.
ولم يصب المؤمن بمصيبة مثل ما أصيب بموت الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مُصابه بي فإنها أعظم المصائب)(10).
وقال ابن رجب: كل المصائب تهون عند هذه المصيبة... قال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبد الله اتق الله، فإن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
تذكــــــرتُ لمـــا فــرقَ الدهــرُ بيننـــا *** فعـزيــتُ نفســـي بالنــبي مـحمــــد
وقـلــــتُ لـــهـا إنَّ المنـــــايا سـبيلنـــا *** فمـن لم يمـتْ في يومه مات في غد
كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول، فكيف بقلوب المؤمنين!!
لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه وصاح كما يصيح الصبي، فنزل إليه فاعتنقه، فجعل يُهَدَّى(11) كما يُهَدَّى الصبي الذي يُسَكَّن عند بكائه فقال: (لو لم أعتنقه لحن إلى يوم القيامة)(12).
كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه(13)، وروي أن بلالاً كان يؤذن بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل دفنه فإذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب، فلما دفن ترك بلال الأذان.
وتُلفِتُ أم أيمن نظرنا إلى أمر آخر عظيم أصيب به المسلمون بوفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو انقطاع الوحي من السماء، قال أبو بكر لعمر -رضي الله عنهما-: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقال لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، قالت: والله ما أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها(14).
وذكر موسى بن عقبة في قصة وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أن الناس رجعوا حين فرغ أبو بكر من خطبته وأم أيمن قاعدة تبكي، فقيل لها: ما يبكيك يا أم أيمن؟ قد أكرم الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأدخله جنته، وأراحه من نصب الدنيا، فقالت: إنما أبكي على خبر السماء، كان يأتينا غضاً جديداً كل يوم وليلة فقد انقطع ورفع وعليه أبكي... فعجب الناسُ من قولها(15).
النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة-رَضِيَ اللهُ عنهُ – قال: قال رسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -:(لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة) المسند (2/495).
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود من طرق عن مالك بن أنس عن أبي الزناد عبد الله ابن ذكوان عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة: أن رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ– قال:(لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة). لفظ البخاري كتاب الفرائض باب قول النَّبيِّ لا نورث ما تركنا صدقة (12/8) رقم (6729).
وعن عائشة-رَضِيَ اللهُ عنهُا –:أن أزواج النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–حين تُوفِّيَ رسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر ليسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قد قال رسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: (لا نورث ما تركنا صدقة) رواه البخاري كتاب الفرائص باب قول النَّبيّ ما تركنا صدقة (12/8) رقم (6730)، ومسلم كتاب الجهاد والسير باب قول النَّبيّ ما تركناه فهو صدقة (3/1379) رقم (1758).
وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عنهُا-:أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر-رَضِيَ اللهُ عنهُ –يلتمسان ميراثهما من رسول الله وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر. فقال لهما أبوبكر: سمعت سول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –يقول:(لا نُورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال). قال أبوبكر والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –يصنعه فيه إلا صنعته.
البخاري- الفتح- كتاب الفرائض، باب قول النَّبيّ ما تركنا صدقة (12/7) رقم (6725).
وعن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أرسل إليَّ عمر بعدما تعالى النهار، قال: فذهبت فوجدته على سرير مفضياً إلى رماله فجاء يرفأ، فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام؟ قال: نعم إئذن لهم. فدخلوا عليه، ثم جاء يرفأ فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في العباس وعلي، قال: نعم فأذن لهما، فدخلا عليه. ثم أقبل عمر على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض تعلمون أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – قال: (لا نورث ما تركنا صدقة؟) قالوا: نعم. فقال عمر للعباس وعلي عليهما السلام: توفي رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ– فقال أبوبكر: أنا ولي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – فجئتما إلى أبي بكر، تطلب أنت–للعباس-ميراثك من ابن أخيك. ويطلب هذا – يعني علياً- ميراث امرأته من أبيها. فقال أبوبكر: قال رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: (إنا لا نورث ما تركنا فهو صدقة). قال عمر: إن الله خصَّ رسوله بخاصة لم يخص بها أحداً من الناس، فقال: (ما أفاء الله على رسول الله منهم فما أوجفتم عليه من خيلٍ ولا ركاب). الحشر: 6. فكان مما أفاء الله على رسوله بني النضير، فو الله ما استأثر بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – ولا أخذها دونكم، فكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – إنما يأخذ منها نفقته سنة أو نفقته ونفقة أهله سنةً، ويجعل ما بقي أسوة المال..)
رواه مسلم كتاب الجهاد والسير باب حكم الفيء (3/1377) رقم (1757)، والبخاري نحوه البخاري ،كتاب المغازي، باب حديث بني النضير (7/389) رقم (4034).
فالذي تركه النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-بعد موته صدقة على المسلمين، وإنما يعطى أهل بيته وأهله ما يكفيهم من هذا المال. والباقي يُصرف في مصالح المسلمين، وذلك لما ورد صريحاً عنه-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
الإرث الحقيقي الذي ورثه:
لقد خرج النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –من هذه الحياة الدنيا، ولم يترك شيئاً من عرضها الزائل لأحدٍ بعده، وخرج منها كما دخل إليها، وقد ترك بها للناس هذا الدين القيم ومهد فيها لهذه الحضارة الإسلامية الكبرى التي تفيأ العالم ظلاها من قبل، وسيتفيأ ظلالها من بعد، وأقر فيها التوحيد، وجعل فيها كلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وقضي فيها على الوثنية في كل صورها ومظاهرها القضاء المبرم، ودعا الناس فيها أن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وترك من بعده كتاب الله هدى للناس ورحمة، وكان فيها المثل الأسمى والأسوة الحسنة. وترك هذا العالم مخلفاً هذا الميراث الروحي العظيم الذي لا يزال ينتشر في العالم حتى يتم الله كلمته، وينصر دينه على الدين كله ولو كره الكافرون.
فالأنبياء لم يكن ميراثهم الدنيا؛ وإنما كان ميراثهم الذي ورَّثوه الشرع الذي أمرهم الله به، فعن أبي الدرداء - رَضِيَ اللهُ عنهُ – قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العالم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي، وحسنه الألباني في" صحيح الترغيب والترهيب"(33).
وقد كان الصحابة يعلمون أن الميراث الذي تركه لهم هو الدين.
فقد مرَّ أبو هريرة بسوق المدينة فوقف عليها فقال: يا أهل السوق! ما أعجزكم قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراثُ رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يُقسَّم، ولا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هؤلاء؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعاً ، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: وما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد فدخلنا فيه، فلم نر فيه شيئاً يُقسَّم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً ؛ قالوا: بلى رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرأون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: ذلك ميراث محمد. قال الألباني: حسن موقوف، "صحيح الترغيب والترهيب" ( 83)، فميراث النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – الحقيقي الذي ورثه هو الدين؛ هو العلم الذي أخذه عنه الصحابة، ومن بعدهم التابعون ثم الأمة من بعد، فهذا الميراث لا زالت الأمة تنهل منه حتى يأتي أمر الله.
5- شبــهة وردهــا:
ادعت الرافضة أن أبا بكر قد منع فاطمة والعباس من سهمهما من فَدَك، وخيبر، ولم يعطهما من هذا الميراث الذي تركه النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ .
قال ابن كثير: وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل، وتكلفوا ما لا علم لهم به، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم، وحاول بعضهم أن يرد خبر أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عنهُ – فيما ذكر، وذلك بأنه مخالف للقرآن، حيث يقول الله - تعالى-: (وورث سليمان داود)النمل: 16، وحيث قال تعالى إخباراً عن زكريا أنه قال: (فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربِّ رضياً)مريم:5-6.
واستدلالاتهم بهذا باطل من وجوه :
أحدها: أن قوله (وورث سليمان داود)النمل: 16 إما يعني بذلك في الملك والنبوة، أي جعلناه قائماً بعده فيما كان عليه من الملك وتدبير الرعايا، والحكم بين بني إسرائيل، وجعلناه نبياً كريماً كأبيه، وكما جمع لأبيه الملك والنبوة كذلك جعل ولده بعده، وليس المراد بهذا وراثة المال؛ لأن داود كما ذكره كثير من المفسرين كان له أولاد كثيرون يقال مائة، فلم اقتصر على ذكر سليمان من بينهم لو كان المراد وراثة المال؟ إنما المراد وراثة القيام بعده بالنبوة والملك، ولهذا قال: (وورث سليمان داود). وقال: (يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين)النمل: 16. وما بعدها من الآيات.
وأما قصة زكريا فإنه - عليه السلام- من الأنبياء الكرام، والدنيا كانت عنده أحقر من أن يسأل الله ولداً لميراثه في ماله؟ وإنما كان نجاراً يأكل من كسب يده. رواه البخاري(1)، ولم يكن ليدخر منها فوق قوته حتى يسأل الله ولداً يرث عنه ماله – أن لو كان له ماله- وإنما سأل ولداً صالحاً يرثه في النبوة، والقيام بمصالح بني إسرائيل، وحملهم على السداد، ولهذا قال تعالى: (كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)مريم: 1-6. القصة بتمامها
فقال: ولياً يرثني من آل يعقوب، يعني النبوة كما قررنا ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة، وقد تقدم رواية أبي سلمة عن أبي هريرة عن أبي بكر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – قال: (النَّبيّ لا يُورث) وهذا اسم جنس يعم كُلَّ الأنبياء، وقد حسَّنه الترمذي وفي الحديث الآخر: (نحن معشر الأنبياء لا نُورث) رواه أحمد.
والوجه الثاني: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – قد خُصَّ من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فلو ندر أن غيره من الأنبياء يورثون – وليس الأمر كذلك- لكان ما رواه من ذكرنا من الصحابة الذين منهم الأئمة الأربعة، أبوبكر وعمر وعثمان وعلي مبيناً لتخصيصه بهذا الحكم دون ما سواه.
والثالث: أنه يجب العمل بهذا الحديث والحكم بمقتضاه كما حكم به الخلفاء، واعترف بصحته العلماء، سواء كان من خصائصه أم لا. فإنه قال: (لا نورث ما تركناه صدقة) إذ يحتمل من حيث اللفظ أن يكون قوله عليه السلام: (ما تركناه صدقة) أن يكون خبراً عن حكمه أو حكم سائر الأنبياء معه، على ما تقدم وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون إنشاء وصيته كأنه يقول: لا نورث؛ لأن جميع ما تركناه صدقة، ويكون تخصيصه من حيث جواز جعله ماله كله صدقة، والاحتمال الأول أظهر، وهو الذي سلكه الجمهور، وقد يُقوَّى المعنى الثاني بما تقدم حديث مالك وغيره عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عنهُ – أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – قال: (لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومُؤنة عاملي فهو صدقة)
البخاري كتاب الوصايا باب نفقة القيم للواقف (5/476) رقم (2776)، ومسلم كتاب الجهاد والسير باب قول النَّبيّ لا نورث ما تركنا فهو صدقة (3/1382) رقم (1760).
وهذا اللفظ مخرج في الصحيحين، وهو يرد تحريف من قال من الجهلة من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث ما تركناه صدقة بالنصب جعل – ما- نافية، فكيف يصنع بأول الحديث، وهو قوله: (لا نُورث؟) وبهذه الرواية (ما تركت بعد نفقة نسائي ومُؤنة عاملي فهو صدقة). وما شأن هذا إلا كما حكى بعض المعتزلة أنه قرأ على شيخ من أهل السنة، (وكلم الله موسى تكليماً)النساء: 164، بنصب الجلالة. فقال له الشيخ: ويحك كيف تصنع بقول الله تعالى: (فلما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه)الأعرف: 143 ؟
والمقصود أنه يجب العمل بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: (لا نورث ما تركنا صدقة). على كل تقدير احتمله اللفظ والمعنى فإنه مخصص لعموم آية الميراث، ومخرج له - عليه السلام- منها، إما وحده أو مع غيره من إخوانه الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام. البداية والنهاية (3/253-254). رحم الله ابن كثير رحمة واسعة.
قال حماد بن سلمة: والذي جاءت به الروايات الصحاح فيما طلبه العباس وفاطمة وعلي لها، وأزواج النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – من أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عنهُم جميعاً – إنما هو الميراث حتى أخبرهم أبو بكر والأكابر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – أنه قال: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة) فقبلوا ذلك، وعلموا أنه الحق، ولو لم يقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ذلك كان لأبي بكر وعمر فيه الحظ الوافر بميراث عائشة وحفصة-رَضِيَ اللهُ عنهُا–فآثروا أمر الله وأمر رسوله، ومنعوا عائشة وحفصة ومن سواهما ذلك. ولو كان رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–يُورث لكان لأبي بكر وعمر أعظم الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
فأما ما يحكيه قوم أن فاطمة-رضي الله عنها-طلبت فدك، وذكرت أن رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ– أقطعها إياها، وشهد لها علي عليه السلام، فلم يقبل أبو بكر شهادته؛ لأنه زوجها، فهذا أمر لا أصل له، ولا تثبت به رواية أنها ادعت ذلك، وإنما هو أمر مفتعل لا ثبت فيه، وإنما طلبت وادعت الميراث هي وغيرها من الورثة، وكان النظر والدعوى في ذلك، وقد بينا ما جاءت به الروايات الصحاح فيه، وإنما طلبت هي، والعباس عليهما السلام من فدك وغيرها مما خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – الميراث، ولم تذكر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – أقطعها إياها، بل كان طلبها من فدك، وغير فدك ميراثها. تركة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – والسبل التي وجهها فيها (ص86).
ميراثُ النَّبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ)
1-أملاك النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:
لقد كان للنَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–في حياته من السِّلاحِ، والأثاثِ، والخيلِ، والدَّوابِّ، والكِسْوةِ، والمنائحِ واللِّقاحِ، وغير ذلك من الأشياء التي لابُدَّ له منها، وكان له أرضٌ بِفَدَك وخَيِبَر.
وقد ذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله سلاحَهُ وأثاثَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ،فَقَالَ: كانَ له تسعة أسياف:
مأثور: هو أول سيف ملكه، ورثه من أبيه.
والعضب، وذو الفِقَار، بكسر الفاء، وبفتح الفاء، وكانَ لا يكادُ يُفارِقُهُ، وكانت قائمتُهُ وقبيعتُهُ وحلقتُهُ وذؤابتُهُ وبكراتُهُ، ونعلُهُ من فِضَّةٍ. والقلعي والبتَّار، والحتف، والرَّسوب، والمِخْذَم، والقضيب، وكان نَعْلُ سيفِهِ فِضَّةً، وما بين ذلك حلق فضة.
وكان سيفُهُ ذو الفقار تنفَّلَهُ يوم بدر، وهو الذي أُري فيه الرُّؤيا(1)؛ودَخَلَ يوم الفتحِ مَكَّةَ، وعلى سيفِهِ ذهبٌ وفِضَّةٌ.
وكان له سبعةُ أدرعٍ:
ذاتُ الفُضُولِ: وهي التي رهنها عندَ أبي الشَّحمِ اليهوديِّ على شعيرٍ لعيالِهِ، وكان ثلاثينَ صاعاً، وكان الدَّينُ إلى سنةٍ، وكانتِ الدِّرعُ من حديدٍ وذات الوِشَاحِ، وذات الحواشي، والسَّعدية، وفضة، والبتراء، والخِرْنِق.
وكان له سِتُ قِسِيٍّ: الزَّوراء، والرَّوحاء، والصفراء، والبيضاء، وال كتوم كُسِرَتْ يوم أحد، فأخذها قتادةُ بن النُّعمانِ، والسداد.
وكانت له جُعبةٌ تُدعى: الكافور، ومنطقة من أديم منشور فيها ثلاث حلق من فضة، والأبزيم من فِضَّة، والطرف من فضة، وكذا قالَ بعضُهم.
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة: لم يبلغْنا أنَّ النَّبيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ– شدَّ عَلَى وَسَطِهِ منطقةً.
وكان له تُرسٌ يُقال له: الزَّلوق، وترس يُقَال له: الفُتَق، قيل: وتُرسٌ أُهديَ إليه، فيه صورةُ تمثالٍ، فوضع يدَهُ عليه، فأذهب اللهُ ذلك التَّمثالَ.
وكانتْ له خمسةُ أرماحٍ، يُقَالُ لأحدِهِم: المُثوي، والآخر: المُثْني.
وحَرْبةٌ يُقالُ لها: النبعة، وأخرى كبيرة تُدعى: البيضاء، وأُخرى صغيرة، شبه العُكَّاز يُقالُ لها: العنزة يُمشى بها بين يديه في الأعياد، تُركز أمامه، فيتخذها سترة يُصلِّي إليها، وكان يمشي بها أحياناً.
وكان له مِغْفرٌ من حديدٍ يُقَالُ له: الموشَّحُ، وُشِّحَ بشبهٍ(النحاس الأصفر)،ومِغْفَر آخر يُقال له: السَّبوغ، أو: ذو السبوغ.
وكان له ثلاث جباب يلبسُها في الحربِ: قيل فيها: جُبَّةُ سندسٍ أخضر، والمعروفُ أنَّ عُروةَ بنَ الزُّبيرِ كَانَ لَهُ يلمق(هو القباء، فارسي مُعرَّب)من ديباج، بطانته سندس أخضر، يلبسه في الحرب، والإمام أحمدُ في إحدى روايتيِهِ يُجوِّزُ لُبسَ الحريرِ في الحربِ.
وكانت له رايةٌ سوداء يُقَالُ لها: العُقَاب. وفي "سُنن أبي داودَ" عن رَجُلٍ من الصَّحَابةِ، قَالَ: رأيتُ رايةَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ صفراء، و كانت له ألويةٌ بيضاءُ، وربما جعل فيها الأسود.
وكان له فِسَطاطٌ يُسمَّى: الكن، ومحجن قدر ذراع أو أطول، يمشي به ويركب به ويعلقه بين يديه على بعيره، ومِخصَرة تُسمَّى: العُرْجُون، وقضيب من الشَّوحطِ يُسمَّى: الممشوق. قيل: وهو الذي كان يتداوله الخلفاء.
وكان له قدح يُسمَّى: الرَّيَّان، ويسمى مغنياً وقدح آخر مضبب بسلسة من فضة.
وكان له قدح من قوارير، وقدح من عيدان يوضع تحت سريره يبول فيه بالليل، وركوة تُسمَّى: الصادر، قيل وتور من حجارة يتوضأ منه، ومخضب من شبهٍ. وقعب يُسمَّى: السعة، ومغتسل من صُفْر ومدهن، وربعة يجعل فيها المرآة والمشط. قيل: وكان المشط من عاج، وهو الذَّبْلُ، ومكحلة يكتحل منها عند النوم ثلاثاً في كل عين بالإثمد، وكان في الربعة المقراضان والسواك.
وكانت قصعة تسمى: الغراء، لها أربع حلق، يحملها أربعة رجال بينهم، وصاع، ومد، وقطيفة، وسرير قوائمه من ساج، أهداه له سعد بن زُرارة، وفراش من أدم حشوه ليف.
وهذه الجملة قد رُويت متفرقة في أحاديث.
وقد روى الطبراني في (معجمه) حديثاً جامعاً في الآنية من حديث ابن عباس قال: (كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – سيف قائمته من فضة، وقبيعته من فضة، وكان يُسمَّى ذا الفقار، وكانت له قوس تسمى: السداد، وكانت له كنانة تسمى الجمع، وكانت له درع موشَّحة بالنحاس تُسمَّى: ذات الفضول، وكانت له حربة تسمى: النبعاء، وكان له محجن يسمى: الدقن، وكان له ترس أبيض يسمى الموجز، وكان له فرس أدهم يسمى السَّكْب، وكان له سرج يسمى: الداج، وكانت له بغلة شهباء تسمى دُلدُل، وكانت له ناقة تسمى: القصواء، وكان له حمار يسمى: يعفور، وكان له بساط يسمى: الكن، وكانت له عنزة تسمى: القمرة، وكانت له ركوة تسمى: الصادرة، وكانت له مقراض اسمه: الجامع، ومرآة، وقضيب شوحط يسمى: الموت).
أما دوابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:
فمن الخيل: السَّكْب. والمُرْتجز، واللحيف، واللزاز، والظَّرب، وسَبْحَة، والوَرْدُ، فهذه سبعة متفق عليها، جمعها الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن جماعة الشافعي في بيت فقال:
والخيلُ سَكْبٌ لُحَيْفٌ سَبْحةٌ ظَرِبٌ لِزَازُ مرتجزٌ وَرْدٌ لَها اسْرَارُ
وكان له من البغال دُلدُل، وكانت شهباء، أهداها له المقوقِس. وبغلة أخرى يقال لها: (فضة) أهداها له فروة الجذامي، وبغلة شهباء أهداها له صاحب أيلة وأخرى أهداها له صاحب دومة الجندل، وقد قيل: إن النجاشي أهدى له بغلة فكان يركبها.
ومن الحمير: عُفَير، وكان أشهب، أهداه له المقوقِس ملك القبط، وحمار آخر أهداه له فروة الجذامي، وذُكر أن سعد بن عُبادة أعطى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – حماراً فركبه.
ومن الإبل القصواء، قيل: وهي التي هاجر عليها والعضباء، والجدعاء، ولم يكن بها عضب ولا جدع.
وغنم-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يوم بدر جملاً مهرياً لأبي جهل في أنفه بُرةٌ من فضة، فأهداه – ذبحه هدياً- يوم الحديبية ليغيظ به المشركين.
وكانت له خمس وأربعون لقحة، وكانت لهُ مَهْرِيَّةٌ أرسل بها إليه سعد بن عبادة من نعم بني عقيل.
وكانت له مئة شاة وكان لا يريد أن تزيد، كلما ولَّد له الراعي بهمة ذبح مكانها شاة، وكانت له سبع أعنز منائح ترعاهن أم أيمن. باختصار من "زاد المعاد" (1/130-135).
ولما فتح خيبر وقسم أرضها، وكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – والمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم لنوائبه وما ينزل به من أمور المسلمين.
وأما فدك فقد كانت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – خالصة؛ لأنه لم يُوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.
وقال حماد بن إسحاق بن إسماعيل بعد ذكر تركته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: "ووقفت هذه الأشياء التي ذكرناها من الأموال التي أفاءها الله عليه، والكسوة والخيل والبغلة والحربة، وما ذكرنا مع ذلك بعد وفاته على أن ذلك كله صدقة بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -. (ما تركنا فهو صدقة).
وكانت غلات الضياع تقسم في سبل الخير على ما كان يقسمها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – في حياته.
وأما ما سوى ذلك مثل البغلة، والحربة، والكسوة، والسلاح، والسرير – والخاتم- فوقف أيضاً يتجمل به الأئمة المسلمون بعده، ويتبركون به كما كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يتجمل به، وكان ذلك في أيدي الأئمة واحداً بعد واحد. (تركة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- :113)
2- ما تركه النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بعد موته من التركة:
عن عمرو بن الحارث- رَضِيَ اللهُ عنهُ –قال:(ما ترك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة). البخاري ،كتاب المغازي ،باب مرض النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، ووفاته (7/755) رقم (4461).
وعنه قال: ما ترك رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–عند موته درهماً ولا ديناراً، ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة).
البخاري مع الفتح كتاب الوصايا باب الوصايا (5/419)- رقم (2739).
قال ابن حجر: قوله: ولا عبداً، ولا أمةً، أي في الرق، وفيه دلالة على أن من ذكر من رقيق النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – في جميع الأخبار كان إما مات و إما أُعتق، واستُدل به على عتق أم الولد بناءً على أن مارية والدة إبراهيم ابن النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –عاشت بعد النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-،وأما على قول من قال: إنها ماتت في حياته-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–فلا حجة فيه.
وقوله: (ولا شيئاً)،وفي رواية الكشميهني (ولا شاة)، والأول أصح وهي رواية الإسماعيلي أيضاً من طريق زهير، نعم روى مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم من طريق مسروق عن عائشة قالت: (ما ترك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – درهماً ولا ديناراً، ولا شاةً ولا بعيراً، ولا أوصى بشيء). فتح الباري (5/424).
وقال عروة عن عائشة قالت: توفي رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد رطب إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني. البخاري كتاب فرض الخمس باب نفقة نساء النَّبيّ بعد وفاته (6/241) رقم (3097)، ومسلم كتاب الزهد والرقائق (4/2282) رقم (2973).
وقالت: تُوفي رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ –ودرعه مرهونة بثلاثين صاعاً من شعير. أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير باب ما قيل في درع النَّبيّ والقميص في الحرب (6/116) رقم (2916).
قال ابن كثير: (باب بيان أن النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ–لم يترك ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شاة ولا بعيراً ولا شيئاً يُورث عنه: بل أرضاً جعلها كلها صدقة لله - عزَّ وجلَّ -). البداية والنهاية (3/247).
وقال : (تنبيه: قد وردت أحاديث كثيرة في ذكر أشياء كان يختص بها صلوات الله وسلامه عليه في حياته من دور ومساكن نسائه، وإماء وعبيد وخيول، وإبل وغنم وسلاح، وبغلة وحمار، وثياب، وأثاث، وخاتم وغير ذلك.. فلعله عليه السلام تصدق بكثير منها في حياته منجزاً، وأعتق من أعتق من إمائه وعبيده وأرصد ما أرصد من أمتعته مع ما خصه الله به من الأرضين، من بني النضير وخيبر وفدك في مصالح المسلمين).
غسل النبي صلى الله عليه وسلم وتكفينه ودفنه
غسل النبي صلى الله عليه وسلم ومن قام به:
لما تيقن المسلمون من وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- إثر ذلك الخلاف العظيم الذي دب بينهم حول حقيقة موته -صلى الله عليه وسلم-؛ واجهتهم مشكلة أخرى أطلت عليهم برأسها وهي كيفية تغسيله -صلى الله علي وسلم-، فاختلفوا في ذلك أيضاً، وأصابتهم الحيرة والقلق؛ هل يجردوه -صلى الله علي وسلم-، من ثيابه عند غسله كما يفعلون مع غيره من الموتى، أم يغسلوه وعليه ثيابه كرامة له -صلى الله عليه وسلم-.
قالت عائشة: لما أرادوا غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: ما ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره فكلمهم مكلمٌ من ناحية البيت لا يدرون من هو!!: أن اغسلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه ثيابه، فغسلوه، وعليه قميصه؛ يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون بالقميص دون أيديهم. قالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ ما غسَّله إلا نساؤه(1)
وروى البيهقي في الدلائل عن محمد بن علي أبي جعفر قال: غُسِّل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً بالسدر، وغُسِّل وعليه قميص، وغُسِّل من بئر يقال لها الغرس بقباء، كانت لسعد بن خيثمة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يشرب منها، وولي سفلته علي، والفضل محتضنه، والعباس يصبُ الماء فجعل الفضل يقول: أرحني قطعت وتيني إني لأجد شيئاً يترطلُ علي(2)
قال الألباني في الجنائز: وفي مرسل الشعبي أنه غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع علي رضي الله عنه: الفضلُ -يعني ابن العباس- وأسامة بن زيد، أخرجه أبو داود، وسنده صحيح مرسل(3).
كفن الرسول صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت كفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب بيض سحولية (4) من كرسف(5) ليس فيها قميص ولا عمامة(6).
وقالت -رضي الله عنها-: أُدرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حلة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت عنه وكفن في ثلاثة أثواب سحول يمانية ليس فيها عمامة ولا قميص، فرفع عبد الله الحلة، فقال: أكفن فيها، ثم قال: لم يكفن فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأكفن فيها فتصدق بها(7).
وفي رواية أخرى: فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسنها حتى أكفن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله -عز وجل- لنبيه لكفنه فيها، فباعها وتصدق بثمنها(8).
وفي رواية: أنه -صلى الله عليه وسلم- حين توفي سُجِّي(9) ببرد (10)حِبَرة(11) ألا أن عائشة قالت لما ذكروا لها بردين وثوب حبرة: قد أُتي بالبرد، ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه(12).
الصلاة عليه صلى الله عليه سلم
روى الحافظ البيهقي في الدلائل عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالاً، حتى فرغوا، ثم أدخل النساء فصلين عليه، ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه، ثم أدخل العبيد فصلوا عليه أرسالاً، لم يؤمهم على رسول الله أحد(13).
وفي المسند أن أبا عسيب شهد الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: كيف صُلي عليه؟ قال: أدخلوا أرسالاً أرسالاً، قال: فكانوا يدخلون من هذا الباب فيصلون عليه ثم يخرجون من الباب الآخر(14).
وروى ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضع على سريره، فكان الناس يدخلون زمراً زمراً يصلون عليه ويخرجون ولم يؤمنهم أحد، وتوفي يوم الاثنين، ودفن الثلاثاء صلى الله عليه وسلم (15)
قال الحافظ ابن كثير: وهذا الصنيع، وهو صلاتهم عليه فرادى لم يرمهم أحد عليه، أمرٌ مجمع عليه لا خلاف فيه(16).
تعليل صلاتهم عليه صلى الله عليه وسلم فرادى:
قال الشافعي -رحمه الله في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بغير إمام-: وذلك لِعُظْمِ أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي، وتنافُسُهم على أن لا يتولى الإمامة في الصلاة عليه أحد.
رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/30).
وقيل: إنه كان آخر العهد برسول الله -صلى الله علي وسلم-، فأراد كل واحد مهم أن يأخذ البركة بالصلاة عليه مُخْتصاً به دون أن يكون فيها تابعاً لغيره سلوة الكئيب بوفاة الحبيب ص 148.
وقال ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" (5/232) معللاً صلاتهم عليه -صلى الله عليه وسلم- فرادى: (وهذا الصنيع - وهو صلاتهم عليه فرادى لم يؤمهم أحد عليه- أمر مجمع عليه، لا خلاف فيه، وقد اختلف في تعليله... وليس لأحد أن يقول: لأنه لم يكن لهم إمام، لأنا قد قدمنا أنهم إنما شرعوا في تجهيزه -عليه السلام- بعد تمام بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- وأرضاه. وقد قال بعض العلماء: إنما لم يؤمهم عليه أحد ليباشر كل واحد من الناس الصلاة عليه منه إليه، ولتكرر صلاة المسلمين عليه مرة بعد مرة، من كل فرد من آحاد الصحابة، رجالهم ونسائهم وصبيانهم، حتى العبيد والإماء، وأما السهيلي فقال ما حاصله: إن الله قد أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر كل واحد من المؤمنين أن يباشر الصلاة عليه منه إليه، والصلاة عليه بعد موته من هذا القبيل، قال: وأيضاً فإن الملائكة لنا في ذلك أئمة، والله أعلم).أهـ
فائـدة:
قال الحاكم أبو أحمد: فكان أولهم عليه صلاة العباس عمه، ثم بنو هاشم ،ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم سائر الناس، فلما فرغ الرجال صلى الصبيان، ثم النساء(17).
دفنه صلى الله عليه وسلم
أولاً: المكان الذي دفن فيه صلى الله عليه وسلم:
اختلف المسلمون في موقع دفنه، فقال بعضهم: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: بالبقيع، وقال قائل في مصلاه(18). فجاء أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فحسم مادة هذا الخلاف أيضاً بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالت عائشة وابن عباس: لما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغسل اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: ما نسيتُ ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما قبض اللهُ نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه)(19).
قال الحافظ ابن كثير: وهذا هو المتواتر تواتراً ضرورياً معلوماً من الدفن الذي هو اليوم داخل مسجد المدينة(20).
وقال أيضاً في "البداية والنهاية": قد علم بالتواتر أنه -صلى الله عليه وسلم- دفن في حجرة عائشة التي كانت تختص بها، شرقي مسجده في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة، ثم دفن فيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما(21). أهـ
فائـدة:
ودفنه صلى الله عليه وسلم في موضع موته من خصائص الأنبياء عليهم السلام.
قال شيخ الحديث الكاندهلوي: ولذا سأل موسى ربه عند موته أن يدنيه من الأرض المقدسة، لأنه لا يمكن نقله إليها بعد موته، بخلاف غير الأنبياء فينتقلون من بيوتهم إلى المدائن، فهذا من خصائص الأنبياء كما ذكره غير واحد(22). أهـ
وقال الشيخ الألباني: والسنة الدفن في المقبرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع، كما تواترت الأخبار بذلك، ولم ينقل إلينا عن أحد من السلف أنه دفن في غير المقبرة، إلا ما تواتر أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفن في حجرته، وذلك من خصوصياته عليه الصلاة والسلام(23).
ثانياً: في لحد قبره صلى الله عليه وسلم:
قال أنس بن مالك -رضي الله عنه- لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بالمدينة رجل يلحَدُ(24) وآخر يضْرَحُ (25) فقالوا: نستخيرُ ربنا ونبعث إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم(26).
وعن عائشة رضي الله عنهما قالت: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلفوا في اللحدِ والشق، حتى تكلموا في ذلك وارتفعت أصواتهم، فقال عمر: لا تصخَبوا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم حياً ولا ميتاً، أو كلمة نحوها، فأرسلوا إلى الشقَّاق واللاحد جميعاً، فجاء اللاحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دفن صلى الله عليه وسلم(27)
وعن عروة مرسلاً: كان في المدينة رجلان أحدهما يلحدُ، والأخر يشقُّ، فقالوا: أيهما جاء أولاً عمل عمله، فجاء الذي يلحد فلحد له(28).
وعن ابن عباس بسند ضعيف: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثوا إلى أبي عبيدة بن الجراح، وكان يَضْرَحُ كضرح أهل مكة، وبعثوا إلى أبي طلحة –زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه- وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة، وكان يلحَدُ، فبعثوا إليهما رسولين فقالوا: اللهم خِرْ لرسولك، فوجدوا أبا طلحة فجيء به، ولم يوجد أبو عبيدة، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم (29).
ثالثاً: من باشر دفنه صلى الله عليه وسلم:
قال محمد بن إسحاق: وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقُثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(30).
وزاد النووي(31) والمقدسي(32): العباس.
قال النووي -رحمه الله- ويقال: كان أسامة بن زيد، وأوس بن خَوْلى(33) معهم، ودُفن في اللحد، وبني عليه -صلى الله عليه وسلم- في لحده اللَّبن، يُقال إنها تسع لبنات، ثم أهالوا التراب(34).
قال المقدسي -رحمه الله- وفرش تحته -صلى الله عليه وسلم- قطيفة حمراء كان يتغطى بها، وقد أشار إلى ذلك ابن عباس -رضي الله عنه- كما عند مسلم وغيره(35).
والقطيفة هي كساء له خمل. النهاية (4/84).
وقد بين العلماء أن الذي وضع القطيفة هو شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون علم من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك ذهب الجمهور إلى كراهة وضع شيء في القبر تحت الميت، قال النووي: وقد نص الشافعي وجميع أصحابنا وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت في القبر، وشذ عنهم البغوي من أصحابنا، والصواب كراهته لما قال الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك لم يوافقه غيره من الصحابة، ولا علموا ذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها ويفترشها، فلم تطب نفس شقران أن يستبدلها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه غيره فروى البيهقي عن ابن عباس أنه كره أن يجعل تحت الميت ثوب في قبره. والله أعلم (36). أهـ
رابعاً: متى دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
ذهب كثير من العلماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم دفن ليلة الأربعاء قال الحافظ ابن كثير: والمشهور عن الجمهور ما أسلفناه من أنه عليه السلام توفي يوم الإثنين ودفن ليلة الأربعاء (37)
بعضُ المراثي التي قِيلتْ في وَفَاةِ سَيِّدِ المرسلينَ، وقائدِ الغُرِّ المحجَّلين (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ)
قال أبو بكر الصديق َرضِيَ اللُه عَنْهُ:
يـا عيــنُ بكِّـــي و لا تَسْـــامـي ***** وحُقَّ البـــُكاءُ علــى السَّيـــِّدِ
على ذِي الفواضلِ والمكرُمـاتِ ***** ومَحْضِ الضَّريبةِ والمَحْتــــِدِ
علـى خَيْرِ خِنْدِفَ ([1]) عِنْدَ البلاءِ***** أمْســى يُغَيّــَبُ فِــي الْمُلــْحَدِ
فصَــلَّى الـملِيـكُّ وَلــيُّ العِبَـــاد ***** وَرَبُّ البــلادِ عَلــــَى أحمـــدِ
فكيفَ الإقامـةُ بعـــدَ الحبـيــــبِ***** وزيـــنِ المحــافلِ والـمَشْهَــدِ
فليتَ الـمـمـــــات لنـــا كلِّــــنـا ***** وَكُنَّا جميـعاً مَـعَ المُهْتَـدى([2])
ومِمَّا نُسِبَ إلى أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ في رِثَاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ([3]):
لمَّا رأيــتُ نبيّـنــــــا متجنـــــدلاً ***** ضاقـــت علىّ بعرضهنّ الدورُ
فارتـاع قلبي عنـد ذاك لِمـوتــــه ***** والعظــمُ مني ما حييــتُ كسيـرُ
أعتيق ويْحك!! إن خِلَّك قـد ثوى ***** والصبرُ عندك ما بقيـتَ يسيــرُ
يا ليتني من قبـل مهلك صاحبـي ***** غُيِّبـتُ في لحـدٍ عليه صخـــورُ
فلتــحدُثــنَّ بـدائـــع مــن بعــــده ***** تعيــا بهـنَّ جــوانـحٌ وصـــدورُ
وقال عمرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللُه عَنْهُ:
ما زَالَتُ مُذ وضع الفِرَاشَ لِجنْبِه *****وثَــوى مَريضــاً خائـــِفاً أَتَوقَّـــعُ
شَفَقاً عَليْــهِ أن يـــزُولَ مكـــــانُه ***** عنَّــا، فَنَبْــــقَى بَعْـــدَه نَتَــوَجَّـــع
نَفْســـي فـداؤُكَ مَنْ لنا في أَمرِنا **** أَوْ مَـــنْ نُشَـــاورُهُ إذاً فَتــَرَجَّـــعُ
وإذا تَحَدَّثنَـا الحــوادٍثَ: مَـنْ لنــا ***** بالوَحي مِن رَبِّ رحيــمٍ يسمــــعُ
ليتِ السمــاءَ تفطَّـــرتْ أَكنَافُـــهَا *****وتناثرتْ فيها النجــــومُ الطُّلّــــَعُ
لمَّــا رأيــتُ النــاسَ هـدَّ جميعُهمْ ***** صوتٌ يُنـــادي بالنَّعــيِّ فيُسْمـــَعُ
وسمعتُ صــوتاً قبلَ ذلِكَ هدَّنــي***** عَبَّـــاسُ يَنْــــعاهُ بِصــوتٍ يُقْطَــعُ
فلْيَبْــكِه أهـــلُ المــدائـنِ كُلّـــــِها *****والمُسلمون بكلِّ أرضٍ تُجدع ([4])
وقالَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللُه عَنْهُ :
ألا طَرَق النّــَاعي بليـــلٍ فــَرَاعَني *** وأَرَّقنـــي لمـــا استَـــهلَّ مُنَــادِيَــــا
فقلـتُ لـهُ لمّــَا رأيــتُ الـذي أتَـى *** أَغَيْرَ رســول اللهِ أَصْبَـحتَ نَاعِيــَا
فَحُقِّـقَ مـا أَشْفَيْــتُ منـه وَلـم يُبــلْ *** وكــان خليـلي عُدَّتِـــي وَجِمَــاليــا
فوالله لا أنسـاكَ أَحمَــدُ ما مَشَـتْ *** بيَ العِيسُ في أرضٍ وجاوَزْتَ واديا
وكنـتَ متى أَهْبِطُ من الأرضَ تَلْعَةً *** أَجِــد أثــراً منــهُ جــديــداً وعافِيــا
شديــدٌ جَـرِيٌّ النَّفــسِ نهـدٌ مُصـَدَّرٌ *** يــَرَين بـــه لَيْثـــاً عليـهن ضَـارِيـــَا
من الأُسـْدِ قد أَحْمِي العَـرِينَ مهابةً*** هوَ الموتُ مَغْـدُوٌ عليــه وغَدِيــا([5])
جـوَادٌ تشَظَّــى الخيــلُ عنــه كأنـَّما *** تَفَـــادَى سِبـاعُ الأرضِ منـه تفادِيـَا
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رَضِيَ اللُه عَنْهُ:
أرقتُ فبات لــيلي لا يــزولُ **** وليلُ أخي المصيبةِ فيه طُولُ
وأسعدني البُكاء وذاك فيـــما ***** أصيــبَ المسلمــونَ بـه قليـلُ
فقد عَظُمَــتْ مُصيبتُنا وجَلَّت ***** عشيَّة قِيْلَ: قَدْ قُبِضَ الرَّسُـول
فَظَلَّ النَّــاسُ منقطعيــن فيـها ***** كأنَّ النَّاس لَيــْس لَهُـمْ حَوِيــلُ
كأنَّ النــاس إذْ فقــدوه عُمـْيٌ ***** أضرَّ بلـــبِّ حازِمِهِـم عَليـــلُ
وحُقَّ لتـلك مَـرْزيــة علينـــا ***** وحُقَّ لها تطــير لها الُعقـــولُ
وأضحت أرضنُا ممـا عَراها ***** تكــادُ بنــا جـــوانِبُــها تميـــلُ
فقدنا الوحي والنـزيــل فيــنا ***** يروح به ويغـــدو جبــرائيــل
وذاك أحـــقُّ ما سالـتْ عليهِ ***** نُفوسُ النَّاس أو كادت تسيلُ
أُصبنا بالنَّبــيّ وقــد رُزِئنـــا ***** مُصِيْبتُنَـــا فَمحْمَــــلُها ثَقِيــــْلُ
نبيٌّ كان يجلــو الشــكَ عنّــَا ***** بمــا يُوحَـــى إليـه وما يَقـولُ
ويهدينــا فلا يخشــى ملامــاً ***** علينا والرَّسُول لنــا دليــلُ ([6])
يُخَبِّرُنا بظهــر الغيـب عـــمَّا **** يَكُونُ فلا يَخُــون ولا يَحُــولُ
فلم نَرَ مثلَهُ في النَّــاس حيــّاً **** وَلَيْسَ لهُ من المـــوت عَدِيــلُ
أفاطمُ إن جزعت فذاك عـذر ***** وإن لم تَجْزَعي فهــو السَّبِيـلُ
فَعُــوذي بالعــَزَاء فــإنَّ فيــه ***** ثـوابَ الله والفضلُ الجـزِيــلُ
وَقُـولِي في أبيك ولا تَمَلـِّــي ***** وَهَـلْ يَجــزي بفعـل أبيك قيلُ
فقبــر أيبــكِ سيــدُ كلِّ قبـــر ***** وفيـه سيــد النــاس الرَّسُــول
صــلاةُ الله مــن ربٍّ رحيــم ***** عليـه لا تحـولُ ولا تَزُولُ ([7])
بعضُ المراثي التي قِيلتْ في وَفَاةِ سَيِّدِ المرسلينَ، وقائدِ الغُرِّ المحجَّلين (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ)
قال أبو بكر الصديق رَضِيَ اللُه عَنْهُ :
يـا عيــنُ بكِّـــي و لا تَسْـــامـي ***** وحُقَّ البـــُكاءُ علــى السَّيـــِّدِ
على ذِي الفواضلِ والمكرُمـاتِ ***** ومَحْضِ الضَّريبةِ والمَحْتــــِدِ
علـى خَيْرِ خِنْدِفَ ([1]) عِنْدَ البلاءِ***** أمْســى يُغَيّــَبُ فِــي الْمُلــْحَدِ
فصَــلَّى الـملِيـكُّ وَلــيُّ العِبَـــاد ***** وَرَبُّ البــلادِ عَلــــَى أحمـــدِ
فكيفَ الإقامـةُ بعـــدَ الحبـيــــبِ***** وزيـــنِ المحــافلِ والـمَشْهَــدِ
فليتَ الـمـمـــــات لنـــا كلِّــــنـا ***** وَكُنَّا جميـعاً مَـعَ المُهْتَـدى([2])
ومِمَّا نُسِبَ إلى أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ في رِثَاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ([3]):
لمَّا رأيــتُ نبيّـنــــــا متجنـــــدلاً ***** ضاقـــت علىّ بعرضهنّ الدورُ
فارتـاع قلبي عنـد ذاك لِمـوتــــه ***** والعظــمُ مني ما حييــتُ كسيـرُ
أعتيق ويْحك!! إن خِلَّك قـد ثوى ***** والصبرُ عندك ما بقيـتَ يسيــرُ
يا ليتني من قبـل مهلك صاحبـي ***** غُيِّبـتُ في لحـدٍ عليه صخـــورُ
فلتــحدُثــنَّ بـدائـــع مــن بعــــده ***** تعيــا بهـنَّ جــوانـحٌ وصـــدورُ
وقال عمرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللُه عَنْهُ:
ما زَالَتُ مُذ وضع الفِرَاشَ لِجنْبِه *****وثَــوى مَريضــاً خائـــِفاً أَتَوقَّـــعُ
شَفَقاً عَليْــهِ أن يـــزُولَ مكـــــانُه ***** عنَّــا، فَنَبْــــقَى بَعْـــدَه نَتَــوَجَّـــع
نَفْســـي فـداؤُكَ مَنْ لنا في أَمرِنا **** أَوْ مَـــنْ نُشَـــاورُهُ إذاً فَتــَرَجَّـــعُ
وإذا تَحَدَّثنَـا الحــوادٍثَ: مَـنْ لنــا ***** بالوَحي مِن رَبِّ رحيــمٍ يسمــــعُ
ليتِ السمــاءَ تفطَّـــرتْ أَكنَافُـــهَا *****وتناثرتْ فيها النجــــومُ الطُّلّــــَعُ
لمَّــا رأيــتُ النــاسَ هـدَّ جميعُهمْ ***** صوتٌ يُنـــادي بالنَّعــيِّ فيُسْمـــَعُ
وسمعتُ صــوتاً قبلَ ذلِكَ هدَّنــي***** عَبَّـــاسُ يَنْــــعاهُ بِصــوتٍ يُقْطَــعُ
فلْيَبْــكِه أهـــلُ المــدائـنِ كُلّـــــِها *****والمُسلمون بكلِّ أرضٍ تُجدع([4])
وقالَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ-رَضِيَ اللُه عَنْهُ-:
ألا طَرَق النّــَاعي بليـــلٍ فــَرَاعَني *** وأَرَّقنـــي لمـــا استَـــهلَّ مُنَــادِيَــــا
فقلـتُ لـهُ لمّــَا رأيــتُ الـذي أتَـى *** أَغَيْرَ رســول اللهِ أَصْبَـحتَ نَاعِيــَا
فَحُقِّـقَ مـا أَشْفَيْــتُ منـه وَلـم يُبــلْ *** وكــان خليـلي عُدَّتِـــي وَجِمَــاليــا
فوالله لا أنسـاكَ أَحمَــدُ ما مَشَـتْ *** بيَ العِيسُ في أرضٍ وجاوَزْتَ واديا
وكنـتَ متى أَهْبِطُ من الأرضَ تَلْعَةً *** أَجِــد أثــراً منــهُ جــديــداً وعافِيــا
شديــدٌ جَـرِيٌّ النَّفــسِ نهـدٌ مُصـَدَّرٌ *** يــَرَين بـــه لَيْثـــاً عليـهن ضَـارِيـــَا
من الأُسـْدِ قد أَحْمِي العَـرِينَ مهابةً*** هوَ الموتُ مَغْـدُوٌ عليــه وغَدِيــا ([5])
جـوَادٌ تشَظَّــى الخيــلُ عنــه كأنـَّما *** تَفَـــادَى سِبـاعُ الأرضِ منـه تفادِيـَا
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رَضِيَ اللُه عَنْهُ :
أرقتُ فبات لــيلي لا يــزولُ **** وليلُ أخي المصيبةِ فيه طُولُ
وأسعدني البُكاء وذاك فيـــما ***** أصيــبَ المسلمــونَ بـه قليـلُ
فقد عَظُمَــتْ مُصيبتُنا وجَلَّت ***** عشيَّة قِيْلَ: قَدْ قُبِضَ الرَّسُـول
فَظَلَّ النَّــاسُ منقطعيــن فيـها ***** كأنَّ النَّاس لَيــْس لَهُـمْ حَوِيــلُ
كأنَّ النــاس إذْ فقــدوه عُمـْيٌ ***** أضرَّ بلـــبِّ حازِمِهِـم عَليـــلُ
وحُقَّ لتـلك مَـرْزيــة علينـــا ***** وحُقَّ لها تطــير لها الُعقـــولُ
وأضحت أرضنُا ممـا عَراها ***** تكــادُ بنــا جـــوانِبُــها تميـــلُ
فقدنا الوحي والنـزيــل فيــنا ***** يروح به ويغـــدو جبــرائيــل
وذاك أحـــقُّ ما سالـتْ عليهِ ***** نُفوسُ النَّاس أو كادت تسيلُ
أُصبنا بالنَّبــيّ وقــد رُزِئنـــا ***** مُصِيْبتُنَـــا فَمحْمَــــلُها ثَقِيــــْلُ
نبيٌّ كان يجلــو الشــكَ عنّــَا ***** بمــا يُوحَـــى إليـه وما يَقـولُ
ويهدينــا فلا يخشــى ملامــاً ***** علينا والرَّسُول لنــا دليــلُ ([6])
يُخَبِّرُنا بظهــر الغيـب عـــمَّا **** يَكُونُ فلا يَخُــون ولا يَحُــولُ
فلم نَرَ مثلَهُ في النَّــاس حيــّاً **** وَلَيْسَ لهُ من المـــوت عَدِيــلُ
أفاطمُ إن جزعت فذاك عـذر ***** وإن لم تَجْزَعي فهــو السَّبِيـلُ
فَعُــوذي بالعــَزَاء فــإنَّ فيــه ***** ثـوابَ الله والفضلُ الجـزِيــلُ
وَقُـولِي في أبيك ولا تَمَلـِّــي ***** وَهَـلْ يَجــزي بفعـل أبيك قيلُ
فقبــر أيبــكِ سيــدُ كلِّ قبـــر ***** وفيـه سيــد النــاس الرَّسُــول
صــلاةُ الله مــن ربٍّ رحيــم ***** عليـه لا تحـولُ ولا تَزُولُ([7])
المكان الذي دفن فيه الرسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن كثير: ( الصحيح المشهور عند الجمهور أنه-صلى الله عليه وسلم– تُوفي يوم الاثنين ودُفن يوم الأربعاء). راجع: البداية والنهاية (5/237).
وروى يعقوب بن سفيان عن أبي جعفر أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم–تُوفي يوم الاثنين فلبث ذلك اليومَ وتلك الليْلة ويومَ الثلاثاء إلى آخر النهار. "قال ابن كثير: وهو قول غريب".
وروى يعقوب أيضاً عن مكحول قال: مكث رسول الله-صلى الله عليه وسلم–ثلاث أيَّام لا يُدفن قال ابن كثير: "غريبٌ، والصحيح أنه مكث بقية يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء بكامله ودُفن ليلة الأربعاء".
وروى ابن سعد وابن ماجه، وأبو يعلى عن ابن عبَّاس-رضي الله عنهما–قال: لمَّا فُرغ من جهاز رسول الله-صلى الله عليه وسلم–يوم الثلاثاء وُضع على سريره في بيته وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه، فقال قائل: ندفنه مع أصحابه بالبقيع، وقال قائل: (ادفنوه في مسجده؛ فقال أبوبكر: (سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم–يقول: (ما قُبض نبيٌّ إلا دفن حيثُ قُبض)(1) فرُفع فراش رسول الله-صلى الله عليه وسلم–الذي تُوفي عليه فحفروا له تحته.
(ابن سعد (1/223) وابن ماجه (1628) والبيهقي في الدلائل (7/260) ومسند أبي بكر (78).
وروى الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن عبد العزيز بن جريج أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم–لم يدروا أين يقبروا رسول الله-صلى الله عليه وسلم–حتى قال أبوبكر: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم–يقول: (لم يقبر نبي قط إلا حيث يَموت فأخذوا فراشه وحفروا تحته).
وروى الترمذي وأبو يعلى عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: لما قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم – اختلفوا في دفنه فقال أبوبكر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: (ما قَبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يُدفن فيه)، ادفنوه في موضع فراشه). الترمذي رقم كتاب الجنائز عن رسول الله (3/338) رقم (1018)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5649).
وقال الطبري: (فلما فُرغ من جهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يوم الثلاثاء، وُضع في سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه. فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبوبكر: إني سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم – يقول: (ما قُبض نبي إلا دُفن حيثُ يقبض)؛ فرفع فراش رسول الله-صلى الله عليه وسلم–الذي تُوفي عليه، فحُفر له تحته، ثم دخل الناس على رسول الله-صلى الله عليه وسلم–يصلّون عليه أرسالاً؛ دخل الرجال حتى إذا فرغوا أُدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أُدخل الصبيان، ولم يؤم الناسَ على رسول الله-صلى الله عليه وسلم–أحد). تاريخ الطبري (3/213)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز (1628)، باب ما جاء في دفن النبي-صلى الله عليه وسلم-، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه رقم (321).
ثم دُفن رسول الله-صلى الله عليه وسلم–من وسط الليل ليلة الأربعاء. تاريخ الطبري (3/213).
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن امرأته فاطمة بنت عُمارة، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، عن عائشة-رضي الله عنها- قالت: دفن رسول الله في جوف الليل من ليلة الأربعاء. ابن هشام (4/315) تحقيق عمر عبد السلام تدمري.
وروى ابن سعد والبيهقيُّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما علمنا بدفن رسول الله-صلى الله عليه وسلم–حتى سمعنا المساحي ليلة الثُلاثاء في السَّحر). ابن سعد (2/232-233).
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن أنس-رضي الله عنه-قال: (تُوفي رسول الله-صلى الله عليه وسلم–وكان بالمدينة رَجُلُ يُلحِدُ والآخر يضرح فقالوا: نستخيرُ ربَّنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه، فأرسلوا إليهما فسبق صاحب اللّحد (أبو طلحة) فلَّحدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم)
أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً (1/231) وابن ماجه- كتاب الجنائز- باب ما جاء في الشق (1/496) رقم (1557).
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله-صلى الله عليه وسلم–كان أبو عبيدة يضرح لأهل مكة، وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة، فأرسل العباس خلفهما رجلين وقال: (اللهم خِر لرسولك أيهما جاء حفر له)، فجاء أبو طلحة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
راجع: السيرة النبوية للذهبي. ص405.
وقال ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: عرضت عائشة على أبيها رؤيا وكان من أعبر الناس قالت رأيت ثلاثة أقمار وقعن في حجرتي، فقال: إن صدقت رؤياك دُفن في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثة، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة هذا خير أقماركِ.
السيرة النبوية للذهبي (405-406).
شبهة:
هل دُفن النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف؟
الجواب: أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم، فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لما مات-صلى الله عليه وسلم، دفنوه في حجرة عائشة التي كانت بجانب مسجده، وكان يفصل بينهما جدار فيه باب، كان-صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى المسجد، وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء ولا خلاف في ذلك بينهم، والصحابة-رضي الله عنهم–حينما دفنوه-صلى الله عليه وسلم–في الحجرة، إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً، لقوله-عليه الصلاة والسلام–من حديث عائشة-رضي الله عنها– قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت: فلولا ذاك أُبرز قبره غير أنه خشي أن يُتخذ مسجداً)
البخاري، الفتح،(3/156) رقم (1330) كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد قبوراً.
ولكن وقع بعدهم ما يكن في حسبانهم! ذلك أن الوليد بن عبد الملك أمر سنة ثمان وثمانين بتوسيع المسجد النبوي وإضافة حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة، فصار القبر بذلك في المسجد.
راجع: تاريخ ابن جرير (5/222-223). وتاريخ ابن كثير (9/74-75).
قال "العلامة الحافظ محمد بن عبد الهادي" في "الصارم المنكي" ص (136):
"وإنما أُدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان من آخرهم موتاً جابر بن عبد الله، وتُوفي في خلافة عبد الملك، فإنه تُوفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولىَّ سنة ست وثمانين، وتُوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك.
قال "الشيخ الألباني": وإنما لم يُسمِّ الحافظُ ابن عبد الهادي السنة التي وقع فيها ذلك؛ لأنها لم ترد في رواية ثابتة على طريقة المحدثين، وما نقلناه عن ابن جرير هو من رواية الواقدي وهو متهم، ورواية ابن أبي شيبة الآتية في كلام "الحافظ ابن عبد الهادي" مدارها على مجاهيل وهم عن مجهول! كما هو ظاهر، فلا حجة في شيء من ذلك، وإنما العمدة على اتفاق المؤرخين على أن إدخال الحجرة إلى المسجد كان في ولاية الوليد. قال "محمد بن عبد الهادي"، وقد ذكر أبو زيد عمر بن شُبَّة النميري في كتاب (أخبار المدينة) مدينة رسول الله-صلى الله عليه وسلم–عن أشياخه عمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة وعمل سقفه بالساج، وماء الذهب، وهدم حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم– فأدخلها في المسجد أو دخل القبر فيه.
يتبين لنا مما أوردناه أن القبر الشريف إنما أُدخل المسجد النبوي حين لم يكن في المدينة أحد من الصحابة، وأن ذلك كان على خلاف غرضهم الذي رموا إليه حين دفنوه في حجرته-صلى الله عليه وسلم-، فلا يجوز لمسلم بعد أن عرف هذه الحقيقة أن يحتج بما وقع بعد الصحابة؛ لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة وما فهم الصحابة والأئمة منها كما سبق بيانه، وهو مخالف أيضاً لصنيع عمر، وعثمان حين وسعا المسجد ولم يدخلا القبر فيه، ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد بن عبد الملك عفا الله عنه، ولئن كان مضطراً إلى توسيع المسجد، فإنه كان باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى هذا النوع من الخطأ حين قام هو-رضي الله عنه–بتوسيع المسجد من الجهات الأخرى، ولم يتعرض للحجرة، بل قال: (إنه لا سبيل عليها).
انظر طبقات ابن سعد (4/21) وغيره
فأشار رضي الله عنه إلى المحذور الذي يترتب من جراء هدمها وضمها إلى المسجد.
ومع هذه المخالفة الصريحة للأحاديث المتقدمة وسنة الخلفاء الراشدين، فإن المخالفين لما أدخلوا القبر النبوي في المسجد الشريف احتاطوا للأمر شيئاً ما، فحاولوا تقليل المخالفة ما أمكنهم. قال النووي في (شرح مسلم) (5/14): (ولما احتاجت الصحابة.(2) والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله-صلى الله عليه وسلم–حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر).
ونقل "الحافظ ابن رجب" في (الفتح) نحوه عن القرطبي كما في (الكواكب) (65/91/1) وذكر "ابن تيمية" في (الجواب الباهر) (9/2): (أن الحجرة لما أدخلت إلى المسجد سُد بابها، وبني عليها حائط آخر، صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيداً، وقبره وثناً).
نقلاً من كتاب: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد (58-68) تأليف/ محمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الرابعة - المكتب الإسلامي.
وقد وردت الأدلة الصحيحة على تحريم اتخاذ القبور مساجد:
ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). رواه مسلم كتاب الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد (1/377) رقم (532).
وفي الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذِّر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً". البخاري، الفتح،(3/156) رقم (1330). كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد قبوراً.
قال "ابن تيمية": واتخاذ القبور مسجداً هو أن يتخذ للصلوات الخمس، وغيرها كما تبنى المساجد لذلك، والمكان مسجداً إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين".
فحرم صلى الله عليه وسلم أن تتخذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها؛ كما تقصد المساجد وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلا أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء به، والدعاء عنده، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذريعة إلى الشرك بالله.
راجع: مجموع الفتاوى (1/163-164).
ولم يكن في المدينة المنورة أحد من الصحابة حينذاك خلافاً لمن توهم ذلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين