لتكون كلمة الله هي العليا - إلّا ليعبدون (4) لا توجد أمّة من الأمم إلا ولديها من الأبطال ...

لتكون كلمة الله هي العليا - إلّا ليعبدون (4)


لا توجد أمّة من الأمم إلا ولديها من الأبطال المقاتلين، والشجعان المحاربين، الكثيرون ممّن تفتخر بهم، وترفع من شأنهم، فالتدافع بين الناس سنّة من سنن الله عزّ وجل، فحق يدفع الباطل، وباطل يدفع باطل، ولكلّ حقٍ أو باطلٍ أمّة من الأمم تداعي به، وتحرص على الوصول إليه، وكلا الطرفين (الطالب والمانع) يفتخر بمدافعته لخصمه وقتاله له ونكايته فيه، وبمقدار ما استطاع أن يستلبه منه، بل ويفتخر بحجم ما قدّمه من تضحيات في سبيل هزيمة خصمه، وهنا يبرز غالباً الأبطال الحقيقيّون وأحياناً الأدعياء المزيّفون، بمقدار ما قدّموه من تضحيات، أو حقّقوه من منجزات، أو بمقدار ما تم اختلاقه من ذلك. وبهذا تشترك كلّ الأمم، لا فرق في ذلك بين عربي وأعجمي، أو أبيض وأسود، فأبطال ملاحم اليونان، لا يختلفون عن فرسان العرب في الجاهليّة، ولا شجعان قرطاجة أو روميّة، فالحرب هي الحرب، والنفس الإنسانيّة هي النفس الإنسانيّة، والعصبيّة هي العصبيّة، والفرق في التقييم نسبي طبعاً بين كلا الطرفين، فالمجرمون السافكون للدماء المدمّرون للعمران، في عرف كل شعوب قارة آسيا تقريباً، من أمثال (جنكيز خان) و أحفاده (هولاكو) و(تيمورلنك)، هم أبطال قوميّون تصنع لهم التماثيل والنصب التذكاريّة، في الدّول ذات التعصّب للقوميّة التركيّة وعلى رأسها مسقط رأسهم (دولة منغوليا).

وقد أخرج الإسلام القتال من هذه المفاهيم العصبية القوميّة أو الكسبيّة الدنيويّة، ليجعله عبادة من العبادات، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، يشترط لصحّته ما يشترط في أي عبادة أخرى من إخلاص واتّباع، قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) كما قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، معطياً على القتال في سبيل الله ما يعطى على كل العبادات الأخرى من الجزاء، وهو الجنّة، رغم فضله عليها، فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (قلت يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله) [متفق عليه]، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وقد حصر الإسلام القتال الشرعي في نطاق ضيّق ليمنع كلّ أسباب القتال الدنيويّة من الدخول في إطاره، كما في الحديث (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذِكْر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟) [البخاري]، وفي رواية أخرى (فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله؟ فإِن أحدنا يقاتل غضبا، ويقاتل حميّة) [البخاري]، وفي أخرى (يقاتل شجاعة، ويقاتل حميّة، ويقاتل رياء) [مسلم]، واتفقت كل الروايات على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ على السائل: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) [أخرجه البخاري]، وبهذا المعنى أجاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من سأل من الصحابة عن حقيقة الشهادة (فقال عمر: الله أعلم، أنّ من الناس ناساً يقاتلون وأنّ همّهم القتال فلا يستطيعون إلّا إيّاه، وأن من الناس ناساً يقاتلون رياءً وسمعةً، وأنّ من الناس ناساً يقاتلون ابتغاء وجه الله، فأولئك الشهداء، و كلّ امرئٍ منهم يبعث على الذي يموت عليه) [قال الذهبي: على شرط البخاري].

فهذا هو القتال الشرعي الوحيد، وغيره قتال أهل الجاهلية مهما تنوّعت غاياته، كطلب الغنيمة، والحميّة الجاهليّة (في سبيل رفعة قومه)، ولغضب نفسه، ولحبّه الذِكر (الشهرة)، وليرى مكانه أو للرياء (كي ترتفع مكانة المقاتل في قومه)، أو للشجاعة (كأن يكون حبّ القتال طبيعة في الفرد)، وغير ذلك، فغايات العباد تتنوّع، ولكن الله عزّ وجل لا يقبل إلا ما خلص له، وهو أن يكون القتال لتكون كلمة الله هي العليا.

فالجهاد لمّا كان من أشقّ العبادات على النفس ومن أكثرها تعريضاً للنفس للهلكة، كان من الواجب توضيح أهدافه وغاياته للعاملين به، وعدم تركهم لأهواء أنفسهم، فيهلكونها في غير طاعة الله، فيخسرون الدنيا والآخرة، لا كما تفعل الجماعات والفصائل المنحرفة، التي تنتهج بتحريضها واستنفارها للناس جمع أكبر قدر ممكن من الناس ليخدموا الأهداف التي تسعى قيادات تلك الفصائل لتحقيقها، دون تعليم هؤلاء الجنود حقيقة ما يجب عليهم أن يجاهدوا من أجله ويموتوا في سبيله، وذلك خشية أن ينفضّ عنهم أهل الباطل إذا علموا أن القتال هو في سبيل إعلاء كلمة الله، أو ينفض عنهم أهل الحق إذا اكتشفوا أن القتال هو لإعلاء كلمة الفصيل أو الزعيم أو المرشد أو لإقامة نظام جاهلي جديد مكان الجاهليّة التي سيعملون على هدمها، أو نصرةً لأهل الباطل على أهل الحق، وتبقى هذه الجماعات تنقل جنودها وأنصارها من تيه إلى تيه، فلا يعلمون من غاية قتالهم إلا عموميّات يمكن للقيادات أن توظّفها في اتّجاهات شتّى، كأن تعلن قيادة الفصيل أن القتال هو في سبيل (إقامة دولة الحريّة والعدالة)، أو في سبيل (العدالة والتنمية) وما شابه، فإذا التفتوا إلى أنصارهم أو حلفائهم من العلمانيين قالوا: "نريد الدّولة الديموقراطية التي تحقّق الحريّة لكل أفراد الوطن ويتساوى فيها الناس أمام القانون"، وإذا التفتوا إلى من انخدع بشعاراتهم "الإسلاميّة" قالوا: "المقصود بالحرية والعدالة، هو الدّولة الإسلاميّة لأنها تعطي الحرية للمسلمين، وتحقق لهم العدالة بالشريعة".

وعوضاً عن التصريح بحقيقة المعركة ضد الطواغيت وأنّها جهاد في سبيل الله، انتشرت مصطلحات غريبة في وصف هذا القتال، ففي العراق وفلسطين وغيرها أشاعت الفصائل المقاتلة مصطلح "مقاومة الاحتلال" كبديل للجهاد في سبيل الله، مبرّرين ذلك بالرغبة في كسب تعاطف الناس من "غير المسلمين" وهم يريدون بذلك الكفّار والمرتدّين، وزادوا على مصيبة اصطلاحاتهم تبريرهم لقتال الصليبيّين بأن "مقاومة المحتل تقرّها كل الأديان السماويّة، والقوانين الوضعية"، وبذلك جعلوا من أديان أهل الكتاب المنحرفة التي وضعها لهم الأحبار والرهبان أدياناً مصدرها السماء، وأعطوا للقوانين الوضعية الطاغوتية شرعيّة الحكم على صحة الأفعال، وشابههم في ذلك أهل "الربيع العربي" بإطلاقهم مصطلح "الثورة على الاستبداد" عوضاً عن وصف الخروج على الطاغوت المبدّل لشرع الله بأنه جهاد في سبيل الله، مبرّرين ذلك بعدم استفزاز الغرب الصليبي الذي يطلبون نصرته والذي ترعبه كلمة الجهاد، وبالتالي ممكن أن يقف في صف النظام إذا سمّينا هذا الخروج على الحاكم الكافر بأنه جهاد في سبيل الله.

وفي نفس الوقت تجد الصنفين، قبلوا في صفوفهم كل من طلب ذلك، وإذا قتل أو مات أطلقوا عليه أوصاف الشهداء، مهما كانت عقيدته أو كان دينه، وكأنّهم لا يعرفون أنّه لا ينفع مع الكفر عمل صالح، وأن من خرج لأي غاية سوى أن تكون كلمة الله هي العليا، فلا يكون مجاهداً في سبيل الله، وإن مات أو قُتل، فهو قتيل في سبيل ما خرج لأجله، ولا يسمّى شهيداً.

أمّا النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يكن ليخدع الناس أملاً في اكتساب مقاتلين جدد في صفّه، مهما بلغت الفائدة التي يعرض هؤلاء تقديمها، ومهما كانت الحاجة للاستفادة منهم، وحاشاه أن يفعل شيئا من ذلك، وذلك لعدم انتفاعهم بهذا القتال إن لم يكن شرعيّاً من جهة، ولعدم رغبته أن يكون لغير المسلم منّة أو فضل على هذا الدين، (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله. قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك) [مسلم]، وظل يُرجع هذا الرجل الذي جاء يقاتل طلباً للغنيمة رغم شجاعته، حتى أعلن إسلامه فقبل انضمامه للجيش.

وهذا هو المنهج الإسلامي في حشد الأنصار واستنفار المسلمين للجهاد، أن يكون الحرص على إخراجهم من النار وإدخالهم إلى الجنة مقدّماً على الحرص على الاستكثار من الجند والمقاتلين، وإن في المنهج المتبع اليوم في انتساب المجاهدين إلى جيش الخلافة لسنّة حسنة، باستقبالهم أولاً في دورات شرعية تعلمهم التوحيد، وأساسيات فقه العبادات وفقه الجهاد وسوى ذلك مما يحتاجه المجاهد من أمر دينه قبل أن يلج ساحات الجهاد، فينتفع بإذن الله من جهاده إن أخلص النية لله، وتنتفع بجهاده الأمة طالما خرج مجاهداً لتكون كلمة الله هي العليا.


-افتتاحية صحيفة النبأ - العدد (2)
السنة السابعة - السبت 10 محرم 1437 هـ