حكم بين العدل والظلم ◾ كل العدل في الشرع ومما زاد رقعة الظلم في زماننا تغييب حكم الشريعة من ...
منذ 2024-11-14
حكم بين العدل والظلم
◾ كل العدل في الشرع
ومما زاد رقعة الظلم في زماننا تغييب حكم الشريعة من حياة الناس وإبدالها بأحكام البشر وتشريعاتهم الناقصة الخاطئة، فهي وضعت بناء على وجهات نظر قاصرة لا تخلو من حظوظ النفس وأهوائها ونزواتها وشهواتها، وهي كثيرة التقلبات عديدة الثغرات مستمرة التناقضات، حتى إن العامة تستهزأ بها فتقول: القانون للضعفاء والفقراء والثغرات للأقوياء والأغنياء، فتلك حقيقة العدل عند المخلوق وطبيعة الإنسان الذي وصفه الله بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، وهو الأمر الذي أدركته الملائكة بعلمها المحدود بادئ ذي بدء، عندما أطلعهم الله سبحانه أنه {جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، فعجبوا وسألوه سبحانه: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، إلا أن الله أجابهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
◾ عدل الدنيا قاصر
وإن مما لا يطيقه البشر إنصاف الجميع في الدنيا، ولذلك يوضع الميزان يوم القيامة ليحكم الله بين الخلائق البشر وغيرهم، كما عند مسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتّى يقاد للشّاة الجلحاء من الشّاة القرناء)؛ لذا فعدل الدنيا مهما بلغ يبقى قاصرا، فمن ينصف المقتول ظلما وقد فارق دنياه، ومن يرد حق الذين هدمت بيوتهم وشردوا وقتل أبناؤهم؟، من يرد حق الأيتام والأرامل؟، وحق كل المستضعفين من المسلمين الذين تسلط عليهم الكفار في ديار الكفر؟ لا شك أن هؤلاء وغيرهم حقهم محفوظ عند الله تعالى يوم الحساب، سترد إليهم حقوقهم كاملة غير منقوصة.
◾ {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}
وإن مما يجب على المؤمن التسليم به أن الله تعالى عدل لا يظلم أحدا بل هو سبحانه حرم الظلم على نفسه كما جاء في الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي..)، وقال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ} وقال: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، وما يحصل في هذه الدنيا من مصائب ومحن ونوازل فهي من جنس الابتلاءات التي تعم الكافر والمؤمن، فترفع درجة المؤمن وتمحق الكافر، ويكون تمام العدل في أحكام الآخرة عندما يساق المؤمنون إلى الجنة ويساق الكافرون إلى النار.
فلا ينبغي للعبد أن يشك في عدل الله تعالى في شيء، ولا يعترض عليه في أحكامه وأوامره وقضائه، فهو سبحانه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ} فلا يخرج المؤمن عن طاعة ربه، بل يقابل قضاءه بأتم التسليم ولو غابت الحكمة عنه، وذلك من حسن الظن بالله وأنه ما منع إلا ليعطي وما أخَّر إلا ليجزل، وهو أعلم بعباده وبما يصلح لهم وهو كله راجع لعلمه سبحانه وحكمته قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}، فلا يعترض العبد على القدر إن جانب هواه وخالف مبتغاه، فقد قال تعالى منكرا ذلك: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} بل يكون من المهتدين الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، ولا ينتظر أن تصيبه الحسنة حتى يحسن وأن لا يكون ممن إذا أصابتهم السيئة أساؤوا، بل إن العبد هو من يبادر ويقبل ولا يشترط على ربه، ومن ذلك كراهة النذور فكما في الصحيحين وغيرهما قد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النذر وقال: (إنّه لا يردّ شيئا، وإنّما يستخرج به من البخيل).
وليتأمل العبد مشهدا من مشاهد العدل المطلق يوم القيامة فيما رواه مسلم عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يؤتى بأنعم أهل الدّنيا من أهل النّار يوم القيامة، فيصبغ في النّار صبغة، ثمّ يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قطّ؟ هل مرّ بك نعيم قطّ؟ فيقول: لا واللّه يا ربّ. ويؤتى بأشدّ النّاس بؤسا في الدّنيا من أهل الجنّة، فيصبغ صبغة في الجنّة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قطّ؟ هل مرّ بك شدّة قطّ؟ فيقول: لا واللّه يا ربّ، ما مرّ بي بؤس قطّ، ولا رأيت شدّة قطّ).
▫ المصدر: مقالات النبأ - حِكمٌ بين العَدل والظلم
صحيفة النبأ الأسبوعية العدد 468
الخميس 5 جمادى الأولى 1446 هـ
◾ كل العدل في الشرع
ومما زاد رقعة الظلم في زماننا تغييب حكم الشريعة من حياة الناس وإبدالها بأحكام البشر وتشريعاتهم الناقصة الخاطئة، فهي وضعت بناء على وجهات نظر قاصرة لا تخلو من حظوظ النفس وأهوائها ونزواتها وشهواتها، وهي كثيرة التقلبات عديدة الثغرات مستمرة التناقضات، حتى إن العامة تستهزأ بها فتقول: القانون للضعفاء والفقراء والثغرات للأقوياء والأغنياء، فتلك حقيقة العدل عند المخلوق وطبيعة الإنسان الذي وصفه الله بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، وهو الأمر الذي أدركته الملائكة بعلمها المحدود بادئ ذي بدء، عندما أطلعهم الله سبحانه أنه {جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، فعجبوا وسألوه سبحانه: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، إلا أن الله أجابهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
◾ عدل الدنيا قاصر
وإن مما لا يطيقه البشر إنصاف الجميع في الدنيا، ولذلك يوضع الميزان يوم القيامة ليحكم الله بين الخلائق البشر وغيرهم، كما عند مسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتّى يقاد للشّاة الجلحاء من الشّاة القرناء)؛ لذا فعدل الدنيا مهما بلغ يبقى قاصرا، فمن ينصف المقتول ظلما وقد فارق دنياه، ومن يرد حق الذين هدمت بيوتهم وشردوا وقتل أبناؤهم؟، من يرد حق الأيتام والأرامل؟، وحق كل المستضعفين من المسلمين الذين تسلط عليهم الكفار في ديار الكفر؟ لا شك أن هؤلاء وغيرهم حقهم محفوظ عند الله تعالى يوم الحساب، سترد إليهم حقوقهم كاملة غير منقوصة.
◾ {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}
وإن مما يجب على المؤمن التسليم به أن الله تعالى عدل لا يظلم أحدا بل هو سبحانه حرم الظلم على نفسه كما جاء في الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي..)، وقال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ} وقال: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، وما يحصل في هذه الدنيا من مصائب ومحن ونوازل فهي من جنس الابتلاءات التي تعم الكافر والمؤمن، فترفع درجة المؤمن وتمحق الكافر، ويكون تمام العدل في أحكام الآخرة عندما يساق المؤمنون إلى الجنة ويساق الكافرون إلى النار.
فلا ينبغي للعبد أن يشك في عدل الله تعالى في شيء، ولا يعترض عليه في أحكامه وأوامره وقضائه، فهو سبحانه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ} فلا يخرج المؤمن عن طاعة ربه، بل يقابل قضاءه بأتم التسليم ولو غابت الحكمة عنه، وذلك من حسن الظن بالله وأنه ما منع إلا ليعطي وما أخَّر إلا ليجزل، وهو أعلم بعباده وبما يصلح لهم وهو كله راجع لعلمه سبحانه وحكمته قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}، فلا يعترض العبد على القدر إن جانب هواه وخالف مبتغاه، فقد قال تعالى منكرا ذلك: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} بل يكون من المهتدين الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، ولا ينتظر أن تصيبه الحسنة حتى يحسن وأن لا يكون ممن إذا أصابتهم السيئة أساؤوا، بل إن العبد هو من يبادر ويقبل ولا يشترط على ربه، ومن ذلك كراهة النذور فكما في الصحيحين وغيرهما قد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النذر وقال: (إنّه لا يردّ شيئا، وإنّما يستخرج به من البخيل).
وليتأمل العبد مشهدا من مشاهد العدل المطلق يوم القيامة فيما رواه مسلم عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يؤتى بأنعم أهل الدّنيا من أهل النّار يوم القيامة، فيصبغ في النّار صبغة، ثمّ يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قطّ؟ هل مرّ بك نعيم قطّ؟ فيقول: لا واللّه يا ربّ. ويؤتى بأشدّ النّاس بؤسا في الدّنيا من أهل الجنّة، فيصبغ صبغة في الجنّة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قطّ؟ هل مرّ بك شدّة قطّ؟ فيقول: لا واللّه يا ربّ، ما مرّ بي بؤس قطّ، ولا رأيت شدّة قطّ).
▫ المصدر: مقالات النبأ - حِكمٌ بين العَدل والظلم
صحيفة النبأ الأسبوعية العدد 468
الخميس 5 جمادى الأولى 1446 هـ