خنساوات الخلافة آيات في الصبر • الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ...

خنساوات الخلافة آيات في الصبر

• الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فعن أبي وجزة، عن أبيه، قال: (حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السُلَمية حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فقالت لهم من أول الليل: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غبرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين.

واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها، وجللت نارا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة.

فخرج بنوها قابلين لنصحها، عازمين على قولها... فقاتلوا حتى قُتلوا، فبلغها الخبر فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته) [الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1829].

ولقد كنا نحسب أن زمان الخنساء قد ولّى، وأن الأرحام قد عقمت عن إنجاب مثيلاتها من بعدها، حتى عادت دولة الإسلام، عادت بمجاهديها وأمهاتهم، بشهدائها وخنساواتهم.

خنساوات الخلافة، آيات في الصبر والاحتساب، نساء بهمم رجال، يأتيها خبر ارتقاء فلذة كبدها، فتخر لله ساجدة شاكرة، وكأنه قد زُفَّ إلى عروس، وإن أنت زرتها لتعزيها، فلن ترى من الحزن شيئا سوى عينٍ باكية، ولسانٍ لا يفتر عن الحمد والشكر، تروم تصبيرها فتصبرك وهي تحدثك عمّن هم أحياء عند ربهم يرزقون، عن حواصل الطير، والحور والشفاعة، من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، قد تذكر شهيدها -كما نحسبه والله حسيبه- فتذرف العين شوقا إليه وهي تتذكر بره بها، ممازحته، كلماته، حركاته، سكناته وكيف ودّعها عند آخر لقاء!

تقول إحدى الخنساوات وهي أمٌ لشهيدين -بإذن الله تعالى- متذكرة يوم فارقها أحدهما: لقد وصل إلى الباب وقبل أن يدلف منه خارج البيت نظر وقال: (أمي... القرآن القرآن)، ثم خرج ولم يعد، أفلا تحزن على مثل هذا؟!

إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى
وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف

والعجب ممن قدّمت ثلاثة وأربعة وخمسة، جميعهم قتلوا تحت هذه الراية، راية الحق، راية الدولة الإسلامية، ولا زالت تلك الخنساء تنتظر بيع بقية أبنائها بل وأحفادها.

ثم إن أغلب خنساوات هذه الدولة المباركة لسن من طالبات العلم، بل هن من عوام المسلمين، ولكنها الفطرة السليمة، التي علّمتها وبمنتهى اليسر: (لله ما أعطى ولله ما أخذ)، لا تجادل في أمر الله، ولا تعقّب على حكمه، بل منهن من تجهّز جعبة فلذة كبدها وسلاحه بنفسها، لترسله إلى حتفه، إنها الفطرة التي لم تعانِ مما يعانيه كثير من حاملي العلم وحاملاته، من لوثة إرجاء، أو سرورية، أو أشعرية، أو صوفية أو غير ذلك من أوبئة الشراك والشباك.

فشتّان شتّان بين الخنساء (بنت عمرو) التي باعت بنيها لله تعالى، وبين خُناس (بنت مالك) التي قتّرت على ابنها مصعب بن عمير وضيقت عليه لما أسلم وسار على طريق الحق.

فلله در كل صابرة محتسبة، لله در كل من لم تتصدق بدرهم ولا دينار ولكنها تصدقت بدماء وأشلاء أحب الناس إلى قلبها، ربح البيع أم الشهيد!

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

■ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 20
السنة السابعة - الثلاثاء 21 جمادى الأول 1437 هـ

مقال:
خنساوات الخلافة آيات في الصبر