حُ ـ ـ / ـماة الشَّريـ؏ـة: القول على الله بغير علم • الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ...
حُ ـ ـ / ـماة الشَّريـ؏ـة:
القول على الله بغير علم
• الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد تسرع الناس هذا الزمان في الفتوى بعلم وبدون علم، والله المستعان، وإنه مما يعاب على المرء أن يقول بغير علم ويتكلم من حيثيات نفسه، ويطلق لسانه في غير فنه بلا جادة تقله ولا علم يدله، ومن تكلم بغير فنه أتى بالعجائب! نسأل الله أن يعصم المسلمين من الزلل وأن يحفظ ألسنتهم من العيب والخطل.
إن الشريعة قد نفرت من الجهل في الدين، وحضت على العلم وطلبه، وبينت الفرق بين العالم والجاهل، فقال الله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} [سورة الزمر: 9]، وما ذاك إلا لخطورة آثار الجهل في الدين وما ينتج عنه من عبادة الله بغير ما شرع، وإنشاء البدع والمحدثات.
قال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [سورة الأعراف: 33]، وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) [رواه البخاري]، ومن هذا: القول على الله بغير علم.
عجبت لإدلال العيي بنفسه
وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي وإنما
صحيفة لب المرء أن يتكلما
وأشد من عي اللسان عي الجهل وقلة العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وذكر العلماء أن الجاهل جهلا مركبا، هو الرجل الذي لا يعلم ويجزم أنه يعلم! وآخرون من الرجال يجهلون وهم مقرون بجهلهم، وقد عرفوا قدر أنفسهم، فلا يحملونها ما لا تطيق، وإن زل أحدهم رجع عن قوله بعد علمه بخطئه، وهذا هو ما يسميه أهل العلم بالجاهل البسيط وهو الجاهل الذي يدري أنه جاهل، وهذا سرعان ما تتقدم به المعرفة والعلم ويرتفع عن جهله شيئا فشيئا ما دامت هذه حاله، ولقد قال الخليل بن أحمد: الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فهذا عالم فالزموه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فهذا غافل فنبهوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا مائق فاحذروه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه؛ وقد قال الشاعر:
لما جهلت جهلت أنك جاهل
جهلا وجهل الجهل داء معضل
وقال الآخر:
ومن أعجب الأشياء أنك لا تدري
وأنك لا تدري بأنك لا تدري
ومن أعظم الأمور الإفتاء بغير علم، قال عز من قائل: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هٰذا حلال وهٰذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} [سورة النحل: 116]، وقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولٰئك كان عنه مسئولًا} [سورة الإسراء: 36].
ولنا في السلف الصالح -رضي الله عنهم أجمعين- أسوة وقدوة، فقد كانوا كما يقول ابن القيم: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره.
قال ابن عباس: كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون.
وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تستحي من قولك لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: {لا علم لنا إلا ما علمتنا}.
ويقول عبد الله بن الإمام أحمد: كثيرا ما يسأل الإمام أحمد عن المسائل فيقول: لا أدري، ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيرا ما يقول: سل غيري، فإن قيل له: من نسأل؟ قال: سلوا العلماء.
وقال أبو داود في مسائله: ما أحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري، قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى -أي ما رأيت أحسن منه- وكان أهون عليه أن يقول: لا أدري.
وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه.
وقال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم كذا، فيقول الله له: كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا.
وقال ابن مسعود: أيها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما كان منهم محدثا إلا ود أن أخاه قد كفاه الحديث ولا مفتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال الهيثم بن جميل: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
وقال القاسم وابن سيرين: لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم.
وقال سعيد بن جبير: ويل لمن يقول لما لا يعلم إني أعلم.
ويقول ابن المنكدر: المفتي يدخل بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يفعل فعليه التوقف والتحرز لعظم الخطر.
وبوب البخاري: باب ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل مما لم ينزل عليه الوحي، فيقول: (لا أدري)، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا بقياس.
وما يضيرك أن تقول: لا أدري، وقد كثر في أجوبة الأئمة قول: لا أدري، بل قد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- المؤيد بالوحي يسأل فيسكت، ينتظر الوحي، وبعض الناس إذا سئل لا يترك السائل يكمل سؤاله، بل يبادر بالجواب قبل إكمال السؤال، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه).
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.
◽ المصدر: صحيفة النبأ – العدد 25
السنة السابعة - 1437 هـ
القول على الله بغير علم
• الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد تسرع الناس هذا الزمان في الفتوى بعلم وبدون علم، والله المستعان، وإنه مما يعاب على المرء أن يقول بغير علم ويتكلم من حيثيات نفسه، ويطلق لسانه في غير فنه بلا جادة تقله ولا علم يدله، ومن تكلم بغير فنه أتى بالعجائب! نسأل الله أن يعصم المسلمين من الزلل وأن يحفظ ألسنتهم من العيب والخطل.
إن الشريعة قد نفرت من الجهل في الدين، وحضت على العلم وطلبه، وبينت الفرق بين العالم والجاهل، فقال الله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} [سورة الزمر: 9]، وما ذاك إلا لخطورة آثار الجهل في الدين وما ينتج عنه من عبادة الله بغير ما شرع، وإنشاء البدع والمحدثات.
قال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [سورة الأعراف: 33]، وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) [رواه البخاري]، ومن هذا: القول على الله بغير علم.
عجبت لإدلال العيي بنفسه
وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي وإنما
صحيفة لب المرء أن يتكلما
وأشد من عي اللسان عي الجهل وقلة العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وذكر العلماء أن الجاهل جهلا مركبا، هو الرجل الذي لا يعلم ويجزم أنه يعلم! وآخرون من الرجال يجهلون وهم مقرون بجهلهم، وقد عرفوا قدر أنفسهم، فلا يحملونها ما لا تطيق، وإن زل أحدهم رجع عن قوله بعد علمه بخطئه، وهذا هو ما يسميه أهل العلم بالجاهل البسيط وهو الجاهل الذي يدري أنه جاهل، وهذا سرعان ما تتقدم به المعرفة والعلم ويرتفع عن جهله شيئا فشيئا ما دامت هذه حاله، ولقد قال الخليل بن أحمد: الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فهذا عالم فالزموه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فهذا غافل فنبهوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا مائق فاحذروه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه؛ وقد قال الشاعر:
لما جهلت جهلت أنك جاهل
جهلا وجهل الجهل داء معضل
وقال الآخر:
ومن أعجب الأشياء أنك لا تدري
وأنك لا تدري بأنك لا تدري
ومن أعظم الأمور الإفتاء بغير علم، قال عز من قائل: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هٰذا حلال وهٰذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} [سورة النحل: 116]، وقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولٰئك كان عنه مسئولًا} [سورة الإسراء: 36].
ولنا في السلف الصالح -رضي الله عنهم أجمعين- أسوة وقدوة، فقد كانوا كما يقول ابن القيم: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره.
قال ابن عباس: كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون.
وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تستحي من قولك لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: {لا علم لنا إلا ما علمتنا}.
ويقول عبد الله بن الإمام أحمد: كثيرا ما يسأل الإمام أحمد عن المسائل فيقول: لا أدري، ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيرا ما يقول: سل غيري، فإن قيل له: من نسأل؟ قال: سلوا العلماء.
وقال أبو داود في مسائله: ما أحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري، قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى -أي ما رأيت أحسن منه- وكان أهون عليه أن يقول: لا أدري.
وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه.
وقال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم كذا، فيقول الله له: كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا.
وقال ابن مسعود: أيها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما كان منهم محدثا إلا ود أن أخاه قد كفاه الحديث ولا مفتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال الهيثم بن جميل: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
وقال القاسم وابن سيرين: لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم.
وقال سعيد بن جبير: ويل لمن يقول لما لا يعلم إني أعلم.
ويقول ابن المنكدر: المفتي يدخل بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يفعل فعليه التوقف والتحرز لعظم الخطر.
وبوب البخاري: باب ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل مما لم ينزل عليه الوحي، فيقول: (لا أدري)، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا بقياس.
وما يضيرك أن تقول: لا أدري، وقد كثر في أجوبة الأئمة قول: لا أدري، بل قد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- المؤيد بالوحي يسأل فيسكت، ينتظر الوحي، وبعض الناس إذا سئل لا يترك السائل يكمل سؤاله، بل يبادر بالجواب قبل إكمال السؤال، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه).
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.
◽ المصدر: صحيفة النبأ – العدد 25
السنة السابعة - 1437 هـ