أنفُسٌ هو خلقها وأموالٌ هو رزقها للشيخ عبد العزيز بن رشيد الطويلعي (تقبّله الله) قال الله عز ...

أنفُسٌ هو خلقها وأموالٌ هو رزقها
للشيخ عبد العزيز بن رشيد الطويلعي (تقبّله الله)

قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].

وهذا أعظم عقد بين الله -عز وجل- وعباده، فاشترى الأنفس والأموال بالقتل في سبيله والقتال وأثاب عليه الجنة، وأكد ذلك بأنه وعد منه حق أوجبه على نفسه، وعد به في التوراة والإنجيل والقرآن، وأكد ذلك بما لا يشك فيه أحد: ومن أوفى بعهده من الله، فأي عاقل يجد في نفسه الجلد والصبر عن هذا الوعد العظيم من الله العظيم؟ وهذا العهد ممن لا يخلف العهد والميعاد.

وانظر إلى سعة كرم الكريم -جل وعلا- فقد اشترى ما وهبه وهو بيده لم يخرج من ملكه، وأثاب عليه ما هو أعظم منه، والكل من عنده سبحانه.

أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن البصري قال: (أَنْفُسٌ هو خلقها، وأموالٌ هو رزقها).

وقد أوقع الله في الآية هذا العقد الذي هو أصل عبودية العبد لربه والعلاقة بينه وبين خالقه على القتال في سبيله، وفسره بقوله: {يَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}، لأن القتال في سبيل الله ذروة السنام، وطلب الموت والشهادة غاية الصدق في الوفاء بالعقد من عبده، وإن كان هذا العقد الذي ثمنه الجنة يشمل جميع فرائض الدين وشعائره.

وأكد الله العقد بأنه في التوراة والإنجيل والقرآن، وظاهره أن العقد لأصحاب هذه الكتب، وهذا يضعّف ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من أن الجهاد لم يفرض على النصارى لا للطلب ولا للدفع، بل ظاهر الآية أنه مفروض عليهم مذكور في إنجيلهم، كما أنه مفروض على أهل الكتاب من اليهود قبلهم، وأول ما فرض الجهاد على قوم موسى اليهود في التوراة، وقبل ذلك كان الله يأخذ المعرضين بالعقوبات الكونية من عنده كما جاء في بعض الآثار.

وختم الله -جل وعلا- الآية بالأمر بالاستبشار بهذا العقد الذي هو ربح محض لا مقابل له من العبد، بل الثمن والسلعة من عنده، وفي هذا أمر كل مسلم بالاستبشار بهذا العقد عموما، وبفرض القتال المنصوص عليه في العقد خصوصا، والذي يستبشر بعقد كهذا العقد ويؤمن به حق الإيمان، لا يجد في نفسه حرجا من القتال، ولا ينظر نظر المغشي عليه من الموت إذا سمع الآيات والنصوص المحكمة في الجهاد، ولا يقول ائذن لي ولا تفتني، ولا يقول غرّ هؤلاء دينهم، ولا يظن أن لن يرجع المؤمنون والمجاهدون إلى أهليهم أبدا ويظن ظن السوء.

بل يستبشر بقلبه، ويسر بهذا العقد والفضل من ربه، ومحال أن يستبشر بعقد ثم لا يبذل الثمن فيه ولا يسعى في إتمام الصفقة، بل حقيقة الاستبشار بالعقد أن يحرص على إتمامه، ويتضرع إلى المولى -جل وعلا- أن يعينه عليه وألا يصرفه عنه ويحرمه منه بعد إذ هداه إليه.

وهذه الكلمات بين يدي كلام نفيس لابن القيم -رحمه الله- في هذه الآية آثرت أن أنقله بطوله، قال رحمه الله:

(وأخبر سبحانه أنه {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} وأعاضهم عليها الجنة، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه المنزّلة من السماء، وهى التوراة والإنجيل والقرآن، ثم أكد ذلك بإعلامهم أنه لا أحد أوفى بعهده منه، تبارك وتعالى، ثم أكد ذلك بأن أمَرَهم بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم.

فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع ما أعظم خطره وأجله، فإن الله -عز وجل- هو المشتري، والثمن جنات النعيم والفوز برضاه والتمتع برؤيته هناك، والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة والبشر، وإن سلعةً هذا شأنها لقد هُيئت لأمر عظيم وخطب جسيم...

قد هيئوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

مهر المحبة والجنة؛ بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، فما للجبان المعرض المفلس وَسَوْم هذه السلعة؟!!

بالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبتاعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون وقام المحبون ينتظرون أيّهم يصلح أن تكون نفسه الثمن، فدارت السلعة بينهم، ووقعت في يد {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

لمّا كثر المدعون للمحبة؛ طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي.