اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ • قال الشيخ سليمان بن ...

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ

• قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في كتابه (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد) في باب (ومن أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله):

لما كانت الطاعة من أنواع العبادة بل هي العبادة، فإنها طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة رسله عليهم السلام، وأنه لا يطاع أحد من الخلق إلا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله، وإلا فلا تجب طاعة أحد من الخلق استقلالاـ
والمقصود هنا الطاعة الخاصة في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، فمن أطاع مخلوقا في ذلك غير الرسول، صلى الله عليه وسلم، فإنه لا ينطق عن الهوى، فهو مشرك، كما بيَّنه الله -تعالى- في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} أي: علماءهم، {وَرُهْبَانَهُمْ} أي: عبادهم {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وفسرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بطاعتهم في تحريم الحلال، وتحليل الحرام كما سيأتي في حديث عَدي.
فإن قيل قد قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] قيل: هم العلماء، وقيل هم الأمراء، وهما روايتان عن أحمد، قال ابن القيم: "والتحقيق أن الآية تعم الطائفتين"، قيل إنما تجب طاعتهم اذا أمروا بطاعة الله وطاعة رسوله، فكان العلماء مُبلِّغين لأمر الله وأمر رسوله، والأمراء منفِّذين له، فحينئذ تجب طاعتهم تَبعا لطاعة الله ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف) [ رواه البخاري ومسلم]، وقال: (على المرء السمع والطاعة ما لم يُؤمر بالمعصية، فإذا أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) حديثان صحيحان، فليس في هذه الآية ما يخالف آية براءة.

وقال ابن عباس: "يوشك أن تَنزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟".
قوله: "يوشك" بضم أوله وكسر الشين المعجمة، قال أبو السعادات: "أي يقرب ويدنو ويسرع".

وهذا الكلام قاله ابن عباس لمن ناظره في مُتعة الحج، وكان ابن عباس يأمر بها، فاحتج عليه المناظِر بنهي أبي بكر وعمر عنها، أي: وهما أعلم منك وأحق بالاتباع، فقال هذا الكلام الصادر عن محض الإيمان وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن خالفه من خالفه، كائنا من كان، كما قال الشافعي: "أجمع العلماء على أنَّ من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد" [مدارج السالكين].

فإذا كان هذا كلام ابن عباس لمن عارضه بأبي بكر وعمر وهما هما، فماذا تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب إليه؟! ويجعلُ قوله عيارا على الكتاب والسنة، فما وافقه قبِله وما خالفه ردَّه أو تأوَّله، فالله المستعان.

وما أحسن ما قال بعض المتأخرين:
فإن جاءهم فيه الدليل موافقا
لما كان للآبا إليه ذهاب
رضوه وإلا قيل هذا مؤول
ويركب للتأويل فيه صعاب

ولا ريب أن هذا داخل في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 31].

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "وقال أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون الى رأي سفيان، والله -تعالى- يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". هذا الكلام من أحمد رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب.

قال الفضل عن أحمد: "نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعا، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} الآية [النور: 63]، وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة إلا الشرك، لعلَّه إذا أراد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبُه، فيُهلِكه وجعل يتلو هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم} [النساء: 65]".

قال أبو طالب عن أحمد -وقيل له: إن قوما يدَعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان- فقال: "أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، قال الله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَة أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وتدري ما الفتنة؟ الكفر، قال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] فيدعون الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي" ذكر ذلك شيخ الإسلام.
قلت: وكلام أحمد في ذمه التقليد وإنكار تأليف كتب الرأي كثير مشهور.

قوله: "عرفوا الإسناد" أي: إسناد الحديث، و"صحته" أي: صحة الإسناد، وصحته دليل على صحة الحديث.

قوله: "ويذهبون إلى رأي سفيان"، أي: الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، وكان له أصحاب ومذهب مشهور، فانقطع.

ومراد أحمد الإنكار على من يعرف إسناد الحديث وصحته، ثم بعد ذلك يقلِّد سفيان أو غيره، ويعتذر بالأعذار الباطلة، إما بأن الأخذ بالحديث اجتهاد، والاجتهاد انقطع منذ زمان! وإما بأن هذا الإمام الذي قلدته أعلم مني، فهو لا يقول إلا بعلم، ولا يترك هذا الحديث مثلا إلا عن علم! وإما بأن ذلك اجتهاد، ويشترط في المجتهد أن يكون عالما بكتاب الله، عالما بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وناسخ ذلك ومنسوخه، وصحيح السنة وسقيمها، عالما بوجوه الدلالات عالما بالعربية والنحو والأصول، ونحو ذلك من الشروط التي لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كما قاله المصنف.

فيقال له: هذا إن صح، فمرادهم بذلك المجتهد المطلق، أما أن يكون ذلك شرطا في جواز العمل بالكتاب والسنة، فكذب على الله وعلى رسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى أئمة العلماء، بل الفرض والحتم على المؤمن إذا بلغه كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلم معنى ذلك في أي شيء كان، أن يعمل به ولو خالفه من خالفه، فبذلك أمرنا ربنا، تبارك وتعالى، ونبينا، صلى الله عليه وسلم، وأجمع على ذلك العلماء قاطبة، إلا جهَّال المقلدين وجفاتهم ومثل هؤلاء ليسوا من أهل العلم، كما حكى الإجماع على أنهم ليسوا من أهل العلم، منهم أبو عمر بن عبد البر وغيره.
قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].
وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54].

فشهد -تعالى- لمن أطاع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالهداية، وعند جفاة المقلدين أن من أطاعه -صلى الله عليه وسلم- ليس بمهتدٍ إنما المهتدي من عصاه وعدل عن أقواله، ورغب عن سنته إلى مذهب أو شيخ ونحو ذلك.

وقد وقع في هذا التقليد المحرَّم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم، ويصنف التصانيف في الحديث والسنن، ثم بعد ذلك تجده جامدا على أحد هذه المذاهب يرى الخروج عنها من العظائم.

وفي كلام أحمد إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يُذم إنما المذموم المنكر الحرام: الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة، نعم ويُنكِر الاعراضَ عن كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والإقبالَ على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناءً بها عن الكتاب والسنة، بل إن قرؤوا شيئا من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، فإنما يقرؤون تبركا لا تعلما وتفقُّها، أو لكون بعض المُوقِفين وقف على من قرأ البخاري مثلا، فيقرؤونه لتحصيل الوظيفة لا لتحصيل الشريعة، فهؤلاء من أحق الناس بدخولهم في قول الله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه: 99 – 101].
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127].

فإن قلت فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب؟

قيل يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم الكتاب والسنة، وتصوير المسائل، فتكون من نوع الكتب الآلية، أما أن تكون هي المقدَّمة على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الحاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه، المدعو إلى التحاكم إليها دون التحاكم إلى الله والرسول، صلى الله عليه وسلم، فلا ريب أن ذلك منافٍ للإيمان مضادٌ له، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] فإذا كان التحاكم عند المشاجرة إليها دون الله ورسوله، ثم اذا قضى الله ورسوله أمرا وجدت الحرج في نفسك، وإن قضى أهل الكتاب بأمر لم تجد فيها حرجا، ثم إذا قضى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأمر لم تسلِّم له وإن قضوا بأمر سلمت له، فقد أقسم الله تعالى سبحانه -وهو أصدق القائلين- بأجلِّ مقسم به وهو نفسه -تبارك وتعالى- أنك لست بمؤمن والحالة هذه، وبعد ذلك فقد قال الله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَہُ} [القيامة: 14 - 16].


* المصدر:
صحيفة النبأ العدد 73

للمزيد من المقالات النافعة.. تواصل معنا تيليجرام:
@wmc11ar