سورة الشورى - تفسير السعدي
" حم "
(حم عسق) سبق الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة.
" كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم "
كما أنزل الله إليك- يا محمد- هذا القرآن أنزل الكتب والصحف على الأنبياء من قبلك , وهو العزيز في انتقامه , الحكيم في أقواله وأفعاله.
" له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم "
لله وحده ما في السموات وما في الأرض , وهو العلي بذاته وقدره وقهره , العظيم الذي له العظمة والكبرياء.
" تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم "
تكاد السموات بتشققن , كل واحدة فوق التي تليها , من عظمة الرحمن
وجلاله تبارك وتعالى, والملائكة يسبحون بحمد ربهم, وينزهونه عما لا يليق به ,
ويسألون ربهم المغفرة لذنوب من في الأرض من أمل الإيمان به.
ألا إن الله هو الغفور لذنوب مؤمني عباده, الرحيم بهم.
" والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل "
والذين اتخذوا غير الله آلهة من دونه يتولونها, ويعبدونها , الله تعالى يحفظ عليهم أفعالهم؟ ليجازيهم بها يوم القيامة , وما أنت- يا محمد- بالوكيل عليهم بحفظ أعمالهم, إنما أنت منذر, فعليك البلاغ وعلينا الحساب.
" وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير "
وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك أوحينا إليك
قرآنا عربيا, لتنذر أهل " مكة " ومن حولها من
سائر الناس , وتنذر عذاب يوم الجمع , وهو يوم القيامة, لا شك في مجيئه.
الناس فيه فريقان: فريق في الجنة, وهم الذين آمنوا بالله واتبعوا ما جاءهم به رسوله
محمد صلى الله عليه وسلم , ومنهم فريق في النار المستعرة, وهم الذين كفروا بالله,
وخالفوا ما جاءهم به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
" ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير "
ولو شاء الله أن يجمع خلقه على الهدى
ويجعلهم على ملة واحدة مهتدية لفعل, ولكنه أراد أن يدخل في رحمته من يشاء من خواص
خلقه.
والظالمون أنفسهم بالشرك ما لهم من , ولي يتولى أمورهم يوم القيامة , ولا نصير
ينصرهم من عقاب الله تعالى.
" أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير "
بل اتخذ هؤلاء المشركون أولياء من دون الله يتولونهم, فالله وحده هو الولي يتولاه عبده بالعبادة والطاعة , ويتولى عباده المؤمنين بإخراجهم من الظلمات إلى النور وإعانتهم في جميع أمورهم, وهو يحيي الموتى عند البعث , وهو على كل شيء قدير, لا يعجزه شيء .
" وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب "
وما اختلفتم فيه- أيها الناس- من شيء من أمور دينكم, فالحكم فيه مرده
إلى الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ذلكم الله ربي وربكم , عليه وحده توكلت في أموري , وإليه أرجع في جميع شؤوني.
" فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير "
الله سبحانه وتعالى هو خالق السموات والأرض بقدرته ومشيئته وحكمته, جعل لكم من أنفسكم أزواجا, لتسكنوا إليها, وجعل لكم من الأنعام أزواجا ذكورا وإناثا, يكثركم بسببه بالتوالد, ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته, لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله؟ لأن أسماءه كلها حسنى, وصفاته صفات كمال وعظمة, وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك , وهو السميع البصير, لا يخفى عليه من أعمال خلقه وأقوالهم شيء, وسيجازيهم على ذلك.
" له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم "
له سبحانه وتعالى ملك السموات والأرض ,
وبيده مفاتيح الرحمة, والأرزاق , يوسع رزقه على من يشاء من عباد.
ويضيقه على من يشاء, إنه تبارك وتعالى بكل شيء عليم, لا يخفى عليه شيء من أمور
خلقه.
" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب "
شرع الله لكم- أيها الناس- من الدين الذي أوحيناه إليك- يا محمد , وهو الإسلام- ما وصى به نوحا أن يعمله ويبلغه, وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى (هؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل) أن أقيموا الدين بالتوحيد وطاعة الله وعبادته دون من سواه , ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتكم به, عظم على المشركين ما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له, الله يصطفي للتوحيد من يشاء بن خلقه , ويوفق للعمل بطاعته من يرجع إليه.
" وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب "
وما تفرق المشركون بالله في أديانهم فصاروا
شيعا وأحزابا إلا من بعدما جاءهم العلم وقامت الحجة عليهم, وما حملهم على ذلك إلا
البغي والعناد, ولولا كلمة سبقت من ربك- يا محمد- بتأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى
وهو يوم القيامة, لقضي بينهم بتعجيل عذاب الكافرين منهم.
فإن الذين أورثوا التوراة والإنجيل من بعد هؤلاء المختلفين في الحق لفي شك من
الدين والإيمان موقع في الريبة والاختلاف المذموم.
" فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير "
فإلى ذلك الدين القيم الذي شرعه الله للأنبياء ووصاهم به, فادع- يا محمد- عباد الله, واستقم كما أمرك الله , ولا تتبع أهواء الذين شكوا في الحق وانحرفوا عن الدين, وقل: صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء, وأمرني ربي أن أعدل بينكم في الحكم, الله ربنا وربكم , لنا ثواب أعمالنا الصالحة, ولكم جزاء أعمالكم السيئة, لا خصومة ولا جدال بيننا وبينكم بعدما تبين الحق, الله يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة, فيقضي بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه, وإليه المرجع والمآب, فيجازي كلا بما يستحق.
" والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد "
والذين يخاصمون في دين الله الذي أرسلت به محمدا صلى الله عليه وسلم , من بعد ما استجاب الناس له وأسلموا, حجتهم وخصومتهم باطلة ذاهبة عند ربهم, وعليهم من الله غضب في الدنيا, ولهم في الأخرة عذاب شديد, وهو النار.
" الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب "
الله الذي أنزل القرآن وسائر الكتب المنزلة
بالصدق, وأنزل الميزان وهو العدل؟ ليحكم بين الناس بالإنصاف.
وأي شيء يدريك, ويعلمك لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة قريب؟
" يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد "
يستعجل بمجيء الساعه الذين لا يؤمنون بها؟
تهكما واستهزاء , والذين آمنوا بها خائفون من قيامها, ويعلمون أنها الحق الذي لا
شك فيه.
ألا إن الذين يخاصمون في قيام الساعة لفي ضلال بعيد عن الحق.
" الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز "
الله لطيف بعباده , يوسع الرزق على من يشاء, ويضيقه على من يشاء وفق حكمته سبحانه, وهو القوي الذي له القوة كلها, العزيز في انتقامه من أهل معاصيه.
" من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب "
من كان يريد بعمله ثواب الآخرة فأدى حقوق الله وأنفق في الدعوة إلى الدين , نزد له في عمله الحسن , فنضاعف له ثواب الجنة إلى عشر أمثالها إلى ما شاء الله من الزيادة, ومن كان يريد بعمله الدنيا وحدها , نؤته منها ما قسمناه له, وليس له في الآخرة شيء من الثواب.
" أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم "
بل ألهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم, أتدعوا لهم من
الدين والشرك ما لم يأذن به الله؟ ولولا قضاء الله وقدره بإمهالهم, وأن لا يعجل
لهم العذاب في الدنيا, لقضي بينهم بتعجيل العذاب لهم.
وإن الكافرين بالله لهم يوم القيامة عذاب مؤلم موجع.
" ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير "
ترى- يا محمد- الكافرين يوم القيامة خائفين من عقاب الله على ما كسبوا في الدنيا من أعمال خبيثة , والعذاب نازل بهم , وهم ذائقوه لا محالة والذين آمنوا بالله وأطاعوه في بساتين الجنات وقصورها ونعيم الآخرة , لهم ما تشتهيه أنفسهم عند ربهم, ذلك الذي أعطاه الله لهم من الفضل والكرامة هو الفضل الذي لا يوصف , ولا تهتدي إليه العقول.
" ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور "
ذلك الذي أخبرتكم به- أيها الناس- من النعيم
والكرامة في الآخرة هو البشرى التي يبشر الله بها عباده الذين آمنوا به في الدنيا
وأطاعوه قل- يا محمد- للذين يشكون في الساعة من مشركي قومك: لا أسألكم على ما
أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به عوضا من أموالكم, إلا أن تودوني في قرابتي
منكم, وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم.
ومن يكتسب حسنة نضاعفها له بعشر فصاعدا إن الله غفور لذنوب عباده, شكور لحسناتهم
وطاعتهم إياه.
" أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور "
بل أيقول هؤلاء المشركون: اختلق محمد الكذب على الله, فجاء بالذي يتلوه
علينا اختلاقا من عند نفسه؟ فإن يشأ الله يطبع على قلبك- يا محمد- لو فعلت ذلك.
ويذهب الله الباطل فيمحقه , ويحق الحق بكلماته التي لا تتبدل ولا تتغير , وبوعده
الصادق الذي لا يتخلف.
إن الله عليم بما في قلوب العباد , لا يخفى عليه شيء منه.
" وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون "
والله سبحانه وتعالى هو الذي يقبل التوبة عن عباده إذا رجعوا إلى توحيد الله وطاعته , ويعفو عن السيئات , ويعلم ما تصنعون من خير وشر , لا يخفى عليه شيء من ذلك , وهو مجازيكم به.
" ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد "
ويستجيب الذين آمنوا بالله ورسوله لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ,
ويزيدهم من فضله توفيقا ومضاعفة في الأجر والثواب.
والكافرون بالله ورسوله لهم يوم القيامة عذاب شديد موجع مؤلم.
" ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير "
ولو بسط الله الرزق لعباده فوسعه عليهم , لبغوا في الأرض أشرا وبطرا ,
ولطغى بعضهم على بعض , ولكن الله ينزل أرزاقهم بقدر ما يشاء لكفايتهم.
إنه بعباده خبير بما يصلحهم, بصير بتدبيرهم وتصريف أحوالهم.
" وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد "
والله وحده هو الذي ينزل المطر من السماء , فيغيثهم به من بعد ما يئسوا من نزوله , وينشر رحمته في خلقه, فيعمهم بالغيث , وهو الولي الذي يتولى عباده بإحسانه وفضله, الحميد في ولاية وتدبيره.
" ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير "
ومن آياته الدالة على عظمته وقدرته وسلطانه, خلق السموات والأرض على غير مثال سابق , وما نشر فيهما من أصناف الدواب , وهو على جمع الخلق بعد موتهم لموقف القيامة إذا يشاء قدير, لا يتعذر عليه شيء.
" وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير "
وما أصابكم- أيها الناس- من مصيبة في دينكم ودنياكم فبما كسبتم من الذنوب والآثام , ويعفو لكم ربكم عن كثير من السيئات , فلا يؤاخذكم بها.
" وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير "
وما أنتم- أيها الناس- بمعجزين قدرة الله عليكم , ولا فائتيه, وما لكم من دون الله من ولي يتولى أموركم , فيوصل لكم المنافع , ولا نصير يدفع عنكم المضار.
" ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام "
ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة, سلطانه القاهر السفن العظيمة كالجبال تجري في البحر
" إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور "
إن يشاء الله الذي أجرى هذه السفن في البحر يسكن الريح, فتسبق السفن سواكن على ظهر البحر لا تجري , إن في جري هذه السفن ووقوفها في البحر بقدرة الله لعظات وحججا بينة على قدرة الله لكل صبار على طاعة الله, شكور لنعمه وأفضاله.
" أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير "
أو يهلك السفن بالغرق بسبب ذنوب أهلها , ويعف عن كثير من الذنوب فلا يعاقب عليها
" ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص "
ويعلم الذين يجادلون بالباطل في آياتنا الدالة على توحيدنا, ما لهم من محيد ولا ملجأ من عقاب الله, إذا عاقبهم على ذنوبهم وكفرهم به.
" فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون "
فما أوتيتم- أيها الناس- من شيء من المال أو البنين وغير ذلك فهو متاع لكم في الحياة الدنيا, سرعان ما يزول , وما عند الله تعالى من نعيم الجنة المقيم خير وأبقى للذين آمنوا بالله ورسله, وعلى ربهم يتوكلون
" والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون "
والذين يجتنبون كبائر ما نهى الله عنه , وما فحش وقبح من أنواع المعاصي , وإذا ما غضبوا على من أساء إليهم هم يغفرون الإساءة , ويصفحون عن عقوبة المسيء طلبا لثواب الله تعالى وعفوه , وهذا من محاسن الأخلاق.
" والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون "
والذين استجابوا لربهم حين دعاهم إلى توحيده وطاعته, وأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها, وإذا أرادوا أمرا تشاوروا فيه , ومما أعطيناهم من الأموال يتصدقون في سبيل الله, ويؤدون ما فرض الله عليهم من الحقوق لأهلها من زكاة ونفقة وغير ذلك من وجوه الإنفاق.
" والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون "
والذين إذا أصابهم الظلم هم ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا, وإن صبروا ففي عاقبة صبرهم خير كثير.
" وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين "
وجزاء سيئة المسيء عقوبته بينة مثلها من غير قلادة, فمن عفا عن المسيء, وترك عقابه, وأصلح الود بينه وبين المعفو عنه ابتغاء وجه الله , فأجر عفوه ذلك على الله إن الله لا يحب الظالمين الذين يبدؤون بالعدوان على الناس , ويسيئون إليهم.
" ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل "
ولمن انتصر ممن ظلمه من بعد ظلمه له فأولئك ما عليهم من مؤاخذة.
" إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم "
إنما المؤاخذة على الذين يتعدون على الناس ظلما وعدوانا, ويتجاوزون الحد الذي أباحه لهم ربهم إلى ما لم يأذن لهم فيه , فيفسدون في الأرض بغير الحق, أولئك لهم يوم القيامة عذاب مؤلم موجع.
" ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور "
ولمن صبر على الأذى وستر السيئة, إن ذلك من عزائم الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي أمر الله بها , ورتب لها ثوابا جريلا وثناء حميدا.
" ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل "
ومن يضلله الله عن الرشاد بسبب ظلمه فليس له من ناصر يهديه سبيل الرشاد.
وترى- يا محمد- الكافرين بالله يوم القيامة - حين رأوا العذاب- يقولون لربهم: هل
لنا من سبيل إلى الرجوع إلى الدنيا؟ لنعمل بطاعتك؟ فلا يجابون إلى ذلك.
" وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم "
وترى- يا محمد- هؤلاء الظالمين يعرضون على النار خاضعين متذللين ينظرون إلى النار من طرف قليل ضعيف من الخوف والهوان وقال الذين آمنوا بالله ورسوله في الجنة, لما عاينوا ما حل بالكفار من خسران: إن الخاسرين حقا هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بدخول النار ألا إن الظالمين- يوم القيامة- في عذاب دائم, لا ينقطع عنهم, ولا يزول.
" وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل "
وما كان لهؤلاء الكافرين حين يعذبهم الله يوم القيامة من أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب الله ومن يضلله الله بسبب كفره وظلمه, فما له من طريق يصل به إلى الحق في الدنيا , وإلى الجنة في الآخرة؟ لأنه قد سدت عليه طرق النجاة, فالهداية والإضلال بيده سبحانه وتعالى دون سواه.
" استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير "
استجيبوا لربكم- أيها الكافرون- بالإيمان
والطاعة من قبل أن يأتي يوم القيامة, الذي لا يمكن رده, ما لكم من ملجأ يومئذ
ينجيكم من العذاب , ولا مكان يستركم , وتتنكرون فيه.
وفي الآية دليل على ذم التسويف , وفيها الأمر بالمبادرة إلى كل عمل صالح يعرض
للعبد, فإن للتأخير آفات وموانع.
" فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور "
فإن أعرض هؤلاء المشركون- يا محمد- عن الإيمان بالله فما أرسلناك عليهم حافظا لأعمالهم حتى تحاسبهم عليها , ما عليك إلا البلاغ وإنا إذا أعطينا الإنسان منا رحمة من غنى وسعة في المال وغير ذلك , فرح وسر , وإن تصبهم مصيبة من فقر ومرض وغير ذلك بسبب ما قدمته أيديهم من معاصي الله, فإن الإنسان جحود يعدد المصائب, وينسى النعم.
" لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور "
لله سبحانه وتعالى ملك السموات والأرض وما فيهما, يخلق ما يشاء من الخلق, يهب لمن يشاء من عباده إناثا لا ذكور معهن , ويهب لمن يشاء الذكور لا إناث معهم .
" أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير "
ويعطي سبحانه وتعالى لمن يشاء من الناس الذكر والأنثى, ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له, إنه عليم بما يخلق, قدير على خلق ما يشاء, لا يعجزه شيء أراد خلقه.
" وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم "
وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه الله إلا وحيا يوحيه الله إليه ,
أو يكلمه من وراء حجاب , كما كلم سبحانه موسى عليه السلام, أو يرسل رسولا, كما
ينزل جبريل عليه السلام إلى المرسل إليه, فيوحي بإذن ربه لا بمجرد هواه ما يشاء
الله إيحاءه , إنه تعالى علي بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله, قد قهر كل شيء ودانت
له المخلوتات , حكيم في تدبير أمور خلقه.
وفي الآية إثبات صفة الكلام لله تعالى على الوجه اللائق بجلاله وعظيم سلطانه.
" وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم "
وكما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك- يا محمد- أوحينا إليك قرآنا من
عندنا , ما كنت تدري قبله ما الكتب السابقة ولا الإيمان ولا الشرائع الإلهية؟ ولكن
جعلنا القرآن ضياء للناس نهدي به من نشاء من عبادنا إلى الصراط المستقيم.
وإنك- يا محمد- لتدل وترشد بإذن الله إلى صراط مستقيم- وهو الإسلام-
" صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور "
صراط الله الذي له ملك جميع ما في السموات وما في الأرض؟ لا شريك له في ذلك ألا إلى الله- أيها الناس- ترجع جميع أموركم من الخير والشر, فيجازي كلا بعمله: إن خيرا فخير , وإن شرا فشر.