سورة الزخرف - تفسير السعدي
" حم "
(حم) سبق الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة.
" والكتاب المبين "
أقسم الله تعالى بالقرآن الواضح لفظا ومعنى.
" إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون "
إنا أنزلنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان العرب لعلكم تفهمون, وتتدبرون معانيه وحججه
" وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم "
وإنه في اللوح المحفوظ لدينا لعلي في قدره. وشرفه, محكم لا اختلات فيه ولا تناقض.
" أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين "
أفنعرض عنكم, ونترك إنزال القرآن إليكم لأجل إعراضكم وعدم انقيادكم, وإسرافكم في عدم الإيمان به؟
" وكم أرسلنا من نبي في الأولين "
كثيرا من الأنبياء أرسلنا في القرون الأولى التي مضت قبل قومك يا محمد.
" وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون "
وما يأتيهم بن نبي إلا كانوا به يستهزئون كاستهزاء قومك بك,
" فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين "
فأهلكنا من كذبوا رسلنا, وكأنوا أشد قوة وبأسا من قومك يا محمد, ومضت عقوبة الأولين بأن أهلكوا بسبب كفرهم وطغيانهم واستهزائهم بأنبيائهم. وفي هذا تلبية للنبي صلى الله عليه وسلم.
" ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم "
ولئن سألت- يا محمد- هؤلاء المشركين من قومك من خلق السموات والأرض؟ ليقولقن: خلقهن العزيز في سلطانه, العليم بهن وما فيهن من الأشياء, لا يخفى عليه شيء.
" الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون "
الذي جعل لكم الأرض فراشا وبساطا, يسهل لكم فيها طرفا لمعاشكم ومتاجركم ; لكي تهتديا بتلك السبل إلى مصالحكم الدينية والدنيوية.
" والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون "
والذي نزل من السماء مطرا بقدر, ليس طوفانا مغرقا ولا قاصرا عن الحاجة.
حتى يكون معاشا لكم ولأنعامكم, فأحيينا بالماء بلدة مقفرة من النبات , كما أخرجنا
بهذا الماء الذي نزلناه من السماء من هذه البلده الميتة النبات والزرع, تخرجون-
أيها الناس- من قبوركم بعد فنائكم.
" والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون "
والذي خلق الأصناف كلها من حيوان ونبات, وجعل لكم من السفن ما تركبون في البحر, ومن البهائم كالإبل والخيل والبغال والحمير ما تركبون في البر.
" لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين "
لكي تستووا على ظهور ما تركبون, ثم تذكروا نعمة ربكم إذا ركبتم عليه, وتقولوا الحمد لله الذي سخر لنا هذا, وما كنا له مطيقين,
" وإنا إلى ربنا لمنقلبون "
ولتقولوا أيضا: وإنا إلى ربنا بعد مماتنا لصائرون إليه راجعون.
وفي هذا بيان أن الله المنعم على عباده بشتى النعم, هو المستحق للعبادة في كل حال
.
" وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين "
وجعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيبا, وذلك قولهم للملائكة: بنات الله إن الإنسان لجحود لنعم ربه التي أنعم بها عليه, مظهر لجحوده وكفره يعدد المصائب, وينسى النعم.
" أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين "
بل أتزعمون- أيها الجاهلون- أن ربكم اتخذ مما يخلق بنات وأنتم لا ترضون ذلك لأنفسكم, وخصكم بالبنين فجعلهم لكم؟ وفي هذا توبيخ لهم.
" وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم "
وإذا بشر أحدهم بالأنثى التي نسبها للرحمن حين زعم أن الملائكة بنات الله صار وجهه مسودا من سوء البشارة بالأنثى, وهو حزين مملوء من الهم والكرب (فكيف يرضون لله ما لا يرضونه لأنفسهم؟ تعالى الله وتقدس عما يقول الكافرون علوا كبيرا).
" أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين "
أتجترئون وتنسبون إلى الله تعالى من يربى في الزينة, وهو في الجدال غير مبين لحجته; لأنوثته؟
" وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون "
وجعل هؤلاء المشركون بالله الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا, أحضروا حالة خلقهم حتى يحكموا بأنهم إناث؟ ستكتب شهادتهم, ويسألون عنها في الآخرة.
" وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون "
وقال هؤلاء المشركون من قريش: لو شاء الرحمن ما عبدنا أحدا من دونه,
وهذه حجة باطلة, فقد أقام الله الحجة على العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب,
فاحتجاجهم بالقضاء والقدر من أبطل الباطل من بعد إنذار الرسل لهم.
ما لهم بحقيقة ما يقولون من ذلك من علم, وإنما يقولونه تخرصا وكذبا.
لأنه لا خبر عندهم من الله بتلك ولا برهان.
" أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون "
أحضروا خلق الملائكة, أم أعطيناهم كتابا من قبل القرآن الذي أنزلناه, فهم به مستمسكون يعمل بما فيه, ويحتجون به عليك يا محمد؟
" بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون "
بل قالوا: إنا وجدنا آباءنا على طريقة ومذهب ودين, وإنا على آثار آبائنا فيما كانوا عليه متبعون لهم, ومقتدون بهم.
" وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون "
وكذلك ما أرسلنا من قبلك - يا محمد- في قرية من نذير ينذرهم عقابنا على كفرهم بنا, فأنذروهم وحذروهم سخطنا وحلول عقوبتنا, إلا قال الذين أبطرتهم النعمة من الرؤساء والكبراء: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين, إنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون.
" قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون "
قال محمد صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من الرسل لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة: أتتبعون أباءكم, ولو جئتكم من عند ربكم بأهدى إلى طريق الحق وأدل على سبيل الرشاد مما وجدتم عليه آبائكم من الدين والملة فقالوا في عناد: إنا بما أرسلتم به جاحدون كافرون.
" فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين "
فانتقمنا من هذه الأمم المكذبة رسلها بإحلالنا العقوبة بهم خسفا وغرقا وغير ذلك, فانظر- يا محمد- كيف كان عاقبة أمرهم إذ كذبوا بآيات الله ورسله؟ وليحذر قومك أن يستمروا على تكذيبهم, فيصيبهم مثل ما أصابهم.
" وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون "
واذكر- يا محمد- إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه الذين كانوا يعبدون ما يعبده قومك يا محمد: إنني براء مما تعبدون من دون الله.
" إلا الذي فطرني فإنه سيهدين "
إلا الذي خلقني, فإنه سيوفقني لاتباع سبيل الرشاد.
" وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون "
وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) باقية في من بعده, لعلهم يرجعون إلى طاعة ربهم وتوحيده, ويتوبون من كفرهم وذنوبهم.
" بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين "
بل متعت- يا محمد- هؤلاء المشركين من قومك وآبائهم من قبلهم بالحياة, فلم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم, حتى جائهم القرآن برسول بين لهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم.
" ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون "
ولما جاءهم القرآن من عند الله قالوا: هذا الذي جاءنا به هذا الرسول سحر يسحرنا به, وليس بوحي من عند الله, وإنا به جاحدون.
" وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم "
وقال هؤلاء المشركون من قريش: إن كان هذا القرآن من عند الله حقا, فهلا نزل على رجل عظيم من إحدى هاتين القريتين " مكة " أو " الطائف " .
" أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون "
أهم يقسمون النبوة فيضعونها حيث شاؤوا؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات, ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات: هذا غني وهذا فقير, وهذا قوي وهذا ضعيف ليكون بعضهم سببا لبعض في المعاش ورحمة ربك - يا محمد - بإدخالهم الجنة خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفاني
" ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون "
ولولا أن يكون الناس جماعة واحدة على الكفر, لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة وسلالم عليها يصعدون.
" ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون "
وجعلنا لبيوتهم أبوابا من فضة, جعلنا لهم سررا عليها يتكئون,
" وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين "
وجعلنا لهم ذهبا, وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا, وهو متاع قليل زائل, ونعيم الآخرة مدخر عند ربك للمتقين ليس لغيرهم.
" ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين "
ومن يعرض عن ذكر الرحمن, وهو القرآن, فلم يخف عقابه, ولم يهتد بهدايته, نجعل له شيطانا في الدنيا يغويه; جزاء له على إعراضه عن ذكر الله, فهو له ملازم ومصاحب يمنعه الحلال, ويبعثه على الحرام.
" وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون "
إن الشياطين ليصدون عن سبيل الحق هؤلاء الذين يعرضون عن ذكر الله, فيزينون لهم الضلالة, ويكرهون لهم الإيمان بالله وللعمل بطاعته, ويظن هؤلاء المعرضون بتحسين الشياطين لهم ما هم عليه من الضلال أنهم على الحق والهدى.
" حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين "
حتى إذا جاءنا الذي أعرض عن ذكر الرحمن وقرينه من الشياطين للحساب والجزاء, قال المعرض عن ذكر الله لقرينه: وددت أن بيني وبينك بعد ما بين المشرق والمغرب, فبئس القرين لي حيث أغويتني.
" ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون "
ولن ينفعكم اليوم- أيها المعرضون- عن ذكر الله إذ أشركتم في الدنيا أنكم في العذاب مشركون أنتم وقرناؤكم, فلكل واحد نصيبه الأوفر من العذاب, كما أشركم في الكفر.
" أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين "
أفأنت- يا محمد- تسمع من أصمه الله عن سماع الحق, أو تهدي إلى طريق الهدى من أعمى قلبه عن إبصاره, أو تهدي من كان في ضلال عن الحق بين واضح؟ ليس ذلك إليك, إنما عليك البلاغ, وليس عليك هداهم, ولكن الله يهدي من يشاء, ويضل من يشاء.
" فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون "
فإن توفيناك- يا محمد- قبل نصرك على المكذبين من قومك, فإنا منهم منتقمون في الآخرة,
" أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون "
أو نرينك الذي وعدناهم من العذاب النازل بهم كيوم " بدر " , فإنا عليهم مقتدرون نظهرك عليهم, ونخزيهم بيدك وأيدي المؤمنين بك.
" فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم "
فاستمسك- يا محمد- بما يأمرك به الله في هذا القرآن الذي أوحاه إليك إنك على صراط مستقيم, وذلك هو دين الله الذي أمر به, وهو الإسلام. وفي هذا تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم, وثناء عليه.
" وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون "
لأن هذا القرآن لشرف لك ولقومك من قريش حيث أنزل بلغتهم, فهم أفهم الناس له, فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به, وأعملهم بمقتضاه, وسوف تسألون أنت ومن معك عن الشكر لله عليه والعمل به.
" واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون "
واسأل- يا محمد- أتباع من أرسلنا من قبلك من رسلنا وحملة شرائعهم: أجاءت رسلهم بعبادة غير الله؟ فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع; فإن جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده, لا شريك له, ونهوا عن عبادة ما سوى الله.
" ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين "
ولقد أرسلنا موسى بحججنا إلى فرعون وأشراف قومه, كما أرسلناك - يا محمد - إلى هؤلاء المشركين من قومك, فقال لهم موسى: إني رسول رب العالمين,
" فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون "
فلما جاءهم بالبينات الواضحات الدالة على صدقه في دعوته, إذا فرعون
وملؤه مما جاءهم به موسى من الآيات والعبر يضحكون.
" وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ
أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ "
وما نري فرعون وملأه من حجة إلا هي أعظم من التي قبلها, وأدل على صحة ما يدعوهم
موسى عليه, وأخذناهم بصنوف العذاب كالجراد والقمل والضفادع والطوفان, وغير ذلك;
لعلهم يرجعون عن كفرهم بالله إلى توحيده وطاعته.
" وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون "
وقال فرعون وملؤه لموسى: يا أيها العالم (وكان الساحر فيهم عظيما يوقرونه ولم يكن السحر صفة ذم) ادع لنا ربك بعهده الذي عهد إليك وما خصك به من الفضائل أن يكشف عنا العذاب, فإن كف عنا العذاب فإننا لمهتدون مؤمنون بما جئتنا به.
" فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون "
فلما دعا موسى برفع العذاب عنهم, ورفعناه عنهم إذا هم يغدرون, ويصرون على ضلالهم
" ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون "
ونادى فرعون في عظماء قومه متبجحا مفتخرا بملك " مصر " : أليس لي ملك " مصر " وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون عظمتي وقوتي, وضعف موسى وفقره؟
" أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين "
بل أنا خير من هذا الذي لا عز معه, فهو يمتهن نفسه في حاجاته لضعفه وحقارته, ولا يكاد يبين الكلام لعي لسانه, وقد حمل فرعون على هذا القول الكفر والعناد والصد عن سبيل الله.
" فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين "
فهلا ألقي على موسى- إن كان صادقا أنه رسول رب العالمين- أسورة من ذهب, أو جاء معه الملائكة قد اقترن بعضهم ببعض, فتتابعوا يشهدون له بأنه رسول الله إلينا.
" فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين "
فاستخف فرعون عقول قومه فدعاهم إلى الضلالة, فأطاعوه وكذبوا موسى, إنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله وصراطه المستقيم.
" فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين "
فلما أغضبونا- بعصياننا, وتكذيب موسى وما جاء به من الآيات- انتقمنا منهم بعاجل العذاب الذي عجلناه لهم, فأغرقناهم أجمعين في البحر.
" فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين "
فجعلنا هؤلاء الذين أغرقناهم في البحر سلفا لمن يعمل مثل عملهم ممن يأتي بعدهم في استحقاق العذاب, وعبرة وعظة للآخرين.
" ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون "
ولما ضرب المشركون عى ابن مريم مثلا حين خاصموا محمدا صلى الله عليه وسلم, وحاجوه بعبادة النصارى إياه, إذا قومك من ذلك ولأجله يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا وسرورا, وذلك عندما نزل فيه تعالى (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون), وقال المشركون: رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى, فأنزل الله قوله: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون), فالذي يلقى في النار من آلهة المشركين من رضي بعبادتهم إياه
" وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون "
وقال مشركوا قومك- يا محمد-: آلهتنا التي نعبدها خير أم عيسى الذي يعبد قومه؟ فإذا كان عيسى في النار, فلنكن نحن وآلهتنا معه, ما ضربوا لك هذا المثل إلا جدلا, بل هم قوم مخاصمون بالباطل.
" إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل "
ما عيسى ابن مريم إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة, وجعلناه آية وعبرة لبني إسرائيل يستدل بها على قدرتا.
" ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون "
ولو نشاء لجعلنا بدلا منكم ملائكة يخلف بعضهم بعضا بدلا من بني أدم.
" وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم "
وإن نزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة لدليل على قرب, وقوع الساعة, فلا تشكوا أنها واقعة لا محالة, واتبعون فيما أخبركم به عن الله تعالى, هذا طريق قويم يلي الجنة, لا اعوجاج فيه.
" ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين "
ولا يصدنكم الشيطان بوساوسه عن طاعتي فيما آمركم به وأنهاكم عنه, إنه لكم عدو بين العداوة.
" ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون "
ولما جاء عيس بني إسرائيل بالبينات الواضحات من الأدلة قال: قد جئنكم بالنبوة, ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه من أمور الدين, فاتقوا الله بامتنال أوامره واجتناب نواهيه, وأطيعون فيما أمرتكم به من تقوى الله وطاعته.
" إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم "
إن الله سبحانه وتعالى هو ربي وربكم جميعا فاعبدوه وحده, ولا تشركوا به شيئا, هذا الذي أمرتكم به من تقوى الله وإفراده بالألوهية هو الطريق المستقيم, وهو دين الله الحق الذي لا يقبل من أحد سواه.
" فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم "
فاختلفت الفرق في أمر عيسى عليه السلام, وصاروا فيه شيعا ; منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله, وهو الحق, ومنهم من يزعم أنه ابن الله, ومنهم من يقول, إنه الله, تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا, فهلاك ودمار, وعذاب أليم يوم القيامة لمن وصفوا عيسى بغير ما وصفه الله به.
" هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون "
هل ينتظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى ابن مريم إلا الساعة أن تأتيهم فجأة, وهم لا يشعرون ولا يفطنون؟
" الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين "
الأصدفاء على معاصي الله في الدنيا يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة, لكن الذين تصادقوا على تقى الله, فإن صداقتهم دائمة في الدنيا والآخرة.
" يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون "
يقال لهؤلاء المتقين: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم من عقابي, ولا أنتم تحزنون على ما فاتكم من حظوظ الدنيا.
" الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين "
الذين أمنوا بآياتنا وعملوا بما جاءتهم به رسلهم, وكانوا منقادين لله رب العالمين بقلوبهم وجوارحهم
" ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون "
يقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وقرنائكم المؤمنون تنعمون وتسرون.
" يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون "
يطاف على هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسله في الجنة بالطعام في أوان من ذهب, وبالشراب في أكواب من ذهب, وفيها لهم ما تشتهي أنفسهم وتلذه أعينهم, وهم ماكثون فيها أبدا.
" وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون "
وهذه الجنة التي أورثكم الله إياها.
بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الخيرات والأعمال الصالحات, وجعلها من فضله
ورحمته جزاء لكم.
" لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون "
لكم في الجنة فاكهة كثيرة من كل نوع منها تأكلون.
" إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون "
إن الذين اكتسبوا الذنوب بكفرهم, في عذاب جهنم ماكثون
" لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون "
لا يخفف عنهم, وهم فيه آيسون من رحمة الله,
" وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين "
وما ظلمنا هؤلاء المجرمين بالعزاب, ولكن كانوا هم الظالمين أنفسهم بشركهم وجحودهم توحيد ربهم.
" ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون "
ونادى هؤلاء المجرمون بعد أن أدخلهم الله جهنم " مالكا " خازن جهنم: يا مالك ليمتنا ربك, فنستريح مما نحن فيه, فأجابهم مالك; إنكم ماكثون, لا خروج لكم منها, ولا محيد لكم عنها,
" لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون "
لقد جئناكم بالحق ووضحناه لكم, ولكن أكثركم لما جاء به الرسل من الحق كارهون.
" أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون "
بل أأحكم هؤلاء المشركون أمرا يكيدون به الحق الذي جئناهم به؟ فإنا مدبرون لهم ما يجزيهم من العذاب والنكال.
" أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون "
أم يظن هؤلاء المشركون بالله أنا لا نسمع ما يسرونه في أنفسهم, ويتناجون به بينهم؟ بلى نسمع ونعلم, ورسلنا الملائكة الكرام الحفظة يكتبون عليهم كل ما عملوا.
" قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين "
قل- يا محمد- لمشركي قومك الزاعمين أن الملائكة بنات الله: ما كان للرحمن من ولد كما تزعمون, فأنا أول العابدين له سبحانه, المنكرين لما تزعمونه, فتقدس الله عن الصاحبة والولد.
" سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون "
تنزيها وتقديسا لرب السموات والأرض رب العرش العظيم عما يصفون من الكذب والافتراء من نسبة المشركين الولد إلى الله, وغير ذلك مما يزعمون من الباطل.
" فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون "
فاترك- يا محمد- هؤلاء المفترين على الله يخوضوا في باطلهم, ويلعبوا في دنياهم, حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يوعدون بالعذاب: إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا.
" وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم "
وهو الله وحده المعبود بحق في السماء وفي الأرض, وهو الحكيم الذي أحكم خلقه, وأتقن شرعه, العليم بكل شيء من أحوال خلقه, لا يخفى عليه شيء منها.
" وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون "
وتكاثرت بركة للله, وكثر خيره, وعظم ملكه, الذي له وحده سلطان السموات السبع والأرضين السبع وما بينهما من الأشياء كلها, وعنده علم الساعة التي تقم فيها القيامة, ويحشر فيها الخلق من قبورهم لموقف الحساب, وإليه تردون - أيها الناس- بعد مماتكم, فيجازى كلا بما يستحق.
" ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون "
ولا يملك الذين يعبدهم المشركون الشفاعة عنده لأحد إلا من شهد بالحق, وأقر بتوحيد الله وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وهم يعلمون حقيقة ما أقروا وشهدوا به.
" ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون "
ولئن سألت- يا محمد- هؤلاء المشركين من قومك من خلقهم؟ ليقولن: الله خلقنا, فكيف ينقلبون وينصرفون عن عبادة الله, ويشركون به غيره؟
" وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون "
وقال محمد صلى الله عليه وسلم شاكيا إلى ربه قومه الذين كذبوه: يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون بك وبما أرسلتني به إليهم.
" فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون "
فاصفح- يا محمد- عنهم, وأعرض عن أذاهم, ولا يبدر منك إلا السلام لهم الذي يقوله أولو الألباب والبصائر للجاهلين, فهم لا يسافهونهم ولا يعاملونهم بمثل أعمالهم السيئة, فسوف يعلمون ما يلقونه من البلاء والنكال وفي هذا تهديد ووعيد شديد لهؤلاء الكافرين المعاندين وأمثالهم.