سورة المائدة - تفسير السعدي
" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد "
هذا
أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين, بما يقتضيه الإيمان, بالوفاء بالعقود أي:
بإكمالها, وإتمامها, وعدم نقضها ونقصها.
وهذا شامل للعقود, التي بين العبد وبين ربه, من التزام عبوديته, والقيام بها أتم
قيام, وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا, والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه,
والتي بينه وبين الوالدين, والأقارب, ببرهم, وصلتهم, وعدم قطيعتهم.
والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر, واليسر والعسر,
والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات, كالبيع, والإجارة, ونحوهما, وعقود
التبرعات, كالهبة ونحوها, والقيام بحقوق المسلمين, التي عقدها الله, بينهم في
قوله: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " بل التناصر على الحق, والتعاون
عليه, والتآلف بين المسلمين, وعدم التقاطع.
فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه, فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام
بها.
ثم قال - ممتنا على عباده - " أُحِلَّتْ لَكُمْ " أي لأجلكم, رحمة بكم
" بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ " من الإبل, والبقر والغنم.
بل ربما دخل في ذلك, الوحش منها, والظباء, وحمر الوحش ونحوها, من الصيود.
واستدل بعض الصحابة بهذه الآية, على إباحة الجنين, الذي يموت في بطن أمه, بعدما
تذبح.
" إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ " تحريمه منها في قوله "
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ " إلى آخر
الآية.
فإن هذه المذكورات, وإن كانت من بهيمة الأنعام, فإنها محرمة.
ولما كانت إباحة بهيمة الأنعام عامة في جميع الأحوال والأوقات, استثنى منها الصيد
في حال الإحرام فقال: " غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ "
أي: أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل حال, إلا حيث كنتم متصفين بأنكم, غير محلي
الصيد, وأنتم حرم, أي: متجرئون على قتله في حال الإحرام, فإن ذلك لا يحل لكم, إذا
كان صيدا, كالظباء ونحوه.
والصيد.
هو: الحيوان المأكول المتوحش.
" إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ " أي: فمهما أراده تعالى, حكم به
حكما موافقا لحكمته, كما أمركم بالوفاء بالعقود, لحصول مصالحكم ودفع المفضار عنكم.
وأحل لكم بهيمة الأنعام, رحمة بكم, وحرم عليكم ما استثنى منها, من ذوات العوارض,
من الميتة ونحوها, صونا لكم, واحتراما, ومن صيد الإحرام, احتراما للإحرام, وإعظاما.
" يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب "
يقول تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ " أي: محرماته, التي أمركم بتعظيمها,
وعدم فعلها.
فالنهي يشمل النهي عن فعلها, والنهي عن اعتقاد حلها, فهو يشمل النهي, عن فعل القبيح,
وعن اعتقاده.
ويدخل في ذلك, النهي عن محرمات الإحرام, ومحرمات الحرم.
ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله " وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ
" أي: لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره, من أنواع الظلم كما قال تعالى: " إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا
فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ "
.
والجمهور من العلماء, على أن القتال في الأشهر الحرم, منسوخ بقوله تعالى: " فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ " وغير ذلك من العمومات, التي
فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا, والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا.
وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف, في ذي القعدة, وهو من الأشهر
الحرم.
وقال آخرون: إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم, غير منسوخ لهذه الآية وغيرها,
مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه.
وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك, وقالوا: المطلق يحمل على المقيد.
وفصل بعضهم فقال: لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم, وأما استدامته, وتكميله,
إذا كان أوله في غيرها, فإنه يجوز.
وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم, لأهل الطائف على ذلك, لأن أول قتالهم في " حنين " في " شوال " .
وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع.
فأما قتال الدفع - إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال - فإنه يجوز للمسلمين القتال,
دفعا عن أنفسهم, في الشهر الحرام وغيره, بإجماع العلماء.
وقوله " وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ " أي:
ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله, في حج, أو عمرة, أو غيرها, من نعم
وغيرها, فلا تصدوه عن الوصول إلى محله, ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها, ولا تقصروا به,
أو تحملوه ما لا يطيق, خوفا من تلفه, قبل وصوله إلى محله, بل عظموه, وعظموا من جاء
به.
" وَلَا الْقَلَائِدَ " هذا نوع خاص من أنواع
الهدي, وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى, فيجعل في أعناقه, إظهارا لشعائر
الله, وحملا للناس على الاقتداء, وتعليما لهم للسنة, وليعرف أنه هدي, فيحرم, ولهذا
كان تقليد الهدي من السنة والشعائر المسنونة.
" وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ " أي:
قاصدين له " يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا
" .
أي: من قصد هذا البيت الحرام, وقصده فضل الله بالتجارة, والمكاسب المباحة, أو قصده
رضوان الله, بحجه وعمرته, والطواف به, والصلاة, وغيرها من أنواع العبادات, فلا
تتعرضوا له بسوء, ولا تهينوه, بل أكرموه, وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم.
ودخل في هذا, الأمر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله, وجعل القاصدين له, مطمئنين
مستريحين, غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه, ولا على أموالهم من المكس
والنهب ونحو ذلك.
وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى " يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا " .
فالمشرك, لا يُمَكَّن من الدخول إلى الحرم.
والتخصيص في هذه الآية, بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت, ابتغاء فضل الله أو
رضوانه - يدل على أن من قصده, ليلحد فيه بالمعاصي, فإن من تمام احترام الحرم, صد
من هذه حاله, عن الإفساد ببيت الله, كما قال تعالى: " وَمَنْ
يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ " .
ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال: " وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا " أي: إذا حللتم من الإحرام, بالحج والعمرة,
حل لكم الاصطياد, وزال ذلك التحريم.
والأمر بعد التحريم, يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل.
" وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا " أي: لا يحملنكم بغض قوم,
وعداوتهم, واعتداؤهم عليكم, حيث صدوكم عن المسجد, على الاعتداء عليهم, طلبا
للاشتفاء منهم, فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله, ويسلك طريق العدل, ولو جُنِي
عليه, أو ظلم, واعتدي عليه.
فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه, أو يخون من خانه.
" وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى " أي:
ليعن بعضكم بعضا على البر.
وهو: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه, من الأعمال الظاهرة والباطنة, من حقوق
الله, وحقوق الآدميين.
والتقوى في هذا الموضع: اسم جامع, لترك كل ما يكرهه الله ورسوله, من الأعمال
الظاهرة والباطنة.
وكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها, أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها, فإن
العبد مأمور بفعلها بنفسه, وبمعاونة غيره عليها من إخوانه المؤمنين, بكل قول يبعث
عليها, وينشط لها, وبكل فعل كذلك.
" وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ " وهو
التجري على المعاصي, التي يأثم صاحبها, ويجرح.
" وَالْعُدْوَانِ " وهو: التعدي على الخَلْق, في
دمائهم, وأموالهم, وأعراضهم.
فكل معصية وظلم, يجب على العبد, كف نفسه عنه, ثم إعانة غيره على تركه.
" وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
" على من عصاه, وتجرأ على محارمه.
فاحذروا المحارم, لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل.
" حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم "
هذا الذي حولنا الله عليه في قوله " إِلَّا مَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ " .
واعلم أن الله تبارك وتعالى, لا يحرّم ما يحرّم, إلا صيانة لعباده, وحماية لهم من
الضرر الموجود في المحرمات, وقد يبين للعباد ذلك, وقد لا يبين.
فأخبر أنه حرم " الْمَيْتَةَ " , والمراد
بالميتة: ما فقدت حياته بغير ذكاة شرعية, فإنها تحرم, لضررها, وهو احتقان الدم في
جوفها ولحمها, المضر بآكلها.
وكثيرا ما تموت بعلة تكون سببا لهلاكها, فتضر بالآكل.
ويستثنى من ذلك, ميتة الجراد, والسمك فإنه حلال.
" وَالدَّمَ " أي: المسفوح, كما قيد في الآية
الأخرى.
" وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ " وذلك شامل لجميع
أجزائه.
وإنما نص الله عليه من بين سائر الخبائث من السباع, لأن طائفة من أهل الكتاب, من
النصارى, يزعمون أن الله أحله لهم.
أي: فلا تغتروا بهم, بل هو محرم من جملة الخبائث.
" وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ " أي ذكر
عليه اسم غير الله, من الأصنام, والأولياء, والكواكب, وغير ذلك من المخلوقين.
فكما أن ذكر الله تعالى يطيب الذبيحة, فذكر اسم غيره عليها, يفيدها خبثا معنويا,
لأنه شرك بالله تعالى.
" وَالْمُنْخَنِقَةُ " أي: الميتة بخنق, بيد, أو
حبل, أو إدخالها رأسها بشيء ضيق, فتعجز عن إخراجه, حتى تموت.
" وَالْمَوْقُوذَةُ " أي: الميتة بسبب الضرب,
بعصا, أو حصى, أو خشبة, أو هدم شيء عليها, بقصد, أو بغير قصد.
" وَالْمُتَرَدِّيَةُ " أي: الساقطة من علو,
كجبل, أو جدار, أو سطح ونحوه, فتموت بذلك.
" وَالنَّطِيحَةُ " وهي التي تنطحها غيرها فتموت.
" وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ " من ذئب, أو أسد, أو
نمر, أو من الطيور التي تفترس الصيود, فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع, فإنها لا
تحل.
وقوله " إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ " راجع لهذه
المسائل, من منخنقة, وموقوذة, ومتردية, ونطيحة, وأكيلة سبع, إذا ذكيت وفيها حياة
مستقرة لتتحقق الذكاة فيها.
ولهذا قال الفقهاء: " لو أبان السبع أو غيره, حشوتها, أو قطع
حلقومها, كان وجود حياتها, كعدمها, لعدم فائدة الذكاة فيها " .
وبعضهم لم يعتبر فيها إلا وجود الحياة, فإذا ذكاها وفيها حياة, حلت, ولو كانت
مبانة الحشوة, وهو ظاهر الآية الكريمة.
" وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ " أي:
وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام.
ومعنى الاستقسام: طلب ما يقسم لكم, ويقدر بها.
وهي قداح ثلاثة, كانت تستعمل في الجاهلية, مكتوب على أحدها "
افعل " وعلى الثاني " لا تفعل " والثالث
" غفل " لا كتابة فيه.
فإذا هَمَّ أحدهم بسفر, أو عرس أو نحوهما, أجال تلك القداح المتساوية في الجرم, ثم
أخرج واحدا منها.
فإن خرج المكتوب عليه " افعل " مضى في أمره.
وإن ظهر المكتوب عليه " لا تفعل " لم يفعل ولم
يمض في شأنه.
وإن ظهر الآخر, الذي لا شيء عليه, أعادها حتى يخرج أحد القدحين, فيعمل به.
فحرم الله عليهم الذي في هذه الصورة, وما يشبهها, وعوضهم عنه, بالاستخارة لربهم,
في جميع أمورهم.
" ذَلِكُمْ فِسْقٌ " الإشارة لكل ما تقدم من
المحرمات, التي حرمها الله, صيانة لعباده, وأنها فسق, أي: خروج عن طاعته, إلى طاعة
الشيطان.
ثم امتن على عباده بقوله: " الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ " الآية.
واليوم المشار إليه, يوم عرفة, إذ أتم الله دينه, ونصر عبده ورسوله, وانخذل أهل
الشرك انخذالا بليغا, بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين عن دينهم, طامعين في
ذلك.
فلما رأوا عز الإسلام وانتصاره وظهوره, يئسوا كل اليأس من المؤمنين, أن يرجعوا إلى
دينهم, وصاروا يخافون منهم ويخشون.
ولهذا في هذه السنة, التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع -
لم يحجج فيها مشرك, ولم يطف بالبيت عريان.
ولهذا قال " فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ " أي:
فلا تخشوا المشركين, واخشوا الله, الذي نصركم عليهم, وخذلهم, ورد كيدهم في نحورهم.
" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " بتمام
النصر, وتكميل الشرائع, الظاهرة والباطنة, الأصول والفروع.
ولهذا كان الكتاب والسنة, كافيين كل الكفاية, في أحكام الدين, وأصوله وفروعه.
فكل متكلف يزعم, أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم, إلى علوم, غير علم
الكتاب والسنة, من علم الكلام وغيره, فهو جاهل, مبطل في دعواه, قد زعم أن الدين لا
يكمل, إلا بما قاله, ودعا إليه.
وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله.
" وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " الظاهرة
والباطنة " وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا " أي:
اخترته واصطفيته لكم دينا, كما ارتضيتكم له.
فقوموا به, شكرا لربكم, واحمدوا الذي مَنَّ عليكم, بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها.
" فَمَنِ اضْطُرَّ " أي: ألجأته الضرورة إلى أكل
شيء من المحرمات السابقة, في قوله " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ " .
" فِي مَخْمَصَةٍ " أي: مجاعة "
غَيْرَ مُتَجَانِفٍ " أي: مائل " لِإِثْمٍ "
بأن لا يأكل حتى يضطر, ولا يزيد في الأكل على كفايته.
" فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " حيث أباح له
الأكل في هذه الحال.
ورحمه, بما يقيم به بنيته, من غير نقص يلحقه في دينه.
" يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب "
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ " .
من الأطعمة؟.
" قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ " وهي كل ما
فيه نفع أو لذة, من غير ضرر بالبدن, ولا بالعقل.
فدخل في ذلك, جميع الحبوب, والثمار, التي في القرى والبراري.
ودخل في ذلك, جميع حيوانات البر, إلا ما استثناه الشارع, كالسباع, والخبائث منها.
ولهذا دلت الآية بمفهومها, على تحريم الخبائث, كما صرح به في قوله تعالى: " وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
" .
" وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ " .
أي: أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر الآية.
دلت هذه الآية على أمور: أحدها: لطف الله بعباده, ورحمته لهم, حيث وسع عليهم طرق
الحلال, وأباح لهم, ما لم يذكوه, مما صادته الجوارح.
والمراد بالجوارح: الكلاب, والفهود, والصقر, ونحو ذلك, مما يصيد بنابه, أو بمخلبه.
الثاني: أنه يشترط, أن تكون معلمة, بما يعد في العرف تعليما, بأن يسترسل, إذا
أرسل, وينزجر إذا زجر, وإذا أمسك, لم يأكل, ولهذا قال: "
تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ " أي: أمسكن من الصيد لأجلكم.
وما أكل منه الجارح فإنه لا يعلم أنه أمسكه على صاحبه, ولعله أن يكون أمسكه على
نفسه.
الثالث: اشتراط أن يجرحه الكلب, أو الطير ونحوهما, لقوله "
مِنَ الْجَوَارِحِ " مع ما تقدم من تحريم المنخنقة.
فلو خنقه الكلب أو غيره, أو قتله بثقله, لم يبح.
هذا بناء على أن الجوارح اللاتي يجرحن الصيد, بأنيابها, أو مخالبها.
والمشهور أن الجوارح, بمعنى الكواسب أي: المحصلات للصيد, والمدركات له.
فلا يكون فيها - على هذا - دلالة.
والله أعلم.
الرابع: جواز اقتناء كلب الصيد, كما ورد في الحديث الصحيح, مع أن اقتناء الكلب
محرم لأن من لازم إباحة صيده وتعليمه, جواز اقتنائه.
الخامس: طهارة ما أصابه فم الكلب, من الصيد, لأن الله أباحه, ولم يذكر له غسلا,
فدل على طهارته.
السادس: فيه فضيلة العلم, وأن الجارح المعلم - بسبب العلم - يباح صيده, والجاهل
بالتعليم, لا يباح صيده.
السابع: أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما, ليس مذموما, وليس من العبث
والباطل.
بل هو أمر مقصود, لأنه وسيلة لحل صيده, والانتفاع به.
الثامن: فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد, قال: لأنه قد لا يحصل له إلا بذلك.
التاسع: فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح, وأنه إن لم يسم الله متعمدا, لم يبح
ما قتل الجارح.
العاشر: أنه يجوز أكل ما صاده الجارح, سواء قتله الجارح, أم لا.
وأنه إن أدركه صاحبه, وفيه حياة مستقرة, فإنه لا يباح إلا بها.
ثم حث تعالى على تقواه, وحذر من إتيان الحساب في يوم القيامة, وأن ذلك, أمر قد
دنا, واقترب فقال: " وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
سَرِيعُ الْحِسَابِ " .
" اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين "
كرر تعالى إحلال الطيبات, لبيان الامتنان, ودعوة للعباد إلى شكره
والإكثار من ذكره, حيث أباح لهم ما تدعوهم الحاجة إليه, ويحصل لهم الانتفاع به من
الطيبات.
" وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ
" أي: ذبائح اليهود والنصارى, حلال لكم - يا معشر المسلمين - دون باقي
الكفار, فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين.
وذلك لأن أهل الكتاب, ينتسبون إلى الأنبياء والكتب.
وقد اتفق الرسل كلهم, على تحريم الذبح لغير الله, لأنه شرك.
فاليهود والنصارى, يتدينون بتحريم الذبح لغير الله, فلذلك أبيحت ذبائحهم, دون
غيرهم.
والدليل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم, أن الطعام الذي ليس من الذبائح, كالحبوب,
والثمار, ليس لأهل الكتاب فيه خصوصية, بل يباح ذلك, ولو كان من طعام غيرهم.
وأيضا, فإنه أضاف الطعام إليهم.
فدل ذلك, على أنه كان طعاما, بسبب ذبحهم.
ولا يقال: إن ذلك للتمليك, وأن المراد: الطعام الذي يملكون.
لأن هذا, لا يباح على وجه الغصب, ولا من المسلمين.
" وَطَعَامُكُمْ " أيها المسلمون "
حِلٌّ لَهُمْ " أي: يحل لكم أن تطعموهم إياه.
وأحل لكم الْمُحْصَنَاتِ أي: الحرائر العفيفات " مِنَ
الْمُؤْمِنَاتِ " والحرائر العفيفات " مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ " أي: من اليهود
والنصارى.
وهذا مخصص لقوله تعالى " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
حَتَّى يُؤْمِنَّ " .
ومفهوم الآية, أن الأرقاء من المؤمنات, لا يباح نكاحهن للأحرار, وهو كذلك.
وأما الكتابيات, فعلى كل حال, لا يبحن, ولا يجوز نكاحهن للأحرار مطلقا, لقوله
تعالى: " مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ " .
وأما المسلمات - إذا كن رقيقات - فإنه لا يجوز للأحرار نكاحهن إلا بشرطين, عدم الطول,
وخوف العنت.
وأما الفاجرات, غير العفيفات عن الزنا, فلا يباح نكاحهن, سواء كن مسلمات, أو
كتابيات, حتى يتبن لقوله تعالى: " الزَّانِي لَا يَنْكِحُ
إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً " الآية.
وقوله " إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ " أي:
أبحنا لكم نكاحهن, إذا أعطيتموهن مهورهن.
فمن عزم على أن لا يؤتيها مهرها, فإنها لا تحل له.
وأمر بإيتائها, إذا كانت رشيدة, تصلح للإيتاء, وإلا أعطاه الزوج لوليها.
وإضافة الأجور إليهن, دليل على أن المرأة, تملك جميع مهرها, وليس لأحد منه شيء,
إلا ما سمحت به لزوجها, أو وليها أو غيرهما.
" مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ " أي: حالة
كونكم - أيها الأزواج - محصنين لنسائكم, بسبب حفظكم لفروجكم عن غيرهن.
" غَيْرَ مُسَافِحِينَ " أي: زانين مع كل أحد " وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ " .
وهو: الزنا مع العشيقات لأن الزناة في الجاهلية, منهم من يزني مع من كان, فهذا هو
المسافح.
ومنهم من يزني مع خدنه ومحبه.
فأخبر الله تعالى أن ذلك كله, ينافي العفة.
وأن شروط التزوج, أن يكون الرجل عفيفا عن الزنا.
وقوله تعالى: " وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ
عَمَلُهُ " أي: ومن كفر بالله تعالى, وما يجب الإيمان به, من كتبه
ورسله, أو شيء من الشرائع, فقد حبط عمله, بشرط أن يموت على كفره كما قال تعالى: " وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " "
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " أي: الذين خسروا أنفسهم,
وأموالهم, وأهليهم يوم القيامة وحصلوا على الشقاوة الأبدية.
" يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون "
هذه آية عظيمة, قد اشتملت على أحكام كثيرة,
نذكر منها, ما يسره الله وسهله.
أحدهما: أن هذه المذكورات فيها امتثالها, والعمل بها من لوازم الإيمان, الذي لا
يتم إلا به, لأنه صدرها بقوله " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا " إلى آخرها.
أي: يا أيها الذين آمنوا, اعملوا بمقتضى إيمانكم, بما شرعناه لكم, والثاني: الأمر
بالقيام بالصلاة لقوله " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
" .
والثالث: الأمر بالنية للصلاة, لقوله: " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلَاةِ " أي: بقصدها ونيتها.
الرابع: اشتراط الطهارة, لصحة الصلاة, لأن الله أمر بها عند القيام إليها, والأصل
في الأمر, الوجوب.
الخامس: أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت, وإنما عند إرادة الصلاة.
السادس: أن كل ما يطلق عليه اسم الصلاة, في الفرض, والنفل, وفرص الكفاية, وصلاة
الجنازة, تشترط له الطهارة, حتى السجود المجرد عند كثير من العلماء, كسجود التلاوة,
والشكر.
السابع: الأمر بغسل الوجه, وهو: ما تحصل به المواجهة, من منابت شعر الرأس المعتاد,
إلى ما انحدر من اللحيين والذقن, طولا.
ومن الأذن إلى الأذن, عرضا.
ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق, بالسنة.
ويدخل فيه, الشعور التي فيه.
لكن إن كانت خفيفة, فلا بد من إيصال الماء إلى البشرة.
وإن كانت كثيفة, اكتفي بظاهرها.
الثامن: الأمر بغسل اليدين, وأن حدهما إلى المرفقين.
و " إلى " كما قال جمهور المفسرين, بمعنى " مع " كقوله تعالى " وَلَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ " .
ولأن الواجب لا يتم إلا بغسل جميع المرفق.
التاسع: الأمر بمسح الرأس.
العاشر: أنه يجب مسح جميعه, لأن الباء ليست للتبعيض, وإنما هي للملاصقة وأنه يعم
المسح بجميع الرأس.
الحادي عشر: أنه يكفي المسح كيفما كان - بيديه, أو إحداهما, أو خرقة, أو خشبة, أو
نحوهما, لأن الله أطلق المسح, ولم يقيده بصفة, فدل ذلك, على إطلاقه.
الثاني عشر: أن الواجب, المسح.
فلو غسل رأسه, ولم يمر يده عليه, لم يكف, لأنه لم يأت بما أمر الله به.
الثالث عشر: الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين, ويقال فيهما ما يقال في اليدين.
الرابع عشر: فيها الرد على الرافضة, على قراءة الجمهور بالنصب.
وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين.
الخامس عشر: فيه الإشارة إلى مسح الخفين, على قراءة الجر في "
وأرجلكم " .
وتكون كل من القراءتين, محمولة على معنى.
فعلى قراءة النصب فيها, غسلهما, إن كانتا مكشوفتين.
وعلى قراءة الجر فيها, مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف.
السادس عشر: الأمر بالترتيب في الوضوء, لأن الله تعالى ذكرها مرتبة.
ولأنه أدخل ممسوحا - وهو الرأس - بين مغسولين, ولا يعلم لذلك فائدة, غير الترتيب.
السابع عشر: أن الترتيب, مخصوص بالأعضاء الأربعة, المسميات في هذه الآية.
وأما الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والوجه, أو بين اليمنى واليسرى من اليدين
والرجلين, فإن ذلك غير واجب.
بل يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق, على غسل الوجه.
وتقديم اليمنى, على اليسرى من اليدين والرجلين.
وتقديم مسح الرأس, على مسح الأذنين.
الثامن عشر: الأمر بتجديد الوضوء, عند كل صلاة, لتوجد صورة المأمور به.
التاسع عشر: الأمر بالغسل من الجنابة.
العشرون: أنه يجب تعميم الغسل للبدن, لأن الله أضاف التطهر للبدن, ولم يخصصه بشيء
دون شيء.
الحادي والعشرون: الأمر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة.
الثاني والعشرون: أنه يندرج الحدث الأصغر, في الحدث الأكبر, ويكفي من هما عليه, أن
ينوي, ثم يعمم بدنه, لأن الله لم يذكر إلا التطهر, ولم يذكر أنه يعيد الوضوء.
الثالث والعشرون: أن الجنب يصدق على من أنزل المني, يقظة أو مناما, أو جامع ولو لم
ينزل.
الرابع والعشرون: أن من ذكر أنه احتلم, ولم يجد بللا, فإنه لا غسل عليه, لأنه لم
تتحقق منه الجنابة.
الخامس والعشرون: ذكر مِنَّة الله تعالى على العباد, بمشروعيته التيمم.
السادس والعشرون: أن من أسباب جواز التيمم, وجود المرض, الذي يضره غسله بالماء,
فيجوز له التيمم.
السادس والعشرون: أن من جملة أسباب جوازة, السفر والإتيان من البول والغائط, إذا
عدم الماء.
فالمرض يجوز التيمم مع وجود الماء, لحصول التضرر به.
وباقيها يجوزه, العدم للماء, ولو كان في الحضر.
السابع والعشرون: أن الخارج من السبيلين, من بول وغائط, ينقض الوضوء.
الثامن والعشرون: استدل بها من قال: لا ينقض الوضوء إلا هذان الأمران.
فلا ينتقض بلمس الفرج, ولا بغيره.
التاسع والعشرون: استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ, لقوله تعالى: " أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ " .
الثلاثون: أن لمس المرأة بلذة وشهوة, ناقض للوضوء.
الحادي والثلاثون: اشتراط عدم الماء, لصحة التيمم.
الثاني والثلاثون: أن مع وجود الماء, ولو في الصلاة, يبطل التيمم, لأن الله إنما
أباحه, مع عدم الماء.
الثالث والثلاثون: أنه إذا دخل الوقت, وليس معه ماء, فإنه يلزمه طلبه في رحله,
وفيما قرب منه, لأنه لا يقال " لم يجد " لمن لم
يطلب.
الرابع والثلاثون: أن من وجد ماء لا يكفي بعض طهارته, فإنه يلزمه استعماله, ثم
يتيمم بعد ذلك.
الخامس والثلاثون: أن الماء المتغير بالطاهرات, مقدم على التيمم, أي يكون طهورا,
لأن الماء المتغير ماء, فيدخل في قوله " فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً " .
السادس والثلاثون: أنه لا بد من نية التيمم لقوله "
فَتَيَمَّمُوا " أي: اقصدوا.
السابع والثلاثون: أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض, من تراب وغيره.
فيكون على هذا, قوله " فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ " إما من باب التغليب, وأن الغالب أن يكون له
غبار يمسح منه, ويعلق بالوجه واليدين.
وإما أن يكون إرشادا للأفضل, وأنه إذا أمكن التراب الذي فيه غبار فيه, فهو أولى.
الثامن والثلاثون: أنه لا يصح التيمم بالتراب النجس, لأنه لا يكون طيبا, بل خبيثا.
التاسع والثلاثون: أنه يمسح في التيمم, الوجه واليدان فقط, دون بقية الأعضاء.
الأربعون: أن قوله " بِوُجُوهِكُمْ " شامل لجميع
الوجه وأن يعمه بالمسح, إلا أنه معفو عن إدخال التراب في الفم والأنف, وفيما تحت
الشعور, ولو خفيفة.
الحادي والأربعون: أن اليدين تمسحان إلى الكوعين فقط, لأن اليدين عند الإطلاق,
كذلك.
فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين, لقيده الله بذلك, كما قيده في الوضوء.
الثاني والأربعون: أن الآية عامة في جواز التيمم, لجميع الأحداث كلها, الحدث
الأكبر, والأصغر, بل ونجاسة البدن, لأن الله جعلها بدلا عن طهارة الماء, وأطلق في
الآية, فلم يقيد.
وقد يقال: إن نجاسة البدن, لا تدخل في حكم التيمم, لأن السياق في الأحداث, وهو قول
جمهور العلماء.
الثالث والأربعون: أن محل التيمم في الحدث الأصغر والأكبر, واحد, وهو الوجه
واليدان.
الرابع والأربعون: أنه لو نوى مَنْ عليه حدثان, التيمم عنهما, فإنه يجزئ, أخذا من
عموم الآية وإطلاقها.
الخامس والأربعون: أنه يكفي المسح بأي شيء كان, بيده أو غيرها, لأن الله قال " فامسحوا " ولم يذكر الممسوح به, فدل على جوازه بكل
شيء.
السادس والأربعون: اشتراط الترتيب في طهارة التيمم, كما يشترط ذلك في الوضوء.
ولأن الله بدأ بمسح الوجه, قبل مسح اليدين.
السابع والأربعون: أن الله تعالى - فيما شرعه لنا من الأحكام - لم يجعل علينا في
ذلك من حرج ولا مشقة, ولا عسر.
وإنما هو رحمة منه بعباده, ليطهرهم, وليتم نعمته عليهم.
وهذا هو الثامن والأربعون: أن طهارة الظاهر بالماء والتراب, تكميل لطهارة الباطن
بالتوحيد, والتوبة النصوح.
التاسع والأربعون: أن طهارة التيمم - وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة, تدرك بالحس
والمشاهدة, فإن فيها طهارة معنوية, ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى.
والخمسون: أنه ينبغي للعبد أن يتدبر الحِكَم والأسرار, في شرائع الله, في الطهارة
وغيرها ليزداد معرفة وعلما, ويزداد شكرا لله ومحبة له, على ما شرع من الأحكام التي
توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة.
" واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور "
يأمر تعالى عباده بذكر نعمه الدينية
والدنيوية, بقلوبهم وألسنتهم.
فإن في استدامة ذكرها, داعيا لشكر الله تعالى, ومحبته, وامتلاء القلب من إحسانه.
وفيه زوال للعجب, من النفس, بالنعم الدينية, وزيادة لفضل الله وإحسانه.
و " مِيثَاقِهِ " أي: واذكروا ميثاقه " الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ " أي: عهده الذي أخذه
عليكم.
وليس المراد بذلك, أنهم لفظوا ونطقوا بالعهد والميثاق.
وإنما المراد بذلك, أنهم - بإيمانهم بالله ورسوله - قد التزموا طاعتهما.
ولهذا قال " إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " أي:
سمعنا ما دعوتنا به, من آياتك القرآنية والكونية, سمع فهم, وإذعان, وانقياد.
وأطعنا ما أمرتنا به, بالامتثال, وما نهيتنا عنه بالاجتناب.
وهذا شامل لجميع شرائع الدين, الظاهرة والباطنة.
وأن المؤمنين يذكرون في ذلك, عهد الله وميثاقه عليهم, وتكون منهم على بال, ويحرصون
على أداء ما أُمِرُوا به كاملا غير ناقص.
" وَاتَّقُوا اللَّهَ " في جميع أحوالكم " إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " أي: ما
تنطوي عليه, من الأفكار, والأسرار, والخواطر.
فاحذروا أن يطلع, من قلوبكم, على أمر لا يرضاه, أو يصدر منكم ما يكرهه, واعمروا
قلوبكم, بمعرفته, ومحبته, والنصح لعباده.
فإنكم - إن كنتم كذلك - غفر لكم السيئات, وضاعف لكم الحسنات, لعلمه بصلاح قلوبكم.
" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون "
أي " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " بما
أُمِرُوا بالإيمان به, قوموا بلازم إيمانكم, بأن تكونوا "
قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ " , بأن تنشط للقيام
بالقسط, حركاتكم الظاهرة والباطنة.
وأن يكون ذلك القيام, لله وحده, لا لغرض من الأغراض الدنيوية.
وأن تكونوا قاصدين للقسط, الذي هو العدل, لا الإفراط ولا التفريط, في أقوالكم ولا
في أفعالكم.
وقوموا بذلك, على القريب, والبعيد, والصديق والعدو.
" وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ " أي لا يحملنكم " شَنَآنُ قَوْمٍ " أي: بُغْضهم.
" عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا " كما يفعله من لا عدل
عنده ولا قسط.
بل كما تشهدون لوليكم, فاشهدوا عليه, وكما تشهدون على عدوكم, فاشهدوا له, فلو كان
كافرا أو مبتدعا.
فإنه يجب العدل فيه, وقبول ما يأتي به من الحق, لا لأنه قاله.
ولا يرد الحق لأجل قوله, فإن هذا ظلم للحق.
" اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " أي:
كلما حرصتم على العدل, واجتهدتم في العمل به, كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم, فإن تم
العدل, كملت التقوى.
" إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " فمجازيكم
بأعمالكم, خيرها, وشرها, صغيرها, وكبيرها, جزاء عاجلا, وآجلا.
" وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم "
أي " وَعَدَ اللَّهُ
" الذي لا يخلف الميعاد, وهو أصدق القائلين - المؤمنين به, وبكتبه,
ورسله, واليوم الآخر.
" وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " من واجبات,
ومستحبات - بالمغفرة لذنوبهم, بالعفو عنها, وعن عواقبها, وبالأجر العظيم الذي لا
يعلم عظمه إلا الله تعالى.
" فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " .
" والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم "
"
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا " الدالة على الحق المبين, فكذبوا بها, بعد ما أبانت الحقائق.
" أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ " الملازمون
لها, ملازمة الصاحب لصاحبه.
" يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون "
يُذَكِّر تعالى عباده المؤمنين, بنعمه العظيمة, ويحثهم على تذكرها
بالقلب واللسان.
وأنهم - كما أنهم يعدون قتلهم لأعدائهم, وأخذ أموالهم وبلادهم وسبيهم نعمة -
فليعدوا أيضا, إنعامه عليهم, بكف أيديهم عنهم, ورد كيدهم في نحورهم, نعمة.
فإن الأعداء, قد هموا بأمر, وظنوا أنهم قادرون عليه.
فإذا لم يدركوا بالمؤمنين مقصودهم, فهو نصر من الله, لعباده المؤمنين ينبغي لهم أن
يشكروا الله على ذلك, ويعبدوه ويذكروه.
وهذا يشمل كل من هَمَّ بالمؤمنين بشر, من كافر, ومنافق, وباغ, كف الله شره عن
المسلمين, فإنه داخل في هذه الآية.
ثم أمرهم بما يستعينون به على الانتصار على عدوهم, وعلى جميع أمورهم فقال: " وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ " أي:
يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية, ويتبرأوا من حولهم وقوتهم, ويثقوا
بالله تعالى, في حصول ما يحبون.
وعلى حسب إيمان العبد, يكون توكله, وهو من واجبات القلب المتفق عليها.
" ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل "
يخبر تعالى أنه أخذ على بني إسرائيل الميثاق الثقيل المؤكد.
وذكر صفة الميثاق وأجرهم, إن قاموا به, وإثمهم, إن لم يقوموا به.
ثم ذكر أنهم ما قاموا به, وذكر ما عاقبهم به فقال: " وَلَقَدْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ " أي: عهدهم المؤكد
الغليظ.
" وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا " أي:
رئيسا وعريفا على ما تحته, ليكون ناظرا عليهم, حاثا لهم على القيام بما أُمِرُوا
به, مطالبا يدعوهم.
" وَقَالَ اللَّهُ " للنقباء الذين تحملوا من
الأعباء ما تحملوا: " إِنِّي مَعَكُمْ " أي:
بالعون والنصر, فإن المعونة, بقدر المؤنة.
ثم ذكر ما واثقهم عليه فقال: " لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ
" ظاهرا, وباطنا, بالإتيان بما يلزم وينبغي فيها, والمداومة على ذلك.
" وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ " لمستحقيها " وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي " جميعهم, الذين أفضلهم
وأكملهم, محمد صلى الله عليه وسلم.
" وَعَزَّرْتُمُوهُمْ " أي: عظمتموهم, وأديتم ما
يجب لهم من الاحترام والطاعة.
" وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا " وهو
الصدقة والإحسان, الصادر عن الصدق والإخلاص, وطيب المكسب.
فإذا قمتم بذلك " لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " .
فجمع لهم بين حصول المحبوب بالجنة وما فيها من النعيم, واندفاع المكروه بتكفير
السيئات, ودفع ما يترتب عليها من العقوبات.
" فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ " العهد والميثاق
المؤكد بالإيمان, والالتزامات المقرون بالترغيب بذكر ثوابه.
" فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ " أي: عن عمد
وعلم, فيستحق ما يستحقه الضالون, من حرمان الثواب, وحصول العقاب.
فكأنه قيل: ليت شعري, ماذا فعلوا؟ وهل وفوا بما عاهدوا الله عليه, أم نكثوا؟ فبين
أنهم نقضوا ذلك فقال: " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ
"
" فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين "
" فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ " أي: بسببه
عاقبناهم بعدة عقوبات.
الأولى: أن " لَعَنَّاهُمْ " أي: طردناهم
وأبعدناهم من رحمتنا, حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة, ولم يقوموا بالعهد الذي
أخذ عليهم, الذي هو سببها الأعظم.
الثانية: قوله " وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً " أي:
غليظة لا تجدي فيها المواعظ, ولا تنفعها الآيات والنذر, فلا يرغبهم تشويق, ولا
يزعجهم تخويف.
وهذا من أعظم العقوبات على العبد, أن يكون قلبه بهذه الصفة, التي لا يفيده معها,
الهدى, والخير إلا شرا.
الثالثة: أنهم " يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ
" أي: ابتلوا بالتغيير والتبديل, فيجعلون الكلام الذي أراد الله له
معنى, غير ما أراد الله, ولا رسوله.
الرابعة: أنهم نسوا " حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ " .
فإنهم ذكروا بالتوراة, وبما أنزل الله على موسى, فنسوا حظا منه.
وهذا شامل, لنسيان علمه, وأنهم نسوه, وضاع عنهم, ولم يوجد كثير مما أنساهم الله
إياه, عقوبة منه لهم.
وهذا شامل لنسيان العمل, الذي هو الترك, فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به.
ويستدل بهذا على أهل الكتاب, بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم, أو وقع في
زمانهم, أنه مما نسوه.
الخامسة: الخيانة المستمرة التي لا " تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى
خَائِنَةٍ مِنْهُمْ " أي خيانتهم لله, ولعباده المؤمنين.
ومن أعظم الخيانة منهم, كتمهم الحق, عن من يعظهم, ويحسن فيهم الظن, وإبقاؤهم على
كفرهم, فهذه خيانة عظيمة.
وهذه الخصال الذميمة, حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم.
فكل من لم يقم بما أمر الله به, وأخذ به عليه الالتزام, كان له نصيب من اللعنة
وقسوة القلب, والابتلاء بتحريف الكلم, وأنه لا يوفق للصواب ونسيان حظ مما ذُكِّر
به.
وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة.
نسأل الله العافية.
وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا, لأنه هو أعظم الحظوظ, وما عداه فإنما هي حظوظ
دنيوية.
كما قال تعالى " فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ
الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ
قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " .
وقال في الحظ النافع " وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " .
وقوله " إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ " أي: فإنهم
وفوا بما عاهدوا الله عليه فوفقهم, وهداهم للصراط المستقيم.
" فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ " أي: لا تؤاخذهم
بما يصدر منهم من الأذى, الذي يقتضي أن يعفى عنهم.
واصفح, فإن ذلك من الإحسان " وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ " .
والإحسان: هو أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه, فإنه يراك.
وفي حق المخلوقين: بذل النفع الديني والدنيوي لهم.
" ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون "
أي: وكما أخذنا من اليهود العهد والميثاق, فكذلك أخذنا من " الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى " لعيسى ابن مريم,
وزكوا أنفسهم بالإيمان بالله ورسله, وما جاءوا به, ونقضوا العهد.
" فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ " نسيانا
علميا, ونسيانا عمليا.
" فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " أي: سلطنا بعضهم على بعض, وصار بينهم من
الشرور والإحن, ما يقتضي بغض بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم بعضا إلى يوم القيامة.
وهذا أمر مشاهد, فإن النصارى لم يزالوا في بغض وعداوة وشقاق.
" وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
" فيعاقبهم عليه.
" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين "
لما ذكر تعالى, ما أخذه الله على أهل الكتاب, من اليهود والنصارى وأنهم
نقضوا ذلك, إلا قليلا, أمرهم جميعا أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, واحتج
عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته.
وهي: أنه يبين لهم كثيرا مما يُخْفُون عن الناس, حتى عن العوام من أهل ملتهم.
فإذا كانوا هم المشار إليهم في العلم ولا عند أحد في ذلك الوقت إلا ما عندهم,
فالحريص على العلم, لا سبيل له إلى إدراكه إلا منهم.
فإتيان الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العظيم, الذي بيَّن به ما كانوا
يتكاتمون بينهم, وهو أُمِّيّ لا يقرأ ولا يكتب - من أدل الدلائل على القطع
برسالته.
وذلك مثل صفة محمد في كتبهم, ووجود البشائر به في كتبهم, وبيان آية الرجم ونحو
ذلك.
" وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ " أي: يترك بيان ما لا
تقتضيه الحكمة.
" قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ " وهو
القرآن, يستضاء به في ظلمات الجهالة, وعماية الضلالة.
" وَكِتَابٌ مُبِينٌ " بكل ما يحتاج الخلق إليه,
من أمور دينهم ودنياهم, من العلم بالله, وأسمائه, وصفاته, وأفعاله, ومن العلم
بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية.
" يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم "
ثم ذكر مَنْ الذي يهتدي بهذا القرآن؟ وما هو السبب الذي من العبد لحصول
ذلك فقال: " يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ
سُبُلَ السَّلَامِ " أي: يهدي من اجتهد وحرص, على بلوغ مرضاة الله,
وصار قصده حسنا - سبل السلام, التي يسلم صاحبها من العذاب, وتوصله إلى دار السلام,
وهو العلم بالحق والعمل به, إجمالا وتفصيلا.
" وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ " ظلمات
الكفر والبدعة والمعصية, والجهل والغفلة.
" إِلَى النُّورِ " نور الإيمان والسنة, والطاعة,
والعلم, والذكر.
وكل هذه من الهداية بإذن الله, الذي ما شاء كان, وما لم يشأ, لم يكن.
" وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " .
" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير "
لما ذكر تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين, وأنهم لم يقوموا به بل
نقضوه - ذكر أقوالهم الشنيعة.
فذكر قول النصارى, القول الذي ما قاله أحد غيرهم, بأن الله هو المسيح ابن مريم.
ووجه شبهتهم, أنه ولد من غير أب, فاعتقدوا فيه هذا الاعتقاد الباطل.
مع أن حواء نظيره, خُلِقَت بلا أم.
وآدم أولى منه, خلق بلا أب ولا أم.
فهلا ادعوا فيهما الإلهية, كما ادعوها في المسيح؟.
فدل على أن قولهم, اتباع هوى من غير برهان ولا شبهة.
فرد الله عليهم, بأدلة عقلية واضحة فقال: " قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا " .
فإذا كان المذكورون, لا امتناع عندهم, يمنعهم لو أراد الله أن يهلكهم, ولا قدرة
لهم على ذلك - دل على بطلان إلهية من لا يمتنع من الإهلاك, ولا في قوته شيء من
الفكاك.
ومن الأدلة أن " لِلَّهِ " وحده "
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا " يتصرف فيهم
بحكمه الكوني والشرعي والجزائي, وهم مملوكون مدبرون.
فهل يليق أن يكون المملوك العبد الفقير, إلها معبودا, غنيا من كل وجه؟ هذا من أعظم
المحال.
ولا وجه لاستغرابهم, لخلق المسيح عيسى ابن مريم, من غير أب فإن الله " يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ " إن شاء من أب وأم, كسائر بني
آدم, وإن شاء من أب بلا أم, كحواء وإن شاء من أم بلا أب, كعيسى.
وإن شاء من غير أب ولا أم, كآدم.
فنوع خليقته تعالى, بمشيئته النافذة, التي لا يستعصي عليها شيء ولهذا قال: " وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .
" وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير "
ومن مقالات اليهود والنصارى, أن كلا منهما, ادعى دعوى باطلة, يذكون بها
أنفسهم بأن قال كل منهما: " نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ " .
والابن في لغتهم هو الحبيب, ولم يريدوا البنوة الحقيقية, فإن هذا ليس من مذهبهم
إلا مذهب النصارى في المسيح.
قال الله ردا عليهم, حيث ادعوا بلا برهان: " قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ " ؟.
فلو كنتم أحبابه, ما عذبكم لكون الله لا يحب إلا من قام بمراضيه.
" بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ " تجري
عليكم أحكام العدل والفضل.
" يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ " إذا
أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب.
" وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ " أي: فأي شيء خصكم بهذه الفضيلة,
وأنتم من جملة المماليك, ومن جملة من يرجع إلى الله في الدار الآخرة, فيجازيكم
بأعمالكم.
" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير "
يدعو تبارك وتعالى أهل الكتاب - بسبب ما من عليهم من كتابه - أن يؤمنوا
برسوله محمد صلى الله عليه وسلم, ويشكروا الله تعالى, الذي أرسله إليهم " عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ " وشدة حاجة إليه.
وهذا مما يدعو إلى الإيمان به, وأن يبين لهم جميع المطالب الإلهية والأحكام
الشرعية.
وقد قطع الله بذلك حجتهم, لئلا يقولوا: " مَا جَاءَنَا مِنْ
بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ " .
يبشر بالثواب العاجل والآجل, وبالأعمال الموجبة لذلك, وصفة العاملين بها.
وينذر بالعقاب العاجل والآجل, وبالأعمال الموجبة لذلك, وصفة العاملين بها.
" وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " انقادت
الأشياء طوعا وإذعانا, لقدرته, فلا يستعصي عليه شيء منها.
ومن قدرته أن أرسل, الرسل وأنزل الكتب, وأنه يثيب من أطاعهم ويعاقب من عصاهم.
" وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين "
لما امتن الله على موسى وقومه, بنجاتهم من فرعون وقومه, وأسرهم
واستبعادهم, ذهبوا قاصدين, لأوطانهم ومساكنهم, وهي بيت المقدس, وما حواليه وقاربوا
وصول بيت المقدس.
وكان الله قد فرض عليهم جهاد عدوهم, ليخرجوه من ديارهم.
فوعظهم موسى عليه السلام.
وذكرهم, ليقروا على الجهاد فقال: " وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ " بقلوبكم وألسنتكم.
فإن ذكرها, داع إلى محبته تعالى ومنشط على العبادة.
" إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ " يدعونكم إلى
الهدى, ويحذرونكم من الردى ويحثونكم على سعادتكم الأبدية, ويعلمونكم ما لم تكونوا
تعلمون.
" وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا " تملكون أمركم, بحيث
إنه زال عنكم استعباد عدولكم, فكنتم تملكون أمركم, وتتمكنون من إقامة دينكم.
" وَآتَاكُمْ " من النعم الدينية والدنيوية " مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ " .
فإنهم - في ذلك الزمان - خيرة الخلق, وأكرمهم على الله.
وقد أنعم عليهم بنعم ما كانت لغيرهم.
فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية, الداعي ذلك لإيمانهم, وثباته, وثباتهم على الجهاد,
وإقدامهم عليه ولهذا قال: " يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ "
" يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين "
" يَا
قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ " أي: المطهرة " الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
" .
فأخبرهم خبرا تطمئن به أنفسهم, إن كانوا مؤمنين مصدقين بخبر الله.
وأنه قد كتب الله لهم دخولها, وانتصارهم على عدوها.
" وَلَا تَرْتَدُّوا " أي: ترجعوا " عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ " قد
خسرتم دنياكم, بما فاتكم من النصر على الأعداء, وفتح بلادكم.
وآخرتكم, بما فاتكم من الثواب, وما استحققتم - بمعصيتكم - من العقاب.
" قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون "
فقالوا قولا, يدل على ضعف قلوبهم, وخور
نفوسهم, وعدم اهتمامهم بأمر الله ورسوله.
" يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ " شديدي
القوة والشجاعة, أي: فلهذا من الموانع لنا من دخولها.
" وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا
فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ " .
وهذا من الجبن وقلة اليقين.
وإلا, فلو كان معهم رشدهم, لعلموا أنهم كلهم من بني آدم, وأن القوي, من أعانه الله
بقوة من عنده, فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
ولعلموا أنهم سينصرون عليهم, إذ وعدهم الله بذلك, وعدا خاصا.
" قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين "
"
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ " الله تعالى, مشجعين لقومهم, منهضين لهم على قتال عدوهم, واحتلال
بلادهم.
" أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا " بالتوفيق,
وكلمة الحق, في هذا الموطن المحتاج إلى مثل كلامهم, وأنعم عليهم بالصبر واليقين.
" ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ
فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ " أي: ليس بينكم وبين نصركم عليهم إلا أن
تجزموا عليهم, وتدخلوا عليهم الباب, فإذا دخلتموه عليهم, فإنهم سينهزمون.
ثم أمرهم بعدة هي أقوى العدد فقال: " وَعَلَى اللَّهِ
فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " .
فإن في التوكل على الله - وخصوصا في هذا الموطن - تيسيرا للأمر, ونصرا على
الأعداء.
ودل هذا على وجوب التوكل, وعلى أنه بحسب إيمان العبد, يكون توكله.
" قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون "
فلم ينجع فيهم هذا الكلام, ولا نفع فيهم الملام, فقالوا قول الأذلين: " يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " .
فما أشنع هذا الكلام منهم, ومواجهتهم به لنبيهم في هذا المقام الحرج الضيق, الذي
قد دعت الحاجة والضرورة فيه إلى نصرة نبيهم, وإعزاز أنفسهم.
وبهذا وأمثاله, يظهر التفاوت بين سائر الأمم, وأمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث
قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين شاورهم في القتال يوم " بدر " مع أنه لم يحتم عليهم: يا رسول الله, لو خضت
بنا هذا البحر, لخضناه معك, ولو بلغت بنا برك الغماد, ما تخلف عنك أحد.
ولا نقول كما قال قوم موسى لموسى " فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " .
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, من بين يديك ومن خلفك, وعن يمينك,
وعن يسارك.
" قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين "
فلما رأى موسى عليه السلام, عتوهم عليه " قَالَ
رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي " أي: فلا, يدان
لنا بقتالهم, ولست بجبار على هؤلاء.
" فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
" أي: احكم بيننا وبينهم, بأن تنزل فيهم من العقوبة, ما اقتضته حكمتك.
ودل ذلك, على أن قولهم وفعلهم, من الكبائر العظيمة الموجبة للفسق.
" قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين "
"
قَالَ " الله مجيبا لدعوة موسى: " فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ
فِي الْأَرْضِ " أي: إن من عقوبتهم, أن نحرم عليهم دخول هذه القرية
التي كتبها الله لهم, مدة أربعين سنة.
وتلك المدة أيضا, يتيهون في الأرض, لا يهتدون إلى طريق, ولا يبقون مطمئنين.
وهذه عقوبة دنيوية, لعل الله تعالى, كفر بها عنهم, ودفع عنهم عقوبة أعظم منها.
وفي هذا, دليل على أن العقوبة على الذنب: قد تكون بزوال نعمة موجودة, أو دفع نقمة,
قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها, إلى وقت آخر.
ولعل الحكمة في هذه المدة, أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة, الصادرة
عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات.
بل قد ألفت الاستعباد لعدوها, ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها.
ولتظهر ناشئة جديدة, تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء, وعدم الاستعباد, والذل
المانع من السعادة.
ولما علم الله تعالى, أن عبده موسى, في غاية الرحمة على الخلق, خصوصا قومه, وأنه
ربما رق لهم, واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة, أو الدعاء لهم
بزوالها, مع أن الله قد حتمها, قال: " فَلَا تَأْسَ عَلَى
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ " أي: لا تأسف عليهم ولا تحزن, فإنهم قد
فسقوا, وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم, لا ظلما منا.
" واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين "
أي: قص على الناس, وأخبرهم بالقضية التي جرت على ابني آدم بالحق, تلاوة
يعتبر بها المعتبرون, صدقا, لا كذبا, وجدا, لا لعبا.
والظاهر أن ابني آدم, هما: ابناه لصلبه, كما يدل عليه ظاهر الآية والسياق, وهو قول
جمهور المفسرين.
أي: اتل عليهم نبأهما, في حال تقريبها للقربان, الذي أداهما إلى الحال المذكورة.
" إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا " أي: أخرج كل منهما
شيئا من ماله, لقصد التقرب إلى الله.
" فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الْآخَرِ " بأن علم ذلك بخبر من السماء, أو بالعادة السابقة في الأمم,
أن علامة تقبل الله لقربان, أن تنزل نار من السماء فتحرقه.
" قَالَ " الابن, الذي لم يتقبل منه للآخر, حسدا
وبغيا " لَأَقْتُلَنَّكَ " .
فقال له الآخر مترفقا له في ذلك " إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ
اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ " فأي: ذنب لي وجناية, توجب لك أن تقتلني؟
إلا أني اتقيت الله تعالى, الذي تقواه واجبة عليّ وعليك, وعلى كل أحد؟.
وأصح الأقوال في تفسير المتقين هنا, أي: المتقين لله في ذلك العمل, بأن يكون عملهم
خالصا لوجه الله, متبعين فيه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين "
ثم قال له - مخبرا أنه لا يريد أن يتعرض لقتله, لا ابتداء, ولا مدافعة
فقال: " لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا
أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ " .
وليس ذلك جبنا مني ولا عجزا.
وإنما ذلك لأني " أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ "
والخائف لله, لا يقدم على الذنوب, خصوصا, الذنوب الكبار.
وفي هذا, تخويف لمن يريد القتل, وأنه ينبغي لك أن تتقي الله وتخاف.
" إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين "
"
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ " أى ترجع " بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ " .
أي: إنه إذا دار الأمر بين أن أكون قاتلا أو تقتلني, فإني أوثر أن تقتلني, فتبوء
بالوزرين " فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ
جَزَاءُ الظَّالِمِينَ " .
دل هذا, على أن القتل من كبائر الذنوب, وأنه موجب لدخول النار.
" فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين "
فلم يرتدع ذلك الجاني, ولم يزجر, ولم يزل يعزم نفسه ويجزمها, حتى طوعت
له قتل أخيه, الذي يقتضي الشرع والطبع, احترامه.
" فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ " دنياهم
وآخرتهم, وأصبح قد سن هذه السنة, لكل قاتل.
" ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم
القيامة " .
ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنه " ما من نفس تقتل, إلا كان
على ابن آدم الأول, شطر من دمها, لأنه أول من سن القتل " .
" فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين "
فلما قتل أخاه, لم يدر كيف يصنع به, لأنه أول ميت مات من بني آدم, " فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ " أي:
يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتا.
" لِيُرِيَهُ " بذلك "
كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ " أي: بدنه, لأن بدن الميت يكون
عورة " فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ " .
وهكذا عاقبة المعاصي, الندامة والخسارة.
" من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون "
يقول تعالى " مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ " الذي
ذكرناه في قصة ابني آدم, وقتل أحدهما أخاه, وسنه القتل لمن بعده, وأن القتل,
عاقبته وخيمة وخسارة في الدنيا والآخرة.
" كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ " أهل
الكتب السماوية " أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ
نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ " أي: بغير حق "
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا " .
لأنه ليس معه داع يدعوه إلى التبين, وأنه لا يقدم على القتل, إلا بحق.
فلما تجرأ على قتل النفس, التي لم تستحق القتل, علم أنه لا فرق عنده بين هذا
المقتول وبين غيره.
وإنما ذلك بحسب ما تدعوه إليه نفسه الأمارة بالسوء.
فتجرؤه على قتله, كأنه قتل الناس جميعا.
وكذلك من أحيا نفسا أي: استبقى أحدا, فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى قتله, فمنعه
خوف الله تعالى من قتله, فهذا كأنه أحيا الناس جميعا.
لأن ما معه من الخوف يمنعه من قتل من لا يستحق القتل.
ودلت الآية على أن القتل يجوز بأحد أمرين.
إما أن يقتل نفسا بغير حق, متعمدا في ذلك, فإنه يحل قتله, إن كان مكلفا مكافئا,
ليس بوالد للمقتول.
وإما أن يكون مفسدا في الأرض, بإفساده لأديان الناس, أو أبدانهم, أو أموالهم,
كالكفار المرتدين, والمحاربين, والدعاة إلى البدع الذين لا ينكف شرهم إلا بالقتل.
وكذلك قطاع الطريق ونحوهم, ممن يصول على الناس لقتلهم, أو أخذ أموالهم.
" وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ " التي
لا يبقى معها حجة لأحد.
" ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ " أي: من الناس " بَعْدِ ذَلِكَ " البيان القاطع للحجة, الموجب
للاستقامة في الأرض " لَمُسْرِفُونَ " في العمل
بالمعاصي, ومخالفة الرسل, الذين جاءوا بالبينات والحجج.
" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم "
المحاربون لله ولرسوله, الذين بارزوه بالعداوة, وأفسدوا في الأرض,
بالكفر, والقتل, وأخذ الأموال, وإخافة السبل.
والمشهور أن هذه الآية الكريمة, في أحكام قطاع الطريق, الذين يعرضون للناس, في
القرى والبوادي, فيغصبونهم أموالهم, ويقتلونهم, ويخيفونهم, فيمتنع الناس من سلوك
الطريق, التي بها, فتنقطع بذلك.
فأخبر الله أن جزاءهم ونكالهم - عند إقامة الحد عليهم - أن يفعل بهم واحد من هذه
الأمور.
واختلف المفسرون: هل ذلك على التخيير, وأن كل قاطع طريق, يفعل به الإمام أو نائبه,
ما رآه المصلحة من هذه الأمور المذكورة؟ وهذا ظاهر اللفظ.
أو أن عقوبتهم, تكون بحسب جرائمهم, فكل جريمة لها قسط يقابلها, كما تدل عليه
الآية, بحكمها وموافقتها لحكمة الله تعالى.
وأنهم إن قتلوا ولم يأخذوا ما لا تحتم قتلهم وصلبهم, حتى يشتهروا ويختزنوا, ويرتدع
غيرهم.
وإن قتلوا, ولم يأخذوا ما لا تحتم قتلهم فقط.
وإن أخذوا مالا, ولم يقتلوا, تحتم أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, اليد اليمنى,
والرجل اليسرى.
وإن أخافوا الناس, ولم يقتلوا, ولا أخذوا مالا, نفوا من الأرض, فلا يتركون يأوون
في بلد, حتى تظهر توبتهم.
وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه, وكثير من الأئمة, على اختلاف في بعض التفاصيل.
" ذَلِكَ " النكال " لَهُمْ
خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا " أي: فضيحة وعار "
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " فدل هذا, أن قطع الطريق,
من أعظم الذنوب, موجب لفضيحة الدنيا وعذاب الآخرة.
وأن فاعله, محارب لله ولرسوله.
وإذا كان هذا شأن عظم هذه الجريمة, علم أن تطهير الأرض من المفسدين, وتأمين السبل
والطرق, عن القتل, وأخذ الأموال, وإخافة الناس, من أعظم الحسنات, وأجل الطاعات,
وأنه إصلاح في الأرض, كما أن ضده إفساد في الأرض.
" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم "
"
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ " أي: من هؤلاء المحاربين.
" فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " أي:
فيسقط عنه, ما كان لله, من تحتم القتل, والصلب, والقطع, والنفي.
ومن حق الآدمي أيضا, إن كان المحارب كافرا ثم أسلم.
فإن كان المحارب مسلما, فإن حق الآدمي, لا يسقط عنه من القتل, وأخذ المال.
ودل مفهوم الآية, على أن توبة المحارب - بعد القدرة عليه - أنها لا تسقط عنه شيئا.
والحكمة في ذلك ظاهرة.
وإذا كانت التوبة قبل القدرة عليه, تمنع من إقامة الحد في الحرابة, فغيرها من الحدود
- إذا تاب من فعلها, قبل القدرة عليه - من باب أولى.
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون "
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين, بما
يقتضيه الإيمان, من تقوى الله, والحذر من سخطه وغضبه.
وذلك بأن يجتهد العبد, ويبذل غاية ما يكنه المقدور, في اجتناب ما يسخطه الله, من
معاصي القلب, واللسان, والجوارح, الظاهرة, والباطنة.
ويستعين بالله على تركها, لينجو بذلك من سخط الله وعذابه.
" وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ " أي: القرب
منه, والحظوة لديه, والحب له.
وذلك بأداء فرائضه القلبية, كالحب له, وفيه, والخوف, والرجاء, والإنابة والتوكل.
والبدنية, كالزكاة, والحج.
والمركبة من ذلك, كالصلاة ونحوها, من أنواع القراءة والذكر, ومن أنواع الإحسان إلى
الخلق, بالمال, والعلم, والجاه, والبدن, والنصح لعباد الله.
فكل هذه الأعمال, تقرب إلى الله.
ولا يزال العبد يتقرب بها إلى الله, حتى يحبه.
فإذا أحبه, كان سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله
التي يمشي بها, ويستجيب الله له الدعاء.
ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه, الجهاد في سبيله, وهو: بذل الجهد في
قتال الكافرين, بالمال, والنفس, والرأي, واللسان, والسعي في نصر دين الله, بكل ما
يقدر عليه العبد, لأن هذا النوع, من أجل الطاعات, وأفضل القربات.
ولأن من قام به, فهو على القيام بغيره, أحرى وأولى "
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " إذا اتقيتم الله, بترك المعاصي, وابتغيتم
الوسيلة إلى الله, بفعل الطاعات, وجاهدتم في سبيله, ابتغاء مرضاته.
والفلاح هو: الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب, والنجاة من كل مرهوب.
فحقيقته, السعادة الأبدية, والنعيم المقيم.
" إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم "
يخبر تعالى عن شناعة حال الكافرين يوم القيامة وما لهم من العذاب
الفظيع.
وأنهم لو افتدوا من عذاب الله, بملء الأرض ذهبا ومثله معه, ما تقبل منهم ولا أفاد
لأن محل الافتداء قد فات, ولم يبق إلا العذاب الأليم,
" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم "
السارق: هو من أخذ مال غيره المحترم خفية, بغير رضاه.
وهو من كبائر الذنوب الموجبة, لترتب العقوبة الشنيعة, وهو قطع اليد التي, كما هو
في قراءة بعض الصحابة.
وحد اليد عند الإطلاق: من الكوع.
فإذا سرق, قطعت يده من الكوع, وحسمت في زيت, لتنسد العروق فيقف الدم.
ولكن السنة قيدت عموم هذه الآية, من عدة أوجه: منها: الحرز, فإنه لابد أن تكون
السرقة من حرز, وحرز كل مال: ما يحفظ به عادة.
فلو سرق من غير حرز, فلا قطع عليه.
ومنها: أنه لابد أن يكون المسروق نصابا, وهو: ربع دينار, أو ثلاثة دراهم, أو ما
يساوي أحدهما.
فلو سرق دون ذلك, فلا قطع عليه.
ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها.
فإن لفظ " السرقة " أخذ الشيء, على وجه, لا يمكن
الاحتراز منه.
وذلك أن يكون المال محرزا.
فلو كان غير محرز, لم يكن ذلك سرقة شرعية.
ومن الحكمة أيضا أن لا تقطع اليد, في الشيء النزر التافه.
فلما كان لابد من التقدير, كان التقدير الشرعي, مخصصا للكتاب.
والحكمة في قطع اليد في السرقة, أن ذلك حفظ للأموال, واحتياط لها, وليقطع العضو
الذي صدرت منه الجناية.
فإن عاد السارق, قطعت رجله اليسرى.
فإن عاد, فقيل: تقطع يده اليسرى, ثم رجله اليمنى, وقيل: يحبس حتى يموت.
وقوله " جَزَاءً بِمَا كَسَبَا " أي: ذلك القطع,
جزاء للسارق بما سرقه, من أموال الناس.
" نَكَالًا مِنَ اللَّهِ " أي: تنكيلا وترهيبا
للسارق ولغيره, ليرتدع السراق - إذا علموا - أنهم سيقطعون إذا سرقوا.
" وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " أي: عز وحكم, فقطع
السارق.
" فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم "
"
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " .
فيغفر لمن تاب, فترك الذنوب, وأصلح الأعمال والعيوب
" ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير "
وذلك أن الله له ملك السماوات والأرض, يتصرف فيهما بما شاء, من التصاريف القدرية والشرعية, والمغفرة, والعقوبة, بحسب ما اقتضته حكمته ورحمته الواسعة ومغفرته.
" يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم "
كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من شدة
حرصه على الخلق - يشتد حزنه لمن يظهر الإيمان, ثم يرجع إلى الكفر.
فأرشده الله تعالى, إلى أنه لا يأسى ولا يحزن على أمثال هؤلاء.
فإن هؤلاء, لا في العير ولا في النفير.
إن حضروا, لم ينفعوا وإن غابوا, لم يفقدوا.
ولهذا قال - مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن عليهم - فقال: "
مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ
" فإن الذين يؤسى ويحزن عليهم, من كان معدودا من المؤمنين, ظاهرا
وباطنا.
وحاشا لله, أن يرجع هؤلاء عن دينهم, ويرتدوا, فإن الإيمان - إذا خالطت بشاشته
القلوب - يعدل به صاحبه غيره, ولم يبغ به بدلا.
" وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا " أي: اليهود " سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ " .
أي: مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم, المبني أمرهم على الكذب, والضلال, والغي.
وهؤلاء الرؤساء المتبعون " لَمْ يَأْتُوكَ " بل
أعرضوا عنك, وفرحوا بما عندهم من الباطل.
" يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ " أي:
يجلبون معاني الألفاظ, ما أرادها الله, ولا قصدها, لإضلال الخلق, ولدفع الحق.
فهؤلاء المنقادون, للدعاة إلى الضلال, المتبعين للمحال, الذي يأتون بكل كذب, لا
عقول لهم ولا همم.
فلا تبال أيضا, إذا لم يتبعوك, لأنهم في غاية النقص, والناقص لا يؤبه له, ولا
يبالي به.
" يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا " أي: هذا قولهم عند محاكمتهم إليك, لا قصد
لهم, إلا اتباع الهوى.
يقول بعضهم لبعض: إن حكم لكم محمد بهذا الحكم, الذي يوافق هواكم, فاقبلوا حكمه.
وإن لم يحكم لكم به, فاحذروا أن تتابعوه على ذلك.
وهذا فتنة واتباع ما تهوى الأنفس.
" وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا " كقوله تعالى: " إِنَّكَ
لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ " .
" أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ
قُلُوبَهُمْ " أي: فلذلك صدر منهم ما صدر.
فدل ذلك, على أن من كان مقصوده بالتحاكم, إلى الحكم الشرعي, اتباع هواه, وأنه إن
حكم له رضي, وإن لم يحكم له, سخط, فإن ذلك من عدم طهارة قلبه.
كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع, ورضي به, وافق هواه أو خالفه, فإنه من طهارة
القلب.
ودل على أن طهارة القلب, سبب لكل خير, وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد, وعمل سديد.
" لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ " أي: فضيحة وعار
" وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " هو:
النار, وسخط الجبار.
" سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين "
"
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ " والسمع ههنا, سمع
استجابة أي: من قلة دينهم وعقلهم, أن استجابوا لمن دعاهم إلى القول الكذب.
" أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ " أي: المال الحرام,
بما يأخذونه على سفلتهم وعوامهم, من المعلومات والرواتب, التي بغير الحق.
فجمعوا بين اتباع الكذب, وأكل الحرام.
" فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ " فأنت مخير في ذلك.
وليست هذه منسوخة, فإنه- عند تحاكم هذا الصنف إليه- يخير بين أن يحكم بينهم, أو
يعرض عن الحكم بينهم, بسبب أنه, لا قصد لهم في الحكم الشرعي, إلا أن يكون موافقا
لأهوائهم.
وعلى هذا, فكل مستفت ومتحاكم إلى عالم, يعلم من حاله أنه, إن حكم عليه, لم يرض, لم
يجب الحكم, ولا الإفتاء لهم.
فإن حكم بينهم, وجب أن يحكم بالقسط, ولهذا قال: " وَإِنْ
تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " .
حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء, فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم.
وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس, وأن الله تعالى يحبه.
" وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين "
ثم قال متعجبا منهم: " وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ
وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ " .
فإنهم - لو كانوا مؤمنين عاملين بما يقتضيه الإيمان ويوجبه - لم يصدفوا عن حكم
الله الذي في التوراة, التي بين أيديهم, إلا لعلهم أن يجدوا عندك ما يوافق أهواءهم.
وحين حكمت بينهم بحكم الله الموافق لما عندهم أيضا, لم يرضوا بذلك, بل أعرضوا عنه,
فلم يرتضوه أيضا.
قال تعالى " وَمَا أُولَئِكَ " الذين, هذا صنيعهم
" بِالْمُؤْمِنِينَ " .
أي: ليس هذا دأب المؤمنين, وليسوا حريين بالإيمان.
لأنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم, وجعلوا أحكام الإيمان, تابعة لأهوائهم.
" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "
"
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ " على موسى
بن عمران, عليه الصلاة والسلام.
" فِيهَا هُدًى " يهدي إلى الإيمان والحق, يعصم
من الضلالة.
" وَنُورٌ " يستضاء به في ظل الجهل والحيرة
والشكوك, والشبهات, والشهوات.
كما قال تعالى: " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ
الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ " .
" يَحْكُمُ بِهَا " بين الذين هادوا, أي: اليهود
في القضايا والفتاوى " النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
" لله, وانقادوا لأوامره, الذين إسلامهم, أعظم من إسلام غيرهم, صفوة
الله من العباد.
فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام, والسادة للأنام, قد اقتدوا بها, وائتموا, ومشوا
خلفها, فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود, من الاقتداء بها؟ وما الذي أوجب
لهم, أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي لا يقبل
عمل ظاهر وباطن, إلا بتلك العقيدة؟ هل لهم إمام في ذلك؟ نعم لهم أئمة دأبهم
التحريف, وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس, والتآكل بكتمان الحق, وإظهار الباطل,
أولئك أئمة الضلال, الذين يدعون إلى النار.
وقوله: " وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ " أي:
وكذلك يحكم بالتوراة الذين هادوا " أئمة الدين من الربانيين أي: العلماء
العاملين المعلمين, الذين يربون الناس بأحسن تربية, ويسلكون معهم مسلك الأنبياء
المشفقين.
والأحبار أي: العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم, وترمق آثارهم, ولهم لسان الصدق
بين أممهم.
وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق " بِمَا اسْتُحْفِظُوا
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ " أي: بسبب أن
الله استحفظهم على كتابه, وجعلهم أمناء عليه, وهو أمانة عندهم, أوجب عليهم حفظه,
من الزيادة والنقصان.
والكتمان, وتعليمه لمن لا يعلمه.
وهم شهداء عليه, بحيث أنهم المرجوع إليهم فيه, وفيما اشتبه على الناس منه.
فالله تعالى قد حمل أهل العلم, ما لم يحمله الجهال, فيجب عليهم القيام بأعباء ما
حملوا وأن لا يقتدوا بالجهال, في الإخلاد إلى البطالة والكسل.
وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة, من أنواع الذكر, والصلاة, والزكاة,
والحج, والصوم, ونحو ذلك من الأمور, التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا.
وأما أهل العلم, فكما أنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاحون إليه,
من أمور دينهم, خصوصا الأمور الأصولية, والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل
يخشون ربهم ولهذا قال: " فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ
وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا " فتكتموا
الحق, وتظهروا الباطل, لأجل متاع الدنيا القليل.
وهذه الآفات, إذا سلم منها العالم, فهو من توفيقه.
وسعادته بأن يكون همه, الاجتهاد في العلم والتعليم, ويعلم, أن الله قد استحفظه بما
أودعه من العلم, واستشهده عليه وأن يكون خائفا من ربه.
ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم, من القيام بما هو لازم له.
وأن لا يؤثر الدنيا على الدين.
كما أن علامة شقاوة العلم, أن يكون مخلدا للبطالة, غير قائم بما أمر به, ولا مبال
بما استحفظ عليه.
قد أهمله وأضاعه, قد باع الدين بالدنيا, قد ارتشى في أحكامه, وأخذ المال على
فتاويه, ولم يعلم عباد الله, إلا بأجرة وجعالة.
فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة, كفرها, ودفع حظا جسيما, حرم منه غيره.
فنسألك اللهم, علما نافعا, وعملا متقبلا, وأن ترزقنا العفو والعافية, من كل بلاء.
يا كريم.
" وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ " من
الحق المبين, وحكم بالباطل الذي يعلمه, لغرض من أغراضه الفاسدة "
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " .
فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر, وقد يكون كفرا ينقل عن الملة.
وذلك إذ اعتقد حله وجوازه.
وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب, ومن أعمال الكفر, قد استحق من فعله, العذاب
الشديد.
" وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون "
هذه الأحكام من جملة الأحكام التي في التوراة, يحكم بها النبيون الذين
أسلموا, للذين هادوا, والربانيون, والأحبار.
فإن الله أوجب عليهم, أن النفس - إذا قتلت - تقتل بالنفس بشرط العمد والمكافأة.
والعين, تقلع بالعين, والأذن, تؤخذ بالأذن, والسن ينزع بالسن.
ومثل هذه ما أشبهها من الأطراف التي يمكن الاقتصاص منها بدون حيف.
" وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ " والاقتصاص.
أن يفعل به كما فعل.
فمن جرح غيره عمدا, اقتص من الجار جرحا, مثل جرحه للمجروح, حدا, وموضعا, وطولا,
وعرضا وعمقا.
وليعلم أن شرع من قبلنا, شرع لنا, ما لم يرد شرعنا بخلافه.
" فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ " أي: بالقصاص في النفس,
وما دونها من الأطراف والجروح, بأن عفا عمن جنى, وثبت له الحق قبله.
" فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ " أي: كفارة للجاني,
لأن الآدمي عفا عن حقه.
والله تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه.
وكفارة أيضا عن العافي, فإنه كما عفا عمن جنى عليه, أو عمن يتعلق به- فإن الله
يعفو عن زلاته وجناياته.
" وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ " قال ابن عباس, كفر دون كفر 4 وظلم دون ظلم, وفسق
دون فسق.
فهو ظلم أكبر, عند استحلاله, وعظيمة كبيرة عند فعله, غير مستحل له.
" وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين "
أي: واتبعنا هؤلاء الأنبياء والمرسلين,
الذين يحكمون بالتوراة, بعبدنا ورسولنا, عيسى بن مريم, روح الله وكلمته التي
ألقاها إلى مريم.
بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة, فهو شاهد لموسى, ولما جاء به من
التوراة, بالحق والصدق, ومؤيد لدعوته, وحاكم بشريعته, وموافق له في أكثر الأمور
الشرعية.
وقد يكون عيسى عليه السلام أخف في بعض الأحكام, كما قال تعالى عنه أنه قال لبني
إسرائيل.
" وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
" .
" وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ " الكتاب العظيم,
المتمم للتوراة.
" فِيهِ هُدًى وَنُورٌ " يهدي إلى الصراط المستقيم,
ويبين الحق من الباطل.
" وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ
" بتثبيتها والشهادة لها, والموافقة.
" وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ " فإنهم
الذين ينتفعون بالهدى, ويتعظون بالمواعظ, ويرتدعون عما لا يليق.
" وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون "
"
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ " أي: يلزمهم التقيد بكتابهم, ولا يجوز لهم العدول عنه.
" وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ " .
" وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون "
يقول تعالى " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
" الذي هو القرآن العظيم, أفضل الكتب وأجلها.
" بِالْحَقِّ " أي: إنزالا بالحق, ومشتملا على
الحق, في أخباره, وأوامره, ونواهيه.
" مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ " لأنه
شهد للكتب السابقة, ووافقها, وطابقت أخباره أخبارها, وشرائعه الكبار شرائعها,
وأخبرت به, فصار وجودها مصداقا لخبرها.
" وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ " أي: مشتملا على ما
اشتملت عليه الكتب السابقة, وزيادة في المطالب الإلهية, والأخلاق النفسية.
فهو الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به, وحث عليه, وأكثر من الطرق
الموصلة إليه.
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين.
وهو الكتاب الذي, فيه الحكم, والحكمة, والأحكام, الذي عرضت عليه الكتب السابقة.
فما شهد له بالصدق, فهو المقبول, وما شهد له بالرد, فهو مردود, قد دخله التحريف
والتبديل.
وإلا, فلو كان من عند الله, لم يخالفه.
" فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ " من
الحكم الشرعي, الذي أنزله الله عليك.
" وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ
الْحَقِّ " أي: لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق, بدلا
عما جاءك من الحق, فتستبدل الذي هو أدنى, بالذي هو خير.
" لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ " أيها الأمم " شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا " أي: سبيلا وسنة.
وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم, هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة
والأحوال, وكلها ترجع إلى العدل, في وقت شرعتها.
وأما الأصول الكبار, التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان, فإنها لا تختلف, فتشرع في
جميع الشرائع.
" وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
" تبعا لشريعة واحدة, لا يختلف متأخرها ولامتقدمها.
" وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ " فيختبركم,
وينظر كيف تعملون, ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته, ويؤتي كل أحد ما يليق به,
وليحصل التنافس بين الأمم.
فكل أمة تحرص على سبق غيرها, ولهذا قال: " فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ " .
أي: بادروا إليها, وأكملوها, فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب, من حقوق الله,
وحقوق عباده, لا يصير فاعلها سابقا لغيره, مستوليا على الأمر, إلا بأمرين.
المبادره إليها, وانتهاز الفرصه, حين يجيء وقتها, ويعرض عارضها, والاجتهاد في
أدائها, كاملة على الوجه المأمور به.
ويستدل بهذه الآية, على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها, في أول وقتها.
وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزي في الصلاة وغيرها من العبادات,
من الأمور الواجبة.
بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات, التي يقدر عليها, لتتم وتكمل, ويحصل بها السبق.
" إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا " الأمم
السابقة واللاحقة, كلهم سيجمعهم الله, ليوم لا ريب فيه.
" فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ "
من الشرائع والأعمال.
فيثيب أهل الحق والعمل الصالح, ويعاقب أهل الباطل, والعمل السيئ.
" وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون "
" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ " هذه الآية التي قيل إنها ناسخة لقوله " فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ " .
والصحيح: أنها ليست بناسخة, وأن تلك الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم مخير
بين الحكم بينهم, وبين عدمه, وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق.
وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم, فإنه يحكم بينهم.
بما أنزل الله, من الكتاب والسنة.
وهو القسط الذي تقدم أن الله قال " وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ " .
ودل هذا, على بيان القسط, وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام فإنها المشتملة
على غاية العدل والقسط, وما خالف ذلك, فهو جور وظلم.
" وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ " كرر النهي عن
اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها.
ولأن ذلك, في مقام الحكم والفتوى, وهو أوسع, وهذا في مقام الحكم وحده.
كلاهما, يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم, المخالفة للحق, ولهذا قال: "
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ "
.
أي: إياك والاغترار بهم, وأن يفتنوك, فيصدوك عن بعض ما أنزل الله إليك.
فصار اتباع أهوائهم سببا موصلا إلى ترك الحق الواجب, والفرض اتباعه.
" فَإِنْ تَوَلَّوْا " عن اتباعك, واتباع الحق " فَاعْلَمْ " أن ذلك عقوبة عليهم و "
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ " فإن
للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة ومن أعظم العقوبات, أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع
الرسول, وذلك لفسقه.
" وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ " أي:
طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله, واتباع رسوله.
" أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون "
"
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ " أي:
أفيطلبون بتوليتهم وإعراضهم عنك, حكم الجاهلية.
وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله.
فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية.
فمن أعرض عن الأول, ابتلي بالثاني المبني على الجهل, والظلم, والغي ولهذا, أضافه
الله للجاهلية.
وأما حكم الله تعالى, فبني على العلم, والعدل, والقسط, والنور,والهدى.
" وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
" فالموقن, هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز - بإيقانه - ما في
حكم الله من الحسن والبهاء, وأنه يتعين - عقلا وشرعا - اتباعه.
واليقين, هو: العلم التام, الموجب للعمل.
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين "
يرشد تعالى عباده المؤمنين, حين بين لهم أحوال اليهود والنصارى,
وصفاتهم غير الحسنة, أن لا يتخذوهم أولياء.
فإن " بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " يتناصرون
فيما بينهم ويكونون يدا على من سواهم.
فأنتم, لا تتخذوهم أولياء, فإنهم, الأعداء على الحقيقة.
ولا يبالون بضركم, بل لا يدخرون من مجهودهم شيئا على إضلالكم.
فلا يتولاهم, إلا من هو مثلهم, ولهذا قال: " وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ " .
لأن التولي التام, يوجب الانتقال إلى دينهم.
والتولي القليل, يدعو إلى الكثير, ثم يتدرج شيئا فشيئا, حتى يكون العبد منهم.
" إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " أي:
الذين وصفهم الظلم, وإليه يرجعون, وعليه يعولون.
فلو جئتهم بكل آية, ما تبعوك, ولا انقادوا لك.
" فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين "
ولما نهى الله المؤمنين عن توليهم, أخبر أن ممن يدعي الإيمان, طائفة
تواليهم فقال: " فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
" أي: شك, ونفاق, وضعف إيمان, يقولون: إن تولينا إياهم للحاجة فإننا " نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ " أي: تكون
الدائرة لليهود والنصارى فإذا كانت الدائرة لهم, فإذا لنا معه يد يكافؤننا عنها,
وهذا سوء ظن منهم بالإسلام.
قال تعالى - رادا لظنهم السيئ - " فَعَسَى اللَّهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ " الذي يعز الله به الإسلام, على اليهود والنصارى,
ويقهر المسلمون " أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ " ييأس
به المنافقون من ظفر الكافرين, من اليهود وغيرهم.
" فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا " أي: أضمروا
" فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ " على ما كان منهم
وضرهم بلا نفع حصل لهم.
فحصل الفتح الذي نصر الله به الإسلام والمسلمين, وأذل به الكفر والكافرين.
فندموا وحصل لهم من الغم, ما الله به عليم.
" ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين "
"
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا " متعجبين من
حال هؤلاء الذين في قلوبهم مرض: " أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ " أي:
حلفوا وأكدوا حلفهم, وغلظوه بأنواع التأكيدات: إنهم لمعكم في الإيمان, وما يلزمه
من النصرة, والحبة, والموالاة.
ظهر ما أضمروه, وتبين ما أسروه, وصار كيدهم الذي كادوه, وظنهم الذي ظنوه بالإسلام
وأهله - باطلا.
وبطل كيدهم فـ " حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ " في
الدنيا " فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ " حيث فاتهم
مقصودهم, وحضر الشقاء والعذاب.
" يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم "
يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين, وأنه من يرتد عن دينه, فلن يضر الله
شيئا, وإنما يضر نفسه.
وأن لله, عبادا مخلصين, ورجالا صادقين, قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم, ووعد
بالإتيان بهم, وأنهم أكمل الخلق أوصافا, وأقواهم نفوسا وأحسنهم أخلاقا.
أجل صفاتهم أن الله " يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ " .
فإن محبة الله للعبد, من أجل نعمة أنعم بها عليه, وأفضل فضيلة, تفضل الله بها
عليه.
وإذا أحب الله عبدا, يسر له الأسباب, وهون عليه كل عسير, ووفقه لفعل الخيرات, وترك
المنكرات, وأقبل بقلوب عباده إليه, بالمحبة والوداد ومن لوازم محبة العبد لربه,
أنه لابد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم, ظاهرا وباطنا, في أقواله
وأعماله, وجميع أحواله.
كما قال تعالى " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ " .
كما أن من لوازم محبة الله للعبد, أن يكثر العبد من التقرب إلى الله, بالفرائض
والنوافل, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله: " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه, ولا يزال عبدي
يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر
به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, ولو سألني لأعطينه, ولو استعاذني
لأعيذنه " .
ومن لوازم محبة الله, معرفته تعالى, والإكثار من ذكره.
فإن المحبة بدون معرفة بالله, ناقصة جدا, بل غير موجودة, إن وجدت دعواها.
ومن أحب الله أكثر من ذكره.
وإذا أحب الله عبدا, قبل منه اليسير من العمل, وغفر له الكثير من الزلل.
ومن صفاتهم أنهم " أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكَافِرِينَ " .
فهم للمؤمنين أذلة, من محبتهم لهم, ونصحهم لهم, ولينهم ورفقهم, ورأفتهم, ورحمتهم
بهم وسهولة جانبهم, وقرب الشيء الذي يطلب منهم.
وعلى الكافرين بالله, المعاندين لآياته, المكذبين لرسله - أعزة قد اجتمعت هممهم
وعزائمهم, على معاداتهم, وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم.
قال تعالى: " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
" .
وقال تعالى " أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ " .
فالغلظة الشديدة على أعداء الله, مما يقرب العبد إلى الله, ويوافق العبد ربه, في
سخطه عليهم.
ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة, دعوتهم, إلى الدين الإسلامي, بالتي هي أحسن.
فتجتمع الغلظة عليهم, واللين في دعوتهم, وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد
إليهم.
" يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " بأموالهم
وأنفسهم, بأقوالهم وأفعالهم.
" وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ " بل يقدمون
رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين.
وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم, فإن ضعيف القلب, ضعيف الهمة.
تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين, وتفتر قوته, عند عذل العاذلين.
وفي قلوبهم تعد لغير الله, بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم, على
أمر الله.
فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله, حتى لا يخاف: الله لومة لائم.
ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم من الصفات, الجميلة, والمناقب العالية,
المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير - أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه, لئلا,
يعجبوا بأنفسهم, وليشكروا الذي من عليهم بذلك ليزيدهم من فضله, وليعلم غيرهم أن
فضل الله تعالى ليس عليه حجاب, فقال: " ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " أي: واسع الفضل
والإحسان, جزيل المنن, قد عمت رحمته كل شيء, ويوسع علما أوليائه من فضله, ما لا
يكون لغيرهم.
ولكنه عليم بمن يستحق الفضل, فيعطيه, فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا.
" إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون "
لما نهى عن ولاية الكفار, من اليهود والنصارى وغيرهم, وذكر مآل توليهم
أنه الخسران المبين, أخبر تعالى من يجب ويتعين توليه.
وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال: " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ " .
فولاية الله, تدرك بالإيمان والتقوى.
فكل من كان مؤمنا تقيا, كان لله وليا, ومن كان لله وليا, فهو ولي لرسوله.
ومن تولى الله ورسوله, كان تمام ذلك, تولي من تولاه, وهم المؤمنون الذين قاموا
بالإيمان, ظاهرا وباطنا, وأخلصوا للمعبود, بإقامتهم الصلاة, بشروطها وفروضها,
ومكملاتها, وأحسنوا للخلق, وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم.
وقوله: " وَهُمْ رَاكِعُونَ " أي: خاضعون لله
ذليلون.
فأداة الحصر في قوله " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا " تدل على أنه يجب قصر الولاية على
المذكورين, والتبري من ولاية غيرهم.
ثم ذكر فائدة هذه الولاية فقال:
" ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون "
"
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ الْغَالِبُونَ " .
أي: فإنه من الحزب المضافين إلى الله, إضافة عبودية وولاية, وحزبه الغالبون, الذين
لهم العاقبة في الدنيا: والآخرة, كما قال تعالى: " وَإِنَّ
جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ " .
وهذه بشارة عظيمة, لمن قام بأمر الله, وصار من حزبه وجنده, أن له الغلبة.
وإن أديل عليه في بعض الأحيان, لحكمة يريدها الله تعالى, فآخر أمره, الغلبة
والانتصار, ومن أصدق من الله قيلا.
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين "
ينهى الله عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن
سائر الكفار.
أولياء, يحبونهم, ويتولونهم, ويبدون لهم أسرار المؤمنين, ويعاونونهم على بعض
أمورهم, التي تضر الإسلام والمسلمين.
وأن ما معهم من الإيمان, يوجب عليهم ترك موالاتهم, ويحثهم على معاداتهم.
وكذلك التزامهم لتقوى الله, التي هي امتثال أوامره واجتناب زواجره مما يدعوهم إلى
معاداتهم.
وكذلك ما كان عليه المشركون, والكفار والمخالفون للمسلمين من قدحهم في دين
المسلمين, واتخاذهم إياه هزوا ولعبا, واحتقاره واستصغاره, خصوصا الصلاة, التي هي
أظهر شعائر المسلمين, وأجل عباداتهم.
إنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا, وذلك لعدم عقلهم, ولجهلهم العظيم.
وإلا فلو كان لهم عقول, لخضعوا لها, ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف
بها النفوس.
فإذا علمتم - أيها المؤمنون, حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم - فمن لم
يعادهم بعد هذا, دل على أن الإسلام عنده, رخيص, وأنه لا يبالي بمن قدح فيه, أو قدح
بالكفر والضلال, وأنه ليس عنده من المروءة والإنسانية شيء.
فكيف تدعي لنفسك دينا قيما, وأنه الدين الحق; وما سواه باطل, وترضى بموالاة من
اتخذه هزوا ولعبا, وسخر به وبأهله, من أهل الجهل والحمق؟! وهذا فيه من التهييج على
عداوتهم, ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم.
" قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون "
أي: " قُلْ " يا
أيها الرسول " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ " ملزما
لهم.
إن دين الإسلام هو الدين الحق, وإن قدحهم فيه, قدح بأمر ينبغي المدح عليه: " هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ
" أي: هل لنا من العيب, إلا إيماننا بالله, وبكتبه السابقة واللاحقة,
وبأنبيائه المتقدمين والمتأخرين, وبأننا نجزم أن من لم يؤمن كهذا الإيمان, فإنه
كافر فاسق؟.
فهل تنقمون منا, بهذا الذي أوجب الواجبات على جميع المكلفين؟!! ومع هذا, فأكثرهم
فاسقون, أي: خارجون عن طاعة الله متجرئون على معاصيه فأولى لكم - أيها الفاسقون -
السكوت.
فلو كان عيبكم, وأنتم سالمون من الفسق, وهيهات ذلك - لكان الشر أخف من قدحكم فينا
مع فسقكم.
" قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل "
ولما كان قدحهم في المؤمنين, يقتضي أنهم يعتقدون أنهم على شر, قال
تعالى: " قُلْ " لهم, مخبرا عن شناعة ما كانوا
عليه: " هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ " الذي
نقمتم فيه علينا, مع التنزل معكم.
" مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ " أي: أبعده عن رحمته " وَغَضِبَ عَلَيْهِ " وعاقبه في الدنيا والآخرة " وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ
الطَّاغُوتَ " وهو الشيطان, وكل ما عبد من دون الله, فهو طاغوت.
" أُولَئِكَ " المذكورون بهذه الخصال القبيحة " شَرٌّ مَكَانًا " من المؤمنين الذين رحمة الله قريب
منهم, ورضي الله عنهم, وأثابهم في الدنيا والآخرة, لأنهم أخلصوا له الدين.
وهذا النوع, من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه.
وكذلك قوله " وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ " أي:
وأبعد عن قصد السبيل.
" وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون "
" وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا " نفاقا ومكرا وهم قد " دَخَلُوا " مشتملين
" بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ " فمدخلهم
ومخرجهم, بالكفر - وهم يزعمون أنهم مؤمنون.
فهل أشر من هؤلاء, وأقبح حالا منهم؟!! " وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ " فيجازيهم بأعمالهم, خيرها وشرها.
" وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون "
ثم استمر تعالى, يعدد معايبهم, انتصارا لقدحهم في عباده المؤمنين فقال:
" وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ " أي: من اليهود " يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " أي:
يحرصون, ويبادرون المعاصي المتعلقة في حق الخالق والعدوان على المخلوقين.
" وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ " الذي هو الحرام.
فلم يكتف بمجرد الإخبار أنهم يفعلون ذلك, حتى أخبر أنهم يسارعون فيه.
وهذا يدل على خبثهم وشرهم, وأن نفسهم مجبولة على حب المعاصي والظلم.
هذا, وهم يدعون لأنفسهم, المقامات العالية.
" لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " وهذا في
غاية الذم لهم, والقدح فيهم.
" لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون "
"
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ " .
أي: هلا ينهاهم العلماء, المتصدون لنفع الناس, الذين من الله عليهم بالعلم والحكمة
- عن المعاصي التي تصدر منهم, ليزول ما عندهم من الجهل, وتقوم حجة الله.
عليهم.
فإن العلماء, عليهم أمر الناس ونهيهم, وأن يبينوا لهم الطريق الشرعي, ويرغبوهم في
الخير: ويرهبوهم من الشر " لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
" .
" وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين "
يخبر تعالى, عن مقالة اليهود الشنيعة, وعقيدتهم الفظيعة فقال: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ " أي:
عن الخير والإحسان, والبر.
" غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا " وهذا
دعاء عليهم, بجنس مقالتهم.
فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم, بالبخل, وعدم الإحسان.
فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم.
فكانوا أبخل الناس, وأقلهم إحسانا, وأسوأهم ظنا بالله, وأبعدهم عن رحمته التي وسعت
كل شيء وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي.
ولهذا قال: " بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ
يَشَاءُ " لا حجر عليه, ولا مانع يمنعه, مما أراد.
فإنه تعالى, قد بسط فضله, وإحسانه الديني والدنيوي, وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات
جوده, وأن لا يسدوا: على أنفسهم أبواب إحسانه, بمعاصيهم.
فيده سحاء الليل والنهار, وخيره في جميع الأوقات مدرارا.
يفرج كربا, ويزيل غما, ويغني فقيرا, ويفك أسيرا ويجبر كسيرا, ويجيب سائلا: ويعطي
فقيرا عائلا ويجيب المضطرين, ويستجيب للسائلين.
وينعم على من لم يسأله, ويعافى من طلب العافية, ولا يحرم من خيره عاصيا.
بل خيره, يرتع فيه البر والفاجر, ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال.
ثم يحمدهم عليها, ويضيفها إليهم, وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل
والآجل, ما لا يدركه الوصف, ولا يخطر على بال العبد.
ويلطف بهم في جميع أمورهم, ويوصل إليهم من الإحسان ويدفع عنهم من النقم ما لا
يشعرون بكثير منه.
فسبحان من كل النعم, التي بالعباد, فمنه, وإليه يجأرون في دفع المكاره.
وتبارك من لا يحصى أحد, ثناء عليه, بل هو كما أثنى على نفسه.
وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين, بل ولا وجود لهم, ولا بقاء إلا بجوده.
وقبح الله من استغنى بجهله عن ربه, ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله.
بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة, ونحوهم ممن حاله كحالهم, ببعض
قولهم, لهلكوا, وشقوا في دنياهم.
ولكنهم يقولون تلك الأقوال, وهو تعالى, يحلم عنهم, ويصفح, ويمهلهم, ولا يهملهم.
وقوله " وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا " وهذا من أعظم العقوبات
على العبد, أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله, الذي فيه حياة القلب والروح,
وسعادة الدنيا والآخرة, وفلاح الدارين, الذي هو أكبر منه, امتن الله بها على
عباده, توجب عليهم المبادرة إلى قبولها, والاستسلام لله بها, وشكرا لله عليها, أن
تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه, وطغيان إلى طغيانه, وكفر إلى كفره.
وذلك, بسبب, إعراضه عنها, ورده لها, ومعاندته إياها, ومعارضته لها, بالشبه
الباطلة.
" وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " فلا يتألفون, ولا يتناصرون, ولا يتفقون
على حالة فيها مصلحتهم.
بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم, متعادين بأفعالهم, إلى يوم القيامة, " كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ " ليكيدوا بها
الإسلام وأهله, وأبدوا, وأعادوا, وأجلبوا بخيلهم ورجلهم "
أَطْفَأَهَا اللَّهُ " بخذلانهم, وتفرق جنودهم, وانتصار المسلمين
عليهم.
" وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا " أي:
يجتهدون ويجدون, ولكن بالفساد في الأرض.
أي: بعمل المعاصي, والدعوة إلى دينهم الباطل, والتعويق عن الدخول في الإسلام.
" وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " بل
يبغضهم أشد البغض, وسيجازيهم على ذلك.
" ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم "
ثم قال تعالى: " وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ " .
وهذا من كرمه وجوده, حيث لما ذكر قبائح أهل الكتاب ومعايبهم, وأقوالهم الباطلة,
دعا إلى التوبة, وأنهم لو آمنوا بالله وملائكته, وجميع كتبه, وجميع رسله, واتقوا
المعاصي, لكفر عنهم سيئاتهم, ولو كانت ما كانت, ولأدخلهم جنات النعيم, التي فيها
ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
" ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون "
"
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ " أي: قاموا
بأوامرها, كما ندبهم الله وحثهم.
ومن إقامتهما الإيمان بما دعيا إليه, من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم
وبالقرآن.
فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة, التي أنزلها ربهم إليهم, أي: لأجلهم وللاعتناء
بهم.
" لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
" أي: لأدر الله عليهم الرزق, ولأمطر عليهم السماء, وأنبت لهم الأرض
كما قال تعالى: " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ "
.
" مِنْهُمْ " أي: من أهل الكتاب "
أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ " أي: عاملة بالتوراة والإنجيل, عملا غير قوي
ولا نشيط.
" وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ " أي:
والمسيء منهم الكثير.
وأما السابقون منهم, فقليل ما هم.
" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين "
هذا أمر من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم, بأعظم الأوامر
وأجلها, وهو: التبليغ لما أنزل الله إليه.
ويدخل في هذا, كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم من العقائد, والأعمال,
والأقوال, والأحكام الشرعية, والمطالب الإلهية.
فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ, ودعا, وأنذر, وبشر, ويسر, وعلم الجهال
الأميين, حتى صاروا من العلماء الربانيين.
وبلغ, بقوله, وفعله, وكتبه, ورسله.
فلم يبق خير إلا دل أمته عليه, ولا شر إلا حذرها عنه.
وشهد له بالتبليغ, أفاضل الأمة, من الصحابة, فمن بعدهم من أئمة الدين, ورجال
المسلمين.
" وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ " أي: لم تبلغ ما أنزل
إليك من ربك " فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " أي:
فما امتثلت أمره.
" وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ " هذه
حماية وعصمة من الله, لرسوله من الناس, وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم
والتبليغ, ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهـم بيد الله, وقد تكفل
بعصمتك, فأنت إنما عليك البلاغ المبين, فمن اهتدى, فلنفسه.
وأما الكافرون الذين لا قصد لهم إلا اتباع أهوائهم فإن الله لا يهديهم, ولا يوفقهم
للخير, بسبب كفرهم.
" قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين "
أي: قل لأهل الكتاب - مناديا على ضلالهم, ومعلنا بباطلهم: " لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ " من الأمور الدينية, فإنكم,
لا بالقرآن ومحمد, آمنتم ولا بنبيكم وكتابكم صدقتم, ولا بحق تمسكتم, ولا على أصل
اعتمدتم.
" حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ " أي:
تجعلوهما قائمين بالإيمان بهما واتباعهما, والتمسك بكل ما يدعوان إليه.
وتقيموا ما " أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ " الذي
رباكم, وأنعم عليكم, وجعل أجل إنعامه, إنزال الكتب إليكم.
فالواجب عليكم, أن تقوموا بشكر الله, وتلتزموا أحكام الله, وتقوموا بما حملتم من
أمانة الله وعهده.
" وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
" .
" إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون "
يخبر تعالى عن أهل الكتاب, من أهل القرآن والتوراة والإنجيل, أن
سعادتهم ونجاتهم, في طريق واحد, وأصل واحد, وهو الإيمان بالله واليوم الآخر,
والعمل الصالح.
فمن آمن منهم بالله واليوم الآخر, وعمل صالحا, فله النجاة, ولا خوف عليهم فيما
يستقبلونه من الأمور المخوفة, ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها.
وهذا الحكم المذكور, يشمل سائر الأزمنة.
" لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون "
يقول تعالى: " لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
" أي: عهدهم الثقيل بالإيمان بالله, والقيام بواجباته, التي تقدم
الكلام عليها في قوله " وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا " إلى
آخر الآيات.
" وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا " يتوالون
عليهم بالدعوة, ويتعاهدونهم بالإرشاد ولكن ذلك, لم ينجح فيهم, ولم يفد " كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ
" من الحق, كذبوه, وعاندوه, وعاملوه أقبح المعاملة.
" فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ "
" وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون "
"
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ " أي:
ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم, لا يجر عليهم عذابا, ولا عقوبة, واستمروا على باطلهم.
" فَعَمُوا وَصَمُّوا " عن الحق "
ثُمَّ " نعشهم وتاب " عَلَيْهِمْ " حين
تابوا إليه, وأنابوا.
" ثُمَّ " يستمروا على ذلك, حتى انقلب أكثرهم إلى
الحال القبيحة.
حيث " عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ " بهذا
الوصف, والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم.
" وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ " فيجازي
كل عامل بعمله, إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار "
يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم " إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " .
بشبهة أنه خرج من أم بلا أب, وخالف المعهود من الخلقة الإلهية.
والحال أنه عليه الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى, وقال لهم: " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ
" فأثبت لنفسه العبودية التامة, ولربه العبودية الشاملة لكل مخلوق.
" إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ " أحدا من
المخلوقين, لا عيسى ولا غيره.
" فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ
النَّارُ " وذلك لأنه سوى الخلق بالخالق, وصرف ما خلقه الله له - وهو
العباده الخالصة - لغير من هي له, فاستحق أن يخلد في النار.
" وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ " ينقذونهم
من عذاب الله, أو يرفعون عنهم بعض ما نزل بهم.
" لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم "
"
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ " وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم.
زعموا أن الله ثالث ثلاثة الله, وعيسى, ومريم, تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى.
كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء, والعقيدة والقبيحة؟!!.
كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوق؟!!.
كيف خفى عليهم رب العالمين؟!! قال تعالى - رادا عليهم وعلى أشباههم -: " وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ " متصف بكل
صفة كمال, منزه عن كل نقص, منفرد بالخلق والتدبير ما بالخلق من نعمة إلا منه.
فكيف يجعل معه إله غيره؟!! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم توعدهم بقوله " وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ
لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " .
" أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم "
ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم, وبين أنه يقبل التوبة عن عباده
فقال: " أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ " أي:
يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد, وبأن عيسى, عبد الله ورسوله-
عما كانوا يقولونه.
" وَيَسْتَغْفِرُونَهُ " عن ما صدر منهم " وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " أي يغفر ذنوب التائبين,
ولو بلغت عنان السماء, ويرحمهم, بقبول توبتهم, وتبديل سيئاتهم حسنات.
وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله: " أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ " .
" ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون "
ثم ذكر حقيقة المسيح وأمه, الذي هو الحق, فقال: "
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ " .
أي: هذا غايته, ومنتهى أمره, أنه من عباد الله المرسلين, الذين ليس لهم من الأمر,
ولا من التشريع, إلا ما أرسلهم به الله, وهو من جنس الرسل قبله, لا مزية له عليهم,
تخرجه عن البشرية, إلى كل مرتبة الربوبية.
" وَأُمَّهُ " مريم "
صِدِّيقَةٌ " أي: هذا أيضا غايتها, أن كانت من الصديقين, الذين هم
أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء.
والصديقية, هي: العلم النافع, المثمر لليقين, والعمل الصالح.
وهذا دليل على أن مريم, لم تكن نبية, بل أعلى أحوالها, الصديقية, وكفى بذلك فضلا,
وشرفا.
وكذلك سائر النساء, لم يكن منهن نبية, لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين.
في الرجال, كما قال تعالى " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ " .
فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله, وأمه صديقة, فلأي شيء
اتخذهما النصارى إلهين مع الله.
.
وقوله: " كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ " دليل
ظاهر, على أنهما عبدان فقيران, محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب.
فلو كانا إلهين, لاستغنيا عن الطعام والشراب, ولم يحتاجا إلى شيء, فإن الإله, هو
الغني الحميد.
ولما بين تعالى البرهان قال: " انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ
لَهُمُ الْآيَاتِ " الموضحة للحق, الكاشفة لليقين, ومع هذا, لا تفيد
فيهم شيئا, بل لا يزالون على إفكهم, وكذبهم, وافترائهم.
وذلك ظلم وعناد منهم.
" قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم "
أي: " قُلْ " لهم أيها الرسول: " أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " من المخلوقين
الفقراء المحتاجين.
" مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا " وتدعون
من انفرد بالضر والنفع, والعطاء والمنع.
" وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ " لجميع الأصوات,
باختلاف اللغات, على تفنن الحاجات.
" الْعَلِيمُ " بالظواهر والبواطن, والغيب
والشهادة, والأمور الماضية والمستقبلة.
فالكامل تعالى, الذي هذه أوصافه, هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة,
ويخلص له الدين.
" قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل "
يقول تعالى, لنبيه صلى الله عليه وسلم: " قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ " أي:
لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل.
وذلك كقولهم في المسيح, ما تقدم حكايته عنهم.
وكغلوهم في بعض المشايخ, متبعين " أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ " أي: تقدم ضلالهم.
" وَأَضَلُّوا كَثِيرًا " من الناس, بدعوتهم
إياهم إلى الدين, الذي هم عليه.
" وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ " أي: قصد
الطريق, فجمعوا بين الضلال والإضلال.
وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله عنهم, وعن اتباع أهوائهم المردية, وآرائهم
المضلة.
" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون "
ثم قال تعالى: " لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ " أي: طردوا وأبعدوا عن رحمة الله.
" عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ " أي:
بشهادتهما وإقرارهما, بأن الحجة قد قامت عليهم, وعاندوها.
" ذَلِكَ " الكفر واللعن "
بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " .
أي: بعصيانهم لله, وظلمهم لعباد الله, صار سببا لكفرهم, وبعدهم عن رحمة الله, فإن
للذنوب والظلم, عقوبات.
" كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون "
ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلات, وأوقعت بهم العقوبات أنهم: " كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ " أي:
كانوا يفعلون المنكر, ولا ينهى بعضهم بعضا.
فيشترك بذلك المباشر وغيره, الذي سكت عن النهي عن المنكر, مع قدرته على ذلك.
وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله, وأن معصيته خفيفة عليهم.
فلو كان لديهم تعظيم لربهم, لغاروا لمحارمه, ولغضبوا لغضبه.
وإنما كان السكوت عن المنكر - مع القدرة - موجبا للعقوبة, لما فيه من المفاسد
العظيمة.
منها: أن مجرد السكوت, فعل معصيه, وإن لم يباشرها الساكت.
فإنه - كما يجب اجتناب المعصية - فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية.
ومنها: ما تقدم, أنه يدل على التهاون بالمعاصي, وقلة الاكتراث بها.
ومنها: أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة, على الإكثار من المعاصي, إذا لم يردعوا عنها,
فيزداد الشر, وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية, ويكون لهم الشوكة والظهور.
ثم بعد ذلك, يضعف أهل الخير, عن مقاومة أهل الشر, حتى لا يقدرون على ما كانوا
يقدرون: عليه أولا.
ومنها: أنه - بترك الإنكار للمنكر - يندرس العلم, ويكثر الجهل.
فإن المعصية - مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص, وعدم إنكار أهل الدين والعلم
لها - يظن أنها ليست بمعصية, وربما ظن الجاهل أنها عباده مستحسنة.
وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرم الله, حلالا؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية
الباطل حقا؟!! ومنها: أن بالسكوت على معصية العاصين, ربما تزينت المعصية في صدور
الناس, واقتدى بعضهم ببعض.
فالإنسان, مولع بالاقتداء بأحزابه, وبني جنسه.
ومنها ومنها.
فلما كان السكوت عن الإنكار بهذه المثابة, نص الله تعالى, أن بني إسرائيل الكفار
منهم, لعنهم بمعاصيهم, واعتدائهم, وخص من ذلك هذا المنكر العظيم.
" لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ "
" ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون "
"
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا " بالمحبة والموالاة والنصر.
" لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ " البضاعة
الكاسدة, والصفقة الخاسرة.
وهي: سخط الله, الذي يسخط لسخطه كل شيء, والخلود الدائم في العذاب العظيم.
فقد ظلمتهم أنفسهم, حيث قدمت لهم, هذا النزل, غير الكريم.
وقد ظلموا أنفسم إذ فوتوها النعيم المقيم.
" ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون "
"
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ " .
فإن الإيمان بالله وبالنبي, وما أنزل إليه, يوجب على العبد موالاة ربه, وموالاة
أوليائه, ومعاداة من كفر به وعاداه, وأوضع في معاصيه.
فشرط ولاية الله والإيمان به, أن لا يتخذ أعداء الله أولياء.
وهؤلاء لم يوجد منهم الشرط, فدل على انتفاء المشروط.
" وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ " أي:
خارجون عن طاعة الله والإيمان به, وبالنبي.
ومن فسقهم, موالاة أعداء الله.
" لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون "
ثم قال تعالى " لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ
عَدَاوَةً " إلى " أَصْحَابِ الْجَحِيمِ " .
يقول تعالى - في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين, وإلى ولايتهم, ومحبتهم, وأبعد
من ذلك: " لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا " .
فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق, أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين, وأكثرهم سعيا
في إيصال الضرر إليهم.
وذلك, لشدة بغضهم لهم, بغيا, وحسدا, وعنادا, وكفرا.
" وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى " .
وذكر تعالى لذلك عدة أسباب.
منها: أن " مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا " أي:
علماء متزهدين, وعبادا في الصوامع متعبدين.
والعلم مع الزهد, وكذلك العبادة - مما يلطف القلب ويرققه, ويزيل عنه ما فيه, من
الجفاء والغلظة, فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود, وشدة المشركين.
ومنها: أنهم " لَا يَسْتَكْبِرُونَ " أي: ليس
فيهم تكبر ولا عتو, عن الانقياد الحق.
وذلك موجب لقربهم من المسلمين, ومن محبتهم.
فإن المتواضع, أقرب إلى الخير, من المستكبر.
" وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى
أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ
رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ "
ومنها: أنهم إذا " سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ
" محمد صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له, وفاضت
أعينهم, بحسب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه, فلذلك آمنوا, وأقروا به فقالوا: " رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ " وهم
أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون لله بالتوحيد, ولرسله بالرسالة, وصحة ما جاءوا
به, ويشهدون على الأمم السابقة, بالتصديق والتكذيب.
وهم عدول, شهادتهم مقبولة, كما قال تعالى " وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا " .
" وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين "
فكأنهم ليموا على إيمانهم, ومسارعتم فيه, فقالوا: "
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ
يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ " .
أي: وما الذي يمنعنا, من الإيمان بالله.
والحال, أنه قد جاءنا الحق من ربنا, الذي لا يقبل الشك والريب.
ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق, طمعنا أن يدخلنا الله الجنة, مع القوم الصالحين.
فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة والانقياد للإيمان, وعدم التخلف عنه.
" فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين "
قال الله تعالى: "
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا " أي: بما تفوهوا به من الإيمان,
ونطقوا به من التصديق بالحق.
" جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ " وهذه الآيات, نزلت في
النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كالنجاشي وغيره, ممن آمن منهم.
وكذلك لا يزال يوجد فيهم, من يختار دين الإسلام, ويتبين له بطلان ما كانوا عليه,
وهم أقرب من اليهود والمشركين, إلى دين الإسلام.
" والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم "
ولما ذكر ثواب المحسنين, ذكر عقاب المسيئين فقال: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ " لأنهم كفروا بالله وكذبوا بآياته المبينة للحق.
" يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين "
يقول تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ " من المطاعم
والمشارب, فإنها نعم أنعم الله بها عليكم, فاحمدوه, إذ أحلها لكم, واشكروه, ولا
تردوا نعمته بكفرها, أو عدم قبولها, أو اعتقاد تحريمها.
فتجمعوا بذلك بين قول الكذب على الله وكفر النعمة, واعتقاد تحريمها.
فتجمعوا بذلك بين قول الكذب على الله وكفر النعمة, واعتقاد الحلال الطيب, حراما
خبيثا, فإن هذا من الاعتداء.
والله قد نهى عن الاعتداء فقال: " وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " بل يبغضهم ويمقتهم, ويعاقبهم
على ذلك.
" وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون "
ثم أمر بضد ما عليه المشركون, الذين يحرمون, ما أحل الله فقال: " وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا " أي
كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم, بما يسره من الأسباب, إذا كان حلالا, لا سرقة, ولا
غصبا, ولا غير ذلك, من أنواع الأموال, التي تؤخذ بغير حق.
وكان أيضا طيبا, وهو: الذي لا خبث فيه.
فخرج بذلك, الخبيث من السباع والخبائث.
" وَاتَّقُوا اللَّهَ " , في امتثال أوامره,
واجتناب نواهيه.
" الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ " فإن
إيمانكم بالله, يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه.
فإنه لا يتم إلا بذلك.
ودلت الآية الكريمة, على أنه إذا حرم حلالا عليه, من طعام, وشراب, وسرية, وأمة,
ونحو ذلك, فإنه لا يكون حراما بتحريمه.
لكن لو فعله, فعليه كفارة يمين, كما قال تعالى " يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ " الآية.
إلا أن تحريم الزوجة, فيه كفارة ظهار.
ويدخل في هذه الآية, أنه لا ينبغي للإنسان, أن يتجنب الطيبات, ويحرمها على نفسه,
بل يتناولها, مستعينا بها, على طاعة ربه.
" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون "
أي: في أيمانكم, التي صدرت على وجه اللغو,
وهي الأيمان, التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد, أو عقدها يظن صدق نفسه فبان
بخلاف ذلك.
" وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
" أي: بما عزمتم عليه, وعقدت عليه قلوبكم.
كما قال في الآية الأخرى " وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ " .
" فَكَفَّارَتُهُ " أي: كفارة الأيمان, التي
عقدتموها بقصد, " إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ " .
وذلك الإطعام " مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
أَوْ كِسْوَتُهُمْ " أي: كسوة عشرة مساكين, والكسوة, هي التي تجزي في
الصلاة.
" أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ " كما قيدت في غير هذا
الموضع.
فمتى فعل واحدا من هذه الثلاثة, فقد انحلت يمينه.
" فَمَنْ لَمْ يَجِدْ " واحدا من هذه الثلاثة " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ " المذكور " كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ " تكفرها,
وتمحوها, وتمنع من الإثم.
" وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ " عن الحلف بالله
كاذبا, وعن كثرة الأيمان, واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيهـا, إلا إذا كان الحنث
خيرا, فتمام الحفظ: أن يفعل الخير, ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير.
" كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ " المبينة
للحلال من الحرام, الموضحة للأحكام.
" لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " الله, حيث علمكم ما
لم تكونوا تعلمون.
فعلى العبد, شكر الله تعالى, على ما من به عليه, من معرفة الأحكام الشرعية
وتبيينها.
" يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون "
يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة, ويخبر أنها من عمل الشيطان, وأنها رجس.
" فَاجْتَنِبُوهُ " أي: اتركوه "
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " فإن الفلاح, لا يتم إلا بترك ما حرم الله,
خصوصا هذه الفواحش المذكورة.
وهي الخمر وهي كل ما خامر العقل أي: غطاه بسكره.
والميسر, وهو: جميع المغالبات, التي فيها عوض من الجانبين, كالمراهنة ونحوها.
والأنصاب, وهي: الأصنام والأنداد ونحوها, مما ينصب ويعبد من دون الله.
والأزلام, التي يقتسمون بها.
فهذه الأربعة, نهى الله عنها, وزجر, وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها,
واجتنابها.
فمنها: أنها رجس, أي: نجس, خبث معنى, وإن لم تكن نجسة حسا.
والأمور الخبيثة, مما ينبغي اجتنابها, وعدم التدنس بأوضارها.
ومنها: أنها من عمل الشيطان, الذي هو أعدى الأعداء للإنسان.
ومن المعلوم أن العدو يحذر منه, وتحذر مصايده وأعماله, خصوصا, الأعمال التي
يعملها, ليوقع فيها عدوه, فإنها فيها هلاكه.
فالحزم كل الحزم, البعد عن عمل العدو المبين, والحذر منهـا, والخوف من الوقوع
فيها.
ومنها: أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها.
فإن الفلاح هو: الفوز بالمطلوب المحبوب, والنجاة من المرهوب.
وهذه الأمور مانعة من الفلاح, ومعوقة له.
ومنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس, والشيطان حريص على بثها, خصوصا:
الخمر والميسر, ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء.
فإن في الخمر, من انقلاب العقل, وذهاب حجاه, ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين
إخوانه, من المؤمنين.
خصوصا, إذا اقترن بذلك من الأسباب, ما هو من لوازم شارب الخمر, فإنه ربما أوصل إلى
القتل.
وما في الميسر من غلبة أحدهما للآخر, وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة, ما هو من
أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء.
ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب, وتبعد البدن عن ذكر الله, وعن الصلاة, اللذين
خلق لهما العبد, وبهما سعادته.
فالخمر والميسر, يصدانه عن ذلك أعظم صد, ويشتغل قلبه, ويذهل لبه في الاشتغال بهما,
حتى يمضي عليه مدة طويلة, وهو لا يدري أين هو.
فأي معصية أعظم وأقبح, من معصية تدنس صاحبها, وتجعله من أهل الخبث, وتوقعه في
أعمال الشيطان وشباكه, فينقاد له, كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها, وتحول بين
العبد, وبين فلاحه, وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين, وتصد عن ذكر الله وعن
الصلاة؟!! فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟!! ولهذا عرض تعالى, على العقول
السليمة, النهي عنها, عرضا بقوله " فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ " .
لأن العاقل - إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد - انزجر عنها, وكفت نفسه, ولم يحتج إلى
وعظ كثير, ولا زجر بليغ.
" وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين "
طاعة الله وطاعة رسوله, واحدة, فمن أطاع الله, فقد أطاع الرسول, ومن
أطاع الرسول, فقد أطاع الله.
وذلك شامل للقيام, بما أمر الله به ورسوله, من الأعمال, والأقوال الظاهرة,
والباطنة, الواجبة والمستحبة, المتعلقة بحقوق الله, وحقوق خلقه, والانتهاء عما نهى
الله ورسوله عنه, كذلك.
وهذا الأمر أعم الأوامر, فإنه كما ترى يدخل فيه كل أمر ونهي, ظاهر, وباطن.
وقوله: " وَاحْذَرُوا " أي: من معصية الله,
ومعصية رسوله, فإن في ذلك, الشر والخسران المبين.
" فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ " عما أمرتم به, ونهيتم
عنه.
" فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ
الْمُبِينُ " وقد أدى ذلك.
فإن اهتديتم فلأنفسكم, وإن أسأتم فعليها, والله, هو الذي يحاسبكم.
والرسول قد أدى ما عليه, وما حمل به.
" ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين "
لما نزل تحريم الخمر, والنهي الأكيد والتشديد فيه, تمنى أناس من
المؤمنين, أن يعلموا حال إخوانهم, الذين ماتوا على الإسلام, قبل تحريم الخمر,
ويشربونها.
فأنزل الله هذه الآية, وأخبر تعالى أنه " لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ " أي: حرج وإثم " فِيمَا طَعِمُوا " من الخمر والميسر قبل تحريمها.
ولما كان نفي الجناح, يشمل المذكورات وغيرها, قيد ذلك بقوله: "
إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " أى بشرط
أنهم تاركون للمعاصي, مؤمنون بالله إيمانا صحيحا, موجبا لهم عمل الصالحات, ثم
استمروا على ذلك.
وإلا, فقد يتصف العبد بذلك, في وقت دون آخر.
فلا يكفي, حتى يكون كذلك, حتى يأتيه أجله, ويدوم على إحسانه, فإن الله يحب
المحسنين في عبادة الخالق المحسنين, في نفع العبيد.
ويدخل في هذه الآية الكريمة, من طعم المحرم, أو فعل غيره بعد التحريم, ثم اعترف
بذنبه, وتاب إلى الله, واتقى وعمل صالحا, فإن الله يغفر له, ويرتفع عنه الإثم في
ذلك.
" يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم "
هذا من منن الله على عباده, أن أخبرهم بما
سيفعل قضاء وقدرا, ليطيعوه, ويقدموا على بصيرة, ويهلك من هلك عن بينة, ويحيا من حي
عن بينة.
فقال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " لابد
أن يختبر الله إيمانكم.
" لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ " أي:
بشيء غير كثير, فتكون محنة يسيرة, تخفيفا منه تعالى ولطفا.
وذلك الصيد الذي يبتليكم الله به " تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِمَاحُكُمْ " أي: تتمكنون من صيده, ليتم بذلك الابتلاء, لا غير
مقدور عليه بيد, ولا رمح فلا يبقى للابتلاء فائدة.
ثم ذكر الحكمة في ذلك الابتلاء فقال: " لِيَعْلَمَ اللَّهُ
" علما ظاهرا للخلق يترتب عليه الثواب والعقاب "
مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ " .
فيكف عما نهى الله عنه, مع قدرته عليه, وتمكنه, فيثيبه الثواب الجزيل, ممن لا
يخافه بالغيب, فلا يرتدع عن معصية تعرض له فيصطاد ما تمكن منه.
" فَمَنِ اعْتَدَى " منكم "
بَعْدِ ذَلِكَ " البيان, الذي قطع الحجج, وأوضح السبيل.
" فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ " أي: مؤلم موجع, لا
يقدر على وصفه إلا الله, لأنه لا عذر لذلك المعتدي, والاعتبار بمن يخافه بالغيب,
وعدم حضور الناس عنده.
وأما إظهار مخافة الله عند الناس, فقد يكون ذلك, لأجل مخافة الناس, فلا يثاب على
ذلك.
" يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام "
ثم خرج بالنهي, عن قتل الصيد, في حال الإحرام فقال: "
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
" أي: محرمون في الحج والعمرة.
والنهي عن قتله, يشمل النهي عن مقدمات القتل, وعن المشاركة في القتل, والدلالة
عليه, والإعانة على قتله, حتى إن من تمام ذلك, أنه ينهى المحرم من أكل ما قتل, أو
صيد لأجله.
وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم, أنه يحرم على المحرم, قتل وصيد ما كان حلالا له
قبل الإحرام.
وقوله: " وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا " قتل
صيدا عمدا فعليه جزاء " مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ
" أى الإبل, أو البقر, أو الغنم.
فينظر ما يشبهه من ذلك, فيجب عليه مثله, يذبحه ويتصدق به.
والاعتبار بالمماثلة " يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ
" أي: عدلان يعرفان الحكم, ووجه الشبه, كما فعل الصحابة رضي الله
عنهم, حيث قضوا بالحمامة شاة, وفي النعامة بدنة, وفي بقر الوحش - على اختلاف أنواعه
- بقرة.
هكذا كل ما يشبه شيئا من النعم, ففيه مثله.
فإن لم يشبه شيئا, ففية قيمته, كما هو القاعدة في المتلفات.
وذلك الهدي لا بد أن يكون " هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ
" أي: يذبح في الحرم.
" أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ " أي:
كفارة ذلك الجزاء, طعام مساكين, أي: يجعل مقابل المثل من النعم, طعام يطعم
المساكين.
قال كثير من العلماء: يقوم الجزاء, فيشتري بقيمته طعام, فيطعم كل مسكين مد بر أو
نصف صاع من غيره.
" أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ " الطعام "
صِيَامًا " أي: يصوم عن إطعام كل مسكين يوما.
" لِيَذُوقَ " بإيجاب الجزاء المذكور عليه " وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ
" بعد ذلك " فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ " .
وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد, مع أن الجزاء يلزم المتعمد والمخظئ, كما هو
القاعدة الشرعية - أن المتلف للنفوس والأموال المحترمة, فإنه يضمنها على أي حال
كان, إذا كان إتلافه بغير حق.
لأن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام, وهذا للمتعمد.
وأما المخطئ, فليس عليه عقوبة, إنما عليه الجزاء.
هذا قول جمهور العلماء.
والصحيح, ما صرحت به الآية, أنه لا جزاء على غير المتعمد, كما لا إثم عليه.
" أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون "
ولما كان الصيد يشمل الصيد البري والبحري, استثنى تعالى, الصيد البحري
فقال: " أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ " أي
أحل لكم - في حال إحرامكم - صيد البحر وهو: الحي من حيواناته, وطعامه, وهو: الميت
منها, فدل ذلك على حل ميتة البحر.
" مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ " أي:
الفائدة في إباحته لكم أنه لأجل انتفاعكم, وانتفاع رفقتكم, الذين يسيرون معكم.
" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا
" .
ويؤخذ من لفظ " الصيد " أنه لا بد أن يكون وحشيا
لأن الإنسي ليس بصيد.
ومأكولا, فإن غير المأكول, لا يصاد, ولا يطلق عليه اسم الصيد.
" وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " أي:
اتقوه بفعل ما أمر به, وترك ما نهى عنه.
واستعينوا على تقواه بعلمكم, أنكم إليه تحشرون.
فيجازيكم, هل قمتم بتقواه فيثيبكم الثواب الجزيل, أم لم تقوموا, فيعاقبكم؟
" جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم "
يخبر تعالى, أنه جعل " الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ " .
يقوم, بالقيام بتعظيمه, دينهم ودنياهم, فبذلك يتم إسلامهم, وبه تحط أوزارهم, وتحصل
لهم - بقصده - العطايا الجزيلة والإحسان الكثير.
وبسببه تنفق الأموال, وتقتحم - من أجله - الأهوال.
ويجتمع فيه, من كل فج عميق, جميع أجناس المسلمين, فيتعارفون, ويستعين.
بعضهم ببعض, ويتشاورون المصالح العامة, وتنعقد بينهم الروابط, في مصالحهم الدينية
والدنيويه.
قال تعالى: " لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ " .
ومن أجل كون البيت قياما للناس قال من قال من العلماء: إن حج بيت الله, فرض كفاية
في كل سنة.
فلو ترك الناس حجه, لأثم كل قادر, بل لو ترك الناس حجه, لزال ما به قوامهم, وقامت
القيامة.
وقوله " وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ " أي: وكذلك
جعل الهدي والقلائد - التي هي أشرف أنواع الهدي - قياما للناس, ينتفعون بهما,
ويثابون عليها.
" ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "
.
فمن علمه, أن جعل لكم هذا البيت الحرام, لما يعلمه من مصالحكم الدينية والدنيوية.
" اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم "
"
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
" أي: ليكن هذان العلمان, موجودين في قلوبكم,
على وجه الجزم واليقين, تعلمون أن الله شديد العقاب - العاجل والآجل - على من
عصاه, وأنه غفور رحيم, لمن تاب إليه وأطاعه.
فيثمر لكم هذا العلم, الخوف من عقابه, والرجاء لمغفرته وثوابه.
وتعملون على ما يقتضيه الخوف والرجاء.
" ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون "
ثم قال تعالى: " مَا
عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ " وقد بلغ كما أمر, وقام بوظيفته,
وما سوى ذلك, فليس له من الأمر شيء.
" وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ "
فيجازيكم بما يعلمه - تعالى - منكم.
" قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون "
أي " قُلْ " للناس - محذرا عن الشر
ومرغبا في الخير -: " لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ
" من كل شيء.
فلا يستوي الإيمان والكفر, والطاعة والمعصية, ولا أهل الجنة وأهل النار, ولا
الأعمال الخبيثة والأعمال الطيبة, ولا يستوي المال الحرام, بالمال الحلال.
" وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ " فإنه
لا ينفع صاحبه شيئا, بل يضره.
في دينه ودنياه.
" فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ " .
فأمر أولي الألباب, أي: أهل العقول الوافية, والآراء الكاملة, فإن الله تعالى يوجه
إليهم الخطاب.
وهم: الذين يؤبه لهم, ويرجى أن يكون فيهم خير.
ثم أخبر أن الفلاح, متوقف على التقوى, التي هي موافقة الله, في أمره ونهيه.
فمن اتقاه, أفلح كل الفلاح.
ومن ترك تقواه, حصل له الخسران, وفاتته الأرباح.
" يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم "
ينهى عباده المؤمنين, عن سؤال الأشياء, التي
إذا بينت لهم, ساءتهم وأحزنتهم.
وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم, عن آبائهم, وعن حالهم في
الجنة أو النار.
فهذا ربما أنه, لو بين للسائل, لم يكن له فيه خير, كسؤالهم للأمور غير الواقعة.
وكالسؤال, الذي يترتب عليه, تشديدات في الشرع, ربما أحرجت الأمة.
وكالسؤال عما لا يعني.
فهذه الأسئلة, وما أشبهها, هى المنهي عنها.
وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شيء من ذلك, فهو مأمور به, كما قال تعالى: " فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
" .
" وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ
تُبْدَ لَكُمْ " أي: وإذا وافق سؤالكم محله, فسألتم عنها, حين ينزل
عليكم القرآن, فتسألون عن آية أشكلت, أو حكم خفي وجهه عليكم, في وقت يمكن فيه نزول
الوحي من السماء, تبدلكم, أي: تبين لكم وتظهر, وإلا, فاسكتوا عما سكت الله عنه.
" عَفَا اللَّهُ عَنْهَا " أي: سكت معافيا لعباده
منها.
فكل ما سكت الله عنه, فهو مما أباحه, وعفا عنه.
" وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " أي: لم يزل
بالمغفرة موصوفا, وبالحلم والإحسان معروفا.
فتعرضوا لمغفرته وإحسانه, واطلبوه, من رحمته ورضوانه.
" قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين "
وهذه المسائل التي نهيت عنها " قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ " أي: جنسها
وشبهها, سؤال تعنت لا استرشاد.
فلما بينت لهم وجاءتهم " أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ " كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ما نهيتكم
عنه فاجتنبوه, وما أمرتكم به, فأتوا منه ما استطعتم, فإنما أهلك من كان قبلكم,
كثرة مسائلهم, واختلافهم على أنبيائهم "
" ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون "
هذا ذم للمشركين, الذين شرعوا في الدين, ما لم يأذن به الله, وحرموا ما
أحله الله.
فجعلوا بآرائهم الفاسدة, شيئا من مواشيهم محرما, على حسب اصطلاحاتهم, التي عارضت
ما أنزل الله, فقال: " مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ
" وهي: ناقة, يشقون أذنها, ثم يحرمون ركوبها, ويرونها محترمة.
" وَلَا سَائِبَةٍ " وهي: ناقة, أو بقرة, أو شاة,
إذا بلغت سنا اصطلحوا عليه, سيبوها, فلا تركب, ولا يحمل عليها, ولا تؤكل, وبعضهم
ينذر شيئا من ماله, يجعله سائبة.
" وَلَا حَامٍ " أي: جمل يحمى ظهره عن الركوب
والحمل, إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم.
فكل هذه, مما جعلها المشركون محرمة, بغير دليل ولا برهان.
وإنما ذلك, افتراء على الله, وصادرة من جهلهم, وعدم عقلهم, ولهذا قال: " وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ " .
فلا نقل فيها ولا عقل, ومع هذا, فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم.
" وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون "
فإذا دعوا " إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ " أعرضوا, فلم يقبلوا, و " قَالُوا
حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا " من الدين, ولو كان غير
سديد, ولا دينا ينجي من عذاب الله.
ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية, لهان الأمر.
ولكن آباءهم لا يعقلون شيئا, أي, ليس عندهم من المعقول شيء, ولا من العلم والهدى,
شيء.
فتبا لمن قلد من لا علم عنده صحيح, ولا عقل رجيح, وترك اتباع ما أنزل الله, واتباع
رسله, الذي يملأ القلوب, علما, وإيمانا, وهدى, وإيقانا
" يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون "
يقول تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ " أي: اجتهدوا في إصلاحها, وكمالها, وإلزامها
سلوك الصراط المستقيم.
فإنكم - إذا صلحتم - لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم, ولم يهتد إلى الدين
القويم, وإنما يضر نفسه.
ولا يدل هذا, أن الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, لا يضر العبد تركهما
وإهمالهما.
فإنه لا يتم هداه, إلا بالإتيان بما يجب عليه, من الأمر بالمعروف, والنهي عن
المنكر.
نعم, إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر, بيده, ولسانه, وأنكره بقلبه, فإنه لا يضرة
ضلال غيره.
وقوله " إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا " أي:
مآلكم, يوم القيامة, واجتماعكم بين يدي الله تعالى.
" فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " من
خير وشر.
" يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين "
يخبر تعالى خبرا متضمنا للأمر, بإشهاد اثنين على الوصية, إذا حضر
الإنسان مقدمات الموت وعلائمه.
فينبغي له, أن يكتب وصيته, ويشهد عليها اثنين, ذوي عدل, ممن يعتبر, شهادتهما.
" أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ " أي: من غير
أهل دينكم, من اليهود, أو النصارى, أو غيرهم, وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرها
من المسلمين.
" إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ " أي:
سافرتم فيها.
" فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ " أي:
فأشهدوهما.
ولم يأمر يإشهادهما, إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول, ويؤكد عليهما, أن يحبسا " مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ " التي يعظمونها.
" فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ " أنهما صدقا, وما
غيرا, ولا بدلا.
هذا " إِنِ ارْتَبْتُمْ " في شهادتهما, فإن
صدقتموها, فلا حاجة إلى القسم بذلك.
ويقولان: " لَا نَشْتَرِي بِهِ " أي: بأيماننا " ثَمَنًا " بأن نكذب فيها, لأجل عرض من الدنيا.
" وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى " فلا نراعيه لأجل
قربة منا " وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ " بل
نؤديها على ما سمعناها " إِنَّا إِذًا " أي: إن
كتمناها " لَمِنَ الْآثِمِينَ " .
" فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين "
"
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا " أي:
الشاهدين " اسْتَحَقَّا إِثْمًا " بأن وجد من
القرآن, ما يدل على كذبهما, وأنهما خانا, فآخران يقومان مقامهما من.
الذين استحق عليهما الأوليان.
أي: فيقم رجلان من أولياء الميت, وليكونا من أقرب الأولياء إليه.
" فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ
شَهَادَتِهِمَا " أي: أنهما كذبا, وغيرا, وخانا.
" وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ
" أي: إن ظلمنا واعتدينا, وشهدنا بغير الحق.
قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها, وردها على أولياء الميت, حين
تظهر من الشاهدين الخيانة.
" ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين "
"
ذَلِكَ أَدْنَى " أي: أقرب "
أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا " حين تؤكد عليهما تلك
التأكيدات.
" أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ
أَيْمَانِهِمْ " أي: أن لا تقبل أيمانهم, ثم ترد على أولياء الميت.
" وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " أي:
الذين وصفهم الفسق, فلا يريدون.
الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم.
وحاصل هذا, أن الميت - إذا حضره الموت في سفر ونحوه, مما هو مظنة قلة الشهود
المعتبرين أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين.
فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين, جاز أن يوصي إليها.
ولكن لأجل كفرهما, فإن الأولياء, إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما بعد الصلاة,
أنهما ما خانا, ولا كذبا, ولا غيرا, ولا بدلا, فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما.
فإن لم يصدقوهما, ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين فإن شاء أولياء الميت, فليقم
منهم اثنان, فيقسمان بالله: لشهادتهما أحق من شهادة الشاهدين, الأولين, وأنهما
خانا وكذبا, فيستحقون منهما ما يدعون.
وهذه الآيات الكريمة, نزلت في قصة " تميم الداري " و
" عدي بن بداء " المشهورة حين أوصى لهما العدوي,
والله أعلم ويستدل بالآيات الكريمات, على عدة أحكام.
منها: أن الوصية مشروعة, وأنه ينبغي لمن حضره الموت, أن يوصي.
ومنها: أنها معتبرة, لو كان الإنسان وصل إلى مقدمات الموت وعلامته, ما دام عقله
ثابتا.
ومنها: أن شهادة الوصية, لابد فيها من اثنين عدلين - ومنها: أن شهادة الكافرين في
هذه الوصية ونحوها, مقبولة لوجود الضرورة.
وهذا مذهب الإمام أحمد.
وزعم كثير من أهل العلم: أن هذا الحكم منسوخ.
وهذه دعوى لا دليل عليها.
ومنها: أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه, أن شهادة الكفار عند عدم غيرهم,
حتى في غير هذه المسألة - مقبولة, كما ذهب إلى ذلك, شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومنها: جواز سفر المسلم مع الكافر, إذا لم يكن محذور.
ومنها: جواز السفر للتجارة.
ومنها: أن الشاهدين - إذا ارتيب منهما, ولم تبد قرينة تدل على خيانتهما, وأراد
الأولياء - أن يؤكدوا عليهما اليمين, يحبسونهما من بعد الصلاة, فيقسمان بصفة ما
ذكر الله تعالى.
ومنها: أنه إذا لم تحصل تهمة ولا ريب لم يكن حاجة إلى حبسهما, وتأكيد اليمين
عليهما.
ومنها: تعظيم أمر الشهادة, حيث أضافها تعالى, إلى نفسه, وأنه يحب الاعتناء بها,
والقيام بها, بالقسط.
ومنها: أنه يجوز امتحان الشاهدين, عند الريبة منهما, وتفريقهما, لينظر في قيمة
شهادتهما صدقا أو كذبا.
ومنها: أنه إذا وحدت القرائن الدالة على كذب الوصيين في هذه المسألة - قام اثنان
من أولياء الميت, فأقسما بالله.
أن أيماننا أصدق من أيمانهما, ولقد خانا وكذبا.
ثم يدفع إليهما ما ادعياه, وتكون القرينة - مع أيمانهما - قائمة مقام البينة.
" يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا
أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ "
يخبر تعالى, عن يوم القيامة, وما فيه من الأهوال العظام, وأن الله يجمع به جميع
الرسل فيسألهم.
" مَاذَا أُجِبْتُمْ " أي: ماذا أجابتكم به
أممكم؟ " قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا " وإنما العلم
لك - يا ربنا, فأنت أعلم منا.
" إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ " أي: تعلم
الأمور الغائبة والحاضرة.
" إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين "
" إِذْ
قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى
وَالِدَتِكَ " أي: اذكرها بقلبك ولسانك, وقم
بواجبها شكرا لربك, حيث أنعم عليك نعما, ما أنعم بها على غيرك.
" إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ " أي: إذ
قويتك بالروح والوحي, الذي طهرك وزكاك, وصار لك قوة على القيام بأمر الله والدعوة
إلى سبيله.
وقيل: إن المراد " بروح القدس " جبريل عليه
السلام, وأن الله أعانه به, وبملازمته له, وتثبيته, في المواطن المشقة.
" تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا " المراد
بالتكليم هنا, غير التكليم المعهود الذي هو مجرد الكلام.
وإنما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم والمخاطب, وهو الدعوة إلى الله.
ولعيسى عليه السلام من ذلك, ما لإخوانه, من أولي العزم, من المرسلين, من التكليم
في حال الكهولة, بالرسالة والدعوة إلى الخير, والنهي عن الشر.
وامتاز عنهم, بأنه كلم الناس في المهد فقال: " إِنِّي عَبْدُ
اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ
مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا " الآية.
" وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ " فالكتاب,
يشمل الكتب السابقة, وخصوصا التوراة, فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل - بعد موسى
- بها.
ويشمل الإنجيل الذي أنزله الله عليه.
والحكمة: معرفة أسرار الشرع, وفوائده, وحكمه وحسن الدعوة والتعليم, ومراعاة ما
ينبغي, على الوجه الذي ينبغي.
" وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ "
أي: طيرا مصورا, لا روح فيه.
" فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ " الذي: لا بصر له ولا عين.
" وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى
بِإِذْنِي " .
فهذه آيات بينات, ومعجزات باهرات, يعجز عنها الأطباء وغيرهم.
أيد الله بها عيسى, وقوى بها دعوته.
" وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ " لما جاءهم
الحق مؤيدا بالبينات الموجبة للإيمان به.
" إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ " .
وهموا بعيسى أن يقتلوه, وسعوا في ذلك.
فكف الله أيديهم عنه, وحفظه منهم, وعصمه.
فهذه منن, امتن الله بها على عبده ورسوله, عيسى ابن مريم, ودعاه إلى شكرها,
والقيام بها.
فقام بها عليه السلام, أتم القيام, وصبر كما صبر إخوانه, من أولي العزم.
" وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون "
أي: واذكر نعمتي عليك, إذ يسرت لك أتباعا وأعوانا.
فأوحيت إلى الحواريين أي: ألهمتهم, وأوزعت قلوبهم الإيمان بي وبرسولي, وأوحيت
إليهم على لسانك, أي: أمرتهم بالوحي الذي جاءك من عند الله.
فأجابوا لذلك وانقادوا, وقالو: آمنا, واشهد بأننا مسلمون.
فجمعوا بين الإسلام الظاهر: والانقياد بالأعمال الصالحة والإيمان الباطن, المخرج
لصاحبه من النفاق, ومن ضعف الإيمان.
والحواريون هم: الأنصار, كما قال عيسى بن مريم للحواريين: "
مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
" .
" إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين "
" إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ
" أي: مائدة فيها طعام.
وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله, واستطاعته على ذلك.
وإنما ذلك, من باب العرض والأدب منهم.
ولما كان سؤال آيات الاقتراح منافيا للانقياد للحق, وكان هذا الكلام الصادر من
الحواريين, ربما أوهم ذلك, وعظهم عيسى عليه السلام فقال: "
اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " فإن المؤمن, يحمله ما
معه من الإيمان على ملازمة التقوى, وأن ينقاد لأمر الله, ولا يطلب من آيات
الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها.
فأخبر الحواريون, أنهم ليس مقصودهم هذا المعنى, وإنما لهم مقاصد صالحة.
" قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين "
لأجل الحاجة إلى ذلك " قَالُوا نُرِيدُ أَنْ
نَأْكُلَ مِنْهَا " وهذا دليل على.
أنهم محتاجون لها.
" وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا " بالإيمان, حين نرى
الآيات العيانية, حتى يكون الإيمان عين اليقين.
كما سأل الخليل, عليه الصلاة والسلام ربه, أن يريه كيف يحيي الموتى " قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي " .
فالعبد محتاج إلى زيادة العلم, واليقين, والإيمان كل وقت, ولهذا قال: " وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا " أي: نعلم صدق ما
جئت به, أنه حق وصدق.
" وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ " فتكون
مصلحة لمن بعدنا, نشهدها لك, فتقوم الحجة, ويحصل زيادة البرهان بذلك.
" قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين "
فلما سمع عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك,
وعلم مقصودهم, أجابهم إلى طلبهم في ذلك.
فقال: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً
مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ
" أي: يكون وقت نزولها, عيدا وموسما, يتذكر به هذه الآية العظيمة,
فتحفظ ولا تنسى على مرور الأوقات, وتكرر السنين.
كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم, مذكرة لآياته, ومنبها على سنن
المرسلين وطرقهم القويمة, وفضله وإحسانه عليهم.
" وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ " أي:
اجعلها لنا رزقا.
فسأل عيسى عليه السلام نزولها أن تكون لهاتين المصلحتين, مصلحة الدين, بأن تكون
آية باقية, ومصلحة الدنيا, وهي أن تكون رزقا.
" قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين "
" قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ
يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا
مِنَ الْعَالَمِينَ " لأنه شاهد الآية
الباهرة وكفر, عنادا وظلما, فاستحق العذاب الأليم, والعقاب الشديد.
واعلم أن الله تعالى وعد أنه سينزلها, وتوعدهم إن كفروا - بهذا الوعيد.
ولم يذكر أنه أنزلها.
فيحتمل أنه لم ينزلها, بسبب أنهم لم يختاروا ذلك.
ويدل على ذلك, أنه يذكر في الإنجيل الذي بأيدي النصارى, ولا له وجود.
ويحتمل أنها.
نزلت, كما وعد الله, وأنه لا يخلف الميعاد.
ويكون عدم ذكرها في الأناجيل التي بأيديهم, من الحظ الذي ذكروا به فنسوه.
أو أنه يذكر في الإنجيل أصلا, وإنما ذلك كان متوارثا بينهم, ينقله الخلف عن السلف,
فاكتفى الله بذلك, عن ذكره في الإنجيل.
ويدل على هذا المعنى قوله " وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ
الشَّاهِدِينَ " والله أعلم بحقيقة الحال.
" وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب "
"
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ " .
وهذا توبيخ للنصارى, الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة فيقول الله هذا الكلام
لعيسى.
فيتبرأ منه عيسى ويقول " سُبْحَانَكَ " عن هذا
الكلام القبيح, وعما لا يليق بك.
" مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ
" أي: ما ينبغي لي, ولا يليق أن أقول شيئا, ليس من أوصافي, ولا من
حقوقي.
فإنه ليس أحد من المخلوقين, لا الملائكة المقربون, ولا الأنبياء المرسلين.
ولا غيرهم, له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية.
وإنما الجميع عباد, مدبرون, وخلق مسخرون, وفقراء عاجزون.
" إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ " فأنت أعلم بما صدر مني.
" إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ " وهذا من
كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسلام, في خطابه لربه.
فلم يقل عليه السلام " لم أقل شيئا من ذلك " .
وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف,.
وأن هذا من الأمور المحالة.
ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه, ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة.
" ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد "
ثم صرح بذكر ما اتسم به بني إسرائيل فقال: " مَا
قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ " فأنا عبد متبع لأمرك, لا
متجرئ على عظمتك.
" أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ " أي:
ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده, وإخلاص الدين له, المتضمن للنهي, عن اتخاذي وأمي
إلهين من دون الله, وبيان أني عبد مربوب, فكما أنه ربكم فهو ربي.
" وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ " أشهد
على من قام بهذا الأمر, ممن لم يقم به.
" فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ
عَلَيْهِمْ " أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم.
" وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " علما
وسمعا وبصرا.
فعلمك قد أحاط بالمعلومات, وسمعك بالمسموعات, وبصرك بالمبصرات, فأنت الذي تجازي
عبادك, بما تعلمه فيهم من خير وشر.
" إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "
" إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ " وأنت
أرحم بهم من أنفسهم, وأعلم بأحوالهم, فلولا أنهم عباد متمردون, لم تعذبهم.
" وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ " أي: فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة, لا كمن يغفر
ويعفو, عن عجز وعدم قدرة.
الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك, أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة.
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم "
"
قَالَ اللَّهُ " مبينا لحال عباده يوم
القيامة, ومن الفائز منهم, ومن الهالك, من الشقي, ومن السعيد.
" هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ " والصادقون
الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم, ونياتهم, على الصراط المستقيم, والهدى القويم.
فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق, إذا أحلهم الله في مقعد صدق, عند مليك مقتدر.
ولهذا قال: " لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " .
والكاذبون بضدهم, سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم, وثمرة أعمالهم الفاسدة.
" لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير "
" لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ
" لأنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه
القدري, وحكمه الشرعي, وحكمه الجزائي, ولهذا قال: " وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " فلا يعجزه شيء, بل جميع الأشياء منقادة
لمشيئته, ومسخرة بأمره.