يوم العتق من النار (عرفة) فضائله وأحكامه
ويومُ عَرَفَةَ هو يومُ العتقِ مِن النَّارِ: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «ما مِن يومٍ أَكثرَ من أنْ يُعتِقَ اللهُ فيهِ عبداً من النارِ مِن يومِ عَرَفَةَ، وإنهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُباهي بهِمِ الملائكةَ فيقُولُ: ما أرادَ هؤلاءِ»
الحمدُ لله الذي فضَّلَ يومَ عرفةَ على أكثرِ الأيام، وجَعَلَهُ مَوْسِمَاً لعتقِ الرِّقابِ ومغفرةِ الذنوبِ والآثام، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أتقى مَن وَقَفَ بعَرَفةَ وطافَ بالبيتِ الحَرام، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلى آله وأصحابهِ.
أما بعد: فيا أيها الناسُ اتقوا الله تعالى، واغتنمُوا أيامكم هذهِ الْمُفضَّلاتِ قبلَ فواتِها، قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، قال ابنُ عبَّاسٍ: (أيامُ العَشْرِ) رواه البخاري.
وفيهنَّ اليومُ التاسعُ، المخصوصُ بالفضلِ العظيمِ الواسعِ، فقد أقْسَمَ اللهُ به: فقال: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}، قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: {إنَّ المشهُودَ يومُ عَرَفَةَ} رواه الطبراني في الكبير، وحسَّنه الألباني.
وأكمَلَ اللهُ لنا فيهِ الدِّينَ، وجعَلَهُ يومَ عيدٍ: فعنْ طارقِ بنِ شِهَابٍ قالَ: (جاءَ رَجُلٌ منَ اليهُودِ إلى عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه، فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ: آيةٌ في كِتابكُم تَقْرَؤونَها، لو علينا نَزَلَتْ مَعْشَرَ اليهُودِ لاتَّخَذنا ذلكَ اليومَ عيداً، قالَ رضي الله عنه: وأَيُّ آيةٍ؟ قالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فقالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إني لأَعلَمُ اليومَ الذي نَزَلَتْ فيهِ، والمكانَ الذي نَزَلَتْ فيهِ، نَزَلَتْ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعَرَفَاتٍ في يومِ جُمُعَةٍ) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم، وقال ابنُ عباس في قولهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}: (فإنها نَزَلَتْ في يومِ عِيدينِ: في يومِ جُمُعَةٍ، ويومِ عَرَفَةَ) رواه الترمذي وصحَّحه الألباني.
وهو أحدُ أيَّام عشرِ ذي الْحِجَّةِ: التي قال فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «ما العَمَلُ في أيَّامٍ أَفضَلَ منها في هذهِ»؟ قالُوا: ولا الجهادُ؟ قالَ: «ولا الجهادُ، إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنفسِهِ ومالِهِ، فلَم يَرْجِع بشيءٍ» (رواه البخاري) ، قال القرطبيُّ: (يومُ عَرَفَةَ فضلُهُ عظيمٌ، وثوابُهُ جسيمٌ، يُكفِّرُ اللهُ فيهِ الذُّنوبَ العِظامَ، ويُضاعِفُ فيهِ الصالحُ من الأعمالِ) انتهى.
ويومُ عَرَفَةَ هو يومُ العتقِ مِن النَّارِ: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «ما مِن يومٍ أَكثرَ من أنْ يُعتِقَ اللهُ فيهِ عبداً من النارِ مِن يومِ عَرَفَةَ، وإنهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُباهي بهِمِ الملائكةَ فيقُولُ: ما أرادَ هؤلاءِ» (رواه مسلم)، قال ابنُ رجبٍ: (يومُ عرفةَ هو يومُ العتقِ من النارِ، فيُعتقُ اللهُ من النارِ مَن وَقَفَ بعرفةَ ومَن لم يقف بها من أهلِ الأمصارِ من المسلمين، فلذلكَ صارَ اليومُ الذي يليه عيداً لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، مَن شَهِدَ الموسمَ منهم ومَن لم يشهده لاشتراكهم في العتقِ والمغفرةِ يومَ عرفة).
والدُّعاءُ فيهِ هُو خيرُ الدُّعاءِ وأفضلُه وأجوَبُهُ: قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «خيرُ الدُّعاءِ دُعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قُلتُ أنا والنبيُّونَ من قبلي: لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهوَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ» رواه الترمذي وحسَّنه الألباني.
قال القاري: («خَيْرُ الدُّعاءِ دُعاءُ يومِ عَرَفةَ» لأنهُ أَجْزَلُ إثابَةً وأَعْجَلُ إجَابَةً) انتهى.
وقال ابن عبد البرِّ: (في الحديثِ.. دليلٌ على أنَّ دُعاءَ يومِ عَرَفَةَ مُجابٌ كُلُّهُ في الأغلَبِ) انتهى.
وقالَ أُسامةُ بنُ زيدٍ رضيَ اللهُ عنهما: (كُنتُ رَدِيفَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعَرَفَاتٍ فرَفَعَ يدَيْهِ يَدْعُو، فَمَالَتْ بهِ ناقَتُهُ فسَقَطَ خِطامُهَا، فتَنَاوَلَ الخِطَامَ بإحْدَى يدَيْهِ وهُوَ رافِعٌ يَدَهُ الأُخْرَى) رواه النسائي وجوَّد إسناده ابنُ حَجَر.
ويومُ عَرَفةَ هو أغيظُ يومٍ يَمُرُّ على الشيطانِ، رُويَ عنه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنه قال: «ما رُئِيَ الشيطانُ يوماً هُوَ فيهِ أصغَرُ ولا أَدْحَرُ ولا أَحْقَرُ ولا أَغْيَظُ منهُ في يومِ عَرَفَةَ، وما ذاكَ إلاَّ لِما رَأَى مِن تَنَزُّلِ الرَّحمةِ، وتجاوُزِ اللهِ عنِ الذُّنوبِ العِظامِ، إلاَّ ما أُرِيَ يومَ بدرٍ، قيلَ: وما رأَى يومَ بدرٍ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: أمَا إنَّهُ قد رأَى جبرِيلَ يَزَعُ الملائكةَ» رواه مالكٌ مرسلاً وحَسَّنه البيهقي، قال ابنُ عبد البرِّ: (هذا حديثٌ حَسَنٌ في فضلِ شُهُودِ ذلكَ الموقِفِ المُباركِ.. وفيهِ دليلٌ على أنَّ كُلَّ مَن شَهِدَ تلكَ المشاهِدَ يَغفِرُ اللهُ لهُ إن شاءَ اللهُ) انتهى.
وإدراكُ الحجِّ بالوقوفِ بعرفةَ: قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «الْحَجُّ عَرفَةُ» رواه الترمذي وجوَّد إسناده ابن عيينة، وقال وكيعٌ: (هذا الحديثُ أُمُّ المناسِكِ) انتهى، ويُباهي اللهُ بأهلِ عَرَفاتٍ، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إنَّ اللهَ يُباهي بأهلِ عَرَفَاتٍ أهلَ السماءِ، فيقُولُ لَهُمْ: انظُرُوا إلى عِبادِي جَاءُوني شُعْثاً غُبْراً» رواه البيهقي وصحَّحه النووي.
قال شيخُ الإسلامُ ابنُ تيمية: (فإنهُ من المعلُومِ أنَّ الْحَجِيجَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَنزِلُ على قُلُوبهِم من الإيمانِ والرَّحْمَةِ والنُّورِ والبرَكَةِ ما لا يُمكِنُ التعبيرُ عنهُ) انتهى.
وصومُ عَرَفَةَ أفضلُ يومٍ يُصامُ تطوُّعاً، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «صيامُ يومِ عَرَفَةَ أحتَسِبُ على اللهِ أن يُكَفِّرَ السَّنةَ التي قَبْلَهُ، والسَّنَةَ التي بَعْدَهُ» (رواه مسلم)، و(سُئِلَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن صَومِ يومِ عَرَفَةَ؟ فقالَ: «يُكَفِّرُ السَّنةَ الماضِيَةَ والباقيَةَ» (رواه مسلم) .
وليُعلَم: أنه ليسَ مِن سُنَّةِ يومِ عرفةَ أن يجتمعَ الناسُ في مساجدِ بلدانهم بعدَ العَصْرِ للدُّعاءِ والذكرِ، فعن أبي حفصٍ الْمَدَنِيِّ قالَ: (اجتَمَعَ الناسُ يومَ عَرَفَةَ في مسجدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَدْعُونَ بعدَ العَصْرِ، فخَرَجَ نافعٌ مولى ابنِ عُمَرَ مِن دارِ آلِ عُمَرَ فقالَ: أيُّها الناسُ، إنَّ الذي أنتُم عليهِ بدعَةٌ وليسَتْ بسُنَّةٍ، إنَّا أَدْرَكْنَا الناسَ ولا يَصْنَعُونَ مِثلَ هذا، ثُمَّ رجَعَ فلمْ يَجلِسْ، ثمَّ خرَجَ الثانيَةَ ففَعَلَ مثلَهَا، ثُمَّ رَجَعَ) رواه ابن وضَّاح في البدع والنهي عنها.
وقال ابنُ وهبٍ: (سَمِعتُ مالِكَاً يُسأَلُ عن جُلُوسِ الناسِ في المسجدِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بعدَ العصرِ واجتماعهم للدُّعَاءِ؟ فقالَ: ليسَ هذا مِن أمرِ الناسِ، وإنما مفاتيحُ هذهِ الأشياءِ مِن البدعِ) انتهى.
رزقني اللهُ وإيَّاكُم حُسْنَ العَمَلِ في بقيَّةِ هذهِ العشْرِ المباركاتِ، وأعاننا على ذِكْرِهِ وشُكْرِهِ وحُسْنِ عِبادتهِ، آمين.
الخطبة الثانية
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم عبدُه ورسولُه.
أمَّا بعدُ: (فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخير الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَر الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُل بدعَةٍ ضَلالَةٌ)، و (لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ).
أمَّا بعدُ: فيا عباد الله: لئن شطَّت بكم عوائقُ عن مقامِ أهلِ عَرَفَةَ، فقد شاركتموهم في الإسلامِ والإيمانِ، وشُرِعَ لكم اجتماعٌ بصلاةِ العيدِ يُقارِبُ اجتماعَهُم، ولئن اجتمَعَ الْحُجَّاجُ بمنىً يومَ العيدِ يَستكملونَ مَنَاسكَ الْحَجِّ، ويتقرَّبون إلى الله بالعَجِّ والثجِّ، فقد شَرَعَ اللهُ لكم الخروجَ إلى صلاةِ العيدِ والتقرُّبَ إليهِ بذبح الأضاحي، قال ابن عبد البرِّ: (وقدْ رُوِيَ في فضلِ الضَّحايا آثارٌ حِسَانٌ، فمنها.. عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «ما مِن نفَقَةٍ بعدَ صِلَةِ الرَّحِمِ أعظَمُ عندَ اللهِ مِنْ إهراقِ الدَّمِ» انتهى.
فأَحْيُوا سُنَّةَ أبيكِم إبراهيمَ بإهراقِ الدِّماءِ في ذلكَ اليومِ العظيمِ، وأفضلُها: أكرَمُها وأسمَنُها وأغلاها، وتُجزي الشاةُ عن الرَّجُلِ وأهلِ بيتهِ، والبَدَنةُ عن سَبْعِ شِياهٍ، والْمُجْزي مِنَ الضأنِ ما تَمَّ له سِتَّةُ أشهرٍ، ومِن الإبلِ ما تَمَّ له خَمْسُ سِنينَ، ومِنَ البَقَرِ ما تَمَّ له سَنَتانِ، ومِنَ الْمَعْزِ ما تَمَّ له سَنَةٌ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (لا يُضَحَّى بالعَرْجَاءِ بَيِّنٌ ظَلَعُهَا، ولا بالعَوْرَاءِ بَيِّنٌ عَوَرُها، ولا بالمريضةِ بَيِّنٌ مَرَضُها، ولا بالعَجْفَاءِ التي لا تُنْقِي) رواه الترمذيُّ وصحَّحه، وقال: (والعَمَلُ على هذا الحديثِ عندَ أهلِ العِلْمِ) انتهى.
ويُكره العضباءُ التي قُطعَ أكثرُ أُذُنِها أو قرنها، ويُستحبُّ أن تأكل منها وتتصدَّق، لعموم قولِ الله تبارك وتقدَّس: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، ولقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فَكُلُوا وادَّخِرُوا وتصَدَّقُوا» رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم، ووقتُ الذبح مِن انقضاءِ صلاةِ العيدِ إلى آخرِ اليوم الثالثِ مِن أيام التشريق.
- التصنيف: