العيد وأيام التشريق
هي أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى، فلا يشرع صومها، وهي الأيام المعدودات المقصودة في قول المولى عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قدوة الصالحين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين.. أما بعد:
ففي يوم غد - إن شاء الله - يشرق على أمة الإسلام يوم عيد الأضحى المبارك، واليوم الثاني من أيام عيد الأضحى المبارك، وهو أول أيام التشريق وهي: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وهي أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى، فلا يشرع صومها فعَنْ مَسْعُودِ بْنِ الْحَكَمِ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الزُّرَقِيِّ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ قَالَتْ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِي اللَّه عَنْهم وَهُوَ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْضَاءِ حِينَ وَقَفَ عَلَى شِعْبِ الأَنْصَارِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَيَّامِ صِيَامٍ إِنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ».[1]
وهي الأيام المعدودات المقصودة في قول المولى عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما.
وفي هذا اليوم يؤدي الحاج عددًا من المناسك، مستكملاً عبادة الحج، من رمي وطواف ونحر وحلق، ومبيت بمنى، أعمال شتى تتوزع الحجيج في مواطن متفرقة، رحمة بهم ورفقا. ولله در الشاعر حين صور تلك المشاهد الجميلة المليئة بالحركة الدؤوب في قوله:
محلقين تهادوا في رحالهم
من بطن مكة أفرادًا وأقرانا
حلوا حقائبهم فيها مفرغة
واستحقبوا من عطاء الله غفرانا
من بعدما طوفوا بالبيت واعتمروا
واستلموا منه أحجارًا وأركانا
ورددوا السعي بين المروتين تقًى
حينًا عجالاً وفوق الريث أحيانا
وعقروا بمنى من بعد حلقهم
كوم المطي مسنَّاتٍ وثنيانا
واستمطروا بعراص الموقفين وقد
غامت عليهم سماء الله رضوانا
أرض تراها طوال الدهر مقفرة
والحج ينبتها شيبًا وشبانا
مسبلين كأن البعث أعجلهم
فاستصحبوا من بطون الأرض أكفانا
لله در الليالي في منًى سلفت
فكم جميل بها الرحمن أولانا
وكان الصحابة وسلفهم يكثرون من التكبير في هذه الأيام في منى، وفي كل مكان، وخلف الصلوات خصوصاً، وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز في لياليها مع الرجال في المسجد.
وهي تتمة ليوم العيد في القيام بأفضل عمل فيه وهو إنهار دم الأضاحي، فذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها؛ لأنها عبادة الوقت، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ولأن من مقاصد الأضاحي إظهار شعائر الله، وإطعام المساكين، ولا سيما اللحم الذي يشتهيه المساكين سائر العام، ولكن يعسر على أكثرهم شراؤه، وفي بلدان كثيرة من أمة الإسلام من لا يذوق اللحم إلا نادرا، بل ربما لم يجدوا ما يسد جوعتهم، وهناك من الهيئات الإسلامية الموثوقة في بلادنا ولله الحمد من يقوم بالتوكل عن المضحي هناك فيذبح عنه ويطعم، وفي هذا مع أجر الإطعام أجر إظهار الشعيرة بينهم، وتأكيد انتمائهم لدينهم، وارتباطهم بإخوانهم المسلمين، وتحصين لهم من إرساليات الديانات الأخرى، التي تستغل فقرهم وحاجتهم، وهذه المشاركة ظاهرة النفع ولن تؤثر في الغالب على ظهور الشعيرة في بلدان المسلمين الغنية لكثرة الأضاحي فيها. على أني أخص من ليس لديه سوى أضحية واحدة بأن يذبحها في بلده، وأما من لديه أكثر من ذلك، فليجعل لإخوانه الفقراء في بلاد الله الأخرى نصيبا.
أخي المسلم..
وجدير بنا أن نقف - في ختام هذه الجلسات - مع أهم أسرار الحج، وهو أنه يربطنا بقدوتنا العظمى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال: «خذوا عني مناسككم»، فالمسلم الذي راح يسأل ويتحرى أن يكون حجه كله وفق الهدي النبوي الكريم، يرجو ألا يحيد عنه، رجاء قبوله، ينبغي له كذلك أن يتأسى به في كل حياته، فالله تعالى يقول في محكم التنزيل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}. إنها آية عظيمة تضع المسلم أمام حقيقة ربما غفل عنها في خضم الحياة، وهي أن حياة الإنسان كلها، بل ومماته يجب أن يكونا وفق نهجه وهديه كما هو شأن صلاته وعبادته المحضة، يتقفى في ذلك كله أثر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فلا يستعير منهجا لماله من جهة، ومنهجا لأسرته من جهة ثانية، ومنهجا لفكره من جهة ثالثة، ولا يدع لله إلا ركعات ربما لا يدري ماذا قال فيها، وصياما فقد حقيقته، وحجا جهل أسراره، فعاشه بجسده ولم يعشه بقلبه، فإن لا إله إلا الله منهج متكامل للحياة كلها بلا استثناء: يقول عمر أبو ريشة معتذرًا إلى الله بعد حجه:
أسأل النفس خاشعا: أترى
كم صلاة صليت لم يتجاوز
كم صيام عانيت جوعي فيه
كم رجمت الشيطان والقلب مني
رب عفوا إن عشت ديني ألفا
طهرت بردي من لوثة الأدرانِ؟
قدس آياتها حدود لساني
ونسيت الجياع من إخواني
مرهق في حبائل الشيطان
ظاً عجافاً، ولم أعشه معاني
لعل تلك من أهم المنافع التي أشار إليها الله تعالى في كتابه العزيز: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ }.
أخي المسلم.. في نهاية هذه الجلسات الإيمانية، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، كما أرجو ألا تنسى إخوانك المسلمين من دعوة صالحة في ظهر الغيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] [رواه أحمد وإسناده حسن].
خالد بن سعود الحليبي
شاعر معروف وأستاذ مساعد في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود
- التصنيف: