رحمة الله
اتصف الله بالرحمة فهو الرحيم في أفعاله، الرحمن في ذاته، قضى وكتب على نفسه الرحمة لعباده، وحتى يبقى العباد على طمع في رحمة الله؛ فقد بشرنا المصطفى ﷺ فقال: «لما قضى الله الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي».
اتصف الله بالرحمة فهو الرحيم في أفعاله، الرحمن في ذاته، قضى وكتب على نفسه الرحمة لعباده؛ فقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54].
وحتى يبقى العباد على طمع في رحمة الله؛ فقد بشرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: «لما قضى الله الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي»[1]، فلنا من الله مهلة وفسحة، ينتظر الله عبده حتى يتوب ويرجع، فيجد الله غفارًا للذنوب، رحيمًا بستر العيوب، يحب المذنب بعدما يتوب ويقبل منه العذر، عظُم الذنب أو صغر.
الله أرحم بك من أمك:
في غزوة حنين يكسر الله أعداء الدين، وتنتهي المعركة وأرجاء المكان تفوح برائحة الموت: ((قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبيٍ، فإذا امرأة من السبي، تبتغي))، فقدت صبيها نسيت الدنيا، وأخذت في البحث عن صغيرها، لم تعد ترى الدنيا إلا في شخصه، وهنا وتحت رحمة الله العامة - إذا وجدت صبيًّا في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته))، في مشهد يختصر الدنيا، وأنها بلا رحمة لا تعني شيئًا، وتتحرك مشاعر الصحابة لهذا المنظر الذي يكاد يتفطر له قلب كل رحيم مؤمن، وفي لفته واستغلال الحدث يأتي صوت النبي صلى الله عليه وسلم ليخترق هذا الصمت، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار» ؟ قلنا: لا، والله وهي تقدر على ألَّا تطرحه))، جواب منطقي بديهي حلف عليه الصحابة، فمن يرى الأم وهي تحوط ابنها بكفَّيها حماية، وبثديها رعاية، يعلم أنها مانعته مما هو محقق الهلاك كالنار، وهنا يأتي البيان والانتقال من مشهد أخذ شيئًا من العاطفة إلى غيب يأخذ بملاك النفوس إلى الرحمة الشاملة الكاملة المحققة التي لا تضيع ولا تبيد؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها»[2].
الرحمة كنز الآخرة:
ونحن سائرون في الدنيا، فكم من موقف بين البشر أو الحيوان من الرحمة والعطف، والحنان والعفو، والصفح والود! كل هذا في الدنيا برحمة واحدة، أنزلها الله للدنيا؛ ليعيش الناس في نوع من الأمان والخير؛ ففي الحديث عن أبي هريرة: «إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنس، والبهائم والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخَّر الله تسعًا وتسعين رحمةً، يرحم بها عباده يوم القيامة»[3]، وتأخيره - جل ثناؤه - لهذا العدد إنما هي رحمة بعباده، فإن أهوال يوم القيامة من العظمة والفزع والخوف ما لا يسكنها إلا تتابع هذه الرحمات على أهل الإيمان، وفضل من الرحمن؛ وقد ورد في الحديث ما يختصر هذا المشهد فقال صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد»[4].
رحمة الستر يوم القيامة:
ــ وما من عبدٍ مسلمٍ إلا ويخاف من مقامه بين يدي الله، وما من مؤمن إلا سوف يناجيه ربه يوم القيامة مناجاة المحب لحبيبه، وهنا تنزل من الرحيم أعظم الرحمات على عبده الذي أسرف على نفسه؛ ففي الحديث: ((قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: «يُدنَى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل، حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، فيُعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون، فيُنادى بهم على رؤوس الخلائق» : {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]))[5].
رحمة في الدنيا بالعطاء ورحمة في الآخرة بوافر الجزاء فلله عظيم الشكر والامتنان:
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، فاستغفروا الله؛ إن الله غفور رحيم.
فلا شك أن رحمة الله ورضوانه والتي بهما ينال المؤمن سعادة الدنيا وفلاح الآخرة، تحتاج إلى تلمس نفحات الرحمن، ومواطن الرحمات، وهي من حيث الموارد والمصارف كثيرة، لكن يجمعها قواعد وجمل نوجزها في أربع قضايا:
الأولى: الإيمان والعقيدة الصافية من لوث الشرك، والاعتصام بالعروة الوثقى؛ حبل النجاة، ودعوة الرسل جميعًا، فهي من أعظم ما يجلب للمسلم الرحمة الواسعة؛ قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} [النساء: 175].
الثانية: اتخاذ سيد المرسلين وإمام المتقين قدوةً لك في كل ما يعمل وما يَذَرُ، واتباع منهجه هي رحمة لا يُوفَّق إليها إلا من أحب النبي صلى الله عليه وسلم اتباعًا، وسار على نهجه اقتفاء؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].
الثالثة: من تتابع إحسانه في عبادة ربه، وإحسانه في معاملة خلقه، فقد سار إلى رحمة ربه؛ قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
الرابعة: إذا استولى على قلب المؤمن الرحمة والرأفة على من في الأرض نزلت عليه رحمات من في السماء؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض؛ يرحمكم من في السماء»[6].
[1] البخاري.
[2] البخاري ومسلم.
[3] مسلم
[4] مسلم.
[5] البخاري ومسلم.
[6] أخرجه أبو داود (4941) باختلاف يسير، والترمذي (1924) مطولًا واللفظ له، وأحمد (6494) وصححه الزرقاني في مختصر المقاصد، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ثابت، وحسنه ابن حجر في الإمتاع، والألباني في صحيح الترغيب، وصححه الأرنؤوط في تخريج سير أعلام النبلاء.
_____________________________________________________
الكاتب: د. عطية بن عبدالله الباحوث
- التصنيف: