جنون كأس العالم
كم يتفطر كل قلب مؤمن غيور وهو يتأمل كيف استطاع الغرب أن يغيب بمناسبات تافهة وعي الشعوب الإسلامية، في حين لم تستطع شعوبنا المسلمة تفعيل قضاياها المحورية لتجذب لها اهتمام شعوبها، فضلاً عن العالم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه..
أما بعد، فإن ديننا الحنيف يحثنا على أن نكون أقوياء في إيماننا، أقوياء في علومنا، أقوياء في أعمالنا، أقوياء في قتالنا لأعدائنا، كما يحثنا كذلك أن نكون أقوياء في أجسادنا وأبداننا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» (رواه مسلم).
فطريق امتلاك أسباب القوة: أن تحرص على ما ينفعك، ثم تستعن بالله، ثم لا تعجزن عن الحرص على النافع، كما لا تعجزن عن الاستعانة بالله القوي وحده.
إن قوة الدين والعمل هي التي رشحت موسى عليه السلام ليتقدم على غيره، أما سمعنا قول البنت لأبيها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
إن قوتنا القتالية هي التي تؤهلنا لقيادة العالم، كما أمرنا ربنا سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
إن قوة العلم والجسم هي التي رشحت طالوت للملك وتحقيق النصر على الكافرين، وفي كتاب الله: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247].
وإذا كانت الرياضة وسيلة لامتلاك أسباب القوة العلمية أو العملية فهي مطلوبة شرعًا، وإذا كانت كذلك فإن تشجيعها له أصولٌ في شريعتنا السمحة، فهذه عائشة رضي الله عنها تنظر للأحباش وهم يلعبون بالحراب في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الناس في عهد رسول الله كانوا يخرجون لمشاهدة سباقات الخيل ومنافسات الرمي بالسهام.
وإذا كنا نقول هذا لأنه من ديننا؛ فإني أنبه على أن التطرف في كل شيء ممنوع، فالتطرف في الفكر ممنوع، والتطرف في السلوك ممنوع، كما أن التطرف في العاطفة كذلك مما يتأكد منعه، بل نحن أمة ندعو العالم لوسطية الإسلام؛ كما قال تعالى واصفًا هذه الأمة المرحومة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]؛ فكما أن الاعتدال في الطعام والشراب والعمل والاستجمام أمر لازم؛ فإن الاعتدال في الفكر والسلوك والعاطفة أمر آكد منه.
ومتى خرج الترفيه – أيها الأخوة - ومتى خرجت الرياضة والتشجيع عن هدفها وهو توازن نفسية الفرد وتهيئته لمعالي الأمور، ومتى خرجت الرياضة عن شرطها وهو ألا تشتمل على أمور محرمة تضر بالإنسان في دينه ودنياه، ومتى ما خرجت عن مسارها الحضاري في بناء الإنسان وعدم إشغال المسلم عما هو أكثر إفادة له على المستوى الفردي والجماعي، متى خرجت عن ذلك؛ فينبغي أن تخرج من حيز الإباحة إلى حيز التحريم، ومن حيز الحث والتشجيع إلى التحذير ونصح الناس من تعاطيها على هذه الصورة.
ومع ما يمر به العالم اليوم من موجة رياضية عارمة؛ تسمى بكأس العالم 2022، يجب علينا معاشر العقلاء والناصحين أن نقف وقفات تأمل؛ نستعرض فيها نصوص شريعتنا الخالدة وتاريخ أسلافنا المجيد؛ لنستبصر في هذا الأمر الذي دهانا؛ هل ما زال في حيز الإباحة والجواز، أم أنه خرج إلى حيز التحريم والتأثيم؟ هل حمى كأس العالم التي غشيت بيوتنا وشوارعنا، وداهمت مقار أعمالنا ووسائل إعلامنا؛ هل هي في دائرة النافع الذي يحتاج منا إلى تشجيع ومؤازرة؟ أم أنها خرجت إلى ما يضر بالأمة ووجب على الغيورين عليها الساعين في تحقيق عزتها أن يقفوا منها موقف التحذير والنصح والبيان!
أستسمحكم عذرًا في أن أقف معكم هذه الوقفات؛ لتجلي لنا الأمر وتوضح لنا الخطب، لنتعرف على حكمه، وما هو موقفنا الصحيح منه.
وأول هذه الوقفات أن نتأمل ما حدث جراء متابعة مباريات كأس العالم من:
تعطيل الفرائض والواجبات:
يقول الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]، فمتى فرغ الإنسان من أعماله كان حريًا به أن يجتهد فيما ينفعه من إقامة طاعة الله ورفع ذكره، لكن ما الذي حدث ممن يتابعون مباريات كأس العالم؟ ضُيعت الصلوات، وأهملت الواجبات، سهر المتابعون لأوقات متأخرة حتى أضاعوا صلاة الفجر، الصلاة التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقن بيوتهم»، فإذا كان هذا حكم نبينا عليه الصلاة والسلام فيمن ضيع صلاة الجماعة؛ فكيف بمن ترك الصلاة وعطلها؛ «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر».
وحتى هؤلاء الذين استجابوا لنداء الله وتركوا متابعة مباريات المونديال ليحضروا مع المصلين في الجماعات، حدثوني بالله عليكم أيها الرياضيون المغرمون بهذه المباريات: كيف تقومون للصلاة؟ أليسوا يقومون وهم متكاسلون متباطئون، تعلقت قلوبهم بالمباريات أشد من تعلق الجائع بطعامه، تشوش خشوعهم فيها كالحاقن في صلاته، بل وربي أشد؛ فأيُّ صلاة هذه التي نتقرب بها إلى الله؛ أهي صلاة المنافقين الذين قال الله عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
إن الأمر قد بلغ ما هو أكبر من هذا أيها الأكارم، حتى جاء من يستفتي أهل العلم قبل انطلاق كأس العالم الماضية عن حكم تأخير صلاة الجمعة لمشاهدة منتخب بلادهم في مباراة الافتتاح!!
يا أخوة الإيمان والعقيدة، إذا كانت انجلترا قد منعت شعبها لعب كرة القدم في ثلاثة أعوام من أجل أنها شغلت الشباب عن لعبة الفروسية المهمة، وعن صلاة القداس يوم الأحد في الكنيسة، يوم أن كان للكنيسة أثر بالغ في ضبط تصرفات الناس في أوربا؛ فكيف بنا ونحن نرى هذه المنافسات قد شغلت شبابنا عن أعظم أمر وهو الصلاة!.
وإذا كانت اليابان وكوريا الجنوبية قد أصدرتا إجراءات صارمة لمنع شعبيهما من السعار الشديد خلف هذه المباريات، بعد أن عانتا من ارتفاع نسبة التأخر عن الدوام ونزول مستوى الإنتاج القومي في أيام مباريات كأس العالم الأخيرة، فماذا سنصدر نحن من قرارات والمسألة لم تتعلق بفوات أو تعطل أمور دنيوية فحسب، بل تعدت لتصل إلى ركن من أركان هذا الدين!!
أيها الأخوة، هل ما زال العقلاء منكم يقولون أن المسألة مجرد لهو بريء وقضاء أوقات مباح؟ أما أن هذه الحمى خرجت إلى حيز الانتباه لخطرها والتحذير من شرها، أما أنه لا يسعنا إلا أن نقرأ على أمثال هؤلاء قول الحق سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].
ولو تأملنا حمى كأس العالم من زاوية ثانية وهي:
إضاعة الأوقات وشغل الأمة عن مهمات الأمور:
بلغ الاهتمام بهذه التظاهرة أمرًا يفوق الخيال، وعلى المستوى الجماهيري للشعوب العربية بذلٌ للغالي والنفيس حرصًا على الحصول على بطاقات البث لمشاهدة مباريات كأس العالم، والذي تنقص أمواله لا يضيع الحصول على البث المباشر الكاذب الذي يتأخر قدر ثلاثين ثانية؛ لكن بقسط أقل، حتى سمعنا بمن يفكر أن يبيع كليته ليتابع المباريات!! وتلك الجماهير التي لم تجد ما تسدد به قيمة هذا الاشتراك ازدحمت بالآلاف حول الشاشات العملاقة واكتظت بها الشوارع! طفل صغير لم يبلغ الثامنة من بيننا يحرص على تصوير أعداد كبيرة من جدول المباريات ليوزعه على من حوله، لماذا هذا الاهتمام؟ لأي شيء هذا الحرص؟ والعجيب أنه من طفل الثامنة، ما الذي جنيناه على أطفالنا، أيها الكرام! ومدرس حلقة؛ يعطل حلقة القرآن ليذهب وطلابه لمشاهدة مباريات كأس العالم، وقد اقتنى صحني استقبال وجهازي تلفاز؛ ليسرق بأحدهما الصوت وبالآخر الصورة!! لأي شيء هذه الابتكارات، وماذا ستجني هذه الأمور أيها القدوة على أجيالنا الناشئة!
إن عدد من سيشاهدون هذا المونديال حول العالم قرابة ثلث سكان الكرة الأرضية، وإذا قدرنا أن كل مباراة تستهلك من عمر المتابع قدر الساعتين؛ فإن عدد الساعات المهدرة من عمر الإنسانية سيقدر بأكثر من خمسة مليارات ساعة؛ ولو علمتم أن عدد مباريات كأس العالم 64 مباراة؛ فإن ما سيضيع هدرًا من أعمار المشاهدين على مدار العالم سيقرب من 320 مليار ساعة؛ وحتى تفهم معنى هذا الرقم؛ فتأمل أن كأس العالم سيعدم أعمار ما يزيد على 600 ألف شخص بلغوا الستين، وقد قضوا كل أعمارهم في مشاهدة هذا الهراء، أيها الأخوة الكرام هذا حتى نعلم بجلاء أن الأوقات التي قتلتها مباريات كأس العالم ضاهت حصاد القتلى في الحروب العسكرية!!
ولو أن هذه الساعات - وفي مباراة واحدة- تحولت لساعات عمل؛ لاستطاع العالم بإذن الله أن يقضي على الملاريا في إفريقيا، وأن يحل أزمة السلطة الفلسطينية، وأن يقضي على مشكلة الأمية.. وغيرها من مشكلات العالم بأسره.
ولا يظن أحدكم أيها العقلاء أن المسألة تنتهي بانتهاء شهر كأس العالم، بل التصفيات والمنافسات في ازدياد، ومتى سرت هذه الحمى انتقلت العدوى لفكر وتوجه كل متابع؛ فلا غرو أن تجد من شبابنا بعد ذلك من تولع بكرة القدم؛ فهو يلعب بها عصرًا، ويشاهد مبارياتها مساءً، ويتابع أخبارها وتحليلاتها صباحًا.. شباب ضائع أنى له أن يصنع لنا مجد الأمة الغائب؟!.
هذه الحقيقة ينبغي أن تنبهنا إن كنا غافلين أن المسألة خرجت من حيز اللهو البريء إلى تنفيذ مخططات إفساد شباب الأمة وتعطيل قدراتهم وإهدار أوقاتهم، وهذا الذي يريدون، يقول (ماريس روث) أحد كتاب الغرب في جريدة سيارة (الصنداي تايمز): إن سلاح الغرب السري ليس هو سلاح الدبابات، و إنما هو سلاح الفضائيات.
ولو تأمل العاقل أخرى أن هذه الحمى التي طمت وعمت جاءت في أوقات الاختبارات النهائية للمرحلتين الأساسية والثانوية؛ علمنا حجم الفاجعة التي سنتفاجأ بها جميعًا من حصيلة انشغال طلابنا بهذه الأجواء الملهية، وانشغال أسرهم عنهم بمتابعة انتصارات نجوم المونديال! وهنيئًا لهؤلاء ما جنته أيدي تفريطهم وتضييعهم!!
أي سخفٍ مدمــــــــرٍ *** عن فساد الشعوب نـــمّْ؟!
وإلى أي خيبــــــــــــةٍ *** هبطت هذه الأمــــــــمْ؟!
ألف مليون أصبحـــوا *** كغثاءٍ بشط يـــــــــــــمّْ
ومصلى نبيهــــــــــــم *** بيد اللص يقتســـــــــمْ
أنا أقسمت بالـــــــــذي *** برأ الكون من عــــــدم
وكسا ثوب عـــــــــــزةٍ *** كل من بالهدى اعتصم
إن قنعنا بعزنـــــــــــــا *** وركنَّا إلى النعـــــــــــم
فخطى الخصم ماضيا *** ت من القدس للحــرم
عندها يندم الجميـــــع *** يوم لا ينفع النـــــــدم
كم بقي معنا من مستنصح لنذكره بقول الله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].
وثالثة الأثافي داهية أعظم لمن نظرها بعين بصيرة لم تشوبها أكدار الإعلام الزائف:
ولاء أبناء الدين لشعارات زائفة وتمييع برائهم من أعداء الله الكافرين:
سادت الولاءات القطرية والقومية الضيقة، وراجت الشعارات الطائفية المفرقة لجسد الأمة، واذكيت نار العداوة والبغضاء بين الشعوب المسلمة على أتفه الأمور، حتى أن دولة مسلمة أبغض شعبها دولة مسلمة أخرى؛ لأنها حرمتهم التأهل لكأس العالم، ويكفيكم خير شاهد على هذا ما حدث بين أربع دول عربية من سباب وشتائم على الصعيد الداخلي والخارجي لما تنافسن على استضافة كأس العالم القادمة عام 2010، وخسروا جميعًا عشرة ملايين دولار!
وفي المقابل، ومع التنافس الشديد بين دول الكفر في هذه النهائيات؛ تتفاجأ من شدة ولائهم لدينهم المحرف، شعارات الصلبان تنتشر بشكل يلفت النظر في أرجاء الملاعب، رسم الصليب على الوجوه والملابس، والأعجب أن الكاميرات تتعمد مطاردة هذه المناظر، وما إن يسجل لاعب هدفًا حتى تطارده الكاميرات، وهو يصنع حركة التصليب على وجه وصدره، ليس الأمر بالهين أيها المؤمنون! فكم شاهدنا من شبابنا من يلبس قمصان حملت أعلام دول الصليب، وكم سمعنا عن شبابنا التي صنعوا نفس الحركات مع تسجيلهم للأهداف، في تقليدٍ غبي آثم، ويكفيكم دلالة على شدة ولاء هؤلاء الكفار لدينهم المحرف أن أذكركم بما صنعته البرازيل يوم صعدت إلى منصة التتويج في كأس العالم الأخيرة، يومها خلع البرازيليون قمصانهم الصفراء ليلبسوا قمصانًا بيضاء، كُتبت عليها عبارات باللغة الإنجليزية، أتدرون ما كتبوا يا شباب كأس العالم، أتدرون ما كتبوا يا من تحبون السامبا البرازيلية! كتبوا: نحن نتنمي إلى المسيح، المسيح يحبكم، هكذا يتعصبون لنشر دينهم المحرف، وشبابنا يتعصبون لأشياء تمسخ ولاءهم للدين!!
ما أكثر المشاهد التي تتلاحق هذه الأيام لتخبرنا كيف مسخت مباريات كرة القدم ولاءنا للإسلام، تجده ساهرًا عليها؛ فإن هزم فريقه لم يتعش تلك الليلة، وبعضهم لم يذق طعم النوم طوال الليل، وقد يصاب بعضهم بنوبات قلبية وأزمات ربوية حادة أو ارتفاع في ضغط الدم لمجرد هزيمة كروية، والمسلمون يهزمون كل يوم في العراق وفلسطين وأفغانستان ولا يتأثر لمصرعهم أحد! فعفوك اللهم!
ألا نتقي الله في هذه الأجيال! يوم أن مسخنا أيها الرياضيون من عقيدتهم البراءة من أعداء الله الكافرين، ماذا سنقول لله إذا خرج هذا الجيل لا يميز في تعامله بين مؤمن وكافر، لبس كثير من شبابنا قميص إيطاليا، أو قد نسوا أن هذه الدولة هي مركز الصليب العالمي المحارب للإسلام! لبس كثير من شبابنا قميص برشلونة، أو قد جهلوا أنهم هم الذين قتلوا المسلمين في أرض الأندلس! أيها الكرام، إذا كنا قد نسينا تاريخنا فإن القوم لم ينسوا تاريخهم!
فإلى أي أحد وصل الأمر بعد هذا الذي نسمع، وقد قالها الله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
ثم إن مفاسد وأضرار هذا الهوس الكروي المخيف لم يقتصر عند هذا الحد، بل تعداه إلى:
تضليل الأمة عن قضاياها المصيرية:
الجميع مبتهج وهو يتابع تبختر هذه الكرة المستديرة بين أرجل ورؤوس اللاعبين داخل المستطيل الأخضر، تقف الأنفاس، وتصعدت الآهات، ويصفق مشاهد، ويتحسر آخر؛ لأن الكرة خرجت من الملعب!!
تعجبون من هذه التغطية الإعلامية الضخمة لهذا الحدث، وتسليط الأضواء لمتابعة كل صغير وكبير يحدث فيه، حتى باتت قضايا الأمة الأساسية قضايا هامشية وهشة بجنب حدث كأس العالم، وكأن الصائح يصيح: لا صوت يعلو فوق صوت كأس العالم!
وبين ذلك ضاع همّ تحرير المقدسات، وتأمين حقوق المستضعفين، ونشر راية الإسلام، وقفز إلى أول سلم أولوياتنا التنموية أن نحصل على مركز متقدم في التصنيف الرياضي العالمي! فأي سخف بعد هذا يا أمة محمد!
كم يتفطر كل قلب مؤمن غيور وهو يتأمل كيف استطاع الغرب أن يغيب بمناسبات تافهة وعي الشعوب الإسلامية، في حين لم تستطع شعوبنا المسلمة تفعيل قضاياها المحورية لتجذب لها اهتمام شعوبها، فضلاً عن العالم.
أيها الأخوة الكرام، من غرائب كأس العالم؛ أن البرازيل التي تتربع على العرش الكروي العالمي بلد مدين بأكثر من 180 مليار، بينما أمريكا الأغنى عالميًا والأحدث تكنولوجيًا في ذيل القائمة، فهل بعد ذلك يظن أن تنافسنا في هذا الميدان سيجعلنا نمتلك أسباب القوة أو نحقق عوامل النصر؟
ومن غرائب كأس العالم؛ ما حدث بعد انتصار إيران على الولايات المتحدة، وتعجب من تلك الفرحة العارمة التي غشيت الشارع الإسلامي من جاكرتا إلى طنجة؛ لأننا فزنا عليهم في كرة القدم، وهكذا تهدر الطاقات وتفرّغ الحماسات في أمور لا تسمن ولا تغني من جوع!
هل فلسطين استردت! عاد للأقصى مقامــه!
هل جيوش الفتح عادت بالمثنى أو أسامــة؟
هل مسحنا دمع حزن عبر أجفان اليتامـــــى؟
هل حصون الظلم دكت واقتحمناها اقتحاما؟
أم صلاح الدين لبى طهر آهات الأيامـــــــــى؟
فانبرى شخص وقال، ليس يدري ما الشهامــة
أيها المسحور مهلاً، فاز بالدوري الكرامــــــــة!!
أمة تنزف جراحها من كل مكان، أمة أهين قرآنها ونبيها، ثم هي تعبث في كأس العالم، كأننا والله سكارى من هذه الكأس، لا ندري إلا كيف نلعب؟ وكيف نصفق؟ كما قالها الله عن أهل الغفلة: {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 3]، أيها الرياضيون الكرام لنستلهم من تاريخنا العبرة، فليست المسألة مجرد مجازفات أو مبالغات، ففي عام 1982م حينما أقيمت كأس العالم بأسبانيا والعالم كله مشدود بمبارياتها، قام المجرم شارون بغزو لبنان، ثم قتل الأبرياء في مجزرة صبرا وشاتيلا التي ما عرف التاريخ مثلها، ولم نستفق إلا بعد ذهاب سكرة كأس العالم، وقد فات الأوان.
ووالله ليس الأمر بالمبالغة ولا تضخيمًا لحجم المؤامرة، لكن أتدرون لو كنا ممن يرصد الأحداث أنه في نفس يوم الافتتاح لكأس العالم هذه؛ قام الإسرائيليون بمجزرة قذرة على شواطيء غزة! إذا كنتم لم تعلموا؛ فلتعلموا الآن كيف يخطط لكم عدوكم عند نومكم أو لهوكم!
وهنا تداس الكرامات وتدنس الحرمات، ولا يبُكى على شيء بعد موت الإحساس واستساغ الذل، فنعوذ بالله من الخذلان!
ثم لو تأملنا أن البلد المنظم لهذا المونديال لا يبعد سوى كليومترات قليلة عن بلد اعتدى على مقام نبينا الكريم قبل أشهر، بل إن هذا البلد المنظم لهذه النهائيات شاركت صحفه في هذا الاعتداء، يوم أن أعادوا نشر تلك الرسوم السيئة، فلنتساءل الآن كم بقي في قلوبنا من نصرة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
وبالمناسبة معاشر المشجعين، لو تذكرنا تاريخ نشأة لعبة كرة القدم، لتذكرنا أن الدانمركيين لما احتلوا انجلترا من عام 1016م إلى 1042م، قاتلهم الشعب الإنجليزي، حتى انتصروا عليهم في وقعة حاسمة، وقتلوا قائدهم الدانمركي وحزو رأسه، ثم أخذوا يركلونه بأرجلهم، وصارت هذه اللعبة تقليدًا قوميًا يذكر الإنجليز بالثأر والانتقام، وإلى اليوم فأكثر جمهور رياضي شغبًا في الملاعب هو الجمهور الإنجليزي، حتى قرأنا بأن الدولة المنظمة للمونديال اشترطت على اتحاد الكرة الإنجليزي أن يحضر مع مشجعيه طاقم مكافحة الشغب؛ لماذا؟ لأنهم لا يرضون أن ينهزموا، فالمسألة عندهم تاريخ! أما نحن فللأسف، لا تذكرنا هذه اللعبة إلا باللهو واللعب، وقد قالها لنا الله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51].
أوليس هذا يكفي كل لبيب أن يفهم حقيقة مباريات كأس العالم، فلماذا أخي الطيب تجادل عنها وأنت تعلم كم ضاعت أموال الأمة من جراء:
الإنفاق الزائد على كرة القدم:
اتحادات كروية، وبطولات دولية، وميزانيات مالية ترصد لأجل كرة القدم، بلغ المرتب السنوي لأحد اللاعبين أكثر من خمسين مليون دولار، بينما لم يصل مرتب عالم أو باحث، أو طبيب صنع دواء فيه شفاء للناس، أو مهندس اخترع تقنية خدمت المجتمع إلى 1% من هذا المرتب، يومها ستخدع الأجيال، وتشرئب سوق التفاهات، وعندها – كما هو اليوم- ستصبح الأندية عندنا مؤسسات مالية عملاقة تعقد أضخم صفقات الإعلان، وتحتكر بث المباريات، وتبيع اللاعبين بالملايين، أليست هذه النفقات بحاجة إلى ترشيد، أليست هذه الأموال بحاجة إلى تقليص؛ وفقًا مطالب صندوق النقد الدولي!!.
ماذا استفدنا من إنفاق الأموال الباهظة على 100 لاعب محترف، يجري خلفهم الناس، ونحن نرى مئات الألوف من شعوبنا البائسة وقد سيطر عليهم الثالثوث المخيف: الفقر والجهل والمرض! ماذا جنى العالم من متابعة هذا الكرنفال وهناك 1000 طفل يموتون يومياً في العالم بسبب الجوع!!
أيها الأخوة الكرام، دعوني أقولها بصراحة: إن عقلية كأس العالم لا تناسب إلا التركيبة الغربية التي تؤمن بالأنانية والعنصرية الذاتية!! لأن كل هذا يدخل ولا شك عندنا في مسمى السفه المحرم، والذي يُوجب الحجر على صاحبه.
أمضى الجسور إلى العلا *** بزماننا كرة القـــــدم
تحتل صدر حياتنــــــــــا *** وحديثها في كل فـم
وهي الطريق لمن يريـــد *** خميلة فوق القمـــــم
أرأيت أشهرَ عندنــــــــــا *** من لاعبي كرة القــدم
أهم أشدُّ توهجــــــــــــاً *** أم نار برقٍ في علـــــم؟!
لهـم الجباية والعطـــــــاء *** بلا حدود والكــــــــرم
لهــم المزايا والهبـــــــــات *** وما تجود به الهمــــم
أعوذ بالله وإياكم أن نكون ممن قال الله فيهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، قال الحسن البصري رحمه الله: والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره؛ فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي.
فماذا بعد الذي سمعنا؟
أأصدق من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة 90، 91]، قال القرطبي رحمه الله: فكل لهوٍ دعا قليله إلى كثيرٍ، أو أوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فهو كشرب الخمر.
وماذا بعد هذه المفاسد؟
إخوة الإيمان، إن المصارعة لعبة مباحة، لكن عندما تتحول المصارعة إلى استعراض للعريّ تصبح لعبة محرمة، إن سباق الخيل منافسة مطلوبة، لكن عند تتحول إلى بؤرة للمراهنات والقمار تصبح من الكبائر، إن لعبة كرة القدم لعبة مباحة، لكن عندما تضيع فيها الواجبات الشرعية ويتبدل عقد الولاء والبراء؛ عندها تتحول إلى لعبة يجب الحذر والتحذير منها.
وفي الختام، ومع هذا اللهاث الغريب وراء سراب كأس العالم، أقرأ عليكم ما كتبه حكماء صهيون في بروتوكلاتهم، يقولون ما نصه: ولكي تبقى الجماهير في ضلال لا تدري ما وراءها وما أمامها ولا ما يراد بها، فإننا سنعمل على زيادة صرف أذهانها بإنشاء وسائل المباهج والمسليات والألعاب الفكهة وضروب أشكال الرياضة واللهو... ثم نجعل الصحف تدعو إلى مباريات فنية ورياضية، وهذا الذي حدث، وهذا الذي قاموا به، وهذا للأسف الذي نفذناه نحن تمامًا!
فأي شيء سنجني بعد هذا، وقد صدق فينا قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم ((من كل أفق)) كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومن قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن»، قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت».
أيها الأخوة حفاظًا على أوقاتنا التي سنسأل عنها يوم القيامة، وليعلم العالم المهووس أن المسلمين لديهم ما يشغلهم، فلنقوم بواجبنا تجاه الشباب:
• يجب علينا أن نذكرهم بأنهم خلقوا لعبادة الله وحده، وإقامة دين الله في الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الخير في الناس، ولم يخلقوا عبثًا ولا سدى.
• ويجب علينا أن نبين لهم حقيقة الولاء للمسلمين ومتابعة قضاياهم ومآسيهم، وحقيقة البراء من الكافرين، وكشف خططهم ومؤامراتهم.
• ثم ينبغي علينا أن نسعى في إنشاء المراكز الصيفية والدورات العلمية، ونقيم المسابقات المختلفة بما يحقق حفظ أوقاتهم في هذه الإجازات، ولنثريها بكل جديد نافع، فاتقوا الله أيها الدعاة! اتقوا الله، واسألوا أنفسكم: هل خططنا لشغل شبابنا بالنافع؛ كما خطط هؤلاء لصرف شباب المسلمين إلى هذا الغثاء!.
• ثم لنبحث عمن تأثروا بهذه الصرعات الكروية ولنحملهم إلى علماء الأمة ودعاتها والجادين في السعي لنصرتها، ليتعلموا من هم قدواتهم وليسيروا على آثارهم.
• ولا ننسى أخيرًا أن نذكرهم أنهم مسئولون يوم القيامة عن أسماعهم وأبصارهم، ومحاسبون على أوقاتهم وأعمارهم بين يدي الله رب العالمين وجامع الأولين والآخرين.
اللهم اهدِ شباب المسلمين، اللهم واعز الإسلام والمسلمين..
[1] خطبة ألقاها أبو عبد العزيز طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري، خطيب جامع الريّان، الجمعة 20/ جماد أول/ 1427هـ؛ ثم أضاف عليها كثير من الإضافات في محاضرة مسجد الجبانة يوم الاثنين بتاريخ 23/ جماد أول.
_______________________________________________
الكاتب: د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري
- التصنيف: