انتشار شره التسوق والتسوق الإلكتروني
شَرَهُ التسوُّق أصبح آفةً من آفات العصر المنتشرة بكثرة في مجتمعاتنا، لا سيما مع التقدُّم في شبكات الإنترنت وتوفُّر الأسواق الإلكترونية، فأصبح الإكثار من شراء المقتنيات والسلع غير الضرورية موجودًا في كل بيت تقريبًا
شَرَهُ التسوُّق أصبح آفةً من آفات العصر المنتشرة بكثرة في مجتمعاتنا، لا سيما مع التقدُّم في شبكات الإنترنت وتوفُّر الأسواق الإلكترونية، فأصبح الإكثار من شراء المقتنيات والسلع غير الضرورية موجودًا في كل بيت تقريبًا، ووصل إلى حدِّ الإسراف، ولا شَكَّ أن في هذا بزخًا لا سائغ له، وإهدارًا للمال، فالإسراف منهيٌّ عنه بالكِتاب والسُّنَّة والإجماع، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، ووصف الله تعالى المُبذِّرِين بأنهم إخوانُ الشياطين، قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26، 27]، وكرَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لنا إضاعةَ المال؛ لما فيه من الضرر، فقال: «إنَّ اللهَ يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا؛ فيرضى لكم: أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقُوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»[1].
وقد بيَّن عليه الصلاة والسلام أن الإنسان سيُسأل يوم القيامة عن مالِه: مِن أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ فقال: «لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمُرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ، وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ»؟ [2]؛ وذلك لأن هناك فقراء يُمكن التصدُّق عليهم بدلًا من الإسراف في شراء السلع التي لا ضرورة لها، كما أن في الإسراف مضيعةً للمال وإهدارًا للنعمة وعدم الحفاظ عليها.
أضرار الإسراف:
• في الإسراف مضيعة للمال وإهدار للنعمة، وعدم حكمة، ولا يأمن الإنسان الفقر والفاقة مهما بلغ غِناه، وكم من غني افتقر بعد فَقْدِ مالِه أو عملِه، قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
• الإسراف لا يُورِث صاحبَه إلَّا زيادةً في الوَلَع بالدُّنْيا وحبًّا لها والطمع في المزيد منها بحثًا عن الرِّضا؛ ولكن ذلك محال، فالرِّضا في الدنيا لا يحصل للإنسان إلا بالقُرْب من الله، والازدياد في طاعته ومحبَّتِه، قـال ابن القيِّم: "عُشَّاق الدنيا بين مقتولٍ ومأسورٍ، فمنهم من قضى نَحْبَه ومنهم من ينتظر"[3]، فياله من وصف بليغ يصف حال أولئك الذين لا يكتفون ولا يُرضيهم جَبَلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، وليتذكَّر المسلم أن هناك أخوةً له في الإسلام والإنسانية جمعاء يتضوَّرُون جوعًا، ولا يجدون قُوْتَ يومِهم وما يُسكِتون به بكاء أطفالهم من الجوع، وإن القلب لَيَحْزَن، والعين لَتَدْمَع عن رؤية المشاهد التي وصل لها الحال في اليمن والصومال وغيرهما من أماكن المجاعات، وإنَّ ما يجري في اليمن لا يُرضي أيَّ مسلمٍ غيور على دينه، ولنستحضر قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]، ومن الغريب في الأمر هو تحدُّث الإعلام عن مشكلات المسلمين عامة؛ ولكن يتجاهل تمامًا ما يجري في اليمن وكأن شيئًا لا يحدُث هناك، فلم نسمع شيخًا ولا قناةً إسلاميةً ولا عربيةً تتحدَّث عن الفقر في اليمن ومعاناتهم من الجوع والعزلة.
أمثلة لدوافع معقولة للشراء:
• شراء الملابس اللازمة للأسرة والأطفال.
• شراء ما يلزم من الطعام والشراب.
• شراء منزل لإيواء الأسرة.
• شراء أثاث جيد وأوانٍ ولوازم المطبخ.
• شراء الأجهزة الكهربائية اللازمة للمنزل؛ كالغسَّالة والبوتاجاز وغيرها مما يحتاج إليه عموم الناس.
• شراء مستلزمات المدارس ولوازم العمل.
• شراء الدواء وتكاليف العلاج والمستلزمات الصحية.
أمثلة لدوافع قد تدخل في حدِّ الإسراف:
• الإسراف في شراء أجهزة الجوَّال باهظة الثمن والتي تنخفض قيمتُها بمجرد شرائها واستعمالها؛ فمثلًا لو اشترى أحدُهم هاتفًا بسعر ستمائة دولارٍ تصبح قيمتُه أربعمائة دولارٍ بمجرد استعماله في أول يوم، ومنه شِراء الهواتف ذات السعات الكبيرة جدًّا التي لا يحتاج إليها الإنسان عادةً، وكذلك تغيير الهاتف كل سنة لمجرد ظهور طراز أحدث من الذي يمتلكه، أو تغييره بموديل أشهر؛ لرياء الناس أو مجاراة الأصدقاء، وبذل مبالغ كبيرة لشراء أجهزة ذات ماركات عالمية أكثر شهرةً، وكذلك شراء أجهزة سريعة جدًّا وباهظة الثمن؛ فقط لتتحمل ألعاب الحاسوب الكبيرة، وأما شِراء أجهزة أسرع ذاكرةً، وأكبر سعةً للتمكُّن من تشغيل برامج المحادثة وتخزين رسائل الواتساب والتليجرام ونحوها من البرامج لأهداف التعليم والتواصُل وغيرها مما لا منكر فيه فيكون مقبولًا، وكذلك بيع الأجهزة القديمة واستبدالها بأجهزة أحدث؛ لتشغيل البرامج النافعة الجديدة التي تعمل على الأنظمة الجديدة فقط. وينبغي مراعاة زيادة أسعار الأجهزة مع زيادة التقدُّم في التكنولوجيا وتكلفة الأجزاء المكونة لها قد تضطر الإنسان لدفع مبالغ عالية.
• المبالغة في شِراء الملابس باهظة الثمن بكميات كبيرة جدًّا، ونرى هذا منتشرًا في مجتمعاتنا بين النساء؛ حيث يذهبْنَ إلى الأسواق ويبدأْنَ بالتسوُّق بكُلِّ قوةٍ وصرف أموال طائلة في ذلك.
• شراء الذهب بكميات كبيرة مثل ما يُسمَّى بـ"كرسي جابر" وشراء أساور الثعابين الذهبية التي لا ينبغي شراؤها ابتداءً لأشكالها المشابهة للثعابين، وشراء الماس والجواهر باهظة الثمن، فهذه تُكلِّف ثروات طائلة، وليست ذات أهمية في حياتنا خاصة إذا كانت أطْقُمًا كثيرة.
• شراء سيارات غالية الثمن ولا حاجة لها؛ مثل: سيارة فراري وباغان وغيرهما من الموديلات ذات السرعة العالية جدًّا التي لا حاجة لإسراف الأموال الطائلة لشرائها.
• شراء الأواني المنزلية المطلية بالذهب والفضة، لا سيما بكميات كبيرة.
• شراء أكل المطاعم باستمرار لمجرد الترفيه مع إمكانية الطبخ في البيت؛ مما يُؤدي إلى صرف مبالع طائلة يمكن توفير كثير منها عند تقليل الذَّهاب للمطاعم والتعوُّد على الطبخ المنزلي.
شَرَه التسوُّق والإسراف في المشتريات من منظور مقاصد القرآن:
• الإسراف صفة مذمومة ويتناقض مع مقصد تهذيب الأخلاق.
• الإسراف مضيعة للمال، وقد يؤدي إلى الفقر، كما أنه يُورِث المَلَل وعدم الرِّضا عن النفس والشعور بالذنب، ويتناقض بذلك مع مقصد صلاح الأحوال الفردية والجماعية.
• الإسراف مخالفٌ لما شرَعَه القرآن، وهو يتناقض مع مقصد التشريع.
• الإسراف كثيرًا ما يؤذي الفقراء والمحرومين، وقد يؤدي إلى الحسد والحقد منهم؛ مما قد يُلحِق الضَّرَر بالمسرفين، ويتناقض بذلك مع مقصد صلاح الأحوال الفردية والجماعية.
النصائح والضوابط المقترحة:
• وليحذر مَن يُبالغون في شراء السلع غير الضرورية أن هناك مَن يتمنَّى فعل ذلك وليس لديه المال الكافي، فربَّما جلب له ذلك العين بقصد أو بغير قصد من المحروم كما أنه قد يجُرُّ عليه الحسد من ذوي القلوب المريضة، والحسدُ صفةٌ لا يخلو منها مجتمعٌ؛ ولذا تعوَّذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بالتعوُّذ منه كُلَّ يومٍ في قراءة سورة الفَلَق يوميًّا مع أذكار الصباح والمساء كما في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 4، 5].
• ينبغي ألا يجريَ المسلمون وراء المظاهر ويتنافسون بينهم فيمن عنده أغلى جهاز، فلو اكتفى الفرد بالجهاز ذي السعر المعقول، والذي تتوفر فيه الخصائص التي يحتاج إليها، ثم يتصدَّق ببقية المال لنفعه ذلك أكثر في الآخرة وقضى حاجته.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، والنهي عن منع وهات؛ وهو الامتناع من أداء حق لزمه، أو طلب ما لا يستحقه، جزء ٥، صفحة ١٣٠، حديث رقم ١٧١٥.
[2] أخرجه الترمذي (٢٤١٧) واللفظ له، والدارمي (٥٣٧)، وأبو يعلى (٧٤٣٤) باختلاف يسير، وأخرجه الألباني في صحيح الترغيب (٣٥٩٢) عن أبي برزة الأسلمي نضلة بن عبيد، وقال: حسن صحيح.
[3] ابن القيم، أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية (٦٩١ - ٧٥١ هـ)، بدائع الفوائد، دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)، حقَّقَه علي بن محمَّد العمران، الطبعة الخامسة، ١٤٤٠ هـ - ٢٠١٩ م، باب حكم ومواعظ، جزء ٣، صفحة ١٢٢٤.
- التصنيف: