الإنترنت امتحان الإيمان والأخلاق والعقول

منذ 2022-12-10

إن الإنترنت ثورة كبرى في عالم المعلومات، وميدان فسيح لامتحان الإيمان والأخلاق بل والعقول، فالخير مفتوح الأبواب، والشر معروض بشتى الأساليب

الإنترنت امتحان الإيمان والأخلاق والعقول

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن الإنترنت ثورة كبرى في عالم المعلومات، وميدان فسيح لامتحان الإيمان والأخلاق بل والعقول.
فالخير مفتوح الأبواب، والشر معروض بشتى الأساليب، وبإمكان الذي يتعامل مع الإنترنت أن يطلق لسانه بما شاء، وأن يُسَرِّحَ بصرَه كما يريد، وأن يخط بيده ما يرغب؛ فلا حسيب عليه، ولا رادع له، ولا مُوْقِف له عند حد.

فإن تسامى واستعلى، ونظر في العاقبة، واستحضر رقابة ربه، وشهوده عليه - أفلح وأنجح، واقتحم تلك العقبة.

وإنْ هو أطلق لنفسه العنان، ومال حيث يميل الهوى، وغاب عنه رادع الإيمان ووازع التقوى - أوشك أن يرتكس في حمأة الرذيلة، ويسقط على أم رأسه في الحضيض، فلا يكون من رواء ذلك إلا إذلال النفس، وموت الشرف، والضعة والتسفُّل.

ولهذا كان حرياً بالعاقل أن يحسن التعامل مع الإنترنت، وأن لا يْفْرِطَ في الثقة في نفسه، فيوقعها في الفتنة، ثم يصعب عليه الخلاص منها.

وجديراً به إذا أراد أن يقدم أية مشاركة، أو مداخلة، أو ما جرى مجرى ذلك أن ينظر في جدوى ما يقدم، وأن يحذر من أذية المؤمنين، وإشاعة الفاحشة فيهم، وأن ينأى بنفسه عن القيل والقال، واستفزاز المشاعر، وكيل التهم، وتسليط الناس بعضهم على بعض.

وإذا أراد أن يعقب أو يرد فليكن ذلك بعلم، وعدل، ورحمة، وأدب، وسمو عبارة.
وإذا أراد أن يشارك فليشارك باسمه الصريح، وإن خشي على نفسه إن صرح باسمه، أو رغب في إخلاص عمله، فليحذر من كتابة ما لا يجوز ولا يليق، وليستحضر وقوفه بين يدي الله يوم تبلى السرائر.

وعلى العاقل كذلك أن يحذر خطوات الشيطان؛ فهو متربص ببني آدم، وقاعد لهم بكل سبيل؛ فهو عدوهم الذي يسعى سعيه في سبيل إغوائهم.


قال ربنا - تبارك وتعالى - في غير موطن في القرآن الكريم: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
فالعاقل اللبيب لا يثق بعدوه أبداً، ولا يلقي نفسه في براثن الفتن، ولا يفرط في الثقة مهما بلغ من العقل، والدين، والعلم.


ومن هنا تجده ينأى عن الفتن، ولا يستشرف لها؛ فإذا تعرضت له أُعِين عليها، وصاحبه اللطف الإلهي.

وإنْ هو وثق بنفسه، وسعى إلى حتفه بظلفه وُكِلَ إلى نفسه، وزال عنه اللطف.
فهذا يوسف - عليه السلام - لم يتعرض للفتنة، بل هي التي تعرضت له.
ومع ذلك لم يثق بإيمانه، وعلمه، وشرفه المُعْرِق، بل فر من الفتنة، واستعاذ بالله من شرها، واعترف بأنه إن لم يصرف الله عنه كيد النسوة صبا إليهن وكان من الجاهلين.
ولما كانت هذه هي حالَه صاحَبَهُ اللطف، وأُعِين على الخلاص من ذلك البلاء العظيم.
ومما يعين على تعدي هذه البلايا أن يخصص الإنسان وقتاً محدداً، وعملاً معيناً، وأن يكون له هدف واضح، ويتعامل من خلال ذلك مع الإنترنت.
أما إذا استرسل مع تصفُّح الأوراق، والانتقال من موقع إلى موقع دون هدف أو غاية - ضاع وقته، وقلَّت فائدته، وإفادته.

ومما يعين على ذلك - أيضاً - أن ينظر العاقل في العواقب، وأن يقهر نفسه، ويلجمها بلجام التقوى.
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: " بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى لا تبع عزها بذل المعاصي، وصابر عطش الهوى في هجير المشتهى وإن أمضَّ وأرمض ".
يعني وإن آلم وأحرق.

وقال - رحمه الله -: " وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة؛ ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً؛ لأنه قُهِر، بخلاف غالب الهوى؛ فإنه يكون قوياً لأنه قَهَر ".


ومما يعين على ذلك أن يتجنب المتعامل مع الإنترنت المثيراتِ؛ فيبتعد عن المواقع المنحطة، وعن المنتديات التي يثار فيها الكلام الفاحش، وعن المقالات التي تثير الغرائز، وتحرك الكوامن.


وينأى بنفسه عن الصور الفاضحة، واللقطات المثيرة؛ فإن مَثَلَ النفوسِ - بما جُبِلَتْ عليه من ميل للشهوات، وما أودع فيها من غرائز تميل مع الهوى حيث مال - كمثل البارود، والوقود، وسائر المواد القابلة للاشتعال؛ فإن هذه المواد، وما جرى مجراها متى كانت بعيدة عما يشعل فتيلها، ويذكي أوارها - بقيت ساكنة وادعة، لا يخشى خطرها، والعكس.

وكذلك النفوس؛ فإنها تظل وادعة ساكنة هادئة؛ فإذا اقتربت مما يثيرها، ويحرك نوازعها إلى الشرور من مسموع، أو مقروء، أو منظور، أو مشموم - ثارت كوامنها، وهاجت شرورها، وتحرك داؤها، وطغت أهواؤها.
قال ابن حزم - رحمه الله -:

لا تـلُم مَنْ عَرَّضْ النفسَ لمـا * ليس يُرضي غيرَه عند المحنْ
لا تُـقَرِّبْ عـرفجاً من لهــــبٍ * ومـتى قَـرَّبْتَهُ ثـارتْ دُخـــــنْ

 

وقال:

لا تُتْبِعِ النفسَ الهوى  **  ودَعِ التعرضَ للفتن
إبـليسُ حيٌّ لم يمت  **  والـعينُ بابٌ للفتــن

وقال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني - رحمه الله -:

من قارفَ الفتنةَ ثم ادعى ال  **  عـصمة قـد نافقَ في أمره
ولا يـجيز الشرعُ أسباب مـــا  **  يـورط الـمسلمَ في حظره
فانجُ ودعْ عنك صُداعَ الهوى  **  عـساك أن تـسلمَ من شَـرِّه

 

ومما يعين على النجاة من فتنة الإنترنت غض البصر، لأن الصورة القبيحة تعرض للإنسان ولو بدون قصد؛ فإذا غض بصره أرضى ربه، وأراح قلبه؛ فالعين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب، وغض البصر يورث الراحة؛ فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته.

قال ربنا - عز وجل -: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في هذه الآية: " فجعل - سبحانه - غض البصر، وحفظ الفرج هو أقوى تزكيةٍ للنفوس.

وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك ".
ومما يجب على الإنسان حال تعامله مع الإنترنت أن يتثبت مما يقوله، ويسمعه، ويقرؤه، ويرويه.
وبذلك يُعْلَمُ عقلُ الإنسان، ورزانته، وإيمانه.

كيف والإنترنت يُكْتَبُ فيه الغث في السمين، ويَكْتُبُ كل من هب ودب، وبأسماء مجهولة مستعارة ؟
فعلى العاقل أن ينظر في هذا الأمر؛ فإذا اطلع على خبر أو أمر من الأمور تَثَبَّتَ في شأنه، وإذا ثبت له نظر في جدوى نشره، فإن كان في ذلك حفز للخير، واجتماع عليه نشره، وأظهره، وإن كان خلاف ذلك طواه وأعرض عنه.

وكم حصل من جراء التفريط في هذا الأمر من الشر والخلل.
وكم من الناس من يلغي عقله، ويتعامل مع ما ينشر في الإنترنت وكأنه وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.


وإلا فإن العاقل اللبيب يتثبت، ويتأنى حتى ولو اطلع على كلام لشخص معروف موثوق، فضلاً عن مجهول، أو غير موثوق.
ولقد جاء النهي الصريح عن أن يحدث المرء بكل ما سمع.
قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع». (رواه مسلم).


ويتعين هذا الأدب في وقت الفتن والملمات، فيجب على الناصح لنفسه أن يتحرى هذا الأدب؛ حتى يقرب من السلامة، وينأى عن العطب.
قال الله - تعالى -: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83].

قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: " هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم - أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم: أهل الرأي، والعلم، والنصح، والعقل، والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها.


فإذا رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين، وسروراً لهم، وتحرزاً من أعدائهم - فعلوا ذلك، وإن رأوا ما ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه.
ولهذا قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يُوَلَّى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ.


وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمرُ بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه ".

وقال - رحمه الله - في موضع آخر حاثاً على التَّثبُّت، والتدبر، والتأمل قال: " وفي قوله - تعالى -:
{وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] أدبُ طالب العلم، وأنه ينبغي له أن يتأنى في تدبره للعلم، ولا يستعجل بالحكم على الأشياء، ولا يعجب بنفسه، ويسأل ربه العلم النافع والتسهيل ".

وقال - رحمه الله -: " قوله - تعالى -: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12] هذا إرشاد منه لعباده إذا سمعوا الأقوال القادحة في إخوانهم المؤمنين رجعوا إلى ما علموا من إيمانهم، وإلى ظاهر أحوالهم، ولم يلتفتوا إلى أقوال القادحين، بل رجعوا إلى الأصل، وأنكروا ما ينافيه ".

قال ابن حبان - رحمه الله -: " أنشدني منصور بن محمد الكريزي:

الـرفقُ أيـمنُ شـيءٍ أنت تَتْبَعُــه  **  والـخُرقُ أشأمُ شيء يُقْدِم الرَّجُـــلا
وذو الـتثبت مـن حمد إلى ظفرٍ  **  من يركبِ الرفقَ لا يستحقبِ الزللا

ومما ينبغي للعاقل في هذا الشأن ألا يحرص في إبداء رأيه في كل أمر، وألا يقول كل ما يعلم بل اللائق به أن يراعي المصالح؛ فلا يحسن به أن يبدي رأيه في كل صغيرة وكبيرة، ولا يلزمه أن يتكلم بكل نازلة؛ لأنه ربما لم يتصور الأمر كما ينبغي، وربما أخطأ التقدير، وجانب الصواب، والعرب تقول في أمثالها: " الخطأ زاد العَجُول ".
بخلاف ما إذا تريث وتأنى؛ فإن ذلك أدعى لصفاء القريحة، وأحرى لأنْ يختمر الرأي في الذهن، وأخلق بالسلامة من الخطأ.


والعرب تمدح من يتريث، ويتأنى ويقلب الأمور ظهراً لبطن، وتقول فيه: " إنه لحُوَّلٌ قُلَّب ".


بل ليس من الحكمة أن يبدي الإنسان رأيه في كل ما يعلم حتى ولو كان متأنياً في حكمه، مصيباً في رأيه؛ فما كل رأي يجهر به، ولا كل ما يعلم يقال.
بل الحكمة تقتضي أن يحتفظ الإنسان بآرائه إلا إذا استدعى المقام ذلك، واقتضته الحكمة والمصلحة، وكان دأبه في ذلك المشاورة خصوصاً في الأمور الكبار.

وزن الـكلام إذا نـطقت فإنما * يبدي العقولَ أو العيوبَ المنطقُ

 

قال أحد الحكماء: " إن لابتداء الكلام فتنةً تروق وجدَّةً تعجب؛ فإذا سكنت القريحة، وعدل التأمل، وصفت النفس - فليعدِ النظر، وليكن فرحُه بإحسانه مساوياً لغمِّه بإساءته ".


وقال ابن حبان - رحمه الله -: " الرافق لا يكاد يُسْبَق كما أن العَجِل لا يكاد يَلْحَق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم كذلك من نطق لا يكاد يسلم.

والعَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم.
والعَجِل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تُكَنِّي العجلة: أمَّ الندامات ".

 

وذكر بسنده عن عمر بن حبيب قال: " كان يقال: لا يوجد العجول محموداً، ولا الغضوب مسروراً، ولا الحر حريصاً، ولا الكريم حسوداً، ولا الشَّرِه غنياً، ولا الملول ذا إخوان ".
ولهذا تتابعت نصائح الحكماء على التريث خصوصاً عند إرادة الإقدام على مواقع الخطر، قال المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان  **  هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مِــرَّةٍ  **  بلغت من العلياء كل مكـان

وقال:

وكل شجاعة في المرء تغني  **  ولا مثل الشجاعة في الحكيم

 

ومما ينبغي للعاقل: أن يعتدل في طرحه، وأن يحذر من المبالغة، وتضخيم الأمور؛ لأن الحقيقة تضيع بين التهويل والتهوين.
والعرب تقول في أمثالها: " خير الناس هذا النمط الأوسط ".


وأعظم زاجر وواعظ للمرء، ومعين له على الإفادة من الإنترنت، والسلامة من شروره وغوائله - لزوم المراقبة لله - عز وجل - واستشعار اطلاعه - تبارك وتعالى -.

وما أبصرت عيناي أجمل من فتى  **  يخاف مقام الله فـي الخلوات

 

فحري بالعاقل أن يستحضر هذا المعنى جيداً، وأن يتذكر دائماً أن الغيب عند الله علانية، فكيف يليق بالمرء أن يجعل الله - عز وجل - أهون الناظرين إليه ؟! وحقيق عليه أن يدرك أنه من أخفى خبيئة ألبسه الله ثوبها، ومن أضمر شيئاً أظهره الله عليه سواء كان ذلك خيراً أو شراً؛ فالجزاء من جنس العمل، و {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}.

وإليك أخي القارئ الكريم هذه الكلماتِ النورانيَة في هذا الشأن من بعض أئمة السلف - رحمهم الله ورضي عنهم -:
 

قال أبو حازم سلمة بن دينار - رحمه الله -: " لا يُحْسِن عبد فيما بينه وبين الله - تعالى - إلا أحسن الله فيما بينه وبين العباد، ولا يُعَوِّر - يفسد - فيما بينه وبين الله - تعالى - إلا عوَّر الله فيما بينه وبين العباد، ولَمُصَانَعَةُ وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها؛ إنك إذا صانعت الله مالت الوجوه كلُّها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبينه شنأتك - أبغضتك - الوجوه كلها ".

وقال المعتمر بن سليمان - رحمه الله -: " إن الرجل يصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته ".


قال ابن الجوزي - رحمه الله -: " نظرت في الأدلة على الحق - سبحانه وتعالى - فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها: أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله - عز وجل - فيظهره الله - سبحانه - عليه ولو بعد حين، وينطق الألسنة به، وإن لم يشاهده الناس.

وربما أوقع صاحبَه في آفة يفضحه بها بين الخلق؛ فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك؛ ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع مِنْ قَدَره وقدرته حجاب ولا استتار، ولا يضاع لديه عمل.

وكذلك يخفي الإنسان الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن؛ لِيُعْلَمَ أن هنالك ربَّاً لا يُضيع عَمَلَ عامل.


وإن قلوب الناس لَتَعْرِفُ حال الشخص، وتحبه، أو تأباه، وتذمه، أو تمدحه وفْقَ ما يتحقق بينه وبين الله - تعالى - فإنه يكفيه كلَّ همٍّ، ويدفع عنه كل شر.

وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصوده، وعاد حامده ذامَّاً ".


وقال - رحمه الله -: " إن للخلوة تأثيراتٍ تَبيْنُ في الجلوة؛ كم من مؤمن بالله - عز وجل - يحترمه عند الخلوات، فيترك ما يشتهي؛ حذراً من عقابه، أو رجاءً لثوابه، أو إجلالاً له؛ فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هنديَّاً على مجمر، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو.


وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبتُه، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوتَ العود.


فترى عيون الخلق تعظِّم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه، ولا يعرفون لِمَ، ولا يقدرون على وصفه؛ لبعدهم عن حقيقة معرفته.


وقد تمتد هذه الأراييح - يعني الروائح - بعد الموت على قدرها؛ فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى، ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره، وقبره، ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً.


وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق فإنه على قدر مبارزته بالذنوب، وعلى مقادير تلك الذنوب - يفوح منه ريح الكراهة، فتمقته القلوب.


فإن قلَّ مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه.
وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه، ولا يذمونه.

وربَّ خالٍ بذنب كان سبب وقوعه في هُوَّة شِقْوة في عيش الدنيا والآخرة، وكأنه قيل له: ابق بما آثرت؛ فيبقى أبداً في التخبيط.


فانظروا إخواني إلى المعاصي أثَّرت، وعَثَّرت:
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: إن العبد ليخلو بمعصية الله - تعالى - فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر.
فتلمحوا ما سطرته، واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم؛ فإن الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص ".


وقال ابن الجوزي - رحمه الله -: " إنه بقدر إجلالكم لله - عز وجل - يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم.


ولقد رأيت - والله - من أنفق عمره في العلم إلى أن كَبِرت سنُّه، ثم تعدى الحدود، فهان عند الخلق، وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه، وقوة مجاهدته.


ولقد رأيت من كان يراقب الله - عز وجل - في صبوته - مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم - فَعَظَّم اللهُ قدره في القلوب، حتى عَلِقَتْهُ، ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير.
ورأيت من كان يرى الاستقامة إذا استقام، وإذا زاغ مال عنه اللطف.
ولولا عموم الستر، وشمول رحمة الكريم لافتضح هؤلاء المذكورون، غير أنه في الأغلب تأديب، أو تلطف في العقاب ".


وكما أنه يجب على المسلم أن ينأى بنفسه عن شر الإنترنت فكذلك ينبغي له أو يجب عليه ألا يحرم نفسه من خيره، خصوصاً إذا كان ذا دراية، وتخصص فيه؛ فلا يحسن به أن يكون قصاراه ألا يقع في المحذور.
بل عليه أن يقدم النافع المفيد، من المشاركات الهادفة، والاقتراحات النافعة، والدلالة على المواقع الإسلامية الموثوقة.
كما عليه ألا يحقر نفسه في إنكار ما يراه من منكر أو قبيح في الإنترنت كل ذلك بحسب قدرته واستطاعته.

 

وأخيراً إليك أيها الأخ الكريم هذه التساؤلات:
ألا تشعر - وأنت تقلب بصرك في الصور الخليعة - بظلمة في قلبك، ووهن في بدنك، وزهد بالفضيلة ورغبة في الرذيلة ؟ !


ألا تحسُّ - وأنت تطالع المهاترات، وتصيخ سمعك لما يقال في فلان وفلان - بقسوة في قلبك، وإساءة في ظنك، وتشاؤمٍ في نظرتك.


ألا تشعر - إذا قضيت الساعات الطوال أمام الإنترنت بلا فائدة - بضيق في صدوك، وتكسُّرٍ لحاجاتك ؟ حتى إنك لا تطيق من بجانبك، ولا تحرص على الرد بمن يتصل بك عبر الهاتف ؟
وفي مقابل ذلك ألا تشعر بنشاط، وأنس، وسرور وقوةٍ إذا قدمت الخير، وغضضت البصر عن الحرام، واتقيت الله في الخلوة ؟ !.

أسأل الله - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى - أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، مباركين أينما كنا.
والحمد لله رب العالمين.

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

  • 9
  • 0
  • 2,375

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً