ليلة النصف من شعبان

منذ 2023-03-06

تَعَلَّمُوا السُّنَّةَ، وَاحْذَرُوا الْبِدْعَةَ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ يَعْمَلُ فِي بِدْعَتِهِ وَلَا يُقْبَل عَمَلُهُ، وَيَسْعَى وَلَا يَجِدُ أَجْرَ سَعْيِهِ؛ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

ليلة النصف من شعبان

شَهْرُ شَعْبَانَ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ عَمَلٌ وَهُوَ صِيَامُ أَكْثَرِهِ، وَأَحْدَثَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَعْمَالًا أُخْرَى مَا جَاءَتْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ.

 

أَمَّا مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ صِيَامِ أَكْثَرِهِ، فَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَقَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ) . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا»[1].

 

وَحِكْمَةُ إِكْثَارِهِ مِنَ الصِّيَامِ فِي شَعْبَان بَيَّنَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ) [2].

 

وَهَذَا الْعَرْضُ لِلْأَعْمَالِ هُوَ الْعَرْضُ السَّنَوِيُّ؛ فَإِنَّ عَرْضَ الْأَعْمَالِ يَوْمِيٌّ وَأُسْبُوعِيٌّ وَحَوْلِيٌّ: يُعْرَضُ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ[3]، وَالْأُسْبُوعِيُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ يَوْمَيِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ؛ وَلِذَلِكَ نَدَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى صِيَامِهِمَا[4]، وَالْحَوْلِيُّ يُعْرَضُ فِي شَعْبَانَ؛ فَاسْتُحِبَّ صِيَامُ أَكْثَرِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَصُومُ أَكْثَرَهُ.

 

هَذَا مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ شَعْبَانَ: الصِّيَامُ فَحَسْبُ.

 

أَمَّا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ الَّتِي كَثُرَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ حَوْلَها، وَأَحْدَثُوا فِيهَا مَا أَحْدَثُوا، وَخَصُّوهَا بِأَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ؛ حَتَّى أَضْحَتْ هَذِهِ الشَّعَائِرُ وَالْأَعْمَالُ تَنْتَقِلُ إِلَى النَّاسِ عَبْرَ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ عَنْهَا، وَتَحْرِيرَ الْقَوْلِ فِيهَا يَكُونُ فِي مَقَامَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ.

وَثَانِيهِمَا: مَا جَاءَ فِيهَا مِنْ أَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ كَصِيَامِ نَهَارِهَا، وَقِيَامِ لَيْلِهَا، وَاخْتِصَاصِهَا بِصَلَاةٍ يُسَمُّونَهَا الْأَلْفِيَّةَ، وَاتِّخَاذِهَا عِيدًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْأَمْصَارِ.

 

أَمَّا فَضْلُهَا؛ فَجَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ، لَا يَسْلَمُ حَدِيثٌ مِنْهَا مِنْ طَعْنٍ فِي رُوَاتِهِ، أَوِ انْقِطَاعٍ فِي سَنَدِهِ، وَمَنْ صَحَّحَهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّمَا صَحَّحَهَا بِكَثْرَةِ طُرُقِهَا، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهَا حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ بِذَاتِهِ[5].

 

وَمُفَادُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: «أنَّ اللهَ تَعَالَى يَطَّلِعُ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»  وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ مُنْقَطِعٌ[6].

 

وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرِ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ» ؛ أَيْ: غَنَمُ قَبِيلَةِ كَلْبٍ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا -يَعْنِي الْبُخَارِيَّ- يُضَعِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ[7].

 

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى اخْتِصَاصِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِفَضْلٍ؛ تَسَامَحَ فِيهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَصَحَّحُوهَا بِكَثْرَةِ طُرُقِهَا، وَلَوْ كَانَتْ كُلُّ طَرِيقٍ مِنْهَا ضَعِيفَةً.

 

وَطَعَنَ آخَرُونَ فِي أَحَادِيثِهَا، وَلَمْ يَقْبَلُوهَا لِضَعْفِهَا، وَجَزَمُوا بِأَنَّهَا لَيْلَةٌ كَسَائِرِ اللَّيَالِي لَا تَخْتَصُّ بِفَضْلٍ وَلَا بِعَمَلٍ؛ كَمَا نَقَل ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَالَ: «لَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ مَشَايخِنَا وَلَا فُقَهَائِنَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَمْ نُدْرِكْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَذْكُرُ حَدِيثَ مَكْحُولٍ، وَلَا يَرَى لهَا فَضْلًا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ اللَّيَالِي»[8].

 

وَقِيلَ لِلتَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ عَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: إِنَّ زِيَادًا النُّمَيْرِيَّ يَقُولُ: «أَجْرُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَأَجْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: لَوْ سَمِعْتُهُ وَبِيَدِي عَصَا لَضَرَبْتُهُ»[9].

 

وَبَالَغَ بَعْضُ مَنْ عَظَّمَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَزَعَمُوا أَنَّهَا المَقْصُودَةُ بِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:  {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، مَعَ أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ صَرِيحٌ يُفِيدُ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَأَنَّهَا فِي رَمَضَانَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «مَنْ قَالَ إِنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ؛ فَإِنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ»[10].

 

وَقَدْ جَزَمَ بِتَضْعِيفِ كُلِّ أَحَادِيثِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ جَمْعٌ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ المُحَقِّقِينَ، حَتَّى قَالَ الْعَلَّامَةُ المُحَقِّقُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ المَالِكِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «لَيْسَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَدِيثٌ يُسَاوِي سَمَاعَهُ»[11].

 

وَقَالَ عَلَّامَةُ الشَّامِ جَمَالُ الدِّينِ الْقَاسِمِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «قَالَ أَهْلُ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ: لَيْسَ فِي فَضْلِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَدِيثٌ يَصِحُّ»[12].

 

وَقَالَ الشَّيْخُ الْأَزْهَرِيُّ عَلِي مَحْفُوظ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ كُلَّ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الضَّعْفِ وَالْوَضْعِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ» [13].

 

وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَكُلُّ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي لَيْلَةِ نِصْفِ شَعْبَانَ دَائِرٌ أَمْرُهَا بَيْنَ الْوَضْعِ وَالضَّعْفِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ»[14].

 

أَمَّا فَضِيلَةُ الْعَمَلِ فِيهَا، أَوْ تَخْصِيصُهَا بِقِيَامٍ، أَوْ بِإِفْرَادِ يَوْمِهَا بِالصِّيَامِ، أَوْ بِصَلَاةِ الْأَلْفِيَّةِ فِيهَا، وَهِيَ صَلَاةٌ مُبْتَدَعَةٌ وَمُرْهِقَةٌ، يُصَلِّي فِيهَا المُصَلِّي مِئَةَ رَكْعَةٍ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ عَشْرَ مَرَّاتٍ[15]، أَوِ اتِّخَاذِ يَوْمِهَا أَوْ لَيْلَتِهَا عِيدًا بِالِاجْتِمَاعِ فِي المَسَاجِدِ، أَوِ الْبُيُوتِ عَلَى طَعَامٍ مَخْصُوصٍ، وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ وَالزِّينَةِ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ المُبْتَدَعَاتِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

 

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «فَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ النِّصْفِ مُفْرَدًا فَلَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ إِفْرَادُهُ مَكْرُوهٌ، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُهُ مَوْسِمًا تُصْنَعُ فِيهِ الْأَطْعِمَةُ، وَتُظْهَرُ فِيهِ الزِّينَةُ، هُوَ مِنَ المَوَاسِمِ المُحْدَثَةِ المُبْتَدَعَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَها، وَكَذَلِكَ مَا قَدْ أُحْدِثَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ الْعَامِّ لِلصَّلَاةِ الْأَلْفِيَّةِ فِي المَسَاجِدِ الْجَامِعَةِ، وَمَسَاجِدِ الْأَحْيَاءِ وَالدُّرُوبِ وَالْأَسْوَاقِ؛ فَإِنَّ هَذَا الِاجْتِمَاعَ لِصَلَاةِ نَافِلَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِزَمَانٍ وَعَدَدٍ، وَقَدْرٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ لَمْ يُشْرَعْ، مَكْرُوهٌ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي الصَّلَاةِ الْأَلْفِيَّةِ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ..»[16].

 

وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ التَّابِعُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ؛ كَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَمَكْحُولٍ، وَلُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، وَغَيْرِهِمْ يُعَظِّمُونَهَا، وَيَجْتَهِدُونَ فِيهَا فِي الْعِبَادَةِ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ النَّاسُ فَضْلَهَا وَتَعْظِيمَهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَهُمْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ، فَلَمَّا اشْتُهِرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْبُلْدَانِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ مِنْهُمْ، وَافَقَهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهَا، مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ عُبَّادِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، مِنْهُمْ: عَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالُوا: ذَلِكَ كُلُّهُ بِدْعَةٌ»[17].

 

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْظِيمَ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَتَخْصِيصَهَا بِعِبَادَاتٍ أَوْ بِاحْتِفَالَاتٍ مُحْدَثٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبَعْدَ صَحَابَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَعَلَهُ بَعْضُ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ بِنَاءً عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ، ثُمَّ تَبِعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَالْعِبَادَاتُ تُؤْخَذُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَمِمَّا صَحَّ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ أَقْوَالِ الرِّجَالِ وَاجْتِهَادَاتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدّ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) [18].

 

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ:

تَعَلَّمُوا السُّنَّةَ، وَاحْذَرُوا الْبِدْعَةَ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ يَعْمَلُ فِي بِدْعَتِهِ وَلَا يُقْبَل عَمَلُهُ، وَيَسْعَى وَلَا يَجِدُ أَجْرَ سَعْيِهِ؛ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَفِي الدُّنْيَا تَشْغَلُهُ بِدْعَتُهُ عَنْ تَعَلُّمِ دِينِهِ، وَإِقَامَةِ شَرِيعَةِ رَبِّهِ، كَمَا تَشْغَلُهُ عَنِ السَّعْيِ فِي مَصَالِحهِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

 

وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ أَحْرَى أَنْ يُحَاسَبَ عَلَى بِدْعَتِهِ، وَأَنْ يُؤَاخَذَ بِعِبَادَتِه لِرَبِّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى وَلَا يَرْضَاهُ؛ كَمَا يُؤَاخَذُ عَلَى تَقْصِيرِهِ فِي تَعَلُّمِ السُّنَّةِ، وَاجْتِنَابِ الْبِدْعَةِ. وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي بَلَغَتْ فِيهَا السُّنَّةُ الْآفَاقَ، وَانْتَشَرَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ.

 

وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ الَّذِي يَنْشُرُ بِدْعَتَهُ، وَيُنَافِحُ عَنْهَا حَرِيٌّ بِأَنْ يُدْرِكَهُ المَوْتُ وَهُوَ عَلَى بِدْعَتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْشَأَ الْبِدْعَةِ هُوَ الشُّبْهَةُ، وَصَاحِبُهَا يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ وَهُوَ عَلَى شَرٍّ؛ إِمَّا اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ، أَوْ تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِ، فَهُوَ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى عَلَى جَهْلٍ؛ وَلِذَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللهَ تَعَالى حَجَبَ التَّوْبَةَ عَنْ صَاحِبِ كُلِّ بِدْعَةٍ» (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَحَسَّنَهُ المُنْذِرِيُّ) [19].

 

وَمِنْ شُؤْمِ الْبِدْعَةِ أَنَّهَا لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ؛ فَلَيْسَ ثَمَّةَ زِمَامٌ يَزُمُّهَا، وَلَا غَايَةٌ تَبْلُغُهَا، وَالنَّاسُ يَتَوَسَّعُونَ فِيهَا جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهَا الشِّرْكَ وَالْعِيَاذُ بِالله تَعَالَى، أَوْ يَعْمَلُوا أَعْمَالًا شَنِيعَةً مُنْكَرَةً، لَا يَرْضَاهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ غَرَّتْهُمُ الْبِدْعَةُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهَا، وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَا أَحْدَثَ النَّاسُ فِي شَعْبَانَ مِنْ عِبَادَاتٍ وَاحْتِفَالَاتٍ بِنَاءً عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ فِي فَضَائِلِهِ؛ فَإِنَّ بَعْضَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَخَذُوا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، وَأَحْيَوْا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَمَّا انْقَرَضَ جِيلُهُمْ، وَأَعْقَبَتْهَا أَجْيَالٌ أُخْرَى أَحْدَثَ النَّاسُ فِيهَا صَلَاةَ الْأَلْفِيَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ فِي كُلِّ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحَكَمُوا بِبِدْعِيَّتِهَا، وَأَوَّلُ مَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ الْهِجْرِيِّ؛ كَمَا حَكَى ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ المَقْدِسِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فَقَالَ: «لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا بِبَيْتِ المَقْدِسِ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ هَذِهِ الَّتِي تُصَلَّى فِي رَجَبٍ، وَلَا صَلَاةُ شَعْبَانَ، وَأَوَّلُ مَا حَدَثَتْ عِنْدَنَا -يَعْنِي: صَلَاةَ شَعْبَانَ- فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِ مِئَةٍ، قَدِمَ عَلَيْنَا فِي بَيْتِ المَقْدِسِ رَجُلٌ مِنْ نَابْلِس يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي الْحَمْرَاءِ، وَكَانَ حَسَنَ التِّلَاوَةِ، فَقَامَ يُصَلِّي فِي المَسْجِدِ الْأَقْصَى لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ انْضَافَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ وَرَابِعٌ، فَمَا خَتَمَهَا إِلَّا وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ، ثُمَّ جَاءَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَصَلَّى مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَشَاعَتْ فِي المَسْجِدِ الْأَقْصَى وَبُيُوتِ النَّاسِ وَمَنَازِلهِمْ، ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ كَأَنَّهَا سُنَّةٌ...»[20].

 

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أُحْدِثَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَدْعِيَةٌ مَخْصُوصَةٌ؛ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُؤَلِّفُونَهَا وَيُوَزِّعُونَهَا عَلَى الْعَامَّةِ فِي كُتُبٍ مَطْبُوعَةٍ[21].

 

ثُمَّ صَارَ يُحْتَفَلُ بِهَا كَمَا يُحْتَفَلُ بِالْأَعْيَادِ الْكَبِيرَةِ، وَهَكَذَا لَا يَقِفُ الْجَهَلَةُ عِنْدَ حَدٍّ فِي بِدْعَتِهِمْ، وَكُلُّ أَهْلِ جِيلٍ يُحْدِثُونَ فِيهَا أَعْمَالًا جَدِيدَةً، حَتَّى تُصْبِحَ شَعِيرَةً مِنَ الشَّعَائِرِ الْكَبِيرَةِ؛ فَيُطْمَسُ مَا يُطْمَسُ مِنَ السُّنَّةِ، وَيَنْتُجُ عَنْهَا مَا يَنْتُجُ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ، حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ الْحَقُّ فِي غُرْبَةٍ، وَضَحِيَّةُ ذَلِكَ: عَوَامُّ المُسْلِمِينَ؛ إِذْ يَسْعَوْنَ فِي تِلْكَ الْبِدَعِ سَعْيًا بَاطِلًا، يُرْهِقُ أَبْدَانَهُمْ، وَيَسْتَنْزِفُ أَمْوَالهُمْ، وَيُضَيِّعُ أَوْقَاتَهُمْ، وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا بِأَوْزَارٍ اللهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ شَيْءٌ، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ.

 

أَلَا فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَاحْذَرُوا الْبِدَعَ؛ فَإِنَّهَا شَرٌّ عَظِيمٌ، وَالْتَزِمُوا السُّنَنَ فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهَا، وَإِذَا زَاحَمَتِ السُّنَّةُ الْبِدْعَةَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَيْرِ الزَّمَانِ، وَإِذَا قَضَتِ الْبِدْعَةُ عَلَى السُّنَّةِ كَانَ ذَلِكَ شُؤْمًا عَلَى النَّاسِ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ.

 


[1] أخرجه البخاري في الصوم، باب صوم شعبان (1868)، ومسلم في الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان (1156).

[2] أخرجه أحمد (5/ 201)، والنسائي في الصيام، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، واللفظ له (4/ 201)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3077)، وابن أبي شيبة (2/ 346)، والبزار (2617)، وعزاه الحافظ في الفتح لأبي داود (4/ 215)، وصححه ابن خزيمة (2119)، والضياء في المختارة (1356)، وفي رواية ابن خزيمة الاقتصار على ذكر الاثنين والخميس.

وله شاهدان من حديث عائشة وحديث أم سلمة رضي الله عنهما.

[3] كما في حديث أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع فقال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ» رواه أحمد، واللفظ له (4/ 395)، ومسلم (179)، وابن ماجه (195).

[4] جاء في رواية أحمد لحديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- المخرج في هامش (2) عن صيام الاثنين والخميس: «ذَلِكَ يَوْمَان تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» وهو كذلك في رواية ابن خزيمة (2119).

[5] ذكر الشيخ العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى- في السلسلة الصحيحة طرقًا ثمانية لحديث فضل ليلة النصف من شعبان، وهي:

1- حديث معاذ -رضي الله عنه- يرويه مكحول عن مالك بن يخامر عنه مرفوعًا به، وهذا منقطع؛ فإن مكحولًا لم يلق مالك بن يخامر كما أفاد ذلك الذهبي.

2- حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه-، يرويه الأحوص بن حكيم عن مهاصر بن حبيب عنه، والأحوص ضعيف كما ذكر الهيثمي.

3- حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، وفي سنده ابن لهيعة، وهو لين الحديث.

4- حديث أبي موسى -رضي الله عنه-، وفي سنده ابن لهيعة، وعبد الرحمن بن عرزب وهو مجهول.

5- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفي سنده هشام بن عبد الرحمن، وهو مجهول.

6- حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وفي سنده عبد الملك بن عبد الملك، قال البخاري: في حديثه نظر.

7- حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه-، وفي سنده ابن لهيعة وعبد الرحمن بن أنعم وهما ضعيفان.

8- حديث عائشة -رضي الله عنها-، وفي سنده حجاج بن أرطاة، مدلس، وقد عنعن.

وبعد أن ساق الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- هذه الطرق وما لها من متابعات قال: «وجملة القول أن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب، والصحة تثبت بأقل منها عددًا، ما دامت سالمة من الضعف الشديد، كما هو الشأن في هذا الحديث» اهـ من السلسلة الصحيحة (3/ 135-139) برقم (1144).

[6] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (512)، والطبراني في مسند الشاميين (3570)، وفي المعجم الكبير (20/ 108) برقم (215)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 191)، وصححه ابن حبان (5665) من حديث معاذ رضي الله عنه.

قلت: وهو من رواية مكحول عن مالك بن يخامر ولم يلقه فهو منقطع.

[7] أخرجه الترمذي في الصوم، باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان (739)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان (1389)، وأحمد (6/ 238)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (850)، وعبد بن حميد (1509).

وهو من رواية الحجاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة، قال الترمذي: «حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الحجاج، وسمعت محمدًا -يعني البخاري- يضعف هذا الحديث، وقال: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة، والحجاج لم يسمع من يحيى بن أبي كثير» قلت: فهو حديث منقطع، والحجاج بن أرطاة ضعيف.

وتخصيص قبيلتي كلب بالذكر لأجل أنهم أكثر غنمًا من سائر العرب، ينظر: تحفة الأحوذي (3/ 365).

[8] أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (46)، وينظر: الباعث على إنكار البدع لأبي بكر الطرطوشي (1/ 35).

[9] أخرجه ابن وضاح (46)، وينظر: الباعث على إنكار البدع (1/ 35).

[10] تفسير ابن كثير (4/ 210) وقال ابن العربي: «وهو باطل؛ لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، فنَصَّ على أنَّ ميقات نزوله رمضان، ثم عبّر عن زمانية الليل ها هنا بقوله: ﴿ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3] فمن زعم أنها في غيره فقد أعظم الفرية على الله تعالى » اهـ من أحكام القرآن (4/ 117).

[11] عارضة الأحوذي (3/ 275)، وقال في أحكام القرآن: «وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها، فلا تلتفتوا إليها» (4/ 117).

[12] إصلاح المساجد من البدع والعوائد (99)، وقد تعقبه الألباني في الحاشية فقال: «فلا تلتفت إلى ما سينقله المصنف أنه ليس في فضل ليلة النصف حديث يصح، نعم، لا يلزم من ثبوت هذا الحديث اتخاذ هذه الليلة موسمًا يجتمع الناس فيها، ويفعلون فيها من البدع ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى-» اهـ.

وممن ضعف أحاديثها أيضًا العلامة المحدث سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- فقال: «ومن البدع التي أحدثها بعض الناس: بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وتخصيص يومها بالصيام، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، أما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم» اهـ من مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، عدد (26) ص (3) شوال 1394هـ.

[13] الإبداع في مضار الابتداع (287).

[14] مجلة المنار: (مجلد: 31، ص: 331)

[15] وهذه الصلاة المزعومة فيها حديث موضوع عن علي -رضي الله عنه-، ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- في المنار المنيف، ولفظه: «يا علي، مَنْ صلى ليلة النصف من شعبان مئة ركعة، بألف «قل هو الله أحد» قضى الله له كل حاجة طلبها تلك الليلة... وأعطي سبعين ألف حوراء، لكل حوراء سبعون ألف غلام وسبعون ألف ولدان.. ويشفع والداه كل واحد منهما في سبعين ألفًا..» قال ابن القيم بعد أن ساقه مختصرًا: «والعجب ممن شم رائحة العلم بالسنن أن يغتر بمثل هذا الهذيان ويصليها؟! وهذه الصلاة وضعت في الإسلام بعد الأربع مئة، ونشأت من بيت المقدس فوضع لها عدة أحاديث» اهـ من المنار المنيف في الصحيح والضعيف (175)، وينظر: الفوائد المجموعة للشوكاني (50-51).

[16] اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 632) على أن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يرجح أن فضلها ثابت، فقال -رحمه الله تعالى-: «ومن هذا الباب: ليلة النصف من شعبان؛ فقد روي في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة، وأن من السلف من كان يخصها بالصلاة فيها.. ومن العلماء من السلف من أهل المدينة وغيرهم من الخلف من أنكر فضلها، وطعن في الأحاديث الواردة فيها، كحديث «إن الله يغفر فيها لأكثر من عدد شعر غنم كلب» وقال: لا فرق بينها وبين غيرها، لكن الذي عليه كثير من أهل العلم، أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها، وعليه يدل نص أحمد؛ لتعدد الأحاديث الواردة فيها، وما يصدق ذلك من الآثار السلفية، وقد روي بعض فضائلها في المسانيد والسنن، وإن كان قد وضع فيها أشياء أخر» اهـ من الاقتضاء (2/ 631-632).

ولكن شيخ الإسلام نص على أن إفراد النصف بالصيام بدعة، وأما إحياؤها بالصلاة فقال فيه: «إذا صلى الإنسان ليلة النصف وحده أو في جماعة خاصة كما كان يفعل طوائف من السلف فهو أحسن، وأما الاجتماع في المساجد على صلاة مقدرة كالاجتماع على مئة ركعة، بقراءة ألف ﴿ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ  دائمًا فهذا بدعة، لم يستحبها أحد من الأئمة. والله أعلم» اهـ من مجموع الفتاوى (23/ 131).

وقال أيضًا: « وأما ليلة النصف فقد روي في فضلها أحاديث وآثار ونقل عن طائفة من السلف أنهم كانوا يصلون فيها، فصلاة الرجل فيها وحده قد تقدمه فيه سلف، وله فيه حجة فلا ينكر مثل هذا. وأما الصلاة فيها جماعة فهذا مبني على قاعدة عامة في الاجتماع على الطاعات والعبادات فإنه نوعان:

أحدهما: سنة راتبة إما واجب وإما مستحب كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين. وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح فهذا سنة راتبة ينبغي المحافظة عليها والمداومة.

والثاني: ما ليس بسنة راتبة مثل الاجتماع لصلاة تطوع مثل قيام الليل أو على قراءة قرآن أو ذكر الله أو دعاء. فهذا لا بأس به إذا لم يتخذ عادة راتبة» مجموع الفتاوى (23/ 132).

وأما الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- فإنه اختار العمل فيها وإحياءها، ولكنْ أفرادًا وليس جماعات في المساجد، فقال بعد أن ذكر الخلاف فيها: «واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:

أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، كان خالد بن معدان، ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم، ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المساجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعة: ليس ذلك ببدعة، نقله عنه حرب الكرماني في مسائله.

والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها بخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى» اهـ من اللطائف (263).

وذكر أيضًا أنه لم يُعْرف للإمام أحمد كلام في ليلة النصف من شعبان، ثم قال ابن رجب عقب ذلك: «ينبغي للمؤمن أن يتفرغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى ودعائه بغفران الذنوب، وستر العيوب، وتفريج الكروب، وأن يقدم على ذلك التوبة؛ فإن الله تعالى يتوب فيها على من يتوب» اهـ من اللطائف (265).

ولما نقل الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- بعض كلام ابن رجب -رحمه الله تعالى- قال عقبه: «وفيه التصريح منه بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه -رضي الله عنهم- شيء في ليلة النصف من شعبان، وأما ما اختاره الأوزاعي -رحمه الله تعالى- من استحباب قيامها الأفراد، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول فهو غريب ضعيف؛ لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعًا لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله تعالى، سواء فعله مفردًا أو في جماعة، وسواء أسرَّه أو أعلنه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها» اهـ من مجلة الجامعة الإسلامية عدد (26) ص (4).

ثم قال الشيخ عقب ذلك: «فلو كان تخصيص شيء من الليالي بشيء من العبادة جائزًا لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها؛ لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس بنص الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيصها بقيام من بين الليالي دَلَّ ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى، لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص، ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وحث الأمة على قيامها وفعل ذلك بنفسه..» اهـ من مجلة الجامعة الإسلامية عدد (26) ص (9).

وقد ضعف الشيخ -رحمه الله تعالى- كل الأحاديث الواردة في فضلها، فقال: «وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، أما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم... وورد فيها أيضًا آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم، والذي عليه جمهور العلماء أن الاحتفال بها بدعة، وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة وبعضها موضوع.. والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي قد ثبت أصلها بأدلة صحيحة، أما الاحتفال بليلة النصف من شعبان فليس له أصل صحيح حتى يستأنس بالأحاديث الضعيفة، وقد ذكر هذه القاعدة الجليلة الإمام أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-..» اهـ من مجلة الجامعة الإسلامية عدد (26) ص (9).

وحاصل الخلاف فيها كما يلي:

أولًا: أن الأحاديث في فضلها وفي العمل فيها لا يَصِحّ منها شيء، ولا يجوز الاحتجاج بها، وأنها كسائر الليالي لا مزية لها ألبتة وهذا قول علماء المدينة من التابعين وغيرهم كما نقله عنهم زيد بن أسلم، وذكر الشيخ ابن باز أنه قول الجمهور، وجزم به ابن العربي المالكي والقاسمي وعلي محفوظ وابن باز رحمة الله على الجميع.

ثانيًا: تصحيح أحاديث فضلها، وهؤلاء على أقسام ثلاثة:

الأول: من يرى إحياءها بالصلاة جماعة في المساجد، وهو المنقول عن بعض التابعين من أهل الشام؛ كخالد بن معدان، ولقمان بن عامر، ووافقهم إسحاق بن راهويه فيما ذكره ابن رجب رحمة الله على الجميع.

الثاني: إحياؤها في البيوت، وهو قول الأوزاعي واختاره ابن رجب، واستحسنه شيخ الإسلام ابن تيمية.

الثالث: إثبات فضل ليلة النصف من شعبان دون العمل فيها. كما هو قول الألباني.

[17] لطائف المعارف (263).

[18] أخرجه البخاري في الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (2550)، ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718).

[19] أخرجه من حديث أنس -رضي الله عنه-: إسحاق بن راهويه في مسنده (398)، وابن أبي عاصم في السنة (37)، وأبو الشيخ في تاريخ أصبهان (259)، والطبراني في الأوسط (4202)، والبيهقي في الشعب (9457)، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 45)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: «رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة» (10/ 189)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (1620)، وقال: «وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير هارون بن موسى وهو الفروي، قال النسائي وتبعه الحافظ في التقريب: لا بأس به».

وضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية، وقال بعد أن أورد له طريقين (211-212): «هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدار الطريقين على محمد بن عبدالرحمن الكوفي القشيري. قال ابن عدي: هو منكر الحديث مجهول، وهو من مشائخ بقية المجهول..».

[20] الباعث على إنكار البدع (25)، وانظر: الإبداع في مضار الابتداع (288).

[21] تنشر هذه الكتب في كثير من البلاد الإسلامية؛ كبلاد الشام، وخاصة لبنان وسورية، ومصر وتركيا، وشرق آسيا، وغيرها، ويتبنى نشرها وتوزيعها المتصوفة، هدانا الله وإياهم إلى الحق.

  • 11
  • 2
  • 4,344

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً