فضل العلم وأهله
لاهتمام الإسلام بالعلم فقد جاءت أولُ آيات القرآن أمراً بالقراءة والتعلم فقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..}، وأقسم الله تعالى بالقلم وهو من أدوات العلم وذلك لبيانِ فضلِهِ وعُلُوِّ رُتْبَتِهِ فقال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}.
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وأمده بالفهم و حَبَاهُ بالتكريم، سبحانه.. رفع شأن العلم فأقسم بالقلم، وامتنَّ على الإنسان فعلمه ما لم يكن يعلم، وقال لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
يا أخا الإسلام:
رَأَيْتُ العِلمَ صاحِبَهُ كَريــــــمٌ ** وَلَوْ ولدتْهُ آباءٌ لِئَـــــــــــــــامُ
وليسَ يَزالُ يرْفَعُهُ إلــــى أَنْ ** يُعَظِّمَ أَمْرَهُ القَوْمُ الكِــــــرامُ
ويتْبعُونَهُ في كُلِّ حَـــــــــالٍ ** كَراعي الضَّأْنِ تَتْبَعُهُ السَّـوامُ
فلوْلا العِلْمُ مَا سَعِدَتْ رِجَالٌ ** وَلا عُرِفَ الحَلالُ وَلا الحَـرامُ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، أعز العلم وأهله وذمَّ الجهل وحزبه ورفع الدرجاتِ في النعيم المقيم لطلاب العلم والعاملين به.
واشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، أعرف الخلق بالله وأخشاهم له.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعـد:
فإن العِلْمَ يُزكِّي صاحبه ويرفعُ قدرَهُ ويُشْعِرَهُ دوامَ الغنى بحاجة الناس إليه وإقبالهم عليه، والعالمُ الصالحُ العاملُ السائرُ على منهاجِ وطريق الهداية دُرَّةٌ يتيمةٌ في كل زمانٍ ومكانٍ، وخصوصاً هذه الأيام التي زادتْ فيها مرابِحُ الدُّنْيا المُقْبلة على المُلْصَقِينَ بالعلم والمُتَنَاهِبينَ أماكنَ العُلماءِ غَدْراً وأَشَراً.
ويرحم الله الحَكَمِيَّ إذ يقول:
العِلْمُ أشْرَفُ مَطْلوبٍ وَطالِبُــــــــهُ ** للهِ أكْرَمُ مَنْ يَمْشِي عَلى قَـــــــدَمِ
يا طالِبَ العِلمِ لا تَبْغِي بهِ بَــــــدَلا ** فقَدْ ظَفَرْتَ ورَبِّ اللَّوْحِ والْقَلَــــــمِ
وقَدِّسِ العِلمَ واعْرِفْ قَدْرَ حُرْمَتِهِ ** فِي القَوْلِ والفِعْلِ والآدابَ فَالْتَـزِمِ
واجْهَدْ بِعَزْمٍ قَوِيٍّ لا انْثِنَاءَ لَـــــــهُ ** لَوْ يَعْلَمُ الْمَرْءُ قَدْرَ العِلْمِ لَمْ يَنَـــــمِ
والنيةَ اجعلْ لوجهِ اللهِ خالصـــةً ** إنَّ البناءَ بدونِ الأصلِ لَمْ يَقُــــــــمِ
من فضائلِ العلمِ وبركاتِهِ أن القرآن الكريم لم يقبل مجردَ المقارنة بين أهل العلم وفاقديه على الإطلاق وعدَّ ذلك قياساً مرفوضاً، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وبالعلم يُعبَدُ الله على بصيرةٍ وتُقَى ويَقْضِي الناس في الدنيا مآربهم على ضياءٍ من أحكام الشرع الكريم، وبالعلمِ يُقيمون مراسيمَ حياتهم في زواجٍ أو تجارةٍ أو جيرةٍ أو شراكةٍ بحيث يعرف كلٌ منهم ماله وما عليه.
وقبل هذا كله فالعلم هو طريق المعرفة للاعتقاد في رب الأرباب سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ...} [محمد: 19].
ولاهتمام الإسلام بالعلم فقد جاءت أولُ آيات القرآن أمراً بالقراءة والتعلم قال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق 1: 5]، وأقسم الله تعالى بالقلم وهو من أدوات العلم وذلك لبيانِ فضلِهِ وعُلُوِّ رُتْبَتِهِ قال الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1].
ولفضل العلم وكرامته فقد طلب سيدنا موسى عليه السلام من العبد الصالح صحبته لغرض التعلم، قال الله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف 65: 66]، ولم يجعل كليمُ الله عليه السلام لنفسه في الطلب رُتْبَةً لمَّا جعل نفسه تابعاً وذلك التلطف مع نكران الذات لأجل التعلم، وأخبر الله تعالى أنه آتى كليمه موسى عليه السلام نور العلم فقال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14]، وزين الله تعالى به نبيه الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب عليهما السلام فقال الله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]، وقال تعالى عن سيدنا داوود وولده سليمان عليهما السلام : {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، وأخبر في معرض المن بالفضل على نبيه الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء من الآية 113]، ولهذا لم يؤمر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة في شيء كالعلم، قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
ولفضل العلم في حياة الخلق نجد أنه لا يحمله إلا كرام الناس وأهل الأمانة فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «يحمِلُ هذا العِلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الجاهِلينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الغالينَ» (الإمام أحمد في تاريخ دمشق 6 /39 عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري بسندٍ صحيحٍ).
ومن فضل العلم أنه هدايةٌ للصراط المستقيم الذي لا عوج فيه، وقد قال سيدنا إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43].
وأهل العلم هم أهل البصائر يرون ما يراه الناس، وقد قال أهل العلم في زمان قارون: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80].
وأهل العلم أيضا هم أهل الخشية من الله تعالى قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، وهم كذلك أهل الشهادة مع مولاهم والملائكة الكرام، قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
وهم أيضاً أهل الخيرية كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وإنما أنَا قاسِمٌ واللهُ يُعْطِي، ولن تزالَ هذه الأمةُ قائمةً على أمرِ اللهِ لا يَضُرُّهم مَن خالفهم، حتى يأتيَ أمرُ اللهِ» (صحيح البخاري 71 عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما).
وطريق طلاب العلم هو طريق الجنة ونعيمها في الدنيا والآخرة ومع ذلك فإن مجالس العلم مظنات السكينة والرحمة وتنزلات الملائكة، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن نفَّسَ عن مُسلمٍ كُربةً من كرَبِ الدُّنيا، نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَن سترَ مسلِمًا سترَهُ اللَّهُ في الدُّنيا والآخرةِ، ومَن يسَّرَ على مُعسرٍ يسَّرَ اللَّهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرةِ، واللَّهُ في عونِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عونِ أخيهِ، ومَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طريقًا إلى الجنَّةِ، وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ، يَتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويَتدارسونَهُ بينَهُم، إلَّا حفَّتهمُ الملائِكَةُ، ونزَلت عليهمُ السَّكينةُ، وغشيتهمُ الرَّحمةُ، وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فيمن عندَهُ، ومن أبطأَ بِهِ عملُهُ لم يُسرِعْ بِهِ نسبُهُ» (الألباني في صحيح ابن ماجه 185 بسندٍ صحيحٍ)، وعن صفوان بن عسالٍ رضي الله تعالى عنه قال: أتيتُ النبيَّ و هو في المسجدِ مُتَّكيءٌ على بُرْدٍ له أحمرَ، فقلتُ له: يا رسولَ اللهِ ! إني جئتُ أَطلبُ العلمَ، فقال: «مرحبًا بطالبِ العلمِ، إنَّ طالبَ العلمِ تحفُّه الملائكةُ وتُظلُّه بأجنحَتِها، ثم يركبُ بعضُهم بعضًا حتى يبلغوا السماءَ الدُّنيا من محبَّتِهم لما يَطلبُ» (الألباني في صحيح الترغيب 71 وقال: حديثٌ حسنٌ).
والعالم الصالح مقدمٌ في أبواب الفضل على العابد كما جاءت بذلك الأحاديث، فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ... وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب... ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَوْتُ أَلْفِ عَابِدٍ قَائِمٍ اللَّيْلَ صَائِمٍ النَّهَارَ أَهْوَنُ مِنْ مَوْتِ الْعَاقِلِ الْبَصِيرِ بِحَلالِ اللَّهِ وَحَرَامِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ قَالُوا لإِبْلِيسَ: يَا سَيِّدَنَا مَا لَنَا نَرَاكَ تَفْرَحُ بِمَوْتِ الْعَالِمِ مَا لا تَفْرَحُ بِمَوْتِ الْعَابِدِ؟ فَقَالَ: انْطَلِقُوا، فَانْطَلَقُوا إِلَى عَابِدٍ قَائِمٍ يُصَلِّي، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَكَ، فَانْصَرَفَ، فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: هَلْ يَقْدِرُ رَبُّكَ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا فِي جَوْفِ بَيْضَةٍ؟ فَقَالَ: لا، فَقَالَ: أَتَرَوْنَهُ؟ كَفَرَ فِي سَاعَةٍ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى عَالِمٍ فِي حَلْقَةٍ، يُضَاحِكُ أَصْحَابَهُ وَيُحَدِّثُهُمْ، فَقَالَ: أَنَا نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَكَ، فَقَالَ:سَلْ، فَقَالَ: هَلْ يَقْدِرُ رَبُّكَ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا فِي جَوْفِ بَيْضَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: يَقُولُ لِذَلِكَ إِذَا أَرَادَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، قَالَ إِبْلِيسُ: أَتَرَوْنَ ذَلِكَ؟ لا يَعْدُو نَفْسَهُ، وَهَذَا يُفْسِدُ عَلَيَّ عَالَمًا كَثِيرًا ] (يوسف بن عبد البر القرطبي / جامع بيان العلم وفضله ص 50 بتحقيق ياسر سليمان أبو شادي – المكتبة التوفيقية – القاهرة).
وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «الدُّنيا مَلعونةٌ، مَلعونٌ ما فيها ؛ إلَّا ذِكْرُ اللهِ و ما والاهُ، و عالِمًا و مُتعلِّمًا» (الألباني في صحيح الترغيب 74 بسندٍ حسنٍ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه).
وجميع الخلق يشتركون في نعوتٍ متشابهة في الأصل والخلقة ويتبقى فضل العلماء مميزاً لهم بين الناس كأنهم شامةٌ في جبين المجتمع على الدوام، يرفع الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه إلى سيدنا علي بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه قوله:
والناس من جهة التمثيل أكفـــاءُ ** أبوهم آدمٌ والأم حــــــــــــــــوَّاءُ
نفسٌ كنفسٍ وأرواحٌ مشاكلــــــةٌ ** وأعظمٌ خلقت فيهم وأعضــــــاءُ
فإن يكن لهم من أصلهم نســــبٌ ** يفاخرون به فالطين والمــــــــاءُ
ما الفضل إلا لأهل العلم أنهــــــم ** على الهدى لمن استهــــدى أدلاءُ
وحسب كل امرئٍ ما كان يحسنه ** والجاهلون لأهل العلم أعـــــداءُ
ففز بعلمٍ تعش حيَّاً به أبـــــــــداً ** الناس موتى وأهل العلم أحــيـاءُ
وحتى بعد الموت تنال بركاتُ العلم أهله فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عملُه إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ.أو علمٍ ينتفعُ به. أو ولدٍ صالحٍ يدعو له» (صحيح مسلم 1631 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه).
من أخبارِ أهلِ الهِمَّةِ في طَلَبِ العِلْمِ:
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إني كنتُ وجارٌ لي من الأنصارِ في بني أُمَيَّةَ بنِ زيدٍ، وهي من عوالي المدينةِ، وكنا نتناوَبُ النزولَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فينزِلُ يومًا وأنزِلُ يومًا، فإذا نزَلتُ جئتُه من خبرِ ذلك اليومِ من الأمرِ وغيرِه، وإذا نزَل فعَل مثلَه... (صحيح البخاري 2468).
وكذلك كان أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه قال أحد أصحابه: كنتُ جالسًا عند أبي الدَّرداءِ في مَسجدِ دِمشقَ، فأتاه رجلٌ فقال: يا أبا الدَّرداءِ، أتيتُكَ من المدينةِ، مدينةِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ؛ لحديثٍ بَلَغني أنَّك تُحدِّثُ به عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قال: فما جاء بك تِجارةٌ؟ قال: لا قال: ولا جاء بك غيرُه؟ قال: لا قال: فإني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء إنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا دِينارًا ولا دِرهمًا، إنَّما ورَّثوا العِلْمَ، فمَن أخَذَه أخَذَ بحظٍّ وافرٍ» (الألباني في صحيح ابن ماجه 183 بسندٍ صحيحٍ).
وابن عباس حبر الأمة يطلب العلم من غيره ويمشي إليه في ظروفٍ قاسيةٍ، قال عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين: لمَّا قُبِضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قلْتُ لرجلٍ هَلُمَّ فَلِنَتَعَلَّمَ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإنَّهم كثيرٌ فقال العَجَبُ واللهِ لك يا ابنَ عبَّاس أترى النَّاسَ يحتاجون إليك وفي النَّاسِ مَن ترى مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فركِبْتُ ذلك وأقبَلْتُ على المسألةِ وتتبُّعِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإنْ كنْتُ لآتي الرَّجلَ في الحديثِ يَبْلُغُني أنَّه سمِعَه مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأجِدُه قائِلًا فأتوسَّدُ رِدائي على بابِ دارِه تَسفي الرِّياحُ على وجهي حتَّى يخرُجَ إليَّ فإذا رآني قال يا ابنَ عمِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما لك قلْتُ حديثٌ بلَغَني أنَّك تحدِّثُه عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأحبَبْتُ أن أسمَعَه منك فيقولُ هلَّا أرسَلْتَ إليَّ فآتيَك فأقولُ أنا كنْتُ أحقَّ أن آتيَك وكان ذلك الرَّجلُ يراني فذهَب أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد احتاج النَّاسُ إليَّ فيقولُ أنت أعلمُ منِّي (الهيثمي في مجمع الزوائد 9/280 وقال: رجاله رجال الصحيح).
وقال كميل بن زيادٍ: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالكوفة فخرجنا حتى انتهينا إلى الجبان فلما أصحر تنفس صعداء ثم قال لي يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها للعلم احفظ عني ما أقول لك الناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق يا كميل بن زياد العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال المال ينقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق يا كميل بن زياد محبة العالم دين يدان تكسبه الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته ومنفعة المال نزول بزواله العلم حاكم والمال محكوم عليه يا كميل مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة وإن هاهنا وأشار إلى صدره لعلماً جماً لو أصبت حملة بلى أصبت لقنا غير مأمون يستعمل آلة الدين بالدنيا وذكر الحديث (ابن عساكر في تاريخ دمشق 50/215).
ومن أطرف ما يروى في طلب العلم ما ذكره الإمام الذهبي في السير عن: محمد بن الفيض الغساني، سمعت هشام بن عمار، يقول: باع أبي بيتا له بعشرين دينارا، وجهزني للحج. فلما صرت إلى المدينة، أتيت مجلس مالك، ومعي مسائل أريد أن أسأله عنها. فأتيته، وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمان قيام، والناس يسألونه، وهو يجيبهم. فلما انقضى المجلس، قال لي بعض أصحاب الحديث: سل عن ما معك؟ فقلت له: يا أبا عبد الله، ما تقول في كذا وكذا؟ فقال: حصلنا على الصبيان، يا غلام احمله. فحملني كما يحمل الصبي وأنا يومئذ غلام مدرك فضربني بدرة مثل درة المعلمين سبع عشرة درة، فوقفت أبكي فقال لي: ما يبكيك؟ أوجعتك هذه الدرة؟ قلت: إن أبي باع منزله، ووجه بي أتشرف بك وبالسماع منك فضربتني، قال يعقوب بن إسحاق الهروي، عن صالح بن محمد الحافظ: سمعت هشام بن عمار، يقول: دخلت على مالك، فقلت له: حدثني، فقال: اقرأ، فقلت: لا. بل حدثني، فقال: اقرأ، فلما أكثرت عليه، قال: يا غلام، تعال اذهب بهذا، فاضربه خمسة عشر، فذهب بي فضربني خمس عشرة درة، ثم جاء بي إليه، فقال: قد ضربته، فقلت له: لم ظلمتني؟ ضربتني خمس عشرة درة بغير جرم، لا أجعلك في حل، فقال مالك: فما كفارته؟ قلت: كفارته أن تحدثني بخمسة عشر حديثا قال: فحدثني بخمسة عشر حديثا. فقلت له: زد من الضرب، وزد في الحديث، فضحك مالك، وقال: اذهب ( الإمام محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي / سير أعلام النبلاء ص428 ج11مؤسسة الرسالة 2001م).
ومن بديع ما يروى في طلب العلم أيضاً ما حكاه أهل السير عن الإمام الأعمش رحمه الله: قال عيسى بن يونس: خرجنا في جنازة، ورجل يقوده، فلما رجعنا عدل به فلما أصحر قال: أتدري أين أنت؟ أنت في جبانة كذا. ولا أردك حتى تملأ ألواحي حديثا. قال: اكتب. فلما ملأ الألواح رده. فلما دخل الكوفة دفع ألواحه لإنسان. فلما أن انتهى الأعمش إلى بابه، تعلق به وقال: خذوا الألواح من الفاسق. فقال: يا أبا محمد قد فات. فلما أيس منه، قال: كل ما حدثتك به كذب. قال: أنت أعلم بالله من أن تكذب (السابق ص237 ج6).
خُطورةُ الجَهْلِ وبَلاؤُهُ:
ولا شك أن أثر الجهل في حياة الخلق مميتٌ مادياً ومعنوياً، ومن المواقف التي تبين ذلك ما حدث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: خرَجنا في سفَرٍ، فأصابَ رجلًا منَّا حجرٌ، فشجَّهُ في رأسِهِ، فاحتلَمَ، فسألَ أصحابَهُ: هل تجدونَ لي رخصةً في التَّيمُّمِ؟ ! قالوا: ما نجدُ لَكَ رخصةً، وأنتَ تقدرُ علَى الماءِ، فاغتسلَ فماتَ، فلمَّا قدِمنا علَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أُخبِرَ بذلِكَ، قالَ: «قَتلوهُ قتلَهُمُ اللَّهُ، ألا سأَلوا إذْ لم يعلَموا؟ ! فإنَّما شفاءُ العِيِّ السُّؤالُ، إنَّما كانَ يَكْفيهِ أن يتيمَّمَ ويَعصِبَ علَى جُرحِهِ خِرقةً ثمَّ يمسحَ علَيها ويغسلَ سائرَ جسدِهِ» (الألباني في تخريج مشكاة المصابيح 507 وقال: حسنٌ لغيره)، فقد يقتل المرء نفسه بجهله، لأن الجهل رديف الموت كما قال أمير الشعراء:
وَالجَهلُ مَوتٌ فَإِن أوتيتَ مُعجِزَةً ♦♦ فَابعَث مِنَ الجَهلِ أَو فَابعَث مِنَ الرَجَمِ
وقد يدمر المرء عبادته بجهله إذا لم يركن إلى العلم الذي يحفظ عليه دينه، ولهذا جاءت الوصايا بالتعلم كما قال القائل:
تعلّم فليس المرء يولد عالمـــــــا *** وليس أخو علم كمن هو جاهـل
وان كبير القوم لا علم عنـــــــده *** صغير إذا التفّت عليه الجحافل
وانّ صغير القوم وان كان عالمـاً *** كبير إذا ردّت إليه المحافـــــــل
والأمةُ الجاهِلَةُ تضيع مجدها وتزري بقيمتها بين الأمم، ومهما حقق الناس والأمم والأفراد من مرابح دنيوية في جوانب المال والمناصب والنفوذ والصيت الاجتماعي مع فقد العلم الذي يكسب الأدب والود الصادق مع أفراد المجتمع فإن هذا المجد الكذوب يؤذن على الدوام بوداع.. والمسألة تعتمد على الوقت في بيان هذه الحقيقة.
والفرد الجاهل تابعٌ على الدوام لترهات عقله أو نقص تفكيره أو هوى نفسه، ما يكاد يستوى قائماً من بلوى حتى يقع في غيرها لأنه لا يعيش حياته على هدى ولا بصيرة، وتخيل الشخص الجاهل والذي يمثل جراب المال المنتفخ في منطقه وسكوته وأفراحه وأتراحه ورضاه وغضبه، تجده عورةً مجتمعية يتمنى الجميع أن يسترها الله.
وقد قامت دولٌ من عثرتها على أعمدة العلم والتخطيط له ورصد الميزانيات الكبيرة لنهضة التعليم فكان لها الشأن الأكبر بين دول العالم، بينما هناك دولٌ كاملة ولديها وفرةٌ متكاثرةٌ في المال ولكنها فقدت بريقها العالمي بسبب الإهمال للتعليم والانجراف نحو مجالاتٍ أخرى.
وقد استعاذ نبي الله موسى عليه السلام بربه أن يكون منعوتاً بالجهل: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة: 67)، ومن صفات أهل الصلاح أنهم لا يختلطون مع الجاهلين، قال الله تعالى: {سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]، وأهل العلم به يهتدون وأهل الجهل فاقدون لهذه الهداية، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35].
إطلالةٌ واقعيّةٌ في بابِ احترامِ أهلِ العِلْمِ:
وقد كنا في بلادنا العربية والإسلامية منذ خمسين عاماً وأكثر نقدر العلم وأهله غير هذا الزمان، وقد تعلمنا وكررنا سنين عدداً ما قاله أمير الشعراء رحمه الله تعالى:
قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا ♦♦♦ كاد المعلم أن يكون رسولا
بينما قام القطاع الإعلامي والفني بهدم المعلم وإنزاله من منازل الفضل والتقدير والاحترام إلى مدارك السخرية والقماءة والجوع وطرق الأبواب والإهانة في الأفلام والمسرحيات التي رآها كل النشء عبر أجيالنا القائمة، وانهدمت قيمة المعلم بسبب التندر الدائم على حاله والسخرية من لسانه وملبسه ومسكنه ومأكله حتى غدا في قلب المجتمع وقد تسفلت درجته تحت أهل المهن الأخرى، مع إكساب الصناع وُسُومَ المهندسين وإكساب اللاعبين والمطربين وُسُومَ الأبطال وإكساب الطباخين عبر الشاشات شهرةً غلبت الآفاق حتى غدوا أشهر من الشمس في رابعة النهار!.
وإن تعجب فعجبٌ من الأحداث أن يلجأ أستاذٌ في الجامعة على المعاش بعد أن ربى للأمة أجيالاً يعدون سبب نهضتها وقد بلغ من العمر أرذله إلى زاويةٍ صغيرةٍ يَسْتَدِرُّ العطف من الناس وقد نسيه المجتمع المدنيُّ بكل أطيافه حتى غدا بعلمه ومنزلته السامقة محطَّ نظرات الإشفاق، فهل أكرمْنَا العلم وأهله؟ بينما يحصد المبهرون والمبهرات من اللاعبين والراقصين أخلافَ المال والثراء والشهرة والتكريم والجوائز وهم يمثلون الجهل في أبهى حلله!.
وصار أهل الحجا في حيرةٍ تقطع الأنفاس وإذا بهم يقولون: ما هذا الذي يجري؟ وماذا حدث؟! وكيف المخرج من هذا العبث؟
لا بد وأن يكون هناك تدارك من أولي الألباب لهذا البلاء الجامح.
وفي الختام:
نرجو أن نقف في مجتمعاتنا على آثار التعليم في الواقع المعاش فنرى المخترع والطبيب والمهندس ورجل القضاء والأمن والداعية والكاتب والزراعي وأرباب الفن وغيرهم نرى لهم أثراً فاعلاً في مجريات الحياة التي نحياها حتى يحركوا قطار المعيشة على منهجٍ وبصيرةٍ وعلمٍ.
وإن أردنا الإنصاف فإن الملام موجهٌ بالطبع إلى من سعى لإفقاد المعلم قيمته أو خفض وزنه في المجتمع.
وكل الرجاء أن يفطن أهل المسئولية في أقطارنا المسلمة والعربية إلى المحاولات الدؤوبة في وضع المعلمين وأهل العلم في أماكنهم المنشودة التي يستحقونها وإمدادهم بما يحتاجون إليه في الجوانب المادية لكفايتهم لأنهم يقومون برسالة هي أبهى وأرقى رسائل المهن على الإطلاق، وقد فطنت الدول الأوروبية لهذا الأمر فجعلت مرتبة المعلم في الذرى من مهن المجتمع فهم في البلاد المتحضرة فوق جميع الفئات بلا استثناء.
وهو موجه بالضرورة إلى أنماط المعلمين الحريصين على اكتناز المال ونزيفه من جيوب الآباء والأمهات الفقراء بكل الطرق في علانيةٍ من الدروس الخصوصية التي اغتالت فينا معانيَ رائعةً أهمها احترام المعلم ذاته وإدراجه مكانه الأسمى تارة أخرى، ولكن.. هيهات.
ولئن طالبنا أهل المسئولية برعاية المعلم وحفظ حقوقه المادية والمعنوية فإننا وفي ذات الوقت نلتمس الرحمة من المعلم قدر المستطاع في أمور الدروس الخاصة التي أكلت الأخضر واليابس من مدخرات الأسر وباتت هماً لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال، وفي الخاطر سؤالٌ يختصر سوء الحال: متى تنتهي هذه الملحمة المجتمعية والتي لا توجد إلا في بلادنا من الدرس الخاص الذي لا يعرفه أهل الشرق ولا الغرب في تعليمهم؟!.
نسأل الله تعالى أن يعلما ما ينفعنا ويهدينا إلى خير القول والعمل.
والحمد لله في المبدأ والمنتهى.
_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ حسين شعبان وهدان
- التصنيف: