الإسراف وضرره على الأفراد والجماعات

منذ 2024-05-23

ينبغي التنبيه دومًا إن الإسراف من الأمراض التي انتشَرتْ وتفشَّت بين المسلمين في زماننا هذا، وإن لَم يُعالج على الوجه الشرعي، فإنَّ أضراره في الدين والدنيا على الأفراد والجماعات فادحة وخطيرة

الإسراف وضرره على الأفراد والجماعات

المعنى اللغوي والشرعي للإسراف:

بادئ ذي بَدءٍ، ينبغي أن نبدأ بحثنا بالتعريف اللغوي والشرعي للإسراف، وما في معناه من التبذير والترف؛ ليُدرك القارئ الكريم أوْجه الاختلاف بينهما.

 

المعني اللغوي والشرعي للإسراف:

الإسراف أو السَّرَف، وهما بمعنًى واحد، جاء في القاموس[1] ما مُختصره:

"قيل: أرادَ بالسَّرَف الغَفلة، يقال: رجل سَرِفُ الفؤاد؛ أي: غافل، وسَرِفُ العقْلِ؛ أي: قليلُه، وقيل: هو من الإسْراف والتَّبذير في النَّفقة لغير حاجةٍ، أو في غير طاعة الله، والغالبُ على ذِكره الإكثارُ من الذنوب والخطايا، واحْتقاب الأوزار والآثام"؛ ا.هـ.

 

وقال ابن منظور في اللسان[2]:

"السَّرَف والإسراف: مجاوزة القصد، وأسرَف في ماله: عجل من غير قصدٍ، وأمَّا السَّرَف الذي نَهى الله عنه، فهو ما أُنْفِق في غير طاعة الله؛ قليلاً كان أو كثيرًا، والإسراف في النفقة: التبذير...، وقيل: هو مجاوزة القصد في الأكل مما أحلَّه الله"؛ ا.هـ.

 

أمَّا التعريف الشرعي للإسراف، فقال الحافظ ابن حجر في تعريف الإسراف هو: "مجاوزة الحد في كل فِعل أو قولٍ، وهو في الإنفاق أشهر"[3].

 

ويتبيَّن لنا مما سبَق أنَّ المعنى اللغوي لا يختلف كثيرًا عن المعنى الشرعي، فهو أيضًا مُجاوَزة الحد في إنفاق المال وغيره.

 

وأمَّا التبذير فقد جاء في اللسان (4/ 50) ما مختصره:

"قيل: من البذر الذي هو الزرع، وهو راجع إلى التفريق...، وبذر ماله: أفسَده وأنفقَه في السَّرَف، وكل ما فرَّقتَه وأفسدتَه، فقَدْ بذَّرْتَه...، وتبذير المال: تفريقه إسرافًا، ورجل تِبْذارة: للذي يُبذِّر ماله ويُفسده، والتبذير: إفساد المال وإنفاقه في السَّرَف"؛ ا.هـ.

 

أما معناه الشرعي، فقد قال القرطبي في تفسيره[4]:

"قال الشافعي: التبذير إنفاق المال في غير حقِّه، ولا تبذير في عمل الخير، وهذا قول الجمهور، وقال أشْهَب عن مالك: التبذير هو: أخْذ المال من حقِّه ووَضْعه في غير حقِّه، وهو الإسراف"؛ ا.هـ.

 

وجاء في آداب الدين والدنيا (ص299): "واعْلَم أنَّ السرف والتبذير قد يَفترق معناهما، فالسرف: هو الجهل بمقادير الحقوق، والتبذير: هو الجهل بمواقع الحقوق، وكلاهما مذموم، وذَمُّ التبذير أعظم؛ لأن المسرف يُخطئ في الزيادة، والمُبذِّر يُخطئ في الجهل"؛ ا.هـ.

 

وأمَّا التَّرف، فقال ابن منظور في اللسان (9/ 17)، مادة "ترف" ما مُختصره:

"الترف: التنعُّم، والتُّرْفَة: النَّعْمة، والتَّتْريف: حُسن الغذاء، وصبيٌّ مُترف: إذا كان مُنعَّمَ البدن مُدَلَّلاً، والمُترف: الذي قد أبْطَرتْه النعمة وسَعة العيش، وأتْرَفته النعمة؛ أي: أطْغَته"؛ ا.هـ.

 

وأمَّا معناه الشرعي، فقال الشوكاني[5]: "والمُترف: الذي أبْطَرته النعمة، يقال: صبي مُترف: مُنَعَّم البدن، أي صاروا تابعين للنعم التي صاروا بها مُترفين من خصب العيش ورفاهية الحال، وسعة الرِّزق، وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة، واستَغْرقوا أعمارهم في الشهوات النفسانيَّة"؛ ا.هـ.

 

وبعد بيان المدْلول اللُّغوي والشَّرْعي للإسراف، وما يدور في معناه من التبذير والترف، ينبغي التنبيه دومًا إن الإسراف من الأمراض التي انتشَرتْ وتفشَّت بين المسلمين في زماننا هذا، وإن لَم يُعالج على الوجه الشرعي، فإنَّ أضراره في الدين والدنيا على الأفراد والجماعات فادحة وخطيرة، ويَنبغي كذلك أن يُدرك المسلم جيدًا أنَّ الإسراف وما في معناه من التبذير والترف - يشكِّلون معًا مثلثًا لكيد الشيطان وتلبيسه، على رأس المثلث الإسرافُ، وضِلْعاه التبذيرُ والترَف، وهذا المثلثُ الشيطانيُّ أصاب الأُمة الإسلاميَّة بأمراضٍ اجتماعيَّة ونفسيَّة وبدنيَّة خطيرة في الدين والدنيا؛ كما سوف نُبيِّن في هذا البحث.

 

ولهذا كان لهذا المثلث الشيطانيِّ في الكتاب والسُّنة الشيءُ الكثير؛ قَدْحًا وذمًّا، وترهيبًا وترغيبًا، وسوف نذكر الآيات والأحاديث تباعًا حسب موضعها في البحث، ولكن ينبغي أن نُبيِّن أن الإسراف - سواء في الدين أو الدنيا - يَندرج تحت ثلاثة أقسام، وهي بإيجازٍ شديد:

القسم الأول: إسراف محرَّم شرعًا، حرَّمه الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

القسم الثاني: إسراف مكروه، وهو ما جاوَز الشرع وتعاليمه، وله أصل في الدين.

القسم الثالث: إسراف مُباح، وهو ما أباحَه واستحبَّه الشرع بشروط، ولَم يُقَيِّده بحدٍّ مُعَيَّن.

 

وإذا أدْرَكنا ماهية كلِّ قسم من أقسام الإسراف، وما يدور في مداره من التبذير والترف، فسيكون من اليسير على القارئ الكريم عند قراءته لمادة هذا البحث، وبيان أنواع الإسراف المختلفة - إدراك إلى أيِّ قسم ينتمي هذا النَّوع من الإسراف أو ذاك، وسوف نبيِّن ذلك أيضًا للتنبيه عليه، مع بيان الأدلة من الكتاب والسُّنة على حُرمته، أو كراهته، أو إباحته شرعًا، والله المستعان.

 

أنواع الإسراف وضرره في الدين والدنيا:

ونَطرح هنا بعضًا من أنواع الإسراف من كلِّ قسم مما ذكَرناه آنفًا، مع بيان الأدلة من الكتاب والسُّنة الصحيحة، والله المستعان.

 

أولاً: من أنواع الإسراف المحرَّم:

وهي كثيرة، ونكتفي هنا بطرح ثلاثة أنواع على سبيل المثال لا الحصر، واجْتَهدت في بيان أشدِّ الأنواع من وجهة نظري ضررًا على الفرد والمجتمع، والله المستعان.

 

1- الإسراف في القتل:

القَتْل كبيرة من كبائر الذنوب وأعظمها، عدا الشِّرك، ولَم يُبح الشرع القتل إلاَّ في أضيق نِطاق؛ كالقصاص من القاتل، وقَتْل المُرتد عن دينه، وما أشبه ذلك؛ حتى تستقيمَ حياة الناس: دينًا ودنيا؛ قال تعالى: ﴿  {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}  ﴾ [الإسراء: 33].

 

قال الشوكاني في فتح القدير[6] ما مُختصره:

"والمراد بالتي حرَّم الله: التي جعَلها معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد، والمراد بالحق الذي استثناه: هو ما يُباح به قتْل الأنفس المعصومة في الأصل، وذلك كالرِّدة والزنا من المُحصن، وكالقصاص من القاتل عمدًا وعدوانًا، وما يَلتحق بذلك، والاستثناء مُفَرَّغ؛ أي: لا تقتلوها بسبب من الأسباب، إلاَّ بسببٍ مُتلبس بالحقِّ، أو إلاَّ مُتلبسين بالحق، ثم بيَّن حُكم بعض المقتولين بغير حقٍّ، فقال: ﴿  {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا}  ﴾ [الإسراء: 33]؛ أي: لا بسبب من الأسباب المسوِّغة لقَتْله شرعًا، ﴿  {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}  ﴾ [الإسراء: 33]؛ أي: لِمَن يَلي أمره من وَرَثته إن كانوا موجودين، أو ممن له سلطان إن لَم يكونوا موجودين، والسلطان: التسلُّط على القاتل إن شاء قَتَل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخَذ الدِّيَة، ثم لَمَّا بيَّن إباحة القصاص لِمَن هو مُستحق لدم المقتول، أو ما هو عِوَض عن القصاص، نَهاه عن مجاوزة الحد، فقال: ﴿  {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}  ﴾ [الإسراء: 33]؛ أي: لا يُجاوز ما أباحَه الله له، فيَقتل بالواحد اثنين أو جماعة، أو يُمثِّل بالقتيل أو يُعَذِّبه، ثم قال رحمه الله: ﴿  {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}  ﴾ [الإسراء: 33]؛ أي: مؤيدًا مُعَانًا؛ يعني: الوَلِيَّ، فإن الله - سبحانه - قد نصَره بإثبات القصاص له بما أبرَزه من الحُجج وأوضَحه من الأدلة، وأمَر أهل الولايات بمعونته والقيام بحقِّه حتى يَستوفيَه، ويجوز أن يكون الضمير راجعًا إلى المقتول؛ أي: إنَّ الله نصَره بوَليِّه"؛ ا.هـ.

 

وقال تعالى: ﴿  {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}  ﴾ [المائدة: 32].

 

قال ابن حجر الهيتمي: في "الزواجر"[7] ما مختصره:

"جُعِل قتْلُ النفس الواحدة كقتْل جميع الناس؛ مبالغة في تعظيم أمْر القتل الظُّلم، وتفخيمًا لشأنه؛ أي: كما أنَّ قَتْل جميع الناس أمرٌ عظيم القُبح عند كلِّ أحد، فكذلك قتل الواحد يجب أن يكون كذلك، فالمرادُ مشاركتهما في أصل الاستعظام لا في قَدْره؛ إذ تشبيه أحد النظيرين بالآخر، لا يقتضي مساواتهما من كلِّ الوجوه، وأيضًا فالناس لو عَلِموا من إنسان أنه يريد قَتْلهم، جَدُّوا في دَفْعه وقتْله، فكذا يلزمهم إذا عَلِموا من إنسان أنه يريد قَتْل آخر ظُلمًا أن يَجِدُّوا في دَفْعه، وأيضًا مَن فعَل قتلاً ظُلمًا، رجَّح داعية الشر والشهوة والغضب على داعية الطاعة، ومَن هو كذلك يكون بحيث لو نازَعه كلُّ إنسان في مطلوبه وقدَر على قَتْله، قتَله، ونيَّة المؤمن في الخيرات خيرٌ من عمله كما ورَد، فكذلك نيَّته في الشر شرٌّ من عمله، فمَن قتَل إنسانًا ظُلمًا، فكأنما قتَل جميع الناس بهذا الاعتبار"؛ ا.هـ.

 

وفي الأحاديث النبويَّة الصحيحة تحذيرٌ من القتل بغير حقٍّ، ولقد جعَل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - القتل من كبائر الذنوب وأعظمها بعد الكفر بالله، وأكتفي هنا - منعًا للإطالة - بحديث واحدٍ في الصحيحين وفيه الكفاية، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:  قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «اجْتَنبوا السبع المُوبقات» ))، قالوا: وما هنَّ يا رسول الله، قال: (( «الشِّرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ، وأكْل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزَّحف، وقَذْف المُحصنات المؤمنات الغافلات» ))[8].

 

وقال ابن تيميَّة - رحمه الله - في "الاستقامة"[9] ما مُختصره:

"وترتيب الكبائر ثابت في الكتاب والسُّنة؛ كما في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود قال: "قلتُ: يا رسول، أيُّ الذنب أعظم؟ قال: (( «أن تجعلَ لله ندًّا وهو خَلَقك» ))، قلت: ثم أي؟ قال: ( «(أن تقتلَ ولَدك خشية أن يَطعمَ معك» ))، قلت: ثم أي؟ قال: (( «أن تُزاني بحليلة جارك» ))[10]. وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿  {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}  ﴾ [الفرقان: 68].

 

ولهذا قال الفقهاء: أكبر الكبائر الكفر، ثم قتْل النفس بغير حقٍّ، ثم الزنا، لكن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكَر لابن مسعود من جنسٍ أعلى، فأعلى الكفر هو أن تجعلَ الله نِدًّا، بخلاف الكتابي الذي ليس بمُشرك، فإنه دون ذلك، وأعظم القتل قَتْلُ ولَدك، وأعظم الزنا، الزنا بحليلة الجار"؛ ا.هـ.

 

2- الإسراف في المال والتبذير فيه:

الإسراف في المال: هو ما جاوَز حدَّ الاعتدال إلى التبذير أو الترف، وكلاهما ممقوت شرعًا، وسنذكر هنا مثالاً للتدليل على ذلك؛ كالسَّرف في شُرب وتعاطي الدُّخَان وما يجري مجراهما، ونبدأ ونقول بحول الله وقوَّته: إنَّ التدخين إسراف وتبذير في المال، وهو حرام قطعًا، ولا عِبرة لِمَن قال؛ إنه مكروه، فهو قول على الله بغير علمٍ؛ لأنه أولاً تبذير للمال من غير طائلٍ، وثانيًا ضرَره على الصحة والبدن مُدَمِّر على المدى القصير والطويل، فهو يُشبه الانتحار البطيء، والتدخين أسرَف في شُربه الكثيرُ من العباد؛ حتى صار عادة عمَّت وانتشَرت بين الناس على اختلافهم وثقافتهم وحالتهم الاجتماعية، فالطبيب يدخِّن، وهو يعلم خطورة التدخين على الصحة، والمريض يُدخِّن رغم عِلمه بخطورة حالته، والرجل عمومًا يدخن والمرأة كذلك، وحتى الشباب وصغار السنِّ الذين لا يتجاوَز عُمرهم عشر سنوات، تراهم يدخنون بشراهة جهارًا نهارًا، بلا حسيبٍ أو رقيب؛ قال تعالى: ﴿  {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}  ﴾ [المائدة: 100].

 

وأنا لا أدري كيف يستوي الخبيث والطيِّب؟‍

وقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «لا ضرر ولا ضرار» ))[11].

 

والملاحظ أنَّ معظم وفَيات العالَم الصناعي المتقدِّم في أوروبا وأمريكا، إنما هي بسبب التدخين، ولقد خصَّصوا أماكن خاصة لغير المدخنين، وفرَضوا عقوبات صارمة على مَن يدخِّن في الأماكن العامة؛ لخطورة الدُّخَان؛ لأن أضراره وعواقبه وخيمة على الصحة العامَّة، فهو يُعَرِّضك للجلطة، وتصلُّب الشرايين، كما أنه يؤدي إلى الْتهاب الجفون، وما هو أسوأ من ذلك وهو الْتهاب عَصَب الإبصار والعَمى، والتدخين يتسبَّب أيضًا في تسوُّس الأسنان واصفرارها، واسودادها، ويتسبَّب في الْتهاب اللثة، وتقرُّحات الفم واللسان، والربو، وضيق النَّفَس، والسُّعال، والبُصاق، وضَعف كفاءة الرئة، وسوء الهضم، وتليُّف الكبد، والسكتة الدماغية، والذبحة الصدرية، وإصابة شرايين المخِّ بالتصلُّب، ويُسبِّب الغثيانَ، والإمساكَ المُزمنَ، والصداعَ، والأَرَقَ، والفشلَ الكُلوي، وضَعفَ السمع، وفِقدانَ حاسَّة الشمِّ أو إضعافَها، وضَعْفَ الجهاز المناعي... إلخ.

 

فالتدخين ضرره في الدين والدنيا لا يُجادل فيه إلاَّ جاحد، بل هو إسراف ومصيبة متعدِّدة النواحي والمصائب، وحسبنا الله ونعم الوكيل؛ قال تعالى: ﴿  {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}  ﴾ [الإسراء: 27].

 

قال الطبري[12] في تفسيره ما مختصره:

"وأمَّا قوله: ﴿  {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}  ﴾، فإنه يعني: إنَّ المفرِّقين أموالَهم في معاصي الله المنفقيها في غير طاعته - أولياءُ الشياطين، وكذلك تقول العرب لكلِّ ملازم سُنة قومٍ وتابع أثَرهم: هو أخوهم.

 

﴿  {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}  ﴾، يقول: وكان الشيطان لنعمة ربِّه - التي أنعمَها عليه - جحودًا، لا يَشكره عليه، ولكنه يَكفرها بتَرْكه طاعةَ الله، وركوبه معصيتَه، فكذلك إخوانه من بني آدم، المبذِّرون أموالَهم في معاصي الله، لا يشكرون الله على نِعمه عليهم، ولكنهم يخالفون أمره ويعصونه"؛ ا.هـ.

 

وليتذكَّر المُدخِّن المُسرف على نفسه هذا الحديث الشريف عن نَضْلَة بن عُبيد الأَسْلمي؛ عسى أن يفيقَ من غَفلته، ويُقلع عن التدخين كله بأنواعه، قال - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( «لا تزول قدَمَا عبدٍ يوم القيامة؛ حتى يُسأل عن عُمره فيمَ أفناه، وعن عِلمه فيما فعَل فيه، وعن ماله من أين اكْتَسبه، وفيمَ أنفَقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه» ))[13].

 

هذا وقد أفْتَت[14] اللجنة الدائمة للبُحُوث العلميَّة والإفتاء برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - عن شُرب الدُّخَان وبَيْعه بالحُرمة، وإليك نصَّ الفتوى؛ ليحيا مَن حيَّ عن بيِّنة، ويَمت من مات عن بيِّنة:

 

س: ما حُكم الإسلام فيمَن يتَّجر في الدُّخَان (السجائر) التي تُباع بواسطة الرُّخصة من طرف شركة الدُّخَان؟

ج: شُرب الدخان حرام، وزَرْعه حرام، والاتِّجار به حرام؛ لِما فيه من الضرَر العظيم، وقد روي في الحديث: (( «لا ضرَر ولا ضرار» ))[15]، ولأنه من الخبائث، وقد قال الله تعالى في صفة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿  {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}  ﴾ [الأعراف: 157]، وقال: ﴿  {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}  ﴾ [المائدة: 4]؛ ا.هـ.

 

3- الإسراف في الشهوات والخروج عن الفطرة السويَّة:

الله - سبحانه وتعالى - خلَق الإنسان في أحسن تقويم، وجعَله خليفته في الأرض، وسخَّر له كلَّ الكائنات لخِدمته، من أجْل أداء مهمَّته على الوجه الأكمل، وأنزَل عليه الكُتُب لهدايته؛ حتى يَلتزم بالمنهج الذي يُعينه على سلوك طريق الاستقامة، وبعَث له الأنبياء والرُّسل مُبَشِّرين ومُنذرين؛ حتى لا يُسرف على نفسه ويتجاوَز ما شرَع الله له.

 

فإذا خرَج بعد كلِّ هذا واتَّبع شيطانه، وخالَف فِطرته، وأصبَح أسير شهواته ومَلذَّاته، فلا يلومَنَّ إلاَّ نفسه، ولقد حذَّر الله تعالى من هذا الترف الزائد عن الحدِّ والفِسق الذي يُخالف الفطرة السويَّة، فقال تعالى: ﴿  {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}  ﴾ [الإسراء: 16].

 

قال العلاَّمة الشنقيطي في "أضواء البيان" (3/ 159) ما مُختصره:

﴿  {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}  ﴾ بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رُسله وأتْباعهم فيما جاؤوا به، ﴿  {فَفَسَقُوا}  ﴾؛ أي: خرَجوا عن طاعة أمر ربِّهم، وعَصَوه وكذَّبوا رُسله، ﴿  {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول}  ﴾؛ أي: وجَب عليها الوعيد، ﴿  {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}  ﴾؛ أي: أهْلَكناها إهلاكًا مستأصلاً، وأكَّد فِعل التدمير بمصدره؛ للمبالغة في شِدَّة الهلاك الواقع بهم"؛ ا.هـ.

 

وفي السُّنة الصحيحة ترهيب شديدٌ من ارتكاب الفِسق والفواحش، والخروج عن الفطرة السَّويَّة؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «يا معشر المهاجرين، خَمس إذا ابْتُلِيتم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تُدركوهنَّ: لَم تَظهر الفاحشة في قوم قطُّ؛ حتى يُعلنوا بها، إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لَم تكن مضَت في أسلافهم الذين مَضَوْا...» ))؛ الحديث[16].

 

وأرى من الأهميَّة بمكان أن أُلقي مزيدًا من الضوء على خطورة هذا النوع من الإسراف، وأنقل هنا ما قاله صاحب كتاب "الإعجاز العلمي في السُّنة النبوية"؛ لأهميَّته[17] في إثبات ما نسعى إليه، قال ما نصه:

 

"ومن هنا كان تحذير القرآن الكريم من مجرَّد الاقتراب من الفواحش: ما ظهَر منها، وما بطَن، وكانت أحاديث رسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومنها الحديث الذي نحن بصدده - الذي ذكرناه آنفًا - وقد جاء يدقُّ أجراس الخطر من إشاعة الفاحشة في المجتمعات إلى حدِّ الإعلان بها، وما يستوجب ذلك من عقاب الله العاجل بالأمراض والأوجاع التي لَم تكن مضَت في أسلافهم، ولقد صدَّقت الأحداث نبوءَة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبعد أن استباحَت الحركة الصِّهْيَونية العالمية نَشْرَ الفواحش في المجتمعات الإنسانيَّة، من أجْل تدميرها والهيمنة عليها، ابتداءً بالزنا واللواط، ونكاح المحرَّمات، ومرورًا بالخمر والميسر والمخدرات، وانتهاءً بالتشريع للشذوذ الجنسي بمختلف صُوَره الشنيعة، فيُصِر كلٌّ من المجالس التشريعية - مثل: مجلس العموم البريطاني، والكونجرس الأمريكي، والعديد من المجالس الأوروبية، وقادة الكنيسة الأوروبية، وقادة الكنيسة الغربية - على الإقرار بحقِّ الشواذ في مُمارسة أفعالهم الفاحشة والمنافية للفطرة بحماية القانون، دون أن ينقص ذلك من حقوقه شيئًا، إلى حدِّ أن يرثَ بعضه بعضًا بحقِّ الفاحشة الممارسة بينهم، وأن ينالوا كلَّ ما تناله الأُسرة العادية من حقوق ورعاية وحماية من الدولة وتشريعاتها وقوانينها، بل ويجدون مِن عُلماء النفس والطب والوراثة ما يُبَرِّر لهم فواحشهم! فأصبحوا اليوم يعلنون عن أنفُسِهم، ويخرجون بأعدادٍ كبيرة - في مسيرات ومُظاهرات مُهينة لكرامة الإنسان، وجارحة لأنظار المشاهدين - في غير حياءٍ ولا خجل، بل بتباهٍ بالفُحش الفاضح! وقد شجَّعت المُجاهرة بالفحش مزيدًا من الأفراد على الانضمام إلى رَكبهم الشيطاني، وفيهم الوزراء والمديرون، والأطباء والمهندسون، وأساتذة الجامعات، والمدرسون ورؤساء المعابد اليهوديَّة والكنائس المسيحية، وغيرهم من القيادات السياسية والاجتماعية، والدينية والتعليميَّة والعِلميَّة، وأصبَحت لهم الأجهزة الإعلامية التي تدافع عن انحرافهم، وتُشَرِّع لشذوذهم، وتطالب لهم بمزيد من الحقوق، وتُحارب كلَّ مَن يَنتقد أعمالهم المَشينة، أو يحاول إصلاحهم وإخراجهم من الوحل الذي يعيشون فيه، وأصبَحت لهم جمعياتهم وروابطهم ونواديهم ومحافلهم التي يُعلنون عنها بلا خجلٍ! والتي تَجمع فيها هؤلاء الملوَّثون الدَّنسون القَذِرون، من شياطين الإنس الذين خالفوا الفطرة التي فطَرهم الله عليها، فانْحَطُّوا بأنفسهم إلى ما هو أدنى من مستوى الحيوانية التي تعفُّ عن انحطاطهم، فعاقَبهم الله بأمراض نقص المناعة المُكتسبة؛ من مثل: مرض الإيدز، وهو لَم يكن معروفًا من قبلُ بين أفراد البشر وما أهلَك قوم لوط من قبل بعقابٍ لَم يَعرفه سابقوهم، ومن أمراض نقص المناعة مرض الإيدز، والأيبولا وغيرهما، ومرض الإيدز الذي يُعرف باسم: سرطان الشواذ، أو باسم: طاعون القرن العشرين، وهو مرض جديد على الإنسان، ثم قال:

 

فقد بدا هذا الفيروس في اجتياح عالَم الرزيلة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1978م، وفي خلال ثلاث سنوات - أي: إلى مطلع عام 1981م - كان عدد المصابين المعروفين بهذا المرض في حدود العشرات، تعدَّى عددهم الآن عشرات الملايين[18] في المجتمعات الإباحيَّة بجميع دول العالم، وفي مقدِّمتها دول الغرب التي تدَّعي أنها دولٌ متقدِّمة ومتحضِّرة، ودول وسط وجنوب إفريقيا المتخلفة، وسبب ذلك الانحلال في الحالتين البُعد عن الدين الصحيح، فقد وصَل عدد المصابين بأمراض نقص المناعة في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها أكثر من عشرة ملايين، وفي أستراليا أكثر من المليون"؛ ا. هـ.

 

قلت: هذه النبوة عن الأمراض - بسبب الإسراف في الفواحش والتَّرف - ظهَرت في المجتمعات الغربية في أوروبا وفي أمريكا على نطاق واسعٍ، وهي ليستْ منَّا ببعيد، بعد أن أصبَح العالم كله نافذة مفتوحة، يعلم كلُّ فردٍ فيه ما يحدث في أقصى بلاد العالم في التوِّ واللحظة، فنحن نعيش أزهى عصور العلم الذي يَفتح آفاقًا جديدة كلَّ يوم، ولا أدري أتزيد من تقدُّم الأُمم وتحضُّرها بعُقلائها؟ أم إلى تخلُّفها بسُفهائها ومجانينها؟!

 

أقول: ما حدَث هناك يحدث هنا فعلاً في مجتمعاتنا الإسلاميَّة من مسلمين بالاسم دون المسمَّى، ممن لا رادعَ لهم من دين أو ضمير، وفي الخَفاء وعلى استحياء، وصَدَق النبي المعصوم - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: (( «لتتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قبلكم؛ شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ، لسَلَكْتُموه» ))، قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (( «فمَن؟» ))[19].

 

من أنواع الإسراف المكروه:

الإسراف المكروه: هو إسراف في أمر له أصل في الشرع، ولكن بخروجه عن حدِّ الاعتدال المأمور به، صار مكروهًا وإسرافًا ممقوتًا، لَم يأمر به الشرع، بل نَهى عنه، ويَنطبق هذا عمَّا يخصُّ أمور الدنيا، فإن كان في الدين، فالأصل فيه التوقُّف وعدم الزيادة عمَّا شُرِع؛ لأنه يؤدي إلى التنطُّع المكروه، وهو الزيادة عن السُّنة فيما له أصل، ولَم يأمر به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويُخاف عمَّن يَرتكبه من الزيادة فيما لَم يُشرع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأُمَّته، وهو البدعة المحرَّمة قطعًا، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

 

ولقد أمرَنا الله بطاعة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كل ما يخصُّنا - دينًا ودنيا - ونهانا عن مخالفته، وعلى المسلم أن يتَّبع ولا يَبتدع، والآيات والأحاديث في الترهيب من ذلك كثيرة، منها:

 

قوله تعالى: ﴿  {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}  ﴾ [النساء: 65]، وقوله تعالى: ﴿  {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}  ﴾ [الحشر: 7].

 

ومن الأحاديث النبويَّة الصحيحة قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «كل أُمَّتي يدخلون الجنة إلاَّ مَن أبى» ))، قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟ قال: (( «مَن أطاعني دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبى» ))[20]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «هلَكَ المتنطِّعون» ، قالها ثلاثًا))[21].

 

قال النووي: "قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «هلَك المتنطِّعون» ))؛ أي: المتعمِّقون الغالون، المُجاوِزون الحدودَ في أقوالهم وأفعالهم".

 

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ» ))[22]، وفي رواية لمسلم: (( «مَن عمل عملاً ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ» )).

 

قال النووي - رحمه الله - في شرح الحديث:

"قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ» ))، وفي الرواية الثانية: (( «مَن عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ» ))، قال أهل العربية: (الرَّدُّ) هنا بمعنى: المردود، ومعناه: فهو باطل غير مُعتدٍّ به".

 

وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كَلِمه - صلَّى الله عليه وسلَّم فإنه صريح في ردِّ كل البدع والمُخترعات.

 

وفي الرواية الثانية زيادة، وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سبَق إليها، فإذا احْتُجَّ عليه بالرواية الأولى، يقول: أنا ما أحْدَثت شيئًا، فيُحْتَجُّ عليه بالثانية التي فيها التصريح بردِّ كل المُحدثات؛ سواء أحدَثها الفاعل، أو سُبِق بإحداثها"؛ ا.هـ.

 

ومِن ثَمَّ سنكتفي هنا - منعًا للإطالة في مادة هذا البحث - بتوضيح ماهيَّة السَّرَف المكروه في كلٍّ من الدين والدنيا، مع ضَرْب مثال مع واحدٍ لكلٍّ منهما، مع بيان الأدلة الشرعيَّة من الكتاب أو السُّنة الصحيحة؛ ليحيا من حيَّ عن بيِّنة، ويَهْلِك مَن هلَك عن بيِّنة، والله المستعان.

 

أولاً: الإسراف المكروه في الدين:

قلنا: إنَّ الأصل في الدين أو العبادات، التوقُّف وعدم مجاوزة الشرع فيما لَم يُرَخِّص فيه، حتى لو كان له أصل في الشرع؛ كالصلاة والصيام والصدقة... إلخ.

 

لماذا؟ لأنه يؤدي بالتبعة إلى التنطُّع والغُلوِّ في الدين، وربما يؤدي إلى الزيادة فيما لَم يُشرع لنا الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيقع صاحبها في البدعة المحرَّمة - والعياذ بالله، ومن أمثلة هذا الإسراف: السَّرَف في التعبُّد، وإهمال الحقوق، ومن أدلَّته:

 

1- حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسألون عن عبادة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا أُخْبِروا، كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أما أنا، فإني أُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إليهم، فقال: ( «(أنتم الذين قلتُم كذا وكذا، أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفطر، وأُصلي وأَرْقُد، وأتزوَّج النساء، فمَن رَغِب عن سُنَّتي، فليس مني» ))[23].

 

ومن الحديث يتبيَّن رَفْضُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهذا التنطُّع[24] والغلو في العبادة، والزيادة فيها بما لَم يُشرعه ويسنه لأُمَّته، رغم شرعيَّة الأعمال التي أرادوا أن يعملها هؤلاء الرَّهط؛ لأنه تشدُّد وإسراف يُخالف الطبيعة الإنسانيَّة وقُدرتها على التحمُّل.

 

وجاء في "سُبل السلام"؛ للصنعاني (4/ 427) ما مختصره:

"وهو دليل على أنَّ المشروع هو الاقتصاد في العبادات، دون الانهِماك والإضرار بالنفس، وهَجْر المألوفات كلِّها، وأنَّ هذه الملَّة المحمديَّة مبنيَّة شريعتها على الاقتصاد والتسهيل والتيسير، وعدم التعسير؛ ﴿  {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}  ﴾ [البقرة: 185]، ثم قال: وأراد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: (( «فمَن رَغِب عن سُنَّتي -عن طريقتي- فليس منِّي» ))؛ أي: ليس من أهل الحنفيَّة السهلة، بل الذي يتعيَّن عليه أن يَفطُر ليقوى على الصوم، وينام ليقوى على القيام، ويَنكح النساء ليعفَّ نظره وفَرْجه، وقيل: إن أراد مَن خالَف هَدْيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وطريقته أنَّ الذي أتى به من العبادة أرجحُ مما كان عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمعنى: (( «ليس مني» ))؛ أي: ليس من أهل مِلَّتي؛ لأن اعتقاد ذلك يؤدي إلى الكفر"؛ ا. هـ.

 

2- حديث أبي جُحيفة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - آخَى بين سلمان وبين أبي الدرداء، قال: فجاءه سلمان يزوره، فإذا أمُّ الدرداء متبذِّلة[25]، فقال: ما شأنك يا أمَّ الدرداء؟ قالت: إنَّ أخاك أبا الدرداء يقوم الليل ويصوم النهار، وليس له في شيء من الدنيا حاجة، فجاء أبو الدرداء، فرحَّب به وقرَّب إليه طعامًا، فقال له سلمان: اطْعَم، قال: إني صائم، قال: أقْسَمت عليك لتفطرنَّ، ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه ثم بات عنده، فلمَّا كان من الليل، أراد أبو الدرداء أن يقومَ، فمنَعه سلمان، وقال له: يا أبا الدرداء، إن لجسدك عليك حقًّا، ولربِّك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، صُمْ وأفْطِر، وصلِّ، وائْتِ أهلَك، وأعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلمَّا كان في وجه الصُّبح، قال: قمِ الآن إن شئتَ، قال: فقاما فتوضَّأا، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليُخبر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالذي أمرَه سلمان، فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «يا أبا الدرداء، إنَّ لجسدك عليك حقًّا مثل ما قال سلمان» ))، وفي رواية: (( «صدَق سلمان» ))[26].

 

قال المباركفوري[27] في شرح الحديث ما مختصره:

"وفيه مشروعيَّة تزيين المرأة لزوجها، وثبوت حقِّ المرأة على الزوج، وحُسن العِشرة، وقد يؤخذ منه ثبوت حقِّها في الوطء؛ لقوله: " «ولأهلك عليك حقًّا» "، ثم قال: " «وَائْتِ أهلك» " كما في رواية الدارقطني، وقرَّره النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ذلك، وفيه جواز النهي عن المُستحبَّات إذا خُشِي أنَّ ذلك يُفضي إلى السآمة والمَلل، وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فِعلها على فِعل المستحب المذكور، وأنَّ الوعيد الوارد على مَن نَهى مُصلِّيًا عن الصلاة مخصوص بِمَن نهاه ظُلمًا وعدوانًا، وفيه كراهية الحَمْل على النفس في العبادة"؛ ا.هـ.

 

ثانيًا: الإسراف المكروه في الدنيا:

الإسراف المكروه فيما يخصُّ أمور الدنيا، هو إسراف في أمور مباحة شرعًا، وسبب الكراهية فيها أنها تؤدي إلى أضرار وخيمة؛ سواء كانت بدنيَّة، أم نفسية، أم غير ذلك، ومثال ذلك: الإسراف في الطعام والشراب، وها هي الأدلة من الكتاب والسُّنة، والله المستعان.

 

بدهي أنَّ الإسراف في الطعام والشراب الحلال له أضراره على الصحة، والإسراف في الملبس تبذير وتَرَفٌ مكروه ما لَم يُحرمه الشرع، فإن كان حرامًا - كلُبْس الرجال للحرير مثلاً – يكن هذا سَرَفًا محرَّمًا قطعًا؛ قال تعالى: ﴿  {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}  ﴾ [الأعراف: 31].

 

قال الشوكاني في فتح القدير (3/ 30) ما مختصره:

"والزينة ما يتزيَّن به الناس من الملبوس، أُمروا بالتزيُّن عند الحضور إلى المساجد للصلاة والطواف، قوله: ﴿  {وكُلُوا وَاشْرَبُوا * وَلاَ تُسْرِفُوا}  ﴾، أمَر الله - سبحانه - عباده بالأكل والشرب، ونَهاهم عن الإسراف، فلا زُهد في تَرْك مطعمٍ ولا مشرب، وتاركه بالمرَّة قاتلٌ لنفسه، وهو من أهل النار؛ كما صحَّ في الأحاديث الصحيحة، والمُقلل منه على وجه يَضعُف به بَدنُه، ويَعجِز عن القيام بما يجب عليه القيام به من طاعة، أو سعي على نفسه وعلى مَن يعول - مُخالفٌ لِمَا أمَر الله به وأرشد إليه، والمُسرف في إنفاقه على وجه لا يَفعله إلاَّ أهل السَّفه والتبذير - مُخالف لِما شرَعه الله لعباده، واقعٌ في النهي القرآني، وهكذا مَن حرَّم حلالاً، أو حلَّل حرامًا، فإنه يدخل في المسرفين، ويخرج عن المُقتصدين، ومن الإسراف الأكل لا لحاجة، وفي وقتِ شبع"؛ ا.هـ.

 

وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «كُلوا واشربوا، والْبَسوا وتصدَّقوا في غير إسراف ولا مَخِيلَة» ))، وقال ابن عباس: "كُلْ ما شئتَ، والْبَس ما شئتَ ما أخْطَأتْك اثنتان: سَرَف، أو مَخِيلة"[28].

 

وقال أيضًا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان فاعلاً لا محالة، فثُلُث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنَفَسه» ))[29].

 

وهكذا يتبيَّن لنا أنَّ الإسراف في المأكل والمشرب والملبس كلُّه مذموم في الشريعة السَّمحاء.

 

من أنواع الإسراف المباح:

ونبدأ أولاً بتعريف ما المقصود بالمباح؟

المُباح عند علماء الأصول هو: ما أَذِن الشارع في فِعله وتَركه، وخلا من المدح أو الذم، وزيادة في البيان والتوضيح نذكر هنا كلام الحافظ ابن حجر في شرحه للمقصود "بإضاعة المال" من قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأُمهات، ومَنْعًا وهاتِ، ووأْدَ البنات، وكَرِه لكم قيلَ وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعة المال» ))[30]، قال: والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:

الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعًا، فلا شكَّ في مَنْعه.

 

والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعًا، فلا شكَّ في كونه مطلوبًا بالشرط المذكور[31].

 

والثالث: إنفاقه في المباحات بالأَصَالة كملاذِّ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: أن يكون على وجه يَليق بحال المُنفق وبقَدْر ماله، فهذا ليس بإسرافٍ.

 

والثاني: ما لا يَليق به عُرفًا، وهو ينقسم أيضًا إلى قسمين:

أحدهما: ما يكون لدَفْع مَفسدة؛ إمَّا ناجزة، أو متوقَّعة، فهذا ليس بإسرافٍ.

والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك، فالجمهور على أنه إسراف"؛ ا.هـ.

 

ومِن ثَمَّ يتبيَّن لنا أنَّ المباح في الشرع ليس على إطلاقه في كلِّ الأعمال، بل هو نوعان:

النوع الأول:

أعمال أبَاحتها الشريعة، وجاز الزيادة فيها دون تقييدٍ أو تحديد؛ مثل: ذِكر الله، وتلاوة القرآن، والدعاء والاستغفار، وتعلُّم العلم الشرعي... إلخ، فهذا وغيره - مما دَلَّ عليه الشرع - مباحٌ وليس فيه سرَفٌ.

 

ومن أدلة هذا النوع من الكتاب والسُّنة ما يلي:

♦ قال تعالى عن الذِّكر: ﴿  {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}  ﴾ [الجمعة: 10].

 

♦ وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يذكر الله تعالى على كل أحيانه))[32].

 

♦ وقال تعالى عن طلب العلم واستذكاره: ﴿  {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}  ﴾ [طه: 114].

 

♦ وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( {مَن سلَك طريقًا يلتمس فيه عِلمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة} ))[33].

فمثل هذه الأعمال وغيرها - التي أباحَها الشرع - لا إسراف فيها البتَّةَ.

 

النوع الثاني:

♦ ما أباحَته الشريعة ما لَم يَخرج عن الحدِّ الذي يَنقله من دائرة المباح للمكروه؛ كالصدقات بالأموال، والجود بها على الفقراء والمحتاجين، وليس في ذلك سَرَفٌ.

 

ويجب ملاحظة أنَّ الفارق بين السَّرَف والجود، أنَّ السَّرَف تبذيرٌ للمال من غير ضرورة شرعيَّة أو دنيويَّة؛ مباحة كانت، أو غير مباحة، وأمَّا الجود فهو وَضْع المال في موضعه المشروع والمباح.

 

ومن أدلة هذا النوع من القرآن والسُّنة:

♦ قوله تعالى: ﴿  {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}  ﴾ [البقرة: 271].

 

♦ ومن السُّنة ما رُوِي عن سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله تعالى عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أنا ذو مالٍ، ولا يَرثني إلاَّ ابنة لي واحدة، أفأتصدَّق بثُلُثي مالي؟ قال: (( «لا» ))، قلت: أفأتصدَّق بشَطره؟ قال: (( «لا» ))، قلت: أفأتصدَّق بثُلُثه؟ قال: (( «الثُّلُث، والثُّلُث كثير؛ إنَّك إن تَذَر ورَثتك أغنياءَ، خير من أن تَذَرهم عالةً يتكفَّفون الناس» ))[34].

 

قال النووي في شرح الحديث ما مُختصره:

"قوله: "وأنا ذو مال" دليل على إباحة جَمْع المال؛ لأنَّ هذه الصيغة لا تُستعمل في العُرف إلاَّ لمالٍ كثير، قوله: "ولا يَرِثني إلا ابنة لي"؛ أي: ولا يَرثني من الولد وخواص الوَرَثة، وإلاَّ فقد كان له عَصَبة، وقيل: معناه: لا يَرثني من أصحاب الفروض، قوله: "أفأتصدَّق بثُلُثي مالي؟"، قال: (( «لا» ))، قلت: أفأتصدَّق بشَطره، قال: (( «لا، الثُّلُث والثُّلُث كثير» ))؛ أي: يَكفيك الثُّلُث، وفي هذا الحديث مراعاة العدل بين الورثة والوصيَّة؛ قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: إن كان الورثة أغنياءَ، اسْتُحِبَّ أن يوصي بالثُّلُث تبرُّعًا، وإن كانوا فقراءَ، اسْتُحِبَّ أن ينقصَ من الثُّلُث، وأجْمَع العلماء في هذه الأعصار على أنَّ مَن له وارثٌ لا تَنْفُذ وصيَّته بزيادة على الثُّلُث إلاَّ بإجازته، وأجْمَعوا على نفوذها في جميع المال، وأمَّا مَن لا وارِثَ له، فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا تَصِحُّ وصيَّتُه فيما زاد على الثُّلُث، وجوَّزه أبو حنيفة وأصحابه، وإسحاق وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ورُوِي عن علي وابن مسعود - رضي الله عنهما.

 

وأمَّا قوله: "أفأ تصدَّق بثُلُثي مالي؟"، فيحتمل أنه أراد بالصدقة: الوصيَّة، ويحتمل أنه أراد: الصدقة المُنجزة، وهما عندنا وعند العلماء كافة سواء، لا يَنْفُذ ما زاد على الثُّلُث إلا برضا الوارث، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «إنَّك إن تَذَر ورَثتك أغنياءَ» ))، قال - رحمه الله -:

 

وفي هذا الحديث حَثٌّ على صِلة الأرحام، والإحسان إلى الأقارب، والشفقة على الورَثة، وأن صِلة القريب الأقرب والإحسان إليه أفضل من الأبعد، واستدلَّ به بعضُهم على ترجيح الغني على الفقير"؛ ا.هـ.

 

قلت: وجاز - والله أعلم - استحبابًا، وليس بلازم التصدُّق بالمال كله، شريطة عدم وجود ضررٍ؛ لا على مَن يعول، ولا الوَرَثة من بعده، وهذا من السَّرَف المباح؛ وذلك لأدلة، منها:

 

حديث زيد بن أسْلم عن أبيه، قال: سَمِعت عمر بن الخطاب يقول: "أمرَنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن نتصدَّق، فوافَق ذلك عندي مالاً، فقلت: اليوم أسبقُ أبا بكرٍ، إن سبقتُه يومًا، قال: فجِئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «ما أبقيتَ لأهلك» ))، قلت: مِثْلَه، وأتى أبو بكر بكلِّ ما عنده، فقال: (( «يا أبا بكر، ما أبْقَيتَ لأهلك» ))، قال: أبْقَيتُ لهم الله ورسوله، قلت: والله لا أسْبقه إلى شيء أبدًا))[35].

 

قلت: وقد يظنُّ القارئ أنَّ هناك تعارُضًا بين قصة عمر وأبي بكر الذي تصدَّق فيها بكلِّ ماله وحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - الذي ينهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التصدُّق بأكثر من الثُّلُث، وعلى الرغم من أننا في مادة هذا البحث نطرح موضوع الإسراف؛ لأننا أثَرنا هذه النقطة بالاستشهاد بالحديثين، فإنه من الواجب رَفْع الإشكال لدى القارئ الكريم، فها هو الطبري والحافظ ابن حجر - رحمهما الله - قد فنَّدا شُبهة التعارُض، فقد قال ابن حجر[36]:

 

"قال الجمهور: مَن تصدَّق بماله كله في صحَّة بدنه وعقله؛ حيث لا دَيْن عليه، وكان صبورًا على الإضاقة، ولا عيال له، أو له عيال يصبرون أيضًا - فهو جائز، فإن فُقِد شيء من هذه الشروط، كُرِه، وقال بعضهم: هو مردود"، ثم قال: "وقال آخرون: يجوز من الثُّلُث ويُرَدُّ عليه الثُّلُثان، وهو قول الأوزاعي، ومكحول، وعن مكحول أيضًا يُرَدُّ ما زاد على النصف، قال الطبري: والصواب عندنا الأول من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يُجعَل ذلك من الثُّلُث؛ جمعًا بين قصة أبي بكر وحديث كعب، والله أعلم"؛ ا.هـ.

 

وسائل علاج الإسراف في الدين والدنيا:

بعد أن وضَّحنا أقسام الإسراف وأنواعه المختلفة، وأضراره في الدين والدنيا، فمن المنطقي أن يكون مِسْك الختام هو بيان وسائل علاجه على مستوى الأفراد والجماعات[37].

 

وبادئ ذي بَدءٍ، نقول بحول الله وقوَّته: إن هناك وسائلَ عدَّة، منها ما يتعلق بالدِّين، ومنها ما يتعلَّق بالدنيا، وأكتفي هنا في هذا البحث بذِكر أهم أربع وسائل، مع طَرْح أمثلة توضيحية؛ لنُدرك أبعادها وفوائدها على الواقع الذي نعيش فيه؛ لتعمَّ الفائدة، ونُدرك خطورة إسرافنا لو استمرَّ الوضع على ما هو عليه، والله المستعان.

 

الوسيلة الأولى: القناعة الذاتية في المعيشة والإنفاق:

هذه الوسيلة تَنبع من باطن المسلم وقوَّة إيمانه سلبًا وإيجابًا، دون إكراه أو ضغوطٍ، وهي دليل على حبِّ العبد ومراقبته لله تعالى، وابتغاء مَرضاته؛ يَجعله يَلتزم بالمنهج الشرعي الذي يأمره بالزُّهد والتقشُّف، ولا يُحَرِّم عليه التمتُّع بالطيِّبات من الرزق، ما دام لا يَخرج به عن حدِّ الاعتدال غير المرغوب فيه؛ قال تعالى: ﴿  {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}  ﴾ [القصص: 77].

 

قال ابن كثير في تفسيره[38]:

أي: اسْتَعْمِل ما وهبَك الله - من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة - في طاعة ربِّك والتقرُّب إليه بأنواع القُربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة، ﴿  {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}  ﴾؛ أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولزَوْجك عليك حقًّا، فآتِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ﴿  {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}  ﴾؛ أي: أحْسِن إلى خَلْقه كما أحسَن هو إليك، ﴿  {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ}  ﴾؛ أي: لا تكنْ هِمَّتك بما أنت فيه أن تُفسد به الأرض، وتُسيء إلى خَلْق الله؛ ﴿  {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}  ﴾"؛ ا.هـ.

 

وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «قد أفلحَ مَن أسلم ورُزِق كَفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه» ))[39]، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو ويقول: (( «اللهمَّ ارْزُق آلَ محمدٍ قوتًا» ))[40]، قال ابن حجر في شرح الحديث:

 

"قال ابن بطَّال: فيه دليل على فضْل الكَفاف وأخْذ البُلغة من الدنيا، والزهد فيما فوق ذلك؛ رغبةً في توفُّر نعيم الآخرة، وإيثارًا لِمَا يبقى على ما يَفنى، فينبغي أن تَقتدي به أُمَّتُه في ذلك، وقال القرطبي: معنى الحديث أنه طَلب الكفاف، فإنَّ القوت ما يقوت البدن، ويكفُّ عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعًا، والله أعلم"؛ ا.هـ.

 

قلت: ومن أهم الأسباب المؤدِّية إلى الهموم والغموم التي تُصيب كثيرًا من بيوت المسلمين: عدم القناعة بما أعطاهم الله، والتفاخُر بينهم في الإنفاق بسَفَهٍ؛ بغرض التنافُس المَمقوت والإسراف في المظاهر، واللجوء إلى الاستدانة، رغم قلة الإمكانيَّات الماليَّة عند البعض منهم؛ مما يؤدي إلى تراكُم الديون التي تُثقل كاهِلَهم، وتُفسد أخلاقهم، وتَدفعهم إلى طريق الحرام دفعًا، أو على الأقل التقصير في حقِّ الله تعالى ومعصيته، وكفى بهذا جهلاً وسَفَهًا.

 

ولو تأمَّلنا الواقع على مستوى الإنفاق المذموم للأفراد والجماعات، لتعجَّبنا من كثرة الاحتفالات والولائم؛ سواء في إقامة حفلات الزواج في أفخر الفنادق، أو النوادي، أو ما أشبه ذلك من الأماكن التي تحتاج إلى مبالغ طائلة، أو غير ذلك من الأمور؛ من أجْل مظاهر كاذبة ليستْ من الدِّين في شيء البتَّةَ.

 

الوسيلة الثانية: تشجيع التفقُّه في الدين لزيادة الوعي الديني:

والتشجيع يكون بفَتْح بيوت الله، والاهتمام بها، وتشجيع وتكريم العلماء الثِّقات ورَثة الأنبياء، والدُّعاة المخلصين والمجتهدين؛ لشَرْح تعاليم الدين الصحيحة فيها على منهج السلف الصالح، مُلتزمين بفقه الواقع ومصالح العباد دينًا ودنيا، بلا إفراطٍ أو تفريط.

 

أمَّا مُحاربتهم ومَنْعهم؛ حتى يموت الكثير منهم دون أن يستفيدَ الناس من علمهم وفِقههم، وتَرْك أهل الأهواء والبِدع والتصوُّف يُفسدون عقول الناس في بيوت الله بما لَم يُشرعه الله ولا رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو ما حذَّر منه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: (( «إنَّ الله لا يَقبض العلم انتزاعًا يَنتزعه من العباد، ولكن يَقبض العلم بقَبْض العلماء، حتى إذا لَم يَبق عالِم، اتَّخذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً، فسُئِلوا، فأَفْتوا بغير علمٍ، فضَلُّوا وأضلُّوا» ))[41].

 

ولا ريبَ أنَّ فِقدان الوعي الديني والأُميَّة الدينيَّة المنتشرة بين الناس اليوم، لهما عواقبُ وخيمة على السلوك العام؛ لأنَّ الجهل من أعظم الأسباب المؤدِّية إلى البدع والخُرافات، والبُعد عن منهج الله تعالى وسُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

ومِنْ ثَمَّ ينبغي الاهتمام بتفقيه الناس بأمور دينهم؛ لأهميَّة ذلك في السلوك العام والخاص، وما مشكلة السَّرَف إلاَّ مشكلة عالجَها الدين، ووضَع الحلول لها، ومعرفة الناس بها وتطبيقها على الوجه الصحيح يُسهم إسهامًا فعَّالاً في القضاء على ظاهرة الإسراف بكافة أنواعه وأقسامه؛ ولهذا حثَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُمَّته على التفقُّه في الدِّين، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «مَن يُرِد الله به خيرًا، يُفَقِّهه في الدِّين» ))[42].

 

قال المُناوي في "فيض القدير" (6/315) ما مختصره:

"(( «مَن يُرِد الله به خيرًا» ))؛ أي: مَن يُرِد الله به جميع الخيرات، (يُفقِّهه) بسكون الهاء؛ لأنها جواب الشرط (في الدِّين)؛ أي: يُفهمه عِلم الشريعة بالفقه؛ لأنه علمٌ مُستنبط بالقوانين والأدلة والأَقْيسة، والنظر الدقيق، بخلاف علم اللغة والنحو والصرف، ثم قال: فمفهوم الحديث أنه من لَم يتفقَّه في الدين؛ أي: يتعلَّم قواعد الإسلام، لَم يُرِد الله به خيرًا"؛ ا.هـ.

 

قلت: ومِنْ ثَمَّ ينبغي للمسلم أن يَطلب العلم، ويَجتهد في ذلك؛ ليتفقَّه في العلوم الشرعيَّة، والتي هي أشرف العلوم بجانب العلوم الدنيويَّة؛ ليُسهم إسهامًا فعَّالاً في إدراكه للواقع الذي يعيش فيه، ويَلتمس بنورها الطريق السليم الذي يَنبع عن سلوك واقتناع كامِلَين بخطورة المشاكل والأزمات - كمشكلة السَّرَف مثلاً - التي تعترض طريق سعادته وفلاحه دينًا ودنيا، فيُدرك ما ينبغي عمله حيال تصرُّفاته، فيَنتهج بإرادته الحرَّة التي يدفعها إيمانه بالله وحبُّه لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم عِلمه ومعرفته بما يرضي الله وما يُسخطه عليه، وهذا يؤدي بالتَّبعة على استقامة الأمر على مستوى الأفراد والجماعات.

 

الوسيلة الثالثة: استغلال وسائل الإعلام المختلفة للتوجيه والإرشاد:

وسائل الإعلام المختلفة المقروءة والمسموعة والمرئية في زماننا هذا - لها تأثير عظيمٌ على سلوكيَّات أفراد الأُمة، وينبغي لِمَن في يده إدارة هذه الوسائل أن يوجِّهها لحلِّ مشاكل المجتمع ومشكلة الإسراف منها؛ لأن خطره يُحيط بالجميع؛ لأنه وسيلة للترف المذموم، وهو حاصل اليوم في الوسائل المرئيَّة فيما تبثُّه قنوات التلفاز وأطباق الدش والفضائيَّات من أفلام إباحيَّة وجنسيَّة، ومسلسلات خليعة، ومسرحيات ماجنة... إلخ.

 

وكلها تدعو إلى الفِسق، وتُشيع الفواحش بين العباد، ونتائجها مدمِّرة للقِيَم، مُخالفة للدين، وأين هؤلاء من قوله تعالى: ﴿  {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}  ﴾ [النور: 19].

 

وكذلك يفعل خُطباء الفتنة من أنصار التجديد والتحديث، من أتْباع أبي جهل وعبدالله بن أُبَي بن سلول - نسأل الله العافية - عندما يُسرفون في التشكيك والسخرية في الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية، وفي المؤتمرات والندوات... إلخ.

 

يُشكِّكون العباد في الثوابت الإسلاميَّة، ويُحَرِّضونهم على التمرُّد على الدين والاستهانة بالعلماء العاملين بالكتاب والسُّنة، ويَصفونهم بالجمود والتطرُّف... إلى آخره، وهؤلاء هم الذين وصَفهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «دُعاة على أبواب جهنَّمَ، من أجابَهم إليها قذَفوه فيها» ))، قلت: يا رسول الله: صِفْهم لنا، فقال: (( «هم مِن جِلدتنا، ويتكلَّمون بألْسِنتنا» ))[43].

 

فلو عَمِل مَن بيده هذه الوسائل على نَشْر التوعية السليمة، وقدَّم أهل الفضل والعلم على أهل الفِسق والفجور، واستخدَم هذه الوسائل لخدمة المجتمع، وحثَّ العباد على ما يَنفعهم في الدين والدنيا، لوجدنا العجب العُجاب؛ قال تعالى: ﴿  {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}  ﴾ [الأعراف: 96 - 99].

 

قال ابن كثير في تفسيره (3/ 451):

"أي: آمنَت قلوبهم بما جاءتهم به الرُّسل، وصدَّقت به واتَّبَعته، واتَّقوا بفِعل الطاعات وتَرْك المحرَّمات، ﴿  {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ}  ﴾؛ أي: قَطْر السماء ونبات الأرض، قال تعالى: ﴿  {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}  ﴾؛ أي: ولكن كذَّبوا رُسلهم، فعاقَبناهم بالهلاك على ما كسَبوا من المآثم والمحارم، ثم قال تعالى مُخوِّفًا ومحذِّرًا من مخالفة أوامره، والتجرُّؤ على زواجره: ﴿  {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى}  ﴾؛ أي: الكافرة، ﴿  {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا}  ﴾؛ أي: عذابنا ونَكالُنا، ﴿  {بَيَاتًا}  ﴾؛ أي: ليلاً، ﴿  {وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}  ﴾؛ أي: في حال شُغلهم وغَفلتهم، ﴿  {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ}  ﴾؛ أي: بأسه ونِقمته، وقُدرته عليهم، وأخْذَه إيَّاهم في حال سَهوهم وغَفلتهم، ﴿  {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}  ﴾؛ ولهذا قال الحسن البصري - رحمه الله -: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مُشْفِق وَجِلٌ خائفٌ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمِنٌ"؛ ا.هـ.

 

الوسيلة الرابعة: عقاب المسرفين والمبذرين بالحَجْر عليهم:

أباحَت الشريعة الحَجْرَ على السُّفهاء[44] من المسرفين والمبذِّرين على المستوى الفردي والجماعي؛ حفظًا للمال العام والخاص؛ قال تعالى: ﴿  {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}  ﴾ [النساء: 5].

 

قال ابن كثير في تفسيره (2/ 214):

"ينهى تعالى عن تَمْكين السُّفهاء من التصرُّف في الأموال التي جعَلها الله للناس قيامًا؛ أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن ها هنا يُؤْخَذُ الحَجْر على السُّفهاء، وهم أقسام: فتارة يكون الحَجْرُ للصغر؛ فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحَجْرُ للجنون، وتارة لسوء التصرُّف؛ لنَقْص العقل أو الدين، وتارة يكون الحجر للفَلَس، وهو ما إذا أحاطَت الديون برجل وضاقَ ماله عن وفائها، فإذا سأل الغُرَماء الحاكمَ الحَجْرَ عليه، حَجَرَ عليه"؛ ا.هـ.

 

وسَرَفُ الأفراد أمرٌ علاجه هَيِّن، يستطيع وَلِيُّ أمر السَّفيه - سواء كان طفلاً، أم امرأة، أم رجلاً بالغًا ناقصَ العقل أو الدين - أن يَحجُر على ماله، ويتَّخذ لذلك الطُّرق الشرعيَّة والقانونيَّة.

 

أمَّا السَّرَف الجماعي، فمع اختلاط المعايير والقِيَم، وضَعْف الوازع الديني والرَّدع القانوني، وعُلو أهل المنكر على أهل المعروف والفضل، حدَثت تجاوزات خطيرة طفَحت آثارها السيِّئة على السطح، فظهَرت في صُوَرٍ شتَّى للإسراف بأنواعه الثلاثة، وقد ذكَرنا أمثلة منه فيما أسْلَفنا من البحث ما يُغنينا عن تَكراره هنا.

 

وفي كتاب نشَرته وزارة الشؤون الإسلاميَّة والأوقاف والدعوة والإرشاد في السعودية بعنوان "مشكلة السَّرَف في المجتمع المسلم وعلاجها في ضوء الإسلام"[45]، جاء فيه ما نصُّه:

 

"وسرَفُ الجماعات يصدر من جهات جماعيَّة، ويأخذ الطابع الجماعي، وهو يصدق على تصرُّف المؤسَّسات، والشركات، والجمعيَّات، والدول، وكذلك الأفراد إذا انْتَظَمهم عقدٌ واحد، أو عُرْف أو تقليد واحدٌ.

 

وقد يُحكم على أيٍّ منها بالسَّرَف أو التَّرَف أو التبذير، بالنظر إلى التصرُّف الغالب عليها، وهذا النوع من السرف يَحمل من الخطورة والسلبيَّات أضعاف سابقه؛ لِمَا يترتَّب عليه من الآثار الوخيمة على اقتصاد البلد وثروتها، وكم نسمع أو نقرأ عن خسائر تلك الجهات وإعلان إفلاسها، بل إنَّ إلقاء نظرة سريعة على واقع دول العالم الإسلامي، تَرْزَأُ العاقل بالذهول والخجل؛ فإن كثيرًا منها - وعلى رغم ضخامة ثروتها الوطنيَّة - قد اضطرَّت إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي، وقد تراكَمت عليها الديون، فأثْقَلت كاهلها، وتحوَّلت إلى أزمة كبرى لَم تستطع الخلاص منها"؛ ا.هـ.

 

وختامًا، لقد آن الأوان لحلِّ مشكلة الإسراف وعدم تجاهُلها، فخطره عظيم وأضراره في الدين والدنيا مدمِّرة على المستوى العام والخاص، وما ذكرناه في هذا البحث مجرَّد تحذيرٍ وإلقاء الضوء على المشكلة من جهة الشرع، والله هو الهادي إلى الحق بإذنه، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى آله وصَحْبه أجمعين.

 

فهرس البحث:

♦ مقدمة الباحث.

♦ الإسراف في اللغة والشرع.

♦ أنواع الإسراف وضرره في الدين والدنيا.

 

♦ من أنواع الإسراف المحرَّم:

1 - الإسراف في القتل.

2- الإسراف في المال والتبذير فيه.

3- الإسراف في الشهوات والخروج عن الفطرة السويَّة.

 

من أنواع الإسراف المكروه:

أولاً: الإسراف المكروه في الدين:

♦ السرف في التعبُّد وإهمال الحقوق، ومن أدلته.

 

ثانيًا: الإسراف المكروه في الدنيا:

♦ الإسراف في الطعام والشراب والملبس.

♦ من أنواع الإسراف المباح.

♦ وسائل علاج الإسراف في الدين والدنيا:

 

الوسيلة الأولى: القناعة الذاتية في المعيشة والإنفاق.

الوسيلة الثانية: تشجيع التفقُّه في الدين لزيادة الوعي الدين.

الوسيلة الثالثة: استغلال وسائل الإعلام المختلفة للتوجيه والإرشاد.

الوسيلة الرابعة: عقاب المسرفين والمبذرين بالحَجْر عليهم.

 

♦ فهرس البحث.

 


[1] انظر: القاموس المحيط؛ للفيروز آبادي ( 2 / 397)، [النهاية في غريب الحديث والأثر؛ لابن الأثير الجزري (2/ 361)].

[2] انظر: لسان العرب؛ لابن منظور (9/ 148)، مادة "بذر".

[3] انظر: فتح الباري؛ لابن حجر العسقلاني، كتاب اللباس (16/ 323)، شرح قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾ [الأعراف: 32].

[4] انظر: تفسير القرطبي المعروف بالجامع لأحكام القرآن (10/ 247).

[5] انظر: فتح القدير (7/ 496) في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ ﴾ [هود: 116].

[6] انظر فتح القدير؛ للشوكاني (4/ 303).

[7] انظر: "الزواجر عن اقتراف الكبائر"؛ لابن حجر (2/ 447)، كتاب الجنايات: "الكبيرة الثالثة عشرة بعد الثلاثمائة".

[8] أخرَجه البخاري في باب "رَمْي المُحصنات"، (ح2560), ومسلم في الكبائر (ح 129).

[9] انظر: الاستقامة؛ لابن تيمية (ص 468).

[10] أخرَجه البخاري في التفسير (ح 4389).

[11] أخرجه مالك في الأقْضِيَة (1461)، وصحَّح الألباني إسناده في الصحيحة (250)، والإرواء (896)، وغاية المرام (68).

[12] انظر: تفسير ابن جرير الطبري (17 / 430).

[13] أخرَجه الترمذي في صفة القيامة والرقائق (2341)، وقال: "حسن صحيح", وذكَره الألباني في الصحيحة (946)، وصحيح الترغيب ( 1 / 76 ).

[14]انظر: الفتوى رقْم (4947) للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية.

[15] سبَق تخريجه.

[16] وبقيَّة الحديث: ((ولَم ينقصوا المكيال والميزان، إلاَّ أُخذوا بالسنين، وشِدَّة المُؤونة، وجَوْر السلطان عليهم، ولَم يَمنعوا زكاة أموالهم إلاَّ مُنِعوا القَطْر من السماء، ولولا البهائمُ لَم يُمطروا، ولَم يَنقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلاَّ سَلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فأخَذوا بعض ما في أيديهم، وما لَم تحكم أئمَّتُهم بكتاب الله ويتخيَّروا مما أَنزل الله، إلاَّ جعَل الله بأْسَهم بينهم))؛ ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، (1 / 167).

[17] هو د: زغلول النجار - حفظه الله - رئيس لجنة الإعجاز العلمي في القرآن، وأستاذ علوم الأرض، وهو في غنًى عن التعريف, وذلك نقلاً عن كتابه "الإعجاز العلمي في السُّنة النبوية"، (ص 92).

[18] ليَنتبه القارئ لِمَا ذُكِر من إحصائيَّات في الكتاب، فتاريخ نشره هو (أكتوبر 2004 )، ولا شكَّ في تعدِّي الأرقام مما ذُكِر بكثير الآن.

[19] أخرَجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3456), ومسلم في العلم (2669), وابن ماجه في الفتن (3994).

[20] أخرَجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسُّنة (7280).

[21] أخرَجه مسلم في العلم (2670), وأبو داود في السُّنة (4608).

[22] أخرَجه البخاري في الصُّلح (2697), ومسلم في الأَقْضِيَة (1718), وأبو داود في السُّنة (4606).

[23] أخرَجه البخاري في النكاح (5063), ومسلم بمعناه في النكاح (1401), والنسائي (3217).

[24] التنطُّع في الدين: هو التكلُّف والغُلو في العمل بالزيادة على ما شرَع الله.

[25] أي: لابسة البذلة، وهي المهنة وزنًا ومعنًى، والمراد: أنها تاركة للبس ثياب الزينة، وذكَره الألباني في آداب الزفاف ص 83.

[26] أخرَجه البخاري في الصوم (1968), والترمذي في الزهد (2413).

[27] انظر: تحفة الأحوزي في شرح الترمذي ( 6/ 302).

[28] أخرَجه البخاري في اللباس, والنسائي في الزكاة (2559).

[29] أخرَجه الترمذي في الزهد (2380), وابن ماجه في الأطعمة (3349), وانظر: السلسلة الصحيحة (2265)، وصحيح الترغيب (2135).

[30] أخرَجه البخاري في الآداب (2408), ومسلم في الأَقْضِيَة (593).

[31] والشرط الذي يقصده ابن حجر قوله: "ويُستثنى من ذلك: كثرة إنفاقه في وجوه البِرِّ؛ لتحصيل ثواب الآخرة ما لَم يفوِّت حقًّا أُخرويًّا أهمَّ منه".

[32] أخرَجه مسلم في الحَيْض (373), والترمذي في الدعوات (3384), وابن ماجه (302).

[33] أخرَجه الترمذي في العلم (2646), ومسلم في الذكر والدعاء (2699).

[34] أخرَجه البخاري في المغازي (4409)، ومسلم في الوصيَّة (1628).

[35] أخرَجه الترمذي في المناقب (3675), وأبو داود في الزكاة (1678), والدرامي (1660)، وحسَّن الألباني إسنادَه في المِشكاة (6021).

[36] انظر: شرح الحديث؛ لابن حجر في باب: ((لا صدقة إلاَّ عن ظَهْر غِنًى)) (5/ 25).

[37] المقصود بالجماعات: الإسراف الذي يكون من الهيئات والمؤسَّسات والدوَل... إلخ.

[38] انظر: تفسير ابن كثير (6/ 253).

[39] انظر: السلسلة الصحيحة؛ للألباني (1/ 129).

[40] أخرَجه البخاري (597).

[41] أخرَجه البخاري في العلم (100), ومسلم (2673), والترمذي (2652).

[42] جزء من حديث في الصحيحين، أخرَجه البخاري في العلم (71), ومسلم في الزكاة (1037).

[43] أخرَجه البخاري في المناقب (3606)، ومسلم في الإمارة (1847) بلفظ: ((يكون بعدي أئمة لا يَهتدون بهداي، ولا يَسْتنُّون بسُنَّتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جُثمان إنس)).

[44] السُّفهاء: جمع سَفيه، وهو ضعيف العقل، وسيِّئ التصرُّف، وسُمِّي سفيهًا؛ لخِفَّة عقله.

[45] تأليف: عبدالله بن إبراهيم الطريقي.

_________________________________________________

الكاتب: سيد مبارك

  • 1
  • 0
  • 1,134

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً