القناعة والرضا مفتاح السعادة الحقيقية
القناعة كنز لا يفنى، تعني: أن القناعة لا تنتهي، وهي كنز من الكنوز التي يسعى الإنسان لاقتنائها؛ وذلك لأنها غالية جدًّا، ولا يستطيع أي شخص أن يصل إليها، وعندما يقتنع الإنسان ويقنع بما لديه ولا ينظر إلى ما فيه الغَير، ويحمَد ربه دائمًا أبدًا على حاله، فإنه يكون أسعد الناس.
القناعة لغةً:
هي الرضا باليسير من العطاء، وقال بعض أهل العلم: إن القنوع قد يكون بمعنى الرضا وسميت قناعةً؛ لأنه يُقبِل على الشيء الذي كان له راضيًا، والقناعة اصطلاحًا: هي الرضا بما أعطى الله، وقال السيوطي: "القناعة: الرضا بما دون الكفاية والاستغناء بالموجود"، وقال المناوي: "هي السكون عند عدم المألوفات، وقيل: الوقوف عند الكفاية".
للقناعة أهمية كبرى وأثر بالغ في حياة الإنسان، فهي تحقق الرخاء النفسي والراحة الجسدية، وتحرِّر الإنسان من عبودية المادة، وتفتح باب العزة والكرامة، والإباء والعِفَّة، والترفُّع عن صغائر الأمور، إن العبدَ القانع عفيفَ النفس هو أسعد حياةً، وأرخى بالًا، وأكثر دَعَةً واستقرارًا، وهو من هؤلاء الذين مدحهم الله بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273].
لذا، صار القانع أغنى الناس؛ لأن حقيقة الغِنى هي غِنى النفس، والقانع راضٍ ومكتفٍ بما رزقه الله تعالى، وهو لا يحتاج أحدًا، ولا يسأل سوى الله تعالى، القناعة تُمِدُّ صاحبها بصفاء ويقظة روحية، وبصيرة نافذة، وتحفزه على التأهُّب للآخرة، والقيام بالأعمال الصالحة، وتوفير بواعث السعادة فيها، ومن الأسباب المؤدية للقناعة:
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55].
وقال عز وجل أيضًا: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].
• تقوية الإيمان بالله تعالى، وترويض القلب على القناعة، والرضا بما قسمه الله تعالى، مع العلم بأنه ما كان ليُخطئني ما أصابني، وما كان يُصيبني ما أخطأني، والاستعانة بالله والتوكل عليه والتسليم لقضائه وقدره.
• النظر في حال الصالحين وزهدهم وكَفافهم وإعراضهم عن الدنيا وملذاتها.
• تأمل أحوال من هم أقل منا.
• معرفة نِعَمِ الله تعالى والتفكُّر فيها، وأن يعلم أن في القناعة راحةَ النفس، وسلامة الصدر، واطمئنان القلب.
• معرفة حكمة الله تعالى في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد.
• العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء، وكثرة الحركة، وسَعَةِ المعارف، واليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه.
خذ القناعة من الدنيا وارضَ بها ** واجعل نصيبك منها راحة البدنِ
وانظر لمن مَلَكَ الدنيا بأجمعهــا ** هل راح منها بغير القطن والكَفَنِ
خُلُقٌ عظيم من أخلاق الإسلام، وأدب من آدابه العظيمة، إذا تخلَّق به العبد اطمأنَّ قلبه، وهدأت نفسُه، ونعِم بالراحة باله، وسلِمت من الحرام جوارحه، مع خُلُق من أخلاق الأنبياء، وسمة من سمات الأتقياء، وصفة من صفات أهل الفوز والفلاح؛ مع خلق القناعة.
ما أحوجنا إلى القناعة! وما أحوجنا إلى الرضا بما قسم الله، في زمن تكالب فيه كثير من الناس على الدنيا، وانغمسوا في شهواتها، في زمن كثُر فيه التسخُّط والتذمُّر والتشكَّي، وضعُف فيه الرضا بما قسم وقدر رب العالمين سبحانه!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، كُنْ وَرِعًا تكُن من أعبد الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكُن من أغنى الناس، وأحبَّ للمسلمين والمؤمنين ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكرَهْ لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، تكُن مؤمنًا، وجاوِرْ مَن جاورت بإحسان تكن مسلمًا، وإياك وكثرةَ الضحك؛ فإن كثرة الضحك فسادُ القلب»؛ (أخرجه الترمذي (2305) واللفظ له، وابن ماجه (4217) مختصرًا، وأحمد (8095) باختلاف يسير).
• ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس؛ فالرضا بما قسم الله أصلٌ عظيم في استقرار النفس، وهدوء الروح، وانشراح الصدر؛ يقول عامر بن عبد قيس رضي الله عنه: "أربعُ آياتٍ من كتاب الله إذا قرأتهن مساءً لم أُبالِ على ما أُمسي، وإذا تلوتُهن صباحًا لم أبالِ على ما أُصبح: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]، وقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [يونس: 107]، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، وقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7].
وعلينا أن نتذكر أن الدنيا إلى زوال، وأن متاعها إلى فناء:
ليعلم العاقل أن كل حال إلى زوال، فلا يفرح غنيٌّ حتى يطغى ويبطَر، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم، ولا غنى يدوم، وكم من رجال نشؤوا على فُرُشٍ من حرير، وشربوا بكؤوس من ذهب، وورِثوا كنوزًا من المال، وأذلُّوا أعناق الرجال، واستعبدوا الأحرار من الرجال والنساء، فما ماتوا حتى اشتَهوا فراشًا خشنًا يقي الجنب عضَّ الأرض، ورغيفًا من خبز يحمي البطن من قرص الجوع، وهناك آخرون قاسَوا المحن والبلايا، وذاقوا الألم والحرمان، وطوَوا الليالي بلا طعام، فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت لهم الخيرات، وصاروا من سَراة الناس! وسيسوِّي الموت بين الأحياء جميعًا: الغني والفقير؛ فدُودُ الأرض لا يفرِّق بين المالك والأجير، ولا بين الصعلوك والأمير، ولا بين الكبير والصغير، فلا يجزع فقير بفقره، ولا يبطَر غني بغِناه.
فما أجمل القناعة! وما أسعد أهلها لو تحلى بها الناس لَزالت منهم الضغائن والأحقاد، وحفَّت بينهم الأُلفة والمودة؛ فإن ما يقع فيه الناس من خلاف وشقاق سببُه الدنيا والتنافس عليها، سببُه ضعف القناعة والرضا في القلوب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: «والله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم، كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككم كما أهلكتهم»؛ (أخرجه البخاري في صحيحه، الصفحة أو الرقم: 4015، الحديث عن عمرو بن عوف المزني).
فهل من مدَّكِرٍ؟ وهل من معتبر؟ يجعل ما يملك من دنيا في يديه، ويحذر أن تقترب إلى قلبه فتفسده: «ألَا وإن في الجسد مُضْغَةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألَا وهي القلب»؛ (أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
أخي العزيز، عليك أن تنظر إلى من هو أقل منه في المال والمنصب والجاه، ولا تنظر إلى من هو أعلى منه في ذلك؛ فقد علَّمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى مَن أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله، قال أبو معاوية: عليكم»، وفي لفظ لابن حبان في صحيحه: «إذا رأى أحدكم من فوقه في المال والحسب، فلينظر إلى من هو دونه في المال والحسب».
وليس في الدنيا أحدٌ لا يجد من هو أفضل منه في شيء، ولا من هو أقل منه في أشياء؛ فإن كنت فقيرًا ففي الناس من هو أفقر منك، وإن كنت مريضًا ففي الناس من هو أشد منك مرضًا، وإن كنت ضعيفًا ففي الناس من هو أشد منك ضعفًا، فلماذا ترفع رأسك لتنظر إلى من هو فوقك، ولا تُخفِضه لتبصر من هو تحتك؟
وسائلُ تُعين على القناعة:
أولًا: تربية النفس على الاقتصاد في الإنفاق، وعدم الإسراف والتبذير:
فقد قال سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
وقال عز وجل في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
والنفس راغبة إذا رغَّبتها ** وإذا تُرَدُّ إلى قليل تقنعُ
ثانيًا: الاعتقاد بأن الله سبحانه جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس لحكمةٍ يعلمها:
فلله سبحانه وتعالى حكمة في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والمصالح، ويخدم بعضهم بعضًا؛ قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165].
فالذي يعترض على قسمة الله معترض على علمه وحكمته، وهذا جهل وضلال، فإن الذي خلق الخلائق هو أعلم بمصالحهم ومنافعهم؛ وقد قال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
العلم بأن الفقر والغِنى ابتلاء وامتحان:
فالفقير ممتحَن بفقره وحاجته، والغنيُّ ممتحن بغِناه وثروته، وكل منهما مسؤول وموقوف بين يدي الله عز وجل؛ قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].
عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عِظَمُ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحَبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضِيَ فله الرضا، ومن سخِط فله السخط»؛ (أخرجه الترمذي بعد حديث (2396)، وابن ماجه (4031).
وكما أن الفقر ابتلاء، فكذلك الغِنى ابتلاء وامتحان؛ قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]، وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وعن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال؛ عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه»؛ (أخرجه الترمذي، باب في القيامة (4/ 612)، رقم: (2416).
ومن خاصية المؤمن أنه صابر في البأساء والضراء، شاكر في السراء والرخاء؛ وهذا ما نبَّه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمْرَهُ كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرَّاءُ شَكَرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صَبَرَ، فكان خيرًا له»؛ (أخرجه أحمد (23930) مطولًا باختلاف يسير، وأخرجه مسلم (2999) بنحوه).
الاقتداء بأصحاب القناعة والرضا، والاطلاع على أحوالهم:
1- الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
أعظم نموذج في القناعة والرضا هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة والأسوة في كل خلق جميل؛ فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قنوعًا زاهدًا راضيًا، صابرًا محتسبًا، كان أبعد الناس عن ملذات الدنيا، وأشدهم رغبة في الآخرة، وكيف لا يكون كذلك ورب العالمين سبحانه يخاطبه بقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]؟
وقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من نفس طمَّاعة لا تشبع، فكان يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من عِلْمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يُسمع»؛ (صحيح أبي داود، الصفحة أو الرقم: 1548).
فيا من تشكو من توالي الهموم والأحزان، من قلة المال، من الفقر والحاجة، كن راضيًا صابرًا محتسبًا قنوعًا، ولتكن لك في رسول الله أسوة حسنة وقدوة طيبة؛ انظر إلى طعامه، وانظر إلى فراشه ولباسه، وانظر إلى مسكنه؛ لتُدرك أنك في نِعَمٍ كثيرة وخيرات وافرة.
• فأما طعامه ومأكله صلى الله عليه وسلم، فغاية في القناعة والبساطة؛ ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت لعروة بن الزبير: ((ابن أختي، إن كُنَّا لَننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهِلَّة في شهرين، وما أُوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت يا خالة: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيرانٌ من الأنصار، كانت لهم منائحُ، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا)؛ (أخرجه البخاري في صحيحه، الصفحة أو الرقم: 2567).
وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبِعَ من خبز وزيت في يوم واحد مرتين)؛ (أخرجه مسلم في صحيحه، الصفحة أو الرقم: 2974).
وأما فراشه صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة، قالت: ((كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أَدْمٍ، وحشوه من ليف)؛ (أخرجه الترمذي في صحيحه، الصفحة أو الرقم: 1761)، (أدم): جلد مدبوغ، و(ليف): قشر النخيل.
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثَّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: «ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها»؛ (أخرجه الترمذي (2377)، وابن ماجه (4109)، وأحمد (3709) مطولًا، وابن حبان في المجروحين (1/276) واللفظ له).
وروى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقبضةٍ من شَعير نحو الصاع، ومثلها قَرَظًا في ناحية الغرفة، وإذا أَفِيقٌ مُعلَّق، قال: فابتدرت عيناي، قال: «ما يبكيك يا بن الخطاب» ؟ قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثَّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفوته، وهذه خزانتك؟! فقال: «يا بن الخطاب، ألَا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت: بلى...»؛ (أخرجه ابن ماجه في صحيحه، الصفحة أو الرقم: 3367).
(القَرَظ): هو ورق السلم تدبغ به الجلود، (أفيق): جلد لم يُدبَغ.
• وأما مسكنه صلى الله عليه وسلم؛ فبيوت من طين، سقفها من جريد النخل، قصيرة متقاربة.
روى البخاري في الأدب المفرد عن محمد بن أبي فديك، عن محمد بن هلال: ((أنه رأى حُجَرَ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد، مستورة بمسوح الشَّعر، فسألته عن بيت عائشة، فقال: كان بابه من وجهة الشام، فقلت: مصراعًا كان أو مصراعين؟ قال: كان بابًا واحدًا، قلت: من أي شيء كان؟ قال: من عرعر أو ساج)؛ (صحيح الأدب المفرد، الصفحة أو الرقم: 597).
وروى البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي في شعب الإيمان، عن داود بن قيس قال: ((رأيت الحجرات من جريد النخل، مغشَّاة من خارج بمسوح الشَّعر، وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحوًا من ست أو سبع أذرع، وأحزر البيت الداخل عشر أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والسبع نحو ذلك، ووقفت عند باب عائشة فإذا هو مستقبل المغرب).
وروى البخاري في الأدب المفرد عن الحسن البصري قال: ((كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان، فأتناول سقفها بيدي).
2- قناعة آل محمد صلى الله عليه وسلم: لقد ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه البقاء معه، والصبر على القلة، والزهد في الدنيا، حينما خيَّرهن بين الإمساك على ذلك، أو الفراق والتمتع بالدنيا؛ كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29].
فاختَرْنَ رضي الله عنهن الله ورسوله والدار الآخرة، وصبرْنَ على لَأْوَاء الدنيا، وضعف الحال، وقلة المال؛ طمعًا في الأجر العظيم من الله الكريم سبحانه.
روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر)؛ [أخرجه البخاري (6455)، ومسلم (2971).
وفي الصحيحين عن عائشة، قالت: ((ما شبِع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدِم المدينة من طعام بُرٍّ ثلاث ليال تباعًا، حتى قُبِضَ)؛ [أخرجه البخاري (6454)، ومسلم (2970).
3-قناعة السلف الصالح:
وعلى القناعة أيضًا ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فكانوا أصحاب قناعة ورضا، فما كانوا يتنافسون على الدنيا، ولا يتنازعون حولها، وإنما كانوا يتنافسون في الخيرات والطاعات، تركوا ديارهم وأموالهم وأراضيهم في مكة وما حولها، ليهاجروا إلى الله ورسوله، إلى المدينة النبوية حيث لا مال لهم هناك ولا أهل ولا متاع، فكان منهم من يربِط على بطنه الحجر من شدة الجوع، وقد كان في مكة يأكل أشهى الطعام وألذ الطعام، وكان منهم من لا يجد من اللِّباس إلا ما يستر عورته، وقد كان في مكة يلبَس أفخر الثياب وأجملها، فأي قناعة أعظم من هذه؟
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((لقد رأيت سبعين من أصحاب الصُّفَّة ما منهم رجلٌ عليه رداء، إما إزارٌ وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده، كراهية أن تُرَى عورته)؛ (أخرجه البخاري في صحيحه، الصفحة أو الرقم: 442).
وروى ابن ماجه في سننه عن أنس قال: ((اشتكى سلمانُ، فعاده سعدٌ، فرآه يبكي، فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس؟ أليس؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين؛ ما أبكي ضنًّا للدنيا ولا كراهية للآخرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهِد إليَّ عهدًا، فما أُراني إلا قد تعديتُ، قال: وما عهِد إليك؟ قال: عهِد إليَّ أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب، ولا أُراني إلا قد تعديت، وأما أنت يا سعدُ فاتَّقِ الله عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمك إذا قسمت، وعند همِّك إذا هممت، قال ثابت: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهمًا من نفقة كانت عنده)؛ (أخرجه ابن ماجه (4104).
فوائد القناعة ونتائجها:
للقناعة فوائد كثيرة ونتائج جليلة، تعود على المرء بالسعادة والراحة، والأمن والطمأنينة؛ ومن تلك الفوائد:
1- القناعة دليلٌ على قوة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، دليل على صدق الثقة بالله، والرضا بما قدر وقسم، دليل على قوة اليقين بما عنده سبحانه وتعالى.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "إن من ضَعْفِ يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل".
2- بالقناعة يتحقق الشكر:
فمن قنِع برزقه شكر الله تعالى عليه، ومن احتقر رزقه، قصَّر في شكر ربه سبحانه، وربما جزِع وتسخَّط - والعياذ بالله - فعن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كن وَرِعًا تكُن أعْبَدَ الناس، وكن قنِعًا تكن أشكر الناس...»؛ (أخرجه الترمذي (2305)، وابن ماجه (4217)، وأحمد (8095) باختلاف يسير).
3- القناعة سبيل إلى الحياة الطيبة:
فيا من تريد الحياة الطيبة الهادئة المطمئنة، عليك بالقناعة، فإن الحياة الطيبة في القناعة؛ قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
وقد ورد عن عليٍّ وابن عباس والحسن رضي الله عنهم أنهم قالوا: "الحياة الطيبة هي القناعة"، وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "من قنِع طاب عيشه، ومن طمِع طال طَيشه".
في القناعة حياة طيبة؛ لأنها تريح الإنسان من تعب الركض وراء الدنيا وزينتها، وتريح النفس من الهمِّ والحزن والجزع على ما فاته منها، لأنه يعلم يقينًا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ وقد قال ربنا سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23].
الجوع يُطرَد بالرغيف اليابس ** فعَلَام تكثُر حسرتي ووساوسي
وفي القناعة حياة طيبة؛ لأنها تطهر القلب وتريحه من كثير من الأمراض التي تصيبه بسبب التنافس على الدنيا والتنازع عليها؛ كالحسد، والحقد، والكراهية والبغضاء... كما أنها وقاية للعبد من كثير من الذنوب والمعاصي التي تفتك بالمجتمع، وتقوِّض بنيانه، وتمزق وحدته؛ كالغِيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، والقتل، والسرقة وغيرها من الخِصال الذميمة، والآثام العظيمة، التي غالبًا ما يكون الحامل على الوقوع فيها حب الدنيا واستجلابها والحرص عليها.
قال بعض الحكماء: "وجدت أطول الناس غمًّا الحسود، وأهنأهم عيشًا القنوع".
أرفِهْ ببال فتى أمسى على ثقة ** أنَّ الذي قسم الأرزاق يرزقُــــهُ
فالعِرض منه مصون لا يدنِّسـه ** والوجهُ منه جديد ليس يخلقهُ
إن القناعة من يحلُلْ بساحتهـا ** لم يَلْقَ في دهره شيئًا يُؤرِّقـــهُ
4- في القناعة شفاء من داء الطمع والتسول:
فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّم صحابته القناعة والتعفُّف عن السؤال، يعلمهم إذا سألوا أن يسألوا الله، وإذا استعانوا أن يستعينوا بالله، يعلمهم ألَّا يلجؤوا بالسؤال والطلب إلا إلى خالقهم ورازقهم سبحانه.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: «يا غلام، إني أعلِّمك كلماتٍ: احفظِ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعتِ الأقلام، وجفَّتِ الصحف»؛ (أخرجه الترمذي (2516) واللفظ له، وأحمد (2669).
وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «يا حكيم، إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بُورِك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفسٍ لم يُبارَك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى»، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرْزَأُ أحدًا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إني أُشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، أني أعرِض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تُوفِّيَ)؛ (أخرجه البخاري في صحيحه، الصفحة أو الرقم: 1472).
(خضرة حلوة): شبَّه الرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذة؛ فإن الأخضر مرغوب فيه بالمقارنة مع اليابس، والحلو مرغوب فيه بالمقارنة مع الحامض، (بسخاوة نفس) أي: بغير شَرَهٍ ولا إلحاح في السؤال، (بإشراف نفس) أي: بطمع أو حرص أو تطلُّع.
وفي صحيح مسلم عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: ((تحمَّلت حَمَالة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: «أقِمْ حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها»، قال: ثم قال: «يا قبيصة، إن المسألة لا تحِلُّ إلا لأحد ثلاثة: رجلٌ تحمَّل حمالة فحلَّت له المسألة حتى يُصيبها ثم يُمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيش -أو قال: سِدادًا من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيش -أو قال: سِدادًا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سُحْتًا يأكلها صاحبها سحتًا»؛ (أخرجه مسلم في صحيحه، الصفحة أو الرقم: 1044).
(الحَمالة) بفتح الحاء: أن يقع قتال ونحوه بين فريقين، فيصلح إنسان بينهم على مال يتحمله ويلتزمه على نفسه، و(الجائحة) الآفة تصيب مال الإنسان، و(القوام) بكسر القاف وفتحها: هو ما يقوم به أمر الإنسان من مال ونحوه، و(السِّداد) بكسر السين: ما يسد حاجة المعوز ويكفيه، و(الفاقة): الفقر، و(الحِجا): العقل.
فيا من يطلب من الناس أموالهم ليكثر ماله، اعلم أن ما تأخذه من أموال الناس جمرٌ ستذوق حرارته في الآخرة إن لم تَتُبْ إلى ربك سبحانه؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس أموالهم تكثُّرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقلَّ أو ليستكثر».
ونقل الصخر من تلك الجبال ** أخف عليَّ من مِنَنِ الرجــالِ
يقول الناس كسبٌ فيه عــار ** فقلت: العار في ذلِّ السؤالِ
5- القناعة طريق إلى الفلاح والسعادة في الدارين:
فقد أخرج الإمام أحمد الترمذي وابن حبان والحاكم وصححه، عن فضالة بن عبيد، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طوبى لمن هُدِيَ إلى الإسلام، وكان عيشه كفافًا وقنِع»؛ (أخرجه الترمذي (2349)، وأحمد (23944).
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسْلَمَ، ورُزِقَ كَفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه»؛ (أخرجه مسلم (1054).
وأخرج أبو داود في سننه عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يكفل لي ألَّا يسأل الناس شيئًا، وأتكفَّل له بالجنة» ؟ فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدًا شيئًا)؛ (أخرجه من طرق أبو داود (1643) واللفظ له، والنسائي في السنن الكبرى (2371)، وابن ماجه (1837) بنحوه، وأحمد (22374) باختلاف يسير).
هي القناعة لا تبغي بها بــدلًا ** فيها النعيمُ وفيها راحة البـــــدنِ
انظر لمن مَلَكَ الدنيا بأجمعها ** هل راح منها بغير القطن والكَفَنِ
6- حقيقة الغِنى في القناعة:
وقد بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن حقيقة الغِنى غِنى النفس؛ فعن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: " «ليس الغِنى عن كثرة العَرَضِ، ولكن الغِنى غِنى النفس»؛ (أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051)؛ أي إن الغنى الحقيقي الذي يملأ نفس الإنسان ويكُفُّه عن حاجة غيره، ليس هو كثرة العَرَض، أي حُطام الدنيا ومتاعها، وإنما حقيقة الغِنى أن تكون نفس العبد هادئة مطمئنة قانعة راضية، حتى ولو كان صاحبها لا يملك من حطام الدنيا شيئًا.
وعن أبي ذرٍّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغِنى» ؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: «فترى قلة المال هو الفقر» ؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: «إنما الغِنى غِنى القلب، والفقر فقر القلب»، ثم سألني عن رجل من قريش، فقال: هل تعرف فلانًا؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: «فكيف تَرَاه وتَرَاه» ؟ قلت: إذا سأل أُعْطِيَ، وإذا حضر أُدْخِل، ثم سألني عن رجل من أهل الصُّفَّة، فقال: «هل تعرف فلانًا» ؟ قلت: لا والله ما أعرفه يا رسول الله، قال: فما زال يُحلِّيه وينعته حتى عرفته، فقلت: قد عرفته يا رسول الله، قال: " «فكيف تراه أو تراه» ؟" قلت: رجل مسكين من أهل الصُّفَّة، فقال: «هو خير من طِلاع الأرض من الآخر»، قلت: يا رسول الله، أفلا يُعطَى من بعض ما يُعطَى الآخر؟، فقال: «إذا أُعْطِيَ خيرًا فهو أهله، وإن صُرف عنه فقد أُعطِيَ حسنة»؛ (أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/460).
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات، فيعمل بهن، أو يعلِّم من يعمل بهن» ؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدَّ خمسًا، وقال: «اتَّقِ المحارم تكن أعْبَدَ الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تُكْثِرِ الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب»؛ (أخرجه الترمذي (2305) واللفظ له، وابن ماجه (4217) مختصرًا، وأحمد (8095) باختلاف يسير).
وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غنيٍّ عنده من المال ما يكفيه وولده، ولو عمَّر ألف سنة، يخاطر بدينه وصحته، ويضحي بوقته يريد المزيد، لا يجد طعمًا للراحة ولا لذة للنوم! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس، وهو لا يجد قوت غده! فالسر في القلوب؛ رضًا وجزعًا، واتساعًا وضيقًا، وليس في الفقر والغنى.
قال سعد بن أبي وقاص لابنه: "يا بني، إذا طلبت الغِنى فاطلبه بالقناعة، فإنها مال لا ينفد، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر"؛ (كتاب موسوعة الأخلاق الإسلامية (1/482).
ولما قيل لأبي حازم رحمه الله: ما مالك؟ قال: "لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس"؛ (كتاب الرزق أبوابه ومفاتحه لعبدالملك بن قاسم (ص: 13).
7- العز في القناعة، والذل في الطمع:
فصاحب القناعة عزيز بين الناس، لاستغنائه عنهم، لعدم طمعه فيما في أيديهم، بينما الطماع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أتاني جبريل فقال: يا محمد، عِشْ ما شئت فإنك ميِّت، وأحْبِبْ من أحببت فإنك مفارقُه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزَّه استغناؤه عن الناس»؛ (أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (4278)، والحاكم (7921) باختلاف يسير).
• صاحب القناعة لا يذل نفسه إلا لله، ولا يعلق قلبه إلا بالله، ولا يطمع إلا فيما عند الله.
روى البخاري في صحيحه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَأنْ يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحُزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطَوه أو منعوه»؛ (أخرجه البخاري (1471) باختلاف يسير).
كان محمد بن واسع رحمه الله تعالى يبل الخبز اليابس بالماء ويأكله، ويقول: "من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد"؛ (إحياء علوم الدين للغزالي (3/ 239).
صاحب القناعة محبوب عند الله وعند الناس:
فعن سهل بن سعد الساعدي قال: ((أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا أنا عمِلته أحبني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ازهَد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك»؛ (أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الزهد في الدنيا، (2/ 1373)، برقم: (4102).
قال الحسن رحمه الله تعالى: "لا تزال كريمًا على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تُعاطِ ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم (3/20).
قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بِمَ سادهم؟ قالوا: "احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم"؛ (جامع العلوم والحكم (2/ 169).
واقنع تجد غُنيةً عن كل مسألـــــــــة ** ففي القناعة عزٌّ غير مرتحلِ
واطلب من الله واترك من سواه تجِدْ ** ما تبتغيه بلا منٍّ ولا بــــدلِ
القناعة كنز لا يفنى:
إن القناعة بما قسم الله تعالى، والرضا بما قدره، من النعم الجليلة التي ينعم الله بها على أصحاب القلوب السليمة، والنفوس المطمئنة، وقد مدح الله المؤمنين السابقين بالقناعة والعَفاف والرضا بالمقدور؛ فقال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273]، وقد دعا رسولنا الكريم بالفلاح والفوز لمن رزقه الله القناعة؛ فقال في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: «قد أفلح من أسلم، ورُزِقَ كَفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه»؛ (أخرجه مسلم (1054).
وأوصى أبا هريرة رضي الله عنه وصية جامعة ثمينة، فقال له: ((كُنْ وَرِعًا تكُن أعْبَدَ الناس، وكن قنِعًا تكن أشكر الناس، وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحْسِنْ جوار من جاورك تكن مسلمًا، وأقِلَّ الضحك؛ فإن كثرة الضحك تُميت القلب)؛ (أخرجه الترمذي (2305)، وابن ماجه (4217)، وأحمد (8095) باختلاف يسير).
إن القناعة والرضا يمنح المسلم الصادق آثارًا حميدة، ومزايا جليلة، يستغني بها عن حُطام الدنيا بأسرها، ويتعوض بالإيمان عن زخرفها وزينتها؛ ومن تلك الآثار: سكينة النفس، وراحة البال، وطمأنينة القلب، وسلامة من الأمراض؛ كالقلق، والوسواس، والكآبة، والتسخط؛ يقول الله في محكم التنزيل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97].
"القناعة كنز لا يفنى" فلا تخسروها.
القناعة نعمة فلا تطؤوها.
القناعة روح فلا تخنقوها.
القناعة حُرِّمت على من تتبَّع يوميات المشاهير.
القناعة خُلُق المؤمن ودأب العقلاء.
القناعة الخلطة السرية التي تجعل كل أشيائك لها قيمة في نفسك.
قصة طيبة مؤثرة:
أعجبتني هذه القصة، فأحببت أن أنقلها لكم من إيميلي مباشرة، أتمنى أن يعم بها النفع.
في بيتهم باب:
كانت هناك حجرة صغيرة فوق سطح أحد المنازل، عاشت فيها أرملة فقيرة مع طفلها الصغير، حياة متواضعة في ظروف صعبة، إلا أن هذه الأسرة الصغيرة كانت تتميز بنعمة الرضا، وتملك القناعة التي هي كنز لا يفنى، لكن أكثر ما كان يزعج الأم هو سقوط الأمطار في فصل الشتاء، فالغرفة عبارة عن أربعة جدران، وبها باب خشبي، غير أنه ليس لها سقف، وكان قد مَرَّ على الطفل أربعة سنوات منذ ولادته لم تتعرض المدينة خلالها إلا لزخَّات قليلة وضعيفة، إلا أنه ذات يوم تجمعت الغيوم وامتلأت سماء المدينة بالسحب الداكنة، ومع ساعات الليل الأولى هَطَلَ المطر بغزارة على المدينة كلها، فاحتمى الجميع في منازلهم، أما الأرملة والطفل فكان عليهم مواجهة موقف عصيب، نظر الطفل إلى أمه نظرة حائرة واندسَّ في أحضانها، لكن جسد الأم مع ثيابها كان غارقًا في البلل، أسرعت الأم إلى باب الغرفة فخلعته ووضعته مائلًا على أحد الجدران، وخبأت طفلها خلف الباب لتحجب عنه سيل المطر المنهمر، فنظر الطفل إلى أمه في سعادة بريئة، وقد عَلَت على وجهه ابتسامة الرضا وقال لأمه: ماذا يا تُرى يفعل الناس الفقراء الذين ليس عندهم باب حين يسقط عليهم المطر؟ لقد أحس الصغير في هذه اللحظة أنه ينتمي إلى طبقة الأثرياء؛ ففي بيتهم باب.
ما أجمل الرضا؛ إنه مصدر السعادة، وهدوء البال، ووقاية من أمراض المرارة والتمرد والحقد!
ولست أرى السعادة جمع مال ** ولكنَّ التقيَّ هو السعيدُ
القناعة كنز لا يفنى، تعني: أن القناعة لا تنتهي، وهي كنز من الكنوز التي يسعى الإنسان لاقتنائها؛ وذلك لأنها غالية جدًّا، ولا يستطيع أي شخص أن يصل إليها، وعندما يقتنع الإنسان ويقنع بما لديه ولا ينظر إلى ما فيه الغَير، ويحمَد ربه دائمًا أبدًا على حاله، فإنه يكون أسعد الناس.
أفادتني القناعة كل عـــــز ** وأي غِنًى أعز من القناعـــــة
فصيِّرها لنفسك رأس مال ** وصيِّر بعدها التقوى بضاعة
واعلموا أن الرزق مقسوم، ولن يعدو المرء ما قُسِمَ له، فأجْمِلوا في الطلب، فإن في القنوع سعةً وبُلغةً، وكفاية وراحة، وما ترَونه من متاع الدنيا ذاهب وزائل، وما مضى كأن لم يكن، وكل ما هو آتٍ قريب: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
أسأل الله تعالى أن يرزقنا القناعة بما رزقنا، وأن يجعل حسابنا يسيرًا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
___________________________________________________________
كتبه د. أبو الحسن علي بن محمد المطري حفظه الله ورعاه، 3 ربيع أول 1445.
- التصنيف: