(وكان وعدُ ربّي حقا)

منذ 2024-12-15

عن زاد اليقين من وعود الله في كتابه ...

(وكان وعدُ ربّي حقا)

من المعاني المتكررة في سورة الكهف تلك المعاني المتعلقة بألفاظ (الوعد) و(الموعد) فنجد أنه عقب أول قصة في سورة الكهف؛ وهي قصة أصحاب الكهف التي تمحورت حولها السورة وسميت بها يأتي هذا التقرير:

{وكذلك أَعْثرنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها}

و عقب آخر قصة في الصورة ؛ قصة ذي القرنين، يأتي هذا التعقيب:

{قال هذا رحمة مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعَدُ رَبِّي حَقا}

هذا يضعنا في مواجهة معنى عظيم لابد أن يستقر في قلب كل مؤمن موقنا به مصدقا إياه وهو أن (وعد الله حق) (وكان وعد ربي حقا).

لك أن تتصور كم كان ثقيلا على فتية الكهف اعتزال قومهم واستبدال ألفتهم وأنسهم بهم بوحشة الكهف وظلمته، كم كان مدهشا أن يتحول إلى مأوى لهم يلتمسون فيه الرحمة والرشد، مئات السنوات مرت وهم نائمون لا يدري عنهم أحد شيئا، ثم يشاء الله أن يبعثهم من نومهم ويطلع الناس على أحوالهم، وما الحكمة من كل ذلك؟! {ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها}.

في تفسيره لهذه الآية يقول الطاهر بن عاشور:

انتقل إلى جُزْءِ القِصَّةِ الَّذِي هو مَوْضِعُ عِبرَةِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ بِحالِهِمْ وَإِنتِفَاعِهِمْ بِاطمِئنَانِ قلُوبهمْ لِوُقُوع البَعْثِ يَوْمَ القِيامَةِ بِطَرِيقَةِ التقريب بِالمُشاهَدَةِ، وَتَأْبِيدِ الدِّينِ بِمَا ظَهَرَ مِن گرامة أنصاره، وقَدْ كانَ القَوْمُ الَّذِينَ عَثَرُوا عَلَيْهِمْ مُؤْمِنِينَ مِثْلَهم، فَكَانَتْ آيتهم آيةً تَثْبِيت وتقوية إيمان.
 

ويقول الشيخ السعدي:

فأراد الله أمرا فيه صلاح للناس، وزيادة أجر لهم، وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله المشاهدة بالعيان، على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد، بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم، فمن مثبت للوعد والجزاء، ومن ناف لذلك، فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجة على الجاحدين.

إذن من أهم القوائد وأعظم العبر التي يخرج بها المؤمن من قصة أصحاب الكهف أن يمتلئ فؤاده بأن وعد الله حق، أن يرى في آيات الله في عباده وولايته لهم وفي تأييد الدين بما ظهر من كرامة أنصاره زيادة بصيرة ويقين وتثبيت وتقوية إيمان بأن وعد الله حق، وإذا كان وعد الله المقصود هنا هو الوعد بالبعث والحشر والجزاء، فإن كل وعد وعده الله عباده في هذا الكتاب مندرج تحت هذا اليقين الكبير (وكان وعد ربي حقا)

وهو ما أشار إليه الإمام الطبري في تفسيره الآية الأخيرة في قصة ذي القرنين وكان وعد ربي الذي وعد خلقه في دّك هذا الردم،  وخروج هؤلاء القوم على الناس، وعيثهم فيه، وغير ذلك من وعده حقا، لأنه لا يخلف الميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن.

 

وإنك إذا تتبعت هذه الكلمة تحديدا (وعد الله) في كتاب الله لوجدت عجبا، وكذلك إذا تتبعت كلمة (وعد) عموما لاتسعت الدلالات في وجدانك ونظمت المعاني في قلبك نظما آخرا، ويكفي أن يتأكد لك ذات المعنى الوارد في قصة أصحاب الكهف مع قصة أم موسى عليه السلام في أول سورة القصص ( {فَرَدَدتَهُ إِلَى أُمِّهِ كَى تَقَرُ عَينُهَا وَلَا تحَزَنَ وَلِتَعلَمَ أَنَّ وَعَدَ اللَّهِ حَقَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ) [القصص ١٣]، ويكفي أن يقترن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر بتقرير أن وعد الله حق في ثلاثة مواضع أحدها في سورة الروم والآخران في سورة غافر.

وأرجو أن يتسع الوقت وييسر الله لنا الحديث عن هذا المعنى باستفاضة وتفصيل في فرصة أخرى، لكني الآن أود أن أقول إن هناك معنى متمم لمعنى الوعد في سورة الكهف وهو معنى الموعد إذ تجد في منتصف السورة تقريبا وفي ثلاث آيات إشارة إليه، في الأولى منها يختص بكونه موعد يوم القيامة: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفَا لَقَد جَعْتُمُونَا كَمَا خَلَقنَنكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ بَل رَعَمتُم أَلن تجعل لكم موعدا} [الكهف ٤٨].

في تفسير التحرير والتنوير: (والموعد أصله: وقتُ الوَعدِ بِشَيْءٍ، أَوْ مَكَانُ الوَعدِ، وهو هنا الزَّمَنُ الموعودُ بِهِ الحياة بعد الموت، والمعنى: أنَّكُمُ اعْتَقَدْتُمْ بِاطِلًا أَنْ لَا يَكُونَ لَكم مَوْعِدُ لِلْبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ أَبَدًا)

إن هذا الزعم الكاذب والاعتقاد الباطل يبدو وكأنه أول ما يحاسبون عليه ويبكتون بسببه، يبدو وكأنه سبب في كل جرائمهم وظلمهم وكفرهم، وهذا أيضا مبثوث في آيات الكتاب، لقد كذبوا وعد الله وكذبوا موعده.

وفي الآيتين المتتاليتين  {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذو الرّحمةِ لَوْ يُؤَاخذهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّل لَهُمُ العَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدُ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (٥٩)} تجد أن الموعد هنا قد يتسع لمعنى آخر وهو معنى موعد العذاب الدنيوي الذي يقع فيه هلاك المشركين وهزيمتهم ( {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِيهِمْ مَوْعِدًا} يعني ميقاتا وأجلا حين بلغوه جآءهم عذاب فأهلكناهم به، يقول: فكذلك جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك يا محمد الذين لا يؤمنون بك أبدا موعدا، إذا جاءهم ذلك الموعد أهلكناهم سنتنا في الذين خلوا من قبلهم من ضربائهم (تفسير الطبري) .

إذن هناك موعد آخر للمشركين لن يجدوا من دونه ملجأ ولا أحدا ينجيهم منه، موعد يقع فيه ما وعد الله به عباده المؤمنين من نصر وفتح وتمكين وهزيمة المشركين، موعد ربما يتأخر، ربما لا يقع على نحو ما تعجل به المؤمنون، لكنه لابد أن يقع كما وعد الله وقدر واختار وقته وصورة تحققه.

وبعد،

فإن المؤمن الذي يتلو سورة الكهف متتبعا وعد الله في قصصها لابد أن يخرج بهذا اليقين الراسخ بأن (وعد الله حق) مستصحبا إياه ومرددا (وكان وعد ربي حقا) وهو ينظر متأملا في آثار رحمة الله بعباده، وآياته في نصر المؤمنين، وتأييده لدينه بهم، وزوال الظلم بعد استحكامه، وانهيار الطغيان رغم توغل بنيانه.

 

وبينما يسأل المكذبون في استهزاء كما في سورة السجدة {ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} فإن المؤمن المصدق يعلم أن لكل وعد موعدا وأنه مهما طال الزمان ومهما تأخر الموعد فإنه لابد واقع في الوقت الذي أراده الله، فهو يصدق الوعد وينتظر الموعد {فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون}.

{فاصبر إِنَّ وَعدَ اللهِ حَق وَلَا يَستَخِفْنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ﴾ [الروم ٦٠]

  • 2
  • 0
  • 433

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً