إن أكرمكم عند الله أتقاكم

منذ 2001-09-28
تختلف المقاييس التي يعتمد عليها الناس في تقييمهم للأشخاص ، ومدى استحقاقهم للتقدير والاحترام ، فمنهم من تتفاوت قيمة الناس لديه حسب نَسَبِهم ، وعراقة قبائلهم ، فأجدرهم بالاحترام ، والتقدير أعلاهم نسباً ، وأعرقهم قبيلة ، ومنهم من يعتبر الغنى والثراء وحجم الأرصدة والممتلكات هي المقياس الحقيقي لقدر الإنسان وعلو منزلته ، ومنهم من ينظر إلى الموضوع من زاوية المنصب والجاه ، والارتقاء في سلم الوظائف والدرجات ، وبعضهم يرى أن الشهادات العلمية التي حصل عليها الشخص هي التي تحدد قيمته ، وتفرض احترامه .

إن جميع هذه المقاييس لا تتعدى كونها مقاييس مادية بحتة ضيقة الأفق ، فالإنسان الذي يفاضل بين الأشخاص على هذه الأسس ، إنما ينظر إلى الحياة بمنظار ضيق جدا ، فالشخص العريق النسب لا قيمة لنسبه مع انحطاط في أخلاقه وقيمه الدينية والاجتماعية ، ومهما بلغ الإنسان في عراقة نسبه ، فلن يصل إلى نسب أبي لهب - عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أنزلت فيه سورة كاملة تتوعده بالعذاب الأليم يوم القيامة ، وقد كان كثير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يملكون هذه العراقة في النسب ، غير أن الله شرفهم بالانتماء لهذا الدين ، والتضحية في سبيله ، فقد كان بعضهم أصله من الفرس ، وبعضهم من الروم ، وآخرون من الموالي والعبيد ، ولم يقدم الرسول - عليه الصلاة والسلام - سادة قريش وشرفائها عليهم لعراقة نسبهم :

خذلت أبا جهل أصالته ***** وبلال عبد جاوز السحبا


وكم من أحفاد لعظماء وعلماء لم يسلكوا سبيلهم ، فلم يرفعهم انتماؤهم لأولئك العظماء نسبا .

وأما الثراء والغنى ، فتكون قيمته على قدر خدمة صاحبه للمجتمع ، وحرصه على تقديم الخير والمعونة للأمة ، ولا قيمة لثراء رجل قد غل يده إلى عنقه وبخل بما فيها .، أو رجل جمع من الأموال ما حل له وما لا يحل يتكبر بها على الناس ويتعالى عليهم .

وما يقال في الغنى يقال في المنصب والجاه ، فصاحب المنصب تتجسد قيمة منصبه في حرصه على خدمة مجتمعه وأمته ، والسهر على مصالحها ، لا في حيازته للمنصب وارتقائه في السلم الوظيفي .

وبالنسبة للشهادات العلمية فإنها لا تصلح أيضا لتكون مقياسا للآشخاص لثلاثة أسباب هامة :
  • أولا : أنها لا تعبر عن مقدار علم الشخص ، وسعة اطلاعه ، فكم من علماء أجلاء لا يحملون شهادات بلغوا من العلم مبلغا عظيما ، لا يحلم به أصحاب الشهادات في أشد أحلامهم سخاء ، وكم من حاملي شهادات عالية كالدكتوراة وغيرها ، وثقافاتهم ضحلة جدا ، حتى في مجال تخصصهم .
  • ثانيا : إن عدم حصول الشخص على هذه الشهادات لا يعني عدم كفاءته لها ، فربما لم تواته الظروف لذلك ، أو حالت دون حصوله عليها موانع .
  • ثالثا : على افتراض سعة ثقافة حامل الشهادة ، وتوسعه في الاطلاع فإن قيمته تكون بمقدار انتفاعه بعلمه ، وتطبيقه لما علم ، ومدى إحساسه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه من تعليم الناس والحرص على تثقيفهم :

    وما أنت بالعلم الكثير بمفلح ***** وما لك جد في التقاة كبير

    كأين رأينا عالما ظل سعيه ***** وظل به جمع هناك غفير

    معارفه بحر ويصرف وجهه ***** إلى الباطل الخداع وهو بصير


    وقد أخبرنا الله تعالى أن مصير كل هذه الاعتبارات والمقاييس إلى التلاشي يوم القيامة ، فمصير النسب { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } ، ومصير الغنى { وما يغني عنه ماله إذا تردى } ، ومصير الجاه والمنزلة { هلك عني سلطانيه} .

    والسؤال الذي يطرح نفسه ، ما هو المقياس الحقيقي لقيمة الأشخاص ؟

    والجواب أرشدنا إليه القرآن الكريم في قوله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، فالمرء يقاس بمقدار صلاحه واستقامته على منهج الله ، وقيمة الإنسان في المجتمع إنما هي بمقدار نفعه لمجتمعه ، وخدمته لأمته ، واستغلال ما آتاه الله من نعم وما مكنه فيه في نشر الخير ومساعدة المحتاج وإعانة الضعيف ، وسره على مصالح الأمة ومعرفته بحقوق الآخرين ، فيجب علينا أن نحترم الناس على هذا المقياس ، ونزنهم بهذا الميزان العادل .

    فالإنسان الصالح ولو كان من الموالي أجدر بالاحترام من إنسان عريق النسب لا يعرف للصلاح مسلكا ولا للخير سبيلا ، والإنسان الفقير صاحب الأخلاق والقيم أجدر بالتقدير من غني لا يرعى حقوق الله ولا حقوق العباد في ماله ، والعامل المخلص في عمله يستحق الاحترام أكثر من الموظف الكبير الذي لا يرعى مسئوليته في العمل ، والابن المحترم عالي الأخلاق الذي لم تسمح له الظروف بالحصول على الشهادات العالية أجدر بالاحترام من قبل أبويه من الابن العاق صاحب الشهادة الجامعية ، وهكذا .

    فالواجب على الإنسان أن يقيس الناس بالمقاييس الثابتة الراسخة الجذور في الدنيا والآخرة التي تَعَبَّــدَنَا الله بتقدير الأشخاص استنادا إليها .

    وما قصدت إلا الخير والإصلاح وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .

    محمد بن سعيد المسقري
    سلطنة عمان
المصدر: خاص بإذاعة طريق الإسلام
  • 14
  • 0
  • 60,936
  • nada

      منذ
    خير الكلام ما قل ودل مقالة اكثر من رائعه بارك الله فى كاتبها وللمزيد انصح بقراءة تفسير سورة الحجرات للشهيد سيد قطب فى كتاب فى ظلال القراءن
  • nada

      منذ
    ممتازه جدا احسنت فقد ذكرت امور مهمه وفصلت وبينت مقاييس الناس بعضهم لبعض ومقياس الخلق عند الله الثابته فى الدنيل والرخره جزاك الله يرا وكثر من امثالك
  • مهند

      منذ
    [[أعجبني:]] ماشاءالله تبارك الله الصلاة على النبي . . كلام رائع تسلسل جميل استعمت بالقراءة [[لم يعجبني:]] كنت أتمنى الأستشهدأيضًا بالحديث المعروف " لافرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى "
  • nada

      منذ
    [[أعجبني:]] المقالة تحث الأنسان عند تعاملة مع الناس ان يكون تعاملة اساس تقواه ومعاملة مع الله
  • هند

      منذ
    [[أعجبني:]] جزاك الله الف خير وجعل ماكتبته في موازين حسناتك فقد جمعت كل الامور التي يقيم الناس بها بعضهم بعضا ثم بطريقه رائعه .. مشوقه اوضحت لنا الاهم منها !
  • الطائرالليبي

      منذ
    [[أعجبني:]] بارك الله فيك ممتاز ماسطره قلمك هنا
  • أم ناصر

      منذ
    [[أعجبني:]] بالفعل فالناس في هذه الأيام يفاضلون أنفسهم بالنسب والمناصب وينسون قول أعز قائل: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" بارك الله فيك ونفع بك وزادك علما
  • سمارة عبدة

      منذ
    [[أعجبني:]] بسم الله والصلاة والسلام على خير النبياء رسول الله محمد بن عبدالله وآله وسلم تسليما كثيرا بسم الله ما شاء الله عنك اخي الكريم أسال الله تعالى ان ينفع بك الامة ويجزاك الجزاء الاوفى ويرضيك فيما عنده سبحانه انه سميع قادر
  • خالد الغالى

      منذ
    [[أعجبني:]] ما شاء الله المقالة جيدة جدا
  • تقوى

      منذ
    [[أعجبني:]] بحاجة له في وقت تفتقر فيه قيم الايمان والتقوى ويقاس الشخص بالماديات الزائلة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً