طرق تحصيل البصيرة

منذ 2014-03-15

إن أحداثَ القصة تطبيق واقعي لمعاني البصيرة، كما في مواقفِ يعقوب عليه السلام، ومأساته ومقاساته، ورؤيا يوسف عليه السلام، وما تعرَّض له من مِحَن وابتلاءات، ظاهرُها الشرُّ والهلاك، وباطنها الخير والنجاة؛ لتعليم المؤمنِ أن ما أصابه من شرٍّ، فإنما هو شر جزئي مضمور في الخيرِ الكلي العام، وأن هذا الشرَّ قد يكون -بل سيكون- مفتاحًا لخير كثير؛ كالدواء للمريض قد يكون مرًّا لا يُستساغ، لكن فيه الشفاء، وقد يتأخر الشفاء قليلًا؛ لأن جرعةَ الدواء الأولى ليست كافيةً لإحداث الشِّفاء التام، وحينما يأتي الإذنُ ويأتي الموعد المقدَّر، فلا مانع ولا رادَّ له ولو تكالَبَتْ وتكاتفت قوى الشر...

بعد أن أوحى اللهُ تعالى لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم من أنباء الغيب، ومنها قصة يوسف عليه السلام، ومخاطبته بقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102]، بيَّن له بعضَ الأمور التي يجب عليه وعلى كل داعٍ أن يعلَمَها، وهي:

1- أن كل رسول وكلَّ داعٍ يحرص على إيمان قومه، ولكن سنَّة الله تعالى هي: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف من الآية:103]، وهي حقيقةٌ قديمة في البشرية، وهي أن الأكثرية من البشَر على فِسق وضلال وكُفر، وأن الأقلية هم المؤمنون؛ ودليل ذلك: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود من الآية:40]، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ من الآية:13]، {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف من الآية:102]... وغير ذلك كثيرٌ.

وأهمية ذلك؛ أن يعلَمَ الداعي مهمته، وهي أنه ما عليه إلا أن يدعوَ إلى الله على بصيرة، ويدعو بالحكمة أسلوبًا، سالكًا في دعوته الوسائلَ المناسبة الموصلة إلى الأهداف المرحلية والنهائية، وأن عليه البيانَ والإرشاد، أما تحقيق الأهدافِ أو خُلُق الإيمان في القلوب، فلا يملِكه إلا اللهُ عز وجل؛ كما قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].

2- أن الداعيَ إلى الله لا يبتغي من وراء دعوته دنيا يصيبها، ولا مالًا يحصله، ولا سُمعةً ولا رياءً ولا مكانة، إنما يريد وجهَ الله عز وجل؛ قال تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104].

3- أنه لا يعتبر بالآياتِ، ولا يقبَلُ الحُجَجَ والبيِّنات والبراهين الواضحات، إلا أصحابُ العقول الواعية، والقلوب القابلة، كما أن أصحابَ العقول الغافلة، والقلوب الجاحدة، لا يعتبرون ولا ينتبهون، فأمِنوا عذاب الله، ونسُوا اليومَ الآخر، وبعد بيانِ تلك الأمور في الآيات من [102-107] من سورة يوسف، قال اللهُ تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].

والمعنى المستخلص -والله تعالى أعلم- هو أن طريقَ الإيمان والدعوة طريقٌ محفوف بالمخاطر والمكايد مِن أعداء الدعوة، لكن بالصبر والتقوى وتضحياتِ أهل البصيرة ويقينهم، فإن العاقبةَ لهم بفضلِ الله تعالى ومنِّه، كما أن -وهو المعنى الثاني- فهم البصيرة وطُرق تحصيلها، إنما يكونُ من خلال فهمِ ودراسة السورة الكريمة...

فإن أحداثَ القصة تطبيق واقعي لمعاني البصيرة، كما في مواقفِ يعقوب عليه السلام، ومأساته ومقاساته، ورؤيا يوسف عليه السلام، وما تعرَّض له من مِحَن وابتلاءات، ظاهرُها الشرُّ والهلاك، وباطنها الخير والنجاة؛ لتعليم المؤمنِ أن ما أصابه من شرٍّ، فإنما هو شر جزئي مضمور في الخيرِ الكلي العام، وأن هذا الشرَّ قد يكون -بل سيكون- مفتاحًا لخير كثير؛ كالدواء للمريض قد يكون مرًّا لا يُستساغ، لكن فيه الشفاء، وقد يتأخر الشفاء قليلًا؛ لأن جرعةَ الدواء الأولى ليست كافيةً لإحداث الشِّفاء التام، وحينما يأتي الإذنُ ويأتي الموعد المقدَّر، فلا مانع ولا رادَّ له ولو تكالَبَتْ وتكاتفت قوى الشر.

ومن هنا نتأمَّل قولَ الله تعالى في خواتيم السورة: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]؛ لنعلم أن قوانين القدَرِ لا تتغير، وهي تعمل بلطف: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف من الآية:100]، على غير ما يتصوَّر كثيرٌ من الناس من غير أصحاب البصائر؛ ذلك لأن الله تعالى: {غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف من الآية:21]، وهو سبحانه أحكمُ الحاكمين، والمعبود وحده بحق، الأمرُ له، والحُكم له: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف من الآية:40].

فلا بد من الصبرِ على الطاعة، واليقين، ثم الصبر على مشاقِّ الطريق، ثم الصبر حتى يأذَنَ الله تعالى بالفرَج، ونتأمَّل حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فهو -كما قال الإمام النوويُّ رحمه الله-: "حديثٌ عظيمُ الموقع، وقد رواه الترمذيُّ وغيره: «يا غلامُ، احفظِ الله يحفَظْك، احفظ الله تجِدْه تُجاهك، تعرَّفْ إلى الله في الرخاء، يعرِفْك في الشدة، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِنْ بالله، قد مضى القلم بما هو كائن، فلو عمِل الخلائق على أن ينفعوك بما لم يقضِ الله لك، لَمَا قدروا عليه، ولو جهَدوا أن ينصروك بما لم يَكتُبِ اللهُ عليك ما قدَروا عليه، فإن استطعتَ أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعَلْ، فإن لم تستطع فاصبر؛ فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، واعلم أن النصرَ مع الصبر، وأن مع الكرب الفَرَج، وأن مع العُسر يسرًا» (قال الترمذي: "حسن صحيح"؛ في القيامة باب: حدثنا بشر بن هلال: [219]).

أما طرق تحصيل البصيرة، فيمكن استخلاصُها من السورة الكريمة، ومن القصة المباركة، وهي كما يلي:

1- نفاسة المعدِن، وكريم الأصل، وسلامة الفطرة، فيوسف عليه السلام كما قال عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجاء في الصحيحين أنه: «الكريمُ ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم» (رواه البخاري في التفسير: [4688])؛ فهو من سلالةٍ عريقة في النبوة؛ فالبصيرة متأصِّلة، وكلما اقترَب المرءُ من سلامة الصدر، وكريم الخصال، ونقاء الفطرة، ازدادت عنده البصيرةُ طبعًا واكتسابًا.

2- البراءة من الشرك، وإثبات التوحيد؛ فقد قال لصاحبَيْه في السجن وقبْلَ أن يَعبُرَ لهما رؤياهما: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يوسف:37-38]؛ وذلك لأن البصيرةَ فضلٌ من الله تعالى يؤتيه لأهل التوحيد الخالص.

3- النشأةُ الصالحة؛ فقد نشأ وهو طفلٌ في بيت أبيه النبيِّ، وقد ورد في الصحيحين فضيلةُ الشاب الذي نشأ في عبادةِ الله وسلَك طريقَ الاستقامة؛ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «سبعةٌ يُظلُّهم اللهُ في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله... وشابٌّ نشَأ في عبادة الله...» (فتح الباري: [3/293]).

4- غضُّ البصر وتحصين الفَرْج، وهو ما يُزكِّي النفس، ويُنير القلب، ويبعث على كراهيةِ الفاحشة واستبشاعها؛ قال تعالى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف من الآية:24]؛ أي: لولا أنْ رأى برهان ربِّه لَهَمَّ بالفاحشة، ولكنه لم يهُمَّ أصلًا، لا أولًا ولا آخرًا؛ -ففي الكلام تقديمٌ وتأخير-، ومن يسلك طريق الطُّهر والعفاف، فإن اللهَ تعالى يصرف عنه السوءَ ويعصِمُه من الوقوعِ في المعصية: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34]، وعباد اللهُ المخلَصون هم أهلُ البصيرة؛ فغضُّ البصر يملأ القلب نورًا، ويُنشئ البصيرة.

5- اتِّقاء الخيانة، والتزام الصِّدق؛ فقد راعى يوسفُ عليه السلام سيدَه الذي نشأ في كنَفِه وأحسن مثواه، فهل يكونُ جزاءُ الإحسانِ الإساءة؟ أو أن يخونه في أهله؟ ما هذا من شِيَم الشُّرفاء أهلِ الوفاء: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف من الآية:23]، ولقد أقرَّتِ امرأةُ العزيز واعترَفَتْ ببراءتِه واستعصامه وصِدقه: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ . ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:51-52]، فكان حُسنُ السيرةِ والسلوكِ، واتقاءُ الخيانة، والتزام الصِّدق؛ من أهمِّ طرقِ تحصيل البصيرة.

6- اجتناب التحاكُم إلى غيرِ شريعة الله عز وجل؛ فإن يوسفَ عليه السلام لَمَّا قبِل المنصب أو الوزارةَ في حكومة الملِك، لم يحكُمْ بشريعةِ الملِك، ولكنه استخدَم الحِيلة والكَيْد الخير، وهو باب يخضَعُ لضوابطَ شرعية؛ (يُرجَع إليها في كتب الفقه، وباب الحِيل في صحيح البخاري، وانظر تفسير القرطبي في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف من الآية:76]).

7- الصبرُ وحُسن الظنِّ بالله تعالى؛ فالصبرُ على المكارِهِ، وفَهْمُ الحِكمة من الابتلاء وأنه سنَّةٌ في الصالحين وتمحيصٌ للمؤمنين، كما أن حُسنَ الظنِّ بالله أن يعلَمَ المؤمنُ أن البلاء خيرٌ له، وأنه لو لم يكن مؤمنًا لَمَا ابتلاه اللهُ عز وجل؛ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: «إذا أحبَّ اللهُ عبدًا، ابتلاه؛ ليسمَعَ تضرُّعَه» (أخرجه البيهقي في شُعَب الإيمان [9788]، وفي رواية: «إذا أحبَّ الله عبدًا ابتلاه، فإن صبَر اجتباه، وإن رضي اصطفاه»).

هذه بعضُ الطُّرق لتحصيلِ البصيرة، وأختمُهما بما ذكَره ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين: "فأولُ منازل العبودية: اليقَظة، واستدلَّ بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]، القوامة للهِ تعالى: هي اليقَظةُ مِن سِنَة الغفلة، والنهوض عن وَرْطة الفترة، ثم اليقَظة تُوجِب الفِكرة، وهي تحديقُ القلب، ثم إذا صحَتِ الفكرةُ أوجبتِ البصيرةَ" (انظر: مدارج السالكين، الجزء الأول، ص: [117]).

د. أمين الدميري

  • 2
  • 0
  • 6,163

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً