خالد مات!!
مسافرون نحن .. منتظرون على رصيف في محطة قطار، وفي القطار عربات متقدمة وأخرى متأخرة، ولا ندري في أي العربات نزلنا؟! ولا متى نغادر قطار الحياة إلى محطة الوصول، والله .. يوشك الدور أن يصيبنا، وملك الموت أن يزورنا، وظلمة القبر أن تحتوينا!!، مات أخونا فجأة دون سابق إنذار فلا مرض ولا هِرَم، لتصلنا رسالة السماء: لا تنتظر لإصلاح نفسك شيبا يغزو شعرك أو مرضا يبطش بصحتك، فرُبَّ ضاحكٍ ملء فيه في ليلة قامت بواكيه آخرها، مات أخونا الحبيب وهو صائم، وقد زفَّ لنا البشرى رسول الله ﷺ حين قال: «من خُتِم له بصيام يوم دخل الجنة».
كان معاوية رضي الله عنه يقول: إنا والله من زرع قد استحصد أي حان حصاده؛ ولما نُعِي له صاحباه عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة وكان أحدهما أكبر منه والآخر دونه في العمر، أنشد قائلا:
إذا سار مَنْ خلْفَ امرئٍ وأمامَه *** وأُفرِدَ من أصحابه فهو سائر
ثم مات معاوية عام 60 من الهجرة، وورث هذا المعنى الأعمش فلما قيل له: مات مسلم النحات، فقال: إذا مات أقران الرجل فقد مات، ثم مضى الأعمش وغادر الحياة عام 148 من الهجرة، فالتقط خيط الضوء منهما قبل أن يتبدَّد إبراهيم بن أدهم المتوفى عام 162 فقال محفِّزا على العمل قاتلا روح الكسل: "سارعوا وسابقو فإن نعلا فقدت أختها سريعة اللحاق بها".
وصدق ثلاثتهم، وأخلصوا لنا الموعظة، وبقي أن نرى أثر كلامهم على أعمالنا، ودلائل قصر الأمل في حياتنا.
مات منذ أيام أخي المهندس علي إسماعيل ومن قبله هذا العام مات أبي، وأنا وأنتم على الأثر، نلحق بهم غدا أو بعد غد.
مسافرون نحن .. منتظرون على رصيف في محطة قطار، وفي القطار عربات متقدمة وأخرى متأخرة، ولا ندري في أي العربات نزلنا؟! ولا متى نغادر قطار الحياة إلى محطة الوصول، والله .. يوشك الدور أن يصيبنا، وملك الموت أن يزورنا، وظلمة القبر أن تحتوينا!!
مات أخونا فجأة دون سابق إنذار فلا مرض ولا هِرَم، لتصلنا رسالة السماء: لا تنتظر لإصلاح نفسك شيبا يغزو شعرك أو مرضا يبطش بصحتك، فرُبَّ ضاحكٍ ملء فيه في ليلة قامت بواكيه آخرها.
مات أخونا الحبيب وهو صائم، وقد زفَّ لنا البشرى رسول الله ﷺ حين قال: « ».
ومات أخونا الحبيب وهو في مهمة دعوية، وهي أشرف المهام وأسمى المقامات، لكنه استمر في دعوته بعد موته وواصل مسيرته بعد دفنه!! لسانا ناطقا وهو ميت كما كان لسانا ذاكرا وهو حي، فأحيا القلوب التي حضرت جنازته، ونثرت التراب على وجهه الطاهر، ولئن كان بالأمس أنطق منه اليوم، فإنه اليوم أوعظ منه بالأمس؛ وصدق من قال:
وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... فأنت اليوم أوعظ منك حيا
وعند قبره كان الدعاء خاشعا والدمع متواصلا، ومن لم يعتبر بعينه لم تنفعه أذنه، ومن اعتبر بالمشاهدة استغنى عن الموعظة، وليبقى السؤال:
- ما السر في حسن خاتمته وروعة مغادرته؟!
- أي شيء رفعه؟ أي عمل أكرمه الله به وزيَّن به خاتمته؟
- والله ليس إلا في سر، وما هو غير أحد أمرين:
- السرائر .. من أصلحها .. ضمن حسن الخاتمة وروعة الرحيل، ومن فرَّط فيها فقد جنى على نفسه ولفَّ حبل سوء الخاتمة حول عنقه.
فالله الله في السرائر .. اتق الله أخي في مفتاح الخواتيم وسر علو السادة المقرَّبين، فلتحفظ سرَّك بينك وبين حبيبك، ولا تُفشِه ولو لأقرب الناس منك، وذلك بأن يكون لك خبيئة من عمل صالح لا يطلع عليه أحد غير ربك، لتنقش كلمة الإخلاص في ديوانك، وتنحت صخرة الرياء بل تنسفها من سجلاتك، وتمحو بذلك ما سوى الله من قلبك، والمكافأة غدا: كنزٌ ثمين مخبوء: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
- المداومة على العمل الصالح: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ، وأحب العباد إلى الله من داوم على عمله الصالح، فهي علامة محبة العبد لله وعلامة محبة الله للعبد، وقليل من يفعله، وأنفاس الأكثرين قصيرة، يتأرجحون بين الطاعة والمعصية كبندول الساعة، ويعيشون في أجواء الطاعات تارة وأجواء الغفلات تارة أخرى، أما من ثبت واستمر، فهو من حاز وسام البطولة واستحق رحيلا رائعا كهذا.
الصالح لا يوقفه عن عمله زخرف دنيا، كيف لا وقد انتمى لحزب قال الله تعالى فيه: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
الصالح لا يوقفه عن عمله عجزٌ ولا انعدام قدرة، كيف لا وقد بهرته المساواة التي أعلن عنها نبيه ﷺ: « ». صحيح
الصالح لا يوقفه عن عمله مرضٌ ولا ضعف: كيف وقد كان تعلَّم من نبيه أنه لم يكن يدع قيام الليل، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدا.
الصالح لا يوقفه عن عمله تفرد ولا وحشة طريق أو قلة رفيق، وكيف وربه يبشِّره: « ». صحيح
- وتبقى خمس وصايا خطرت ببالي بعد دفن أخي الحبيب، أحتسب مثل ثواب الدعوة إليها والعمل بها في ميزان حسناته وقد مات، وأرسل بها إلى صحيفة حسناته وهو في قبره، ألا وهي:
- وصية مكتوبة: قال رسول الله ﷺ: «
فقم من التو واللحظة، واكتب وصيتك إن لم تكن فعلت، واستحضِر النية عند كتابة الوصية بأن تفعل ذلك اتِّباعا للسنة، واستعدادا للموت، وأداءً للحقوق، وتذكرةً لمن حولك بالآخرة، وإبراءً لذمتك إن عُصِي الله ورسوله بِنواح أو مخالفة سنة.
». متفق عليه - ثورة محمودة: فلتشعل نار الثورة في عباداتك وعاداتك، في أخلاقك وأهدافك، في علاقاتك، فتغتنم هبوب ريح الموت على قلبك، وتستنشق من العزائم ما تهدم به كسلك، وتجدِّد رتابتك، وتنفح الروح في صور عبادات ميتة فتبعث فيها الحياة بعد أن طغت عليها المادة فأهلكتها، ولذا كانت وصية النبي ﷺ بزيارة القبور ومعالجة الموتى أفضل الوصايا.
- هجرة مفروضة: أن تهجر كل ما لا تريد أن يصحبك إلى قبرك، وتفارق أي عمل سوء رافقك في حياتك خوفا مِن أن يُدفن معك، فتطرده اليوم من حياتك الأولى قبل أن يرافقك أثناء حياتك الثانية!! ثم سائل نفسك: ما أكثر ما يهلكك؟ ما أشد ما يجعل الشيطان يهزمك؟! ما المفتاح الذي غزا به قلبك وسعى به في هدم إيمانك؟ ثم تعزم العزمة المباركة على الهجرة المباركة.
- غفلة مدحورة: نعم سينزل بنا الموت، ولن يدع لأحد منا فِضة إلا فضَّها، ولا ذهبا إلا ذهب به، ولا عقاراً إلا عقره، ولا مالاً إلا مال عليه، فكيف نغفل عمَّن يزورنا صباح مساء، يخطف الناس من حولنا، لينزع داء العصر من أفئدتنا، وهي الغفلة بكل أنواعها: الغفلة عن الحساب، الغفلة عن الثواب، الغفلة عن العقاب، والغفلة الكبرى عن حق الله رب العالمين.
- زهادة نادرة: أن تملأ الأخرة قلبك وإن أحاطت بك الدنيا، وأن تغرق في المال ولا تميل معه، وتتاجر في الذهب ولا تذهب معه، وأن تحتسب لكل خطوة دنيوية نية أخروية، وأن تذكر الموت إذا فُتِحتْ عليك الدنيا فلا تطغى، وحين تُدبِر فترضى، وكيف لا وقد علَّم الموت كل من كان له عقل ذكي أو قلب تقي أن أغنى الأغنياء سيقف على خط واحد مع أفقر الفقراء في البيت الموحش المُسمَّى في هذه الدنيا قبرا.
وربِّك لو كشفتَ التُّرب عنهم *** لما عُرِف الغني من الفقير
ولا من كان يلبس ثوب صوف *** ولا البَدَن المنعَّم بالحرير
لذا كان حضورك الجنائز واستنشاق تراب دفن الأموات أفضل جرعة تشفي القلب من غفلته وترده إلى سليم فطرته، وقد استفادها الحسن بن علي حين قعد عند رأس ميت فقال: إن أمرا هذا آخره لأهلٌ أن يُزهد في ما قبله، وإن أمرا هذا أوله لأهل أن يُحذَر ما بعده.
- التصنيف: