ينابيع الرجاء - النبع السابع: «أَنا عند ظن عبدي بي»

منذ 2014-03-25

في الحديث القُدُسي: «إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر»، فمعاملة الله لعبده تدور مع الظن، فإذا أحسن ظنه بربه بلَّغه ما أمَّل، وإذا تشاءم وأساء الظن بالله فالعقوبة إليه أسرع والشر منه اقترب.


في الحديث القُدُسي: «إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر»[1].
فمعاملة الله لعبده تدور مع الظن، فإذا أحسن ظنه بربه بلَّغه ما أمَّل، وإذا تشاءم وأساء الظن بالله فالعقوبة إليه أسرع والشر منه اقترب.

  • جاء في عمدة القاري: "قوله أنا عند ظن عبدي بي يعني: إن ظنَّ أني أعفو عنه وأغفر له فله ذلك، وإن ظن العقوبة والمؤاخذة فكذلك، ويقال: إن كان فيه شيء من الرجاء رجاه لأنه لا يرجو إلا مؤمن بأن له ربا يجازي، ويقال: إني قادر على أن أعمل به ما ظنَّ أني عامله به، وقال الكرماني: وفيه إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف"[2].
    وحسن الظن بالله معناه ظن الإجابة عند الدعاء، وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن مجازاة الله لعبده خير الجزاء عند أداء الطاعة بشروطها، ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه موقنا بأن الله سيقبله ويغفر له، لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد، فإن اعتقد ضدَّ ذلك فهو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر.
     

كمْ فرجٍ بَعْدَ إياسٍ قد أتى *** وكمْ سرورٍ قد أتى بَعْدَ الأسى
من يحسنِ الظنَّ بذي العرشِ جنى *** حُلْوَ الجنَى الرائقَ من شَوْكِ السَّفا


ولهذا كان ابن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله تعالى ما أحسن عبد بالله تعالى ظنَّه إلا أعطاه الله تعالى ذلك لأن الخير كله بيده[3]، فإذا رزق الله عبدا حسن الظن به فقد أعطاه مفتاح الخير وسر العطايا.
والذي حسن ظنه بربه يرى ببصيرة قلبه ما يتمناه قبل أن يتحقق واقعا بين يديه، وهذا ما اعتاده أحمد بن العبّاس النمري حين أنشد يقول:


وإنّي لأرجو الله حتّى كأنّني *** أرى بجميل الظّنّ ما الله صانع[4]


وحينها يكون إغلاق الأبواب كلها في وجه العبد هو الباب الوحيد المفتوح ناحية الله! والشدة عين الفرج، وهو ما قاله علي بن الْحسن بن نصر بن بشر الطَّبيب: "فإنَّا قد نستقري الكرماء، فنجدهم يرفعون من أحسن ظَنَّه بهم، ويحذرون من تخييب أمله فيهم، ويتحرَّجون من إخفاق رجاء من قصدهم، فكيف بأكرم الأكرمين؟! الذي لا يُعْوِزُه أن يمنح مؤمِّليه ما يزِيد على أمانيهم فيهِ، وأعدل الشواهد بمحبة الله جلَّ ذكره، وتمسك عبده برحابه، وانتظار الرَّوح من ظله ومآبه، أن الإنسان لا يأتيه الفرج ولا تُدْرِكه النجاة، إلَّا بعد إخفاق أمله في كل ما كان يتوجَّه نحوه بأمله ورغبته، وعند انغلاق مطالبه وعجز حيلته، وتناهي ضره ومحنته، ليكون ذلك باعثا له على صرف رجائه أبدا إلى الله عز وجل، وزاجرا له على تجاوز حسن ظنِّه به"[5].

والمقادير بيد الله وحده، وإذا رضي عنك أدهشك عطاؤه وأتحفتك نعماؤه، ولذا قيل:


إن المقادير إذا ساعَدَت *** ألحقت العاجز بالحازم


يقين أحمد!
كتب رجُلٌ من إخوان أبي عبد الله أحمد بن حنبل إليه أيام المحنة أبياتا من الشِّعر يصبِّره بها:


هذي الخطوب ستنتهي يا أحمد *** فإذا جزِعت من الخطوب فمن لها
الصَّبر يقطع ما ترى فاصبر لها *** فعسى بها أن تنجلي ولعلَّها


لكن إيمان الإمام لا يقبل الظن الذي تحتمله كلمة (لعلَّها)، وإيمانه لا يرضى الشك والارتياب بل ليس عنده إلا الثقة واليقين،  ولذا أجابه الإمام أحمد قائلا:


صبَّرتني ووعظتني فأنا لها *** فستنجلي بل لا أقول لعلَّها
ويحُلُّها من كان يملك عقدها *** ثقة به إذْ كان يملك حلَّها


العبد لا يشهد حسن تدبير الله، إلا إذا انكشفت له العواقب، وليس هذا مقام أهل الخصوص في شيء لأن أهل الفهم عن الله، شهدوا حسن تدبير الله قبل أن تنكشف له العواقب وهم في ذلك على أقسام ومراتب:
فمنهم من حسن ظنه بالله، فاستسلم له لما عوده من جميل صنعه، ووجود لطفه.
ومنهم من حسن ظنه بالله علما منه، أن الاهتمام والتدبير والمنازعة،  لا تدفع عنه ما قدر عليه، ولا تجلب له ما لم يقسم له:
ومنهم من حسن الظن بالله تعالى، لقوله عليه السلام حاكيا عن ربه: «أنا عند ظن عبدي بي».

فكان متعاطيا بحسن الظن بالله وأسبابه، رجاء أن يعامل بمثل ذلك فيكون الله له عند ظنه ولقد يسر الله للمؤمنين سبيل المنن إذ كان عند ظنونهم: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بك العسر}.

وارفع من هذه المراتب كلها، الاستسلام إلى الله تعالى، والتفويض له، بما يستحق الحق من ذلك لا لأمر يعود على العبد، فان المراتب الأول لم تخرج العبد عن رق العلل، إذ من استسلم له بحسن عوائده استسلامه معلول بعوائد الألطاف السابقة.
 

[1] صحيح: رواه الطبراني في الأوسط عن واثلة كما في صحيح الجامع رقم: 1905.
[2] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 25/101 - بدر الدين العيني – ط دار إحياء التراث العربي.
[3] حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا رقم: 96.
[4] حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا رقم: 100.
[5] الفرج بعد الشدة للتنوخي 1/163 – ط دار صادر.

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

  • 44
  • 5
  • 285,687
المقال السابق
النبع السادس: {أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}
المقال التالي
النبع الثامن: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً