ينابيع الرجاء - النبع التاسع عشر: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}
وهذا الخير لا يراه الكثيرون لاحتجابهم بهوى النفس للعاجل وحبهم للظاهر، وأما صاحب البصيرة فلذة الإيمان الغامرة تجعله يحتقِر الشدة العابرة حين يقيسها إلى الخير الدائم واللذات الأبدية، ومن عرف أن فعل الحبيب به حبيب، وأن من ابتلاه هو طبيب رحيم يستخرج بالوقائع النازلة أدواءه، فهذا يمتلئ قلبه سكينة وأمنا.
- قال إسحاق العابد: "رُبما امتحن الله العبد بمحنة يُخلِّصُه بها من الهلكة، فتكون تلك المحنة أجلَّ نعمة"[1]. وما تكرهه قد يحوي في باطنه الخير لأنه منبع من منابع الأجر ومستودع للثواب، وبهذا كتب مُحَمَّد بن الحنفية إلى عبد الله بن عبَّاس: "ولو لم تُؤجر إِلَّا في ما تحب لقلَّ الْأجر"[2].
وعسى عند العامة هي توهُّم وشك، لكنها عند الله تبارك وتعالى يقين وواجب، ولهذا قال الشاعر:
قد يُنعِم الله بالبلوى وإن عظُمت *** ويبتلي الله بعض القوم بالنِّعم
وهذه الخيرية هي خيرية دنيوية كذلك، فقد تكره المصائب الواقعة والبلايا الحادثة، لكن رُبَّ أمرٍ تكرهه وفيه نجاتك، ورُبَّ أمرٍ تحبه وفيه ضررك، وهذا مُشاهَد في حياتك، فتجاربك الشخصية أقوى من أي رأي.
خذ ما تراهُ، ودع شيئاً سمعتَ به *** في طلعةِ البدرِ ما يغنيكَ عن زحل
- ولذا أنشد أبو سعيد الضرير:
رُبَّ أمر تتقيه جرَّ أمرا ترتضيه *** خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه
وهذا الخير لا يراه الكثيرون لاحتجابهم بهوى النفس للعاجل وحبهم للظاهر، وأما صاحب البصيرة فلذة الإيمان الغامرة تجعله يحتقِر الشدة العابرة حين يقيسها إلى الخير الدائم واللذات الأبدية، ومن عرف أن فعل الحبيب به حبيب، وأن من ابتلاه هو طبيب رحيم يستخرج بالوقائع النازلة أدواءه، فهذا يمتلئ قلبه سكينة وأمنا.
لعلَّ عُتْبَكَ محمودٌ عواقبهُ *** وربما صحَّتِ الأجسادُ بالعللِ
فرُبَّ محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب، وكم مسرورٍ بنِعمة هي داؤه، ومرحوم من داءٍ هو شفاؤه.
كم فرحةٍ مطوية *** لك بين أثناء النوائب
ومسرَّة قد أقبلت *** من حيث تنتظر المصائب
تأخر صاحب لي عن حافلة، فرجع إلى بيته متحسِّرا، وفي المساء جاء خبر حادث مات فيه كل من ركب هذه الحافلة!
وقد يأسف المرء من فوت ما *** لعَلَّ السلامة من فوته
ولذا أوصاك وداعة السهمي بالصبر على البلايا وعدم استعجال الرخاء مبشِّرا لك بحسن العاقبة قائلا: "اصبر على الشَّر إِن قدحك، فرُبَّما أجلى عمَّا يُفرِحك، وتحت الرَّغوة اللَّبن الصَّرِيح"[3].
- أخي المصاب .. خفي عن موسى حكمة أفعال الخِضر، وكذلك يخفى على العوام ما يفعله الملوك، ولذلك خاطب المتنبي سيف الدولة قائلا:
يدقُّ على الأفكار ما أنت فاعلٌ *** فيترك ما يخفي ويُؤخَذ ما بدا
- فالمتنبي يقول: "دقَّ على الأفكار حقائق سياستك، وتقصر عن سعة إحاطتك، فيأخذ الناس ظاهر ذلك مرتضين بك، ويُعرضون عما خفي عنهم منه مسلِّمين لك"[4].
وهذا قول بشر في بشر، فما ظنك برب البشر؟! وهو العليم الرحيم اللطيف الخبير؟!
لذا كان عبادة العقل التسليم، وعبادة القلب الرضا.
- أنشد أبو سعيد الضرير:
رُبَّ أمرٍ تتَّقيه *** جَرَّ أمرا ترتضيه
خَفِيَ المحبوب مِنْه *** وبدا المكروه فيه
فالضربة التي لا تميتك تقوّي ظهرك، والمحنة التي أعيت تنقي صفوف المؤمنين من أصحاب المصالح والمنتفعين، والفشل تهيئة لازمة وتدريبٌ ضروري على النجاح المنتظر، فارجُ الخير في موضع الشَّرّ، فرُبَّ حياة سبَّبها طلب الموت، وأكثر ما يأتي الأمن من ناحية الخوف.
وخذ مثالا لهذه الخير في باطن الشر، وذلمك في واقعة الإفك التي اتُّهِمت فيها أحب الخلق إلى رسول الله عائشة بأبشع تهمة يمكُن أن تنال امرأة، فأي خير في هذا؟!
- قال المراغي: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي لا تظنوا أن فيه فتنة وشرا، بل هو خيرٌ لكم، لاكتسابكم به الثواب العظيم، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة، وإظهار كرامتكم على الله بإنزال قرآن يُتلى مدى الدهر فى براءتكم وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم، والثناء على من ظن بكم خيرا، إلى نحو ذلك من الفوائد الدينية والآداب التي لا تخفى على من تأمَّلها[5].
قال سمعت الثوري يقول: لقيت أبا حبيب البدوي فقال لي: يا سفيان منع الله لك عطاء وذلك أنه يمنعك من غير بخل ولا عدم، ولكن نظرا لك واختبارا. حلية الأولياء 3-148
- عن سفيان الثوري قال: كنت أطلب عابداً من عباد الكوفة يقال له الكوثاني عشرين سنة فما أقدر عليه، فمررت يوماً بشاطىء الفرات وقوم يعملون في الطين فنادى رجل منهم يا كوثاني يا كوثاني، فناديت يا كوثاني فأتاني، فقال: ما تريد؟ قلت: أنا سفيان الثوري قال: ما حاجتك قلت: كلمني بشيء، فقال: يا سفيان كل خير نرجوا من ربنا، منع ربنا لنا عطاء، ثم ذهب. حلية الأولياء 3-185
- عن الثوري قال: أتيت أبا حبيب البدوي أسلم عليه، ولم أكن رأيته، فقال لي أنت سفيان الثوري الذي يقال؟ قال: قلت نعم نسأل الله تعالى بركة ما يقال. قال: فقال لي: يا سفيان ما رأينا خيراً قط إلا من ربنا. قلت: أجل، قال: فما لنا نكره لقاء من لم نر خيراً قط إلا منه. ثم قال: يا سفيان منع الله عز وجل إياك عطاء منه لك، وذاك أنه لم يمنعك من بخل ولا عدم، وإنما منعه نظر منه واختبار، يا سفيان إن فيك لأنساً ومعك شغل. صفة الصفوة 2-16
- يقول ابن عطاء: ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك. متى فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع عين العطاء.
ويقول أيضًا: ربما أعطاك فأشهدك بره، وربما منعك فأشهدك قهره، فهو في كل ذلك متعرف إليك، ومقبل بجميل فضله عليك.
البشر يمنعونك بخلا أو أنانية أو جهلا بما يصلحك ظنا أن المنع في صالحك وهو غير ذلك، ولكن الله لا يمنع إلا ليعطي، فالظاهر حرمان والباطن منٌّ وإحسان.
[1] الفرج بعد الشدة 1/161
[2] نثر الدر في المحاضرات 1/282 - منصور بن الحسين الرازي – ط دار الكتب العلمية.
[3] الرخاء بعد الشدة 1/158
[4] شَرْح شِعْر المُتَنبي 2/202 – ط أبو القاسم ابن الإِفلِيلي - مؤسسة الرسالة ببيروت.
[5] تفسير المراغي 18/83
- التصنيف: