فاضح القرّاء

منذ 2014-04-03

عن عبيد بن عمير قال: "إن الله يبغض القاري -أي العالم- إذا كان لبّاسًا ركّابًا ولاّجًا خرّاجًا".

من نعمة الله على هذه الأمّة أنّه لا يُخلي الأرض من الشخصية الأنموذج، لا أقصد الرجل الأمّة، الذي تجتمع فيه خصال الخير، فليس ذلك ضروريًا في كل زمن، وإنّما لا تكاد تجد جانبًا من جوانب شخصيّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاّ وجدت من يقوم بها، ويثبت أركانها في الأرض.


للأسف الشديد إنّ بعض هذه الجوانب يكاد يختفي في بيئات طلبة العلم، فضلًا عن غيرهم، وكثيرًا ما يكون خفاؤها ناتجًا عن الإغراق في ضدّها تحت ذرائع شرعيّة أحيانًا!


ومن ذلك جانب الزّهد والمباعدة عن الدنيا ولذّاتها.. وهو من أميز جوانب شخصيّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.. ومع هذا يكاد يتلاشى من واقعنا..

إذ أصبح ذلك شيئًا من الماضي، لم نعد نقابل ونرى زاهدًا حقيقيًّا إلاّ ما ندر..

وقد رأينا وسمعنا عن بعض الأخيار من أهل الزهد الحقيقي، أعني ذلك الّذي يمارسه صاحبه بينما الدنيا قريبة منه، بل طيّعة في يديه..


بعض هؤلاء من أكابر أهل العلم.. رفضوا الملايين والقصور المنيفة والسيارات الفارهة، وفضلوا البقاء في طبقة الكادحين والمساكين.. وبين بعضهم وبين المال والجاه رمية حجر!
إنّ هذه النماذج الّتي أقامها الله في الأرض شواهد على ما اندرس أو كاد من فضائل الشريعة يصحّ فيهم وصف ابن السمّاك لداود الطائي الزاهد المعروف..


عن حفص بن عمر الجعفي قال: اشتكى داود الطائي أيامًا، وكان سبب علته أنه مَرّ بآية فيها ذكر النار، فكرّرها مرارًا في ليلته فأصبح مريضًا فوجدوه قد مات، ورأسه على لَبِنَة، ففتحوا باب الدار، ودخل ناس من إخوانه وجيرانه ومعهم ابن السماك، فلما نظر إلى رأسه قال: "يا داود فضحت القرّاء".. يعني أنّه أبان عن حقيقة ما يعيشه العلماء في وقته من رغد العيش؛ إذ مات ابن السماك، ولم يجد وسادة يضع عليها رأسه..
وأيّ رغد يتحدث عنه ابن السمّاك، لو رأى ما نحن فيه من ترف، وليته كان من خالص الحلال، إذًا لرددْنا ما ردّده الليث في ردّه على مالك: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ} [الأعراف:32].. فإذا نظرت إلى غالب مكاسبنا فإذا هي حرام خالص، أو شبهة غالبة، أو إسراف ومبالغة في الدنيا..


دعنا نعرض الآن عن حل الكسب، ونتكلم عن فضيلة كادت تُنسى في خضمّ جوّ مسموم غلب فيه الكلامُ العملَ والتزيّنُ الظاهرُ التزينَ الباطن..


إنّها فضيلة الزهد؛ فعلى الرغم من أنّ المنهج العلمي السلفي قد حارب الفكرة الصوفية التي تقوم على التعبد بترك الدنيا والتباعد عنها، ونجح في إقصائها، إلاّ أنّ واقع كثير منّا للأسف الشديد ينبي عن إفراط في جانب الحرص على الدنيا، والإغراق في الاستمتاع بها خارجًا عن حدّ المعقول، وأنا أتكلم عن القدوات من أهل العلم وطلبته والأخيار.. الذين يجب أن يراعوا من يراقبهم..


لا يجوز أن يصدّر الإنسان نفسه حتّى إذا كان رأسًا في الناس تصرّف تصرفات الأخفياء؛ فإنّ للرئاسة ضريبة!
عن زيد بن وهب الجهني قال: خرج علينا علي بن أبي طالب، ذات يوم عليه بردان متزر بأحدهما، مرتدٍ بالآخر، قد أرخى جانب إزاره، ورفع جانبًا، قد رقع إزاره بخرقة، فمر به أعرابي، فقال: يا أيها الإنسان، البسْ من هذه الثياب فإنك ميت -أو مقتول- فقال: "أيها الأعرابي، إنما ألبس هذين الثوبين ليكون أبعد لي من الزهو، وخيرًا لي في صلاتي، وسنّة للمؤمن" وفي رواية: "وأجدر أن يقتدي به المسلم".. وفي رواية ثالثة: "يتعزّى به الفقير".. رضي الله عنك يا أبا الحسن!


وقد سمعت شريطًا لأحد الفضلاء لا تملك دمعتك من شدّة تأثيره في السامع عن الله والدار الآخرة، ثمّ قُدّر أنّ أطلع على بيته فإذا هو قصر منيف لا يختلف عن قصور الأباطرة..
أرجو أن تتذكر الآن أنّي لا أتكلم عن حلّ ولا حرام..
أتحدث عن فضيلة منسيّة..


لقد أصبحنا نشتاق لرؤية العالم أو الداعية الّذي يغنيك حاله عن قوله، قال مالك بن دينار: "إنما العالم أوالقاصّ الذي إذا أتيته فلم تجده في بيته قصّ عليك بيتُه، فترى حصيرًا للصلاة، ترى مصحفًا، ترى إجانة للوضوء، ترى أثر الآخرة".
وعن الأعمش أن رجلًا أعطاه مالًا يشترى به زعفرانًا قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: "ما كانوا يطلبون الدنيا هذا الطلب".
وعن عبيد بن عمير قال: "إن الله يبغض القاري -أي العالم- إذا كان لبّاسًا ركّابًا ولاّجًا خرّاجًا".
وعن عبيد الله بن شميط قال سمعت أبي يقول: "يعمد أحدهم فيقرأ القرآن، ويطلب العلم حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضمها إلى صدره، وحملها على رأسه فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة وأعرابي جاهل وأعجمي، فقالوا: هذا أعلم بالله منا لو لم ير في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا، فرغبوا في الدنيا وجمعوها". وكان أبي يقول فمثله كمثل الذي قال الله عز و جل: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25]".


وصدق رحمه الله؛ فالآن ترى حولك من يبالغ في زينة الدنيا من الناس حتى يقترض للسفر إلى السياحة، ويغيّر السيارة والأثاث مرات بلا حاجة، ويشتري من الثياب ما ينفق على أسرة فقيرة عامًا كاملًا، وإذا نصحته احتجّ لك بأسماء معروفة..
يا لبؤسنا حيت تصبح النصوص الشرعية حجة في التملّص من الشريعة..!!
ويا لبؤسنا مرة أخرى حين تصبح القدوات حججاً في ترك وهجر الفضائل..!!
وكثير من الشكوى من الفقر ليس الفقر الحقيقي، وإنّما أصبحنا نعدّ بعض الأمور من الضرورات وهي ليست كذلك، والسبب هو غياب القدوة الّتي تقول للناس بحالها قبل مقالها: إنّ ما يعدّه البعض فقراً هو بالنسبة لبلاد أخرى بذخ..


ولهذا كان السلّف آيات في هذا المجال، عن يحيى بن يمان قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "العالم طبيب الدين، والدراهم داء الدين فإذا جذب الطبيب الداء إلى نفسه فمتى يداوي غيره".
عن سعيد بن محمد قال كان من دعاء طاووس: "اللهم احرمني كثرة المال والولد، وارزقني الإيمان والعمل".
وفي الأثر عن كعب قال: إنّ الرب تعالى قال لموسى عليه السلام: "يا موسى إذا رأيت الغنى مقبلاً فقلْ ذنب عُجّلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقلْ مرحباً بشعار الصالحين".

وكان قصدهم بذلك تركيز الهمّ في جهة الآخرة، فأودية الدنيا كثيرة، عن أبي إدريس قال: "من جعل همومه همًّا واحدًا كفاه الله همومه، ومن كان له في كل واد همٌّ لم يبال الله في أيها هلك".


ومن آثار ذلك أنّ الكثير منّا للأسف أصبح يحب مجالس الأغنياء والمترفين، ويحرص على مجالستهم، فضلًا عن أهل المناصب من أمراء وملوك ورؤساء، وهذا خلاف منهج السلف، عن أبي داود أنه سمع محمد بن علي يقول: "إذا رأيتم القارئ (العالم) يحب الأغنياء فهو صاحب الدنيا، وإذا رأيتموه يلزم السلطان من غير ضرورة فهو لص".
وقال سفيان الثوري:"لا خير في القارئ يعظم أهل الدنيا".
وعن هشام قال: "سمعت الحسن يحلف بالله ما أعز أحد الدرهم إلاّ أذله الله".
قال الزهري لسليمان بن هشام: "ألا تسأل أبا حازم ما قال في العلماء" قال: "وما عسيت أن أقول في العلماء إلاّ خيرًا. إني أدركت العلماء وقد استغنوا بعلمهم عن أهل الدنيا، ولم يستغن أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأوا ذلك قدموا بعلمهم إلى أهل الدنيا، ولم ينلهم أهل الدنيا من دنياهم شيئًا.. إن هذا وأصحابه ليسوا علماء إنما هم رواة".


ولهذا كان أئمة السلف والخلف يحرصون على الجلوس مع الفقراء والمساكين يتطلبون رقة القلوب وثبات الإيمان والأجر.
عن أبي هريرة قال: "كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته. إن كان ليخرج إلينا العُكّة فنشقها فنلعق ما فيها".
و عن أبي هريرة قال: "كان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه، وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسميه (أبا المساكين)".
وعن ميمون بن مهران أن امرأة ابن عمر عوتبت فيه، فقيل لها: أما تلطفين بهذا الشيخ فقالت: فما أصنع به! لا نصنع له طعامًا إلاّ دعا عليه من يأكله، فأرسلت إلى قوم من المساكين كانوا يجلسون بطريقه إذا خرج من المسجد فأطعمتهم، وقالت لهم: لا تجلسوا بطريقه، ثم جاء إلى بيته فقال: أرسلوا إلى فلان وإلى فلان، وكانت امرأته أرسلت إليهم بطعام وقالت: إن دعاكم فلا تأتوه، فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنه: أردتم أن لا أتعشى الليلة، فلم يتعشّ تلك الليلة.


وعن أبي ذر قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه و سلم أن لا تأخذني في الله لومة لائم، وأن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأوصاني بحب المساكين والدنوّ منهم.
ومن المعاصرين شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز رحمه الله الذي تواتر عنه أنّه لم يأكل عشرات السنين إلاّ مع الفقراء والمساكين.
فلا عجب إذن من ذلك الثبات وذلك الرسوخ؛ إذ أقفلوا في وجه الشيطان كلّ باب، وسدّوا عليه إلى قلوبهم كلّ سبيل؛ فرحم الله ميتهم وحفظ الله حيّهم.


ومن مظاهر الترف كثرة الأكل والشرب، وتطلّبهما في كل مناسبة، حتّى مجالس العلم. عن بكر بن خنيس عن أبي عبد الله الشامي عن مكحول قال: "أفضل العبادة بعد الفرائض الجوع والظمأ". قال بكر: "وكان يُقال الجائع الظمآن أفهم للموعظة وقلبه إلى الرقة أسرع". وكان يُقال: "كثرة الطعام تدفع كثيراً من الخير".


وعن عبيد الله بن شميط قال: سمعت أبي إذا وصف أهل الدنيا قال: "دائم البطنة، قليل الفطنة، إنما همّه بطنه وفرجه وجلده، يقول متى أصبح فآكل وأشرب وألهو وألعب، ومتى أمسي فأنام جيفة بالليل بطالًا بالنهار".
وعن أبي بكر بن المنذر الهجيمي قال سمعت سهل بن عبد الله يقول: "البطنة أصل الغفلة".
وقال سفيان الثوري: "إياكم والبطنة فإنها تقسّي القلب".
عن عبد الواحد بن زيد قال: "من قوِيَ على بطنه قوِيَ على دينه، ومن قوِيَ على بطنه قوِيَ على الأخلاق الصالحة، ومن لم يعرف مضرّته في دينه من قبل بطنه فذاك رجل في العابدين أعمى".
وعن عبيد الله بن محمد التيمي قال: قال رياح القيسي: "لا أجعل لبطني على عقلي سبيلًا أيام الدنيا". فكان لا يشبع، إنما كان يأكل بُلغة بقدر ما يمسك الرمق.


وعن جعفر قال: كنا نأتي فرقدًا السبخي ونحن شببة فيعلمنا فيقول: "إنّ من ورائكم زمانًا شديدًا شدّوا الإزار على أنصاف البطون، وصغّروا اللُّقَم وشدّوا المضغ، ومصّوا الماء، فإذا أكل أحدكم فلا يحلّنّ من إزاره فتتسع أمعاؤه، وإذا جلس ليأكل فليقعد على إلييه، وليلزق فخذيه ببطنه، وإذا فرغ فلا يقعد وليجيء وليذهب".
وعن عثمان بن زائدة قال: كتب إليّ سفيان الثوري: "إن أردت أن يصحّ جسمك، ويقلّ نومك فاقللْ من الأكل".


آخر الكلام: الآثار كثيرة، وواحد منها يكفي، ولو نظر الواحد إلى حال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عرف حقيقة الأمر، حتّى أغنياؤهم ممن يحتج البعض بحالهم كانت الأموال في أيديهم لا في قلوبهم، ينبيك عن ذلك إنفاقهم في سبيل الله، وطبيعة استمتاعهم بتلك الأموال. عن أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأبي سليمان الداراني: كان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف موسرين! قال: "اسكُت! إنّما كان عثمان وعبد الرحمن خازنين من خزّان الله في أرضه ينفقان في وجوه الخير". فانظر لحال من يحتجّ بحال عثمان وعبد الرحمن هل منهم من يفعل فعلهما؟ أم أنّ الاحتجاج بهما فقط في كسب المال وكنزه دون إنفاقه؟

اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

 

د. أحمد بن صالح الزهراني
12 رجب 1431هـ

  • 1
  • 0
  • 1,766

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً