الثقة بالله

منذ 2014-04-27

الثقة بالله صفة من صفات الأنبياء؛ فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار كان على ثقة عظيمة بالله؛ حيث قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد خلق الله الخلق جميعًا لغاية واحدة؛ لعبادته وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقد بين لهم سبحانه وتعالى كيفية العبادة، ووضَّح لهم صفتها، وفصَّل لهم أنواعها، فثمة عبادات ظاهرة (بالجوارح)؛ كالصلاة والصيام، وما إلى ذلك، وعبادات باطنة (قلبية) كالخوف منه، والتوكل عليه، والرضا به، وما أشبه ذلك، ومن هذه العبادات القلبية التي تعبد الله بها عباده: الثقة به، وصدق الاعتماد عليه، وحسن التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه..


الثقة بالله صفة من صفات الأنبياء؛ فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار كان على ثقة عظيمة بالله؛ حيث قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].


ولما فر نبينا عليه الصلاة والسلام من الكفار فدخل الغار؛ فحفظ الله نبيه من كيد الكفار، وحرسه بعينه التي لا تنام؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق حدثه، قال: نظرتُ إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (رواه البخاري: [3653]، ومسلم: [2381] وهذا لفظ مسلم].

 

إنها ثقة الحبيب صلى الله عليه وسلم العظيمة بالله، ولذلك خاف أبو بكر الصديق رضي الله عنه على أن يصاب النبي صلى الله عليه وسلم بأذى؛ فرد عليه بلسان الواثق بوعد الله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وفعلًا كان الله مع نبيه عليه الصلاة والسلام فحفظه وأيده ونصره، وجعل العاقبة له ولأتباعه من المؤمنين والمؤمنات.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. (رواه البخاري: [4563]).
ففي هذه الأوقات العصيبة والحرجة كانا حبيبا الرحمن إبراهيم ومحمد عليهما السلام في ثقة عظيمة بالله.

والثقة أيضًا صفة من صفات الأولياء الصادقين؛ قال يحيى بن معاذ: "ثلاث خصال من صفة الأولياء: الثقة بالله في كل شيء، والغنى به عن كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء" (شعب الإيمان للبيهقي: [2/354]].

وهي كذلك صفة من صفات العباد الزهاد، فقد جاء رجل إلى حاتم الأصم فقال: "يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد؟ فقال: رأس الزهد الثقة بالله ووسطه الصبر وآخره الإخلاص"، وقال حاتم: "وأنا أدعو الناس إلى ثلاثة أشياء: إلى المعرفة وإلى الثقة وإلى التوكل؛ فأما معرفة القضاء فأن تعلم أن القضاء عدل منه، فإذا علمت أن ذلك عدل منه فإنه لا ينبغي لك أن تشكو إلى الناس أو تهتم أو تسخط، ولكنه ينبغي لك أن ترضى وتصبر. وأما الثقة فالإياس من المخلوقين، وعلامة الإياس أن ترفع القضاء من المخلوقين، فإذا رفعت القضاء منهم استرحت منهم واستراحوا منك، وإذا لم ترفع القضاء منهم فإنه لابد لك أن تتزين لهم وتتصنع لهم، فإذا فعلت ذلك فقد وقعت في أمر عظيم، وقد وقعوا في أمر عظيم وتصنع، فإذا وضعت عليهم الموت فقد رحمتهم وأيست منهم، وأما التوكل فطمأنينة القلب بموعود الله تعالى فإذا كنت مطمئنًا بالموعود استغنيت غنى لا تفتقر أبدا" (حلية الأولياء لابن الجوزي:[8/75]).

 

والثقة بالله تجعل العبد راضيا بالله، قال حاتم الأصم: "من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله، ثم التوكل، ثم الإخلاص، ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة" (حلية الأولياء: [8/75])، وتجعله يائسا مما في أيدي الناس؛ قيل لأبي حازم: "يا أبا حازم ما مالك؟" قال: "ثقتي بالله تعالى، وإياسي مما في أيدي الناس" (حلية الأولياء: [3/231]).

ومن وثق بالله نجاه من كل كرب أهمه؛ قال أبو العالية: "إن الله تعالى قضى على نفسه أن من آمن به هداه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، ومن توكل عليه كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، ومن أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، ومن استجار من عذابه أجاره، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103]، والاعتصام الثقة بالله، ومن دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]" (حلية الأولياء: [2/221-222])، فكن واثقًا بالله، متوكلًا عليه، معتصمًا به.

 

بل من تحلى بهذه الصفة فقد فاز بالجنة؛ قال شقيق البلخي رحمه الله: "من عمل بثلاث خصال أعطاه الله الجنة: أولها: معرفة الله عز وجل بقلبه ولسانه وسمعه وجميع جوارحه، والثاني: أن يكون بما في يد الله أوثق مما في يديه، والثالث: يرضى بما قسم الله له، وهو مستيقن أن الله تعالى مطلع عليه، ولا يحرك شيئًا من جوارحه إلا بإقامة الحجة عند الله، فذلك حق المعرفة".
ثم بين الثقة بالله وشرحها وفسرها، فقال: "وتفسير الثقة بالله أن لا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه، ولا تخشى من شيء سواه، ولا يحرك من جوارحه شيئًا دون الله، يعني في طاعته واجتناب معصيته". (حلية الأولياء:[8/61]).

 

الثقة بالله نحتاجها جميعًا رجالًا ونساءً؛ فهذه أم موسى عليه السلام كما قص الله علينا قصتها في سورة القصص؛ هذه المرأة المباركة عاشت في زمن جبار عنيد، وطاغوت فريد؛ لن نجد له في التاريخ مثيلًا؛ هذا الطاغوت ادعى الربوبية: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، ونفي الأولوهية عما سواه: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:38].
طاغوت استخف قومه فأطاعوه، وسام شعبه سوء العذاب؛ معتمدًا على خرافات وأحلام ما أنزل الله بها من سلطان، فقد رأى في منامه رؤيا أقلقته وأفزعته، فدعا المنجِّمين لتأويلها، فأولها: بأنه سيولد مولود في بني إسرائيل يسلبه مُلكه، ويغلبه على سلطانه، ويبدل دينه!!.
فما كان من هذا الجبار إلا أن أصدر مرسومًا جائرًا يقضي بقتل كل طفل ذكر سيولد في البلد؛ فقتل جنوده ما شاء الله أن يقتلوا؛ قال ابن كثير رحمه الله: "ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل، خافت القبط أن يفني بني إسرائيل، فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة، فقالوا لفرعون: إنه يوشك إن استمر هذا الحال أن يموت شيوخهم وغلمانهم يقتلون، ونساؤهم لا يمكن أن تقمن بما تقوم به رجالهم من الأعمال، فيخلص إلينا ذلك، فأمر بقتل الولدان عامًا وتركهم عامًا، فولد هارون عليه السلام في السنة التي يتركون فيها الولدان، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان، وكان لفرعون ناس موكلون بذلك، وقوابل يدرن على النساء، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها، فإذا كان وقت ولادتها لا يقبلها إلا نساء القبط، فإن ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذباحون بأيديهم الشفار السكاكين المرهفة فقتلوه ومضوا -قبحهم الله تعالى-.

 

فلما حملت أم موسى به عليه السلام لم يظهر عليها مخايل-أي علامات- الحمل كغيرها، ولم تفطن لها الدايات، ولكن لما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا، وخافت عليه خوفًا شديدًا، وأحبته حبًا زائدًا، وكان موسى عليه السلام لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعًا وشرعًا، قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طـه:39] فلما ضاقت به ذرعًا، ألهمت في سرها، وألقي في خلدها، ونفث في روعها؛ كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[القصص:7]، وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل، فاتخذت تابوتًا، ومهدت فيه مهدًا، وجعلت ترضع ولدها، فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه ذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وسيرته في البحر، وربطته بحبل عندها. فلما كانت ذات يوم دخل عليها من تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت وأرسلته في البحر، وذهلت عن أن تربطه، فذهب مع الماء، واحتمله حتى مر به على دار فرعون، فالتقطه الجواري فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون، ولا يدرين ما فيه، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها، فلما كشف عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه، وذلك لسعادتها، وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها، ولهذا قال: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}... معناه أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ليجعله عدوًا لهم وحزنًا؛ فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}[القصص:8].(تفسير القرآن العظيم:[6/199-200]؛ ط: دار الكتب العلمية)


ثم إن هذا الطاغية همَّ بقتله، فقالت له زوجته آسية بنت مزاحم محببة له: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} فقال فرعون: "أما لك فنعم، وأما لي فلا، فكان كذلك، وهداها الله بسببه، وأهلكه الله على يديه" أي أهلك الله فرعون على يد موسى عليه السلام.
ثم قالت مبينة لها العلة من ذلك: {عَسَى أَن يَنفَعَنَا} وقد حصل لها ذلك، وهداها الله به، وأسكنها الجنة بسببه. وقوله: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي أرادت أن تتخذه ولدًا وتتبناه، وذلك أنه لم يكن لها ولد منه {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[القصص:9]أي لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة، والحجة القاطعة.

ولما ألقته أمه في البحر في المرة الأخيرة ذهب عنها بعيدًا؛ فخافت عليه خوفًا شديدًا حتى أن قلبها أصبح فارغًا من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى عليه السلام كما أخبرنا بذلك القرآن، فقال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} "أي إن كادت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لتظهر أنه ذهب لها ولد، وتخبر بحالها، لولا أن الله ثبتها وصبرها، قال الله تعالى: {لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي أمرت ابنتها وكانت كبيرة تعي ما يقال لها، فقالت لها: {قُصِّيهِ} أي اتبعي أثره، وخذي خبره، وتطلبي شأنه من نواحي البلد، فخرجت لذلك: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ}.. وقال قتادة: "جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده"، وذلك أنه لما استقر موسى عليه السلام بدار فرعون وأحبته امرأة الملك واستطلقته منه، عرضوا عليه المراضع التي في دارهم فلم يقبل منها ثديًا، وأبى أن يقبل شيئًا من ذلك، فخرجوا به إلى السوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته، فلما رأته بأيديهم عرفته ولم تظهر ذلك ولم يشعروا بها: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}" [القصص10-11].
ثم قال الله -تعالى-: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} "أي تحريمًا قدريُا -أي في القدر الكوني، وليس تحريمًا شرعيًا-، وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه؛ ولأن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك سببًا إلى رجوعه إلى أمه لترضعه، وهي آمنة بعد ما كانت خائفة، فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "فلما قالت ذلك، أخذوها وشكوا في أمرها، وقالوا لها: وما يدريك بنصحهم له؟ وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له، وشفقتهم عليه؛ رغبتهم في سرور الملك، ورجاء منفعته"، فأرسلوها، فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم، فذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها عطاءً جزيلًا، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه وافق ثديها، ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه، فأبت عليها وقالت: إن لي بعلًا وأولادًا، ولا أقدر على المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت. فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليها النفقة والصلات والكساوي والإحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنًا، في عز وجاه ورزق دار... ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل يوم وليلة أو نحوه، والله أعلم، فسبحان من بيده الأمر، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجًا وبعد كل ضيق مخرجًا، ولهذا قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أي به {وَلَا تَحْزَنَ} أي عليه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص:13] أي فيما وعدها من رده إليها، وجعله من المرسلين، فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعا وشرعا" (ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير:[6/200-202]).

 

وقد جاءت هذه القصة مختصرة في سورة طه في قوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى . أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي . إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [طـه:38-40].
فتأمل في هذه الثقة العظيمة من أم موسى عليه السلام في وعد الله؛ قال ابن القيم رحمه الله: "فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى، إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء، تتلاعب به أمواجه، وجريانه إلى حيث ينتهي أو يقف" (مدارج السالكين:[2/142]).
وقد حقق الله لها ما وعدها به، ورد لها فلذة كبدها، وحفظه من كل سوء ومكروه؛ فكن واثقًا بوعد الله كوثوق أم موسى عليه السلام.


وهكذا عاش نبي الله موسى عليه السلام حياته كلها واثقًا بالله مطمئنًا به؛ ففي أحداث احتسابه على فرعون وقومه، ودعوته لهم، فر موسى عليه السلام ومن معه المؤمنين فتبعه فرعون ومن معه من الكافرين، قال تعالى: {فأتبعوهم مشرقين} أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس، وهو طلوعها: {فلما تراءا الجمعان} أي رأى كل من الفريقين صاحبه، فعند ذلك: {قال أصحاب موسى إنا لمدركون} وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف البحر، وهو بحر القلزم، فصار أمامهم البحر وقد أدركهم فرعون بجنوده، فلهذا قالوا: {إنا لمدركون . قال كلا إن معي ربي سيهدين} أي لا يصل إليكم شيء مما تحذرون، فإن الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم، وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد... وقد ذكر غير واحد من المفسرين: أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون، وجعل يوشع بن نون أو مؤمن آل فرعون، يقول لموسى عليه السلام: يا نبي الله هاهنا أمرك ربك أن تسير؟ فيقول: نعم، فاقترب فرعون وجنوده، ولم يبق إلا القليل، فعند ذلك أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر، فضربه وقال: انفلق بإذن الله. (ينظر تفسير القرآن العظيم: [6/130]) وبذلك نجى الله موسى ومن معه من المؤمنين، وأهلك فرعون ومن معه من الجاحدين.


كن واثقًا بأن الله سيحفظك ويرعاك ما دمت حافظًا لحدوده؛ ممتثلًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه؛ فهاهو عليه الصلاة والسلام يوصي ابن عباس رضي الله عنهما بوصية عامة له وللأمة جميعًا، فيقول له: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجدها تجاهك» (رواه الترمذي: [2516]، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: [5302]).

ومن صفات المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات أنهم يحفظون حدود الله جميعا، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].


وفي أوائل سورة المؤمنين يعدد سبحانه صفات أهل الفلاح من المؤمنين فيقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5-6]، وبين أن تعدى ما أحل الله فهو معتد، فقال: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7].

 

وإليك هذه الشاهد من حياة النساء الصالحات الواثقات بالله؛ فهذه هاجر عليها السلام لما كانت حافظة لله في حال الرخاء حفظها الله، وحفظ ولدها في حال الشدة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أول ما اتخذ النساء المنطق من قبلُ أم إسماعيل اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: أالله الذي أمرك بهذا؟، قال: "نعم" قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه، فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال يتلبط -يتمرغ-، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك سعي الناس بينهما» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، فقالت: صه تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضًا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث -غواث: (بالفتح) كالغياث (بالكسر) من الإغاثة وهى الإعانة-، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم» أو قال: «لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا» قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله" (الحديث رواه البخاري:[2364]).

 

فتأمل في هذه القصة العظيمة كيف أن الله تبارك وتعالى حفظ هاجر عليها السلام وولدها إسماعيل، وأكرمها بكرامات عدة، منها:
أولاً: أن الله لم يضيعها، بل حفظها وولدها، وأكرمها بنبع ماء زمزم، فقد كانت السبب في خروجه، فقد أرسل الله ملكًا ليضرب برجله في الأرض، فخرج ماء زمزم، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا».
ثانيا: أن الله تبارك وتعالى جعل تعبها وسعيها في طلب الماء، وبحثها عنه؛ ركنا من أركان الحج التي لا يتم إلا بها، قال صلى الله عليه وسلم: «فذلك سعي الناس بينهما» ، كل هذه الكرامات -وغيرها- بسبب إيمانها بربها، ووثوقها به، وقوة اعتمادها عليه، وصدق توكلها عليه.


كن واثقا بأن الله رازقك وكافيك، فقد خلق الله الخلق جميعا لعبادته، وتكفل لهم بالزرق، فقال {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:56-58]، وقال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود:6].
وتأكيدا على ذلك أقسم الله تبارك وتعالى بنفسه المقدسة بأنه قد تكفل بالرزق لعباده، فقال: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ . فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22-23].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره مقسمًا لخلقه بنفسه: فوربّ السماء والأرض، إن الذي قلت لكم أيها الناس: إن في السماء رزقكم وما توعدون لحقّ، كما حقّ أنكم تنطقون" (جامع البيان في تأويل القرآن: [22/422]).


وقد روي عن الأصمعي أنه قال: "أقبلت من جامع البصرة، فطلع أعرابي على قعود له، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل علي، فتلوت: {وَالذَّارِيَاتِ} [الذاريات:1]، فلما بلغت قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22] قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر، فسلم علي واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23]، فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين، قائلا ثلاثا، وخرجت معها نفسه" (أضواء البيان للشنقيطي: [7/441]).


وإذا كان العبد موقنًا بأن الله رازقه، وبذل الأسباب الجالبة لذلك؛ رزقه الله، وأعطاه طلبه؛ جاء في الحديث عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» (رواه ابن ماجه: [4164]).
وفي الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله» (رواه ابن حبان في صحيحه: [3238]، وابن أبي عاصم في السنة: [264]، وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: [1703])، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو فر أحدكم من رزقه أدركه كما يدركه الموت» (رواه الطبراني في الأوسط: [4444] والصغير: [611] بإسناد حسن، وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: [1704]).

 

فإذا وثق العبد بالله، وأيقن أنه رازقه وكافيه زهد في هذه الدنيا، وعاش فيها راضيًا مطمئنًا، قيل لحاتم الأصم: على ما بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال: "على أربع خلال: علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فلست اهتم له، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة، فأنا أبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال، فأنا مستحيي منه" (شعب الإيمان: [2/456]).

كن وثقًا بثواب الله، وأنه تبارك وتعالى سيثيبك ثوابًا جزيلًا على أعمالك الصالحة؛ التي فعلتها ابتغاء وجه الله، مقتفيًا فيها لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خرج ثلاثة نفر يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل فانحطت عليهم صخرة، قال فقال بعضهم لبعض ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه، فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب فآتي به أبوي فيشربان ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي فاحتبست ليلة فجئت فإذا هما نائمان، قال فكرهت أن أوقظهما والصبية يتضاغون -أي ترتفع أصواتهم وتختلط- عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال ففرج عنهم وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت فيها حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة، قال ففرج عنهم الثلثين، وقال الآخر اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته وأبى ذاك أن يأخذ فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقرًا وراعيها ثم جاء، فقال يا عبد الله أعطني حقي فقلت انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فكشف عنهم» (رواه البخاري: [2215]، ومسلم: [2743] وهذا لفظ البخاري)، ففي هذه القصة العظيمة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هؤلاء الثلاثة فعلوا هذه الأعمال الجليلة ابتغاء وجه الله، وتوسلوا إلى الله بها؛ ففرج الله عنهم، وكشف عنهم محنتهم.


وفي الحديث الآخر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وفيه... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك» (رواه البخاري: [1296]).

بل من كرمه وفضله سيثيبك على نيتك الصادقة الحسنة؛ قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120]، وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم» قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر» (رواه البخاري: [4423]، ومسلم: [1911] وهذا لفظ البخاري) فأي عمل صالح تنوي فعله بنية صادقة، ثم يمنعك عن فعله عذر؛ يكتب الله لك أجر ذلك كاملا؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: «قال إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة» (رواه البخاري: [6491]).


وإذا اعتاد العبد على فعل طاعة ما ثم منعه عن فعلها عذر من مرض أو سفر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا؛ فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» (رواه البخاري: [2996]).

 

كن واثقًا بأن الله ناصر دينه، وعباده المؤمنين؛ فقد وعد بذلك، فقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ}[الصافات:171-172]، فإذا كنت مؤمنًا بالله، واثقًا بوعده؛ فلا تهن ولا تحزن، قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران:139]، قال الألوسي رحمه الله: "فلا تهنوا ولا تحزنوا -أيها المؤمنون- فإن الإيمان يوجب قوة القلب، ومزيد الثقة بالله تعالى، وعدم المبالاة بأعدائه" (محاسن التأويل: [2/416]).


فكن واثقًا بالله، واثقًا بحفظه لك إذا كنت حافظًا لحدوده، واثقًا بأنه كافيك ورازقك، ومثيبك على أعمالك الصالحة، وأنه ناصر دينه، وأوليائه، وفقنا الله وإياك إلى كل خير، وصرف عنا وعنك كل سوء ومكروه، والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على خير البريات، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

عبده قايد الذريبي.

  • 3
  • 0
  • 23,948

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً